(بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين)
(قال الشيخ الامام العالم العامل، شيخ الاسلام، قدوة الانام، بقية السلف الكرام، شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الامام العالم العامل الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي قدس الله روحه، ونور ضريحه آمين انه جواد كريم) الحمد لله العلي الاعظم، الجواد الاكرم، الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم، فرض طلب العلم على عباده المؤمنين، وأمرهم به في الكتاب المبين، فقال وهو أصدق القائلين (فلولا نفر من كل فرقة(1/2)
منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) أحمده على نعم جللها، وقسم أجزلها، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يضل من شهد بها ولا يشقى، وكلمة أستمسك بها ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
هذا كتاب جمعته في شرح [كتاب المقنع] تأليف شيخنا الشيخ الامام العالم العلامة موفق الدين(1/3)
أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه اعتمدت في جمعه على كتابه المغني وذكرت فيه من غيره ما لم أجده فيه من الفروع والوجوه والروايات ولم أترك من كتاب المغني إلا شيئاً يسيراً من الادلة وعزوت من الاحاديث ما لم يعز مما أمكنني عزوه، والله المسئول أن يجعلنا ممن رسخت في العلم قدمه، وجبل على اتباع الكتاب والسنة لحمه ودمه، انه على كل شئ قدير، وهو بالاجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل(1/4)
كتاب الطهارة الطهارة في اللغة الوضاءة والنزاهة عن الأقذار وهي في الشرع رفع ما يمنع من الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب أو غيره فعند إطلاق لفظ الشارع أو في كلام الفقهاء إنما ينصرف إلى الوضوء الشرعي دون اللغوي.
وكذلك كل ماله موضوع شرعي ولغوي كالوضوء والصلاة والصوم والحج والزكاة ونحوه إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعي لأن الظاهر من الشارع التكلم بموضوعاته وكلام الفقهاء مبني عليه باب المياه وهي ثلاثة أقسام ماء طهور وهو الطاهر في نفسه الذي يجوز رفع الأحداث والنجاسات به والطهور بضم الطاء المصدر قاله اليزيدي وبالفتح ما ذكرناه.
هو من الأسماء المتعدية مثل الغسول وقال بعض الحنفية: هو لازم بمعنى الطاهر لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والمفعول في اللزوم والتعدي(1/5)
بدليل قاعد وقعود وهذا إن أريد به أن الماء مختص بالطهور كما سيأتي في موضعه إن شاء الله وإلا فالنزاع في هذه المسألة لفظي والا شبه قول أصحابنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " متفق عليه ولو أراد به الطاهر لم يكن له مزية على غيره لأنه طاهر في حق غيره ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر قال " هو
الطهور ماؤه الحل ميتته " ولو لم يكن الطهور متعديا بمعنى المطهر لم يكن ذلك جوابا للقوم حيث سألوه عن(1/6)
التعدي إذ ليس كل طاهر مطهرا والعرب قد فرقت بين فاعل وفعول قالت فاعل لمن وجد منه مرة وفعول لمن تكرر منه فينبغي أن يفرق بينهما هاهنا وليس إلا من حيث التعدي واللزوم (مسألة) قال (وهو الباقي على أصل خلقته) وجملة ذلك أن كل صفة خلق الله عليها الماء من حرارة أو برودة أو عذوبة أو ملوحة أو غيرها سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض وبقي على أصل خلقته فهو طهور لقول الله تعالى (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد " رواه مسلم وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " رواه الإمام أحمد (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شئ " (2) وهذا قول أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلا أنه روي عن ابن عمرو أنه قال في ماء البحر لا يجزي من الوضوء ولا من الجنابة والتيمم أعجب إلي منه، وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو الاول أولى لقول الله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا واجد للماء فلا يجوز له التيمم ولحديث جابر الذي ذكرناه في البحر، وروي عن عمرانه قال من لم يطهره ماء البحر فلا طهر له (3) ولانه ماء بقي على أصل خلقته أشبه العذب
__________
1) وكذا ابن ماجه وابن حبان والدارقطني ورواه أحمد واصحاب السان وغيرهم من حديث أبي هريرة وحكى الترمذي تصحيحه عن البخاري وان لم يخرجه.
وهذا أتم مما سيأتي في المغني 2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد في شأن بئر بضاعة وروي عن غيره، واختلف فيه والتحقيق انه ضعيف وان المسلمين أجمعوا على أن الماء المتغير بالنجاسة نجس وتجد تفصيل الكلام عن علله في الاوطار 3) ترى في الصفحة 8 من المغنى: فلا طهره الله وهو أصح(1/7)
(مسألة) قال (وما تغير بمكثه) الماء المتغير بطول المكث باق على إطلاقه قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوضوء بالماء المتغير من غير نجاسة حلت فيه جائز سوى ابن سيرين فإنه كره ذلك.
ولنا أنه تغير من غير مخالطة أشبه التغير عن مجاورة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ من بئر كأن ماءه نقاعة الحناء
(مسألة) قال (أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالطحلب وورق الشجر) وجملته أن الماء المتغير بالطحلب وورق الشجر والخز وسائر ما ينبت في الماء أو يجري عليه الماء أو تحمله الريح أو السيول من التبن والعيدان أو ما يمر عليه الماء من الكبريت والقار ونحوه أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء وكذلك ما يتغير في آنية الأدم والنحاس ونحوه يعفى عن ذلك كله ولا يخرج به الماء عن إطلاقه لأنه يشق التحرز منه فإن أخذ شئ من ذلك وألقي في الماء كان حكمه حكم؟؟ أمكن التحرز منه على ما يأتي وكذلك ما تغير بالسمك ونحوه من دواب البحر لأنه لا يمكن التحرز عنه فأشبه ما ذكرناه (مسألة) قال (أو لا يخالطه كالعود والكافور والدهن) على اختلاف أنواعه وكالعنبر إذا لم يستهلك في الماء ولم يتحلل فيه لا يخرج به الماء عن إطلاقه لأنه تغير عن مجاورة أشبه مالو تروح بريح شئ إلى جانبه وفي معناه ما تغير بالقطران والزفت والشمع لأن فيه دهنية يتغير بها الماء (مسألة) قال (أو ما أصله الماء كالملح البحري) لأن أصله الماء فهو كالثلج والبرد فإن كان(1/8)
معدنيا فهو كالزعفران وكذلك الماء المتغير بالتراب لانه يرافق الماء في صفتيه أشبه الملح (مسألة) قال (أو ما تروح بريح ميتة إلى جانبه) لا نعلم في ذلك خلافا (أو سخن بالشمس) لأنه سخن بطاهر فلم تكره الطهارة به كما لو سخن بالحطب، وقال الشافعي: تكره الطهارة بماء قصد تشمسه لما روي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت له ماء في الشمس فقال " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص " ولنا ما ذكرناه من القياس والحديث رواه الدارقطني وقال يرويه خالد بن إسماعيل وهو متروك الحديث وعمرو بن محمد الأعسم وهو منكر الحديث ولأنه لو كره لأجل الضرر لما اختلف بقصد التشميس وعدمه (مسألة) قال (أو بطاهر) كالحطب ونحوه فلا تكره الطهارة به لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي(1/9)
عن مجاهد أنه كره الوضوء بالماء المسخن وقول الجمهور أولى لما روي عن الأسلع بن شريك رحال النبي صلى الله عليه وسلم قال أجنبت وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجمعت حطبا فأحميت الماء فاغتسلت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره علي رواه الطبراني بمعناه ولأنه صفة خلق عليها الماء أشبه
مطهر يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس غير مكروه الاستعمال) لما ذكرنا (مسألة) قال (وإن سخن بنجاسة فهل يكره استعماله؟ على روايتين) الماء المسخن بالنجاسة ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يتحقق وصولها إليه فهذا نجس إن كان يسيراً لما يأتي (الثاني) إن غلب على الظن أنها لا تصل إليه فهو طاهر بالأصل ولا يكره استعماله في أحد الوجهين اختاره الشريف أبو جعفر وابن عقيل لأن احتمال وصول النجاسة إليه يبعد أشبه غير المسخن والثاني يكره لاحتمال النجاسة اختاره القاضي (الثالث) ما عدا ذلك ففيه روايتان (إحداهما) يكره وهو ظاهر المذهب لأجل النجاسة (والثانية) لا يكره كالتي قبلها وكالماء إذا شك في نجاسته وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب في الماء المسخن بالنجاسة روايتين على الإطلاق والله أعلم (فصل) ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة وهو مردوف أسامة بن زيد فذكر الحديث وفيه ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا(1/10)
بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ.
رواه عبد الله بن أحمد في المسند عن غير أبيه وعنه يكره لقول العباس لا أحلها للمغتسل، ولأنه أزال به مانعا من الصلاة أشبه مالو أزال به النجاسة والأول أولى لما ذكرنا وكونه مباركا لا يمنع الوضوء به كالماء الذي وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده فيه (فصل) إذا خالط الماء طاهر لم يغيره لم يمنع الطهارة.
قال شيخنا لا نعلم فيه خلافاً، وحكي عن أم هانئ والزهري في كسر بلت في ماء غيرت لونه أو لم تغيره لا يجوز الوضوء به والأول أولى لأنه طاهر لم يغير صفة الماء فلم يمنع كبقية الطاهرات، وقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين.
رواه النسائي (فصل) إذا وقع في الماء ماء مستعمل عفي عن يسيره.
رواه إسحاق بن منصور عن أحمد، وهذا ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم كانوا يتوضأون من الأقداح ويغتسلون من الجفان، وقد اغتسل هو وعائشة من إناء واحد تختلف أيديهما فيه كل واحد منهما يقول لصاحبه " أبق لي: ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء، فان كثر الواقع فيه وتفاحش منع في إحدى
الروايتين.
وقال أصحاب الشافعي: إن كان الأكثر المستعمل منع وإلا فلا، وقال ابن عقيل أن كان الواقع بحيث لو كان خلاً غير الماء منع وإلا فلا.
وما ذكرنا من الخبر وظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من اعتباره بالخل لسرعة نفوذه وسرايته فيؤثر قليله في الماء والحديث دل عن العفو عن اليسير مطلقا فينبغي أن يرجع في ذلك الى العرف فما عد كثيرا وإلا فلا، وإن شك في كثرته لم يمنع عملا بالأصل.
(فصل) فإن كان معه ماء لا يكفيه لطهارته فكمله بمائع آخر لم يغيره جاز الوضوء به في أحدى الروايتين لأنه طاهر لم يغير الماء فلم يمنع كما لو كان الماء قدرا يكفيه لطهارته (والثانية) لا يجوز لأنا نتيقن حصول غسل بعض أعضائه بالمائع والأول أولى لأن المائع استهلك في الماء فسقط حكمه أشبه مالو كان الماء يكفيه لطهارته فزاده مائعا آخر وتوضأ منه وبقي قدر المائع (فصل) قال الشيخ رحمه الله (القسم الثاني ماء طاهر غير مطهر وهو ما خالطه طاهر فغير اسمه أو غلب على أجزائه أو طبخ فيه) وجملته أن كل ماء خالطه طاهر فغير اسمه حتى صار صبغا(1/11)
أو خلا أو غلب على أجزائه فصيره حبرا أو طبخ فيه فصار مرقا وتغير بذلك - الأنواع الثلاثة لا يجوز الغسل ولا الوضوء بها، لا نعلم فيه خلافاً إلا أنه حكي عن أصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلا المغلي أنه يجوز الوضوء به، وحكي عن ابن أبي ليلى والاصم أنه يجوز الوضوء والغسل بالمياه المعتصرة وسائر أهل العلم على خلافهم لأن الطهارة إنما تجوز بالماء لقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا لا يقع عليه اسم الماء (مسألة) (فإن غير أحد أوصافه - لونه أو طعمه أو ريحه ففيه روايتان) (إحداهما) أنه غير مطهر وهو قول مالك والشافعي واسحاق واختيار القاضي، قال وهي المنصورة عند أصحابنا لأنه ماء تغير بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز عن أشبه ماء الباقلا المغلي.
إذا ثبت هذا فإن أصحابنا لا يفرقون بين المذرور كالزعفران والاشنان وبين الحبوب من الباقلا والحمص والتمر كالتمر والزبيت(1/12)
والورق ونحوه وقال الشافعية ما كان مذرورا منع إذا غير وما عداه لا يمنع إلا أن ينحل في الماء
فإن غير ولم ينحل لم يسلب الطهورية كما لو تغير بالكافور ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان وخالفوا فيما ذكرنا لأن تغير الماء به إنما كان لاتصال أجزاء منه وانحلالها فيه فوجب أن يمنع كالمذرور وكما لو أغلي فيه (فصل) ولم يفرق أصحابنا في التغيير بين اللون والطعم والرائحة بل سووا بينهم قياسا لبعضها على بعض وشرط الخرقي الكثرة في الرائحة دون اللون والطعم لسرعة سرايتها ونفوذها ولكونها تحصل تارة عن مجاورة وتارة عن مخالطة فاعتبرت الكثرة ليلعم أنها عن مخالطة والرواية الثانية أنه باق على طهوريته نقله عن أحمد جماعة من أصحابنا أبو الحرث والميموني وإسحاق بن منصور وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لأن الله تعالى قال (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا عام في كل ماء لأنه نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تفيد العموم فلا يجوز التيمم مع وجوده وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " التراب كافيك ما لم تجد الماء " وهذا ماء ولأنه ماء لم يسلبه اسمه ولا رقته ولا جريانه أشبه المتغير بالدهن فإن تغير وصفان من أوصافه أو ثلاثة وبقيت رقته وجريانه فذكر القاضي أيضا فيه روايتين (إحداهما) يجوز الوضوء به لما ذكرنا فأشبه المتغير بالمجاورة(1/13)
ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم وهي تغير أوصاف الماء عادة ولم يكونوا يتيممون معها (والثانية) لا يجوز لأنه غلب على الماء أشبه مالو زال اسمه أو طبخ فيه وقال ابن أبي موسى في الذي تغيرت إحدى صفاته بطاهر يجوز التوضؤ به عند عدم الماء المطلق في إحدى الروايتين (و) لا يجوز مع وجوده (مسألة) قال (أو استعمل في رفع حدث أو طهارة مشروعة كالتجديد وغسل الجمعة) اختلف المذهب في المنفصل من المتوضئ عن الحدث والمغتسل من الجنابة فروي أنه طاهر غير مطهر وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن مالك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة " رواه أبو داود ولولا أنه يفيد منعا لم ينه عنه ولأنه أزال به مانعا من الصلاة أشبه ما لو غسل به النجاسة، والرواية الثانية أنه مطهر
وهو قول الحسن وعطاء والنخعي وأهل الظاهر والرواية الأخرى عن مالك، والقول الثاني للشافعي وهو قول ابن المنذر، ويروى عن علي وابن عمر فيمن نسي مسح رأسه إذا وجد بللا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الماء لا يجنب " وأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء فعصر شعره عليها رواهما الإمام أحمد ولأنه ماء طاهر غسل به عضوا طاهرا أشبه مالو تبرد به أو غسل به الثوب - أو نقول أدى به فرضا فجاز أن يؤدي به غيره كالثوب يصلي فيه مرارا، وقال أبو يوسف هو نجس وهو رواية(1/14)
عن أبي حنيفة وذكره ابن عقيل قولا لاحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغسل في الماء الراكد كنهيه عن البول فيه فاقتضى أن الغسل فيه كالبول وكما لو غسل به نجاسة ولأنه يسمى طهارة والطهارة لا تعقل إلا عن نجاسة لأن تطهير الطاهر محال - ووجه طهارته أن النبي صلى الله عليه وسلم صب على جابر من وضوءه إذ كان مريضا وكان إذا توضأ يكادون يقتتلون على وضوئه رواهما البخاري ولو كان نجسا لم يجز فعل ذلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساءه كانوا يغتسلون من الجفان ويتوضؤن من الأقداح ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل ولو كان نجسا لتنجس به الماء ولأنه ماء طاهر لاقى عضوا طاهرا أشبه مالو تبرد به والدليل على طهارة أعضاء المحدث قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه ولأنه لو مس شيئا رطبا لم ينجسه ولو حمله مصل لم تبطل صلاته وقولهم أنه نهى عن الغسل فيه كنهيه عن البول فيه قلنا يكفي اشتراكهما في أصل المنع من التطهر به ولا يلزم اشتراكهما في التنجس وإنما سمي الوضوء والغسل طهارة لكونه يطهر عن الذنوب والآثام كما جاء في الأخبار لما ذكرنا من الأدلة وجميع الأحداث سواء فيما ذكرنا الغسل والوضوء والحيض والنفاس وكذلك المنفصل من غسل الميت إذا قلنا بطهارته فأما المنفصل من غسل الذمية من الحيض فروي أنه مطهر لأنه لم يزل مانعا من الصلاة أشبه المتبرد وروي أنه غير مطهر لأنه زال به المانع من وطئ الزوج فأما ما اغتسلت به من الجنابة فهو مطهر وجهاً واحداً(1/15)
لأنه لم يؤثر شيئاً ويحتمل أن يمنع استعماله كالمسلمة (فصل) فأما المستعمل في طهارة مشروعة كالتجديد وغسل الجمعة والإحرام وسائر الاغتسالات المستحبة والغسلة الثانية والثالثة والوضوء ففيه روايتان (أظهرهما) طهوريته لأنه لم يرفع حدثا، ولم يزل نجسا أشبه التبرد، (والثانية) تسلب طهوريته لأنه استعمل في طهارة مشروعة أشبه المستعمل في رفع الحدث، فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر في الماء استعماله فيها شيئا كالتبرد ولا نعلم خلافاً في المستعمل في التبرد والتنظيف لأنه باق على إطلاقه (مسألة) قال (أو غمس فيه يده قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثا فهل يسلب طهوريته؟ على روايتين) المراد باليد ههنا اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم فمتى غمس القائم من نوم الليل يده في الماء اليسير قبل غسلها ثلاثاً ففيه روايتان (إحداهما) لا يسلب الطهورية وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن الماء قبل الغمس كان طهورا فيبقى على الأصل، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن غمس اليد كان لو هم النجاسة فالوهم لا يزيل الطهورية كما لم يزل الطهارة وإن كان تعبدا اقتصر على مورد النص وهو مشروعية الغسل (والرواية الثانية) أن يسلب الطهورية لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء ثلاثا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " رواه مسلم ورواه البخاري ولم يذكر ثلاثا، فلولا أنه يفيد منعا لم ينه عنه ظاهرا وعلي(1/16)
قال: أحب إلي أن يريقه إذا غمس يده فيه وهو قول الحسن وذلك لما روى أبو حفص العكبري عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أدخلهما قبل الغسل أراق الماء " فيحتمل وجوب إراقته فلا يجوز استعماله لأنه مأمور بإراقته أشبه الخمر، ويحتمل أن لا تجب إراقته ويكون طاهرا غير مطهر كالمستعمل في رفع الحدث والأول اختيار ابن عقيل، وهل يكون غمس بعض اليد كغمس الجميع؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يكون وهو قول الحسن لأن الحديث ورد في غمس جميع اليد وهو تعبد لا يلزم من كون الشئ مانعا كون بعضه مانعا كما لا يلزم من كون الشئ سببا كون بعضه سببا والله أعلم (والثاني) حكم البعض حكم الكل لأن ما تعلق المنع بجميعه تعلق ببعضه كالحدث والنجاسة، وغمسها بعد غسلها دون
الثلاث كغمسها قبل غسلها سببا لبقاء النهي (فصل) ولا فرق بين كون يد النائم مطلقة أو مشدودة في جراب أو مكتوفا لعموم الأخبار ولأن الحكم إذا علق على المظنة لم يعتبر حقيقة الحكمة كالعدة الواجبة لاستبراء الرحم في حق الصغيرة والآيسة وربما تكون يده نجسة قبل نومه فينسى نجاستها لطول نومه على أن الظاهر عند من أوجب الغسل أنه تعبد لا لعلة التنجيس ولهذا لم تحكم بنجاسة اليد فيعم الوجوب كل من تناوله الخبر.
وقال ابن عقيل لا يجب الغسل إذا كان مكتوفا أو كانت يده في جراب لزوال احتمال النجاسة الذي لأجله شرع الغسل والأول أولى لما ذكرنا.
ولا يجب غسل اليد عند القيام من نوم النهار رواية واحدة وسوى الحسن(1/17)
بين نوم الليل والنهار.
ولنا أن في الخبر ما يدل على تخصيصه بنوم الليل وهو قوله " فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " والمبيت يكون في الليل خاصة ولا يصح قياس نوم النهار على نوم الليل لوجهين (أحدهما) أن الغسل وجب تعبدا فلا يقاس عليه (الثاني) أن نوم الليل يطول فيكون احتمال إصابة يده للنجاسة فيه أكثر (فصل) واختلفوا في النوم الذي يتعلق به هذا الحكم فذكر القاضي أنه النوم الذي ينقض الوضوء وقال ابن عقيل هو ما زاد على نصف الليل لأنه لا يكون بائتا إلا بذلك بدليل أن من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم بخلاف من دفع بعده وما قاله يبطل بمن وافاها بعد نصف الليل فإنه لا يجب عليه دم مع كونه أقل من نصف الليل - وتجب النية للغسل في أحد الوجهين عند من أوجبه طهارة تعبد(1/18)
أشبه الوضوء والغسل (والثاني) لا يفتقر لأنه علل بوهم النجاسة ولا تعتبر في حقيقتها النية فالوهم أولى ولأنه أتى بما أمر به وهو الغسل وفعل المأمور به يقتصي الإجزاء، ولا يفتقر الغسل إلى تسمية وقال أبو الخطاب يفتقر قياسا على الوضوء وهو بعيد لأن التسمية إن وجبت في الوضوء وجبت تعبدا فلا يقاس عليه لأن من شرط صحة القياس كون المعنى معقولا ليمكن تعدية الحكم والله أعلم، قال ابن عقيل ويستحب تقديم اليمنى على اليسرى في غسل اليدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في طهوره وفي شأنه كله (فصل) فإن كان القائم من نوم الليل صبياً أو مجنوناً أو كافرا ففيه وجهان، أحدهما: هو كالمسلم
البالغ العاقل لأنه لا يدرى أين باتت يده.
والثاني لا يؤثر لأن الغسل وجب بالخطاب تعبدا ولا خطاب في حق هؤلاء ولا تعبد (1) (فصل) إذا وجد ماء قليلا ويداه نجستان وليس معه ما يغترف به فإن أمكنه أن يأخذ بفيه ويصب على يديه أو يغمس خرقة أو غيرها ويصب على يديه فعل وإن لم يمكنه يتيمم كيلا ينجس الماء ويتنجس به فإن كان لم يغسل يديه من نوم الليل فمن قال إن غمسهما لا يؤثر قال يتوضأ ومن جعله مؤثرا قال يتوضأ ويتيمم معه، ولو استيقظ المحبوس من نومه فلم يدر أهو من نوم النهار أو الليل لم يلزمه غسل يديه لأن الأصل عدم الوجوب (فصل) فإن توضأ القائم من نوم الليل من ماء كثير أو اغتسل منه بغمس أعضائه فيه ولم ينو غسل اليد من نوم الليل فعند من أوجب النية لا يرتفع حدثه ولا يجزئه من غسل اليد من النوم لانه
__________
1) الحديث في غسل اليدين خارج الاناء لمن قام من النوم قد علل في بعض رواياته بقوله صلى الله عليه وسلم (فإنه لا يدري أين باتت - أو - أين طاتف يده) ووضحه الشافعي وغيره بأنهم كانوا يستنجون بالحجارة فإذا ناموا عرقوا فربما تصيب يد أحدهم موضع النجاسة فالامر للاحتياط لا للتعبد وهو عند جمهور السلف والخلف للاستجاب ونظر له المجد بن تيمية بحديث (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فان الشيطان يبيت على خياشيمه) متفق عليه ولم يذهب إلى وجوب الاستنثار حد(1/19)
لم ينوه لأن غسلها إما أنه وجب تعبدا أو لوهم النجاسة وبقاء النجاسة على العضو لا تمنعه من ارتفاع الحدث بدليل أنه لو غسل يده أو أنفه في الوضوء وهو نجس لارتفع حدثه وكذلك بقاء حدث لا يمنع من ارتفاع حدث آخر بدليل مالو توضأ الجنب ينوي رفع الحدث الأصغر أو اغتسل ينوي الكبرى وحدها فإنه يرتفع أحد الحدثين دون الآخر وهذا لا يخرج عن شبهه بأحد الأمرين والله أعلم (فصل) إذا انغمس الجنب أو المحدث في ماء دون القلتين ينوي رفع الحدث صار مستعملا ولم يرتفع حدثه وقال الشافعي يصير مستعملا ويرتفع حدثه لأنه إنما يصير مستعملا بارتفاع حدثه فيه ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " والنهي يقتضي فساد
المنهي عنه ولأنه بأول جزء انفصل عنه صار مستعملا فلم يرتفع الحدث عن سائر البدن كما لو اغتسل به شخص آخر فإن كان الماء قلتين فصاعدا ارتفع الحدث والماء باق على إطلاقه لأنه لا يحمل الخبث (فصل) إذا اجتمع ماء مستعمل إلى قلتين مطهرتين صار الكل طهورا لأن المستعمل لو كان نجسا لم يؤثر في القلتين فالمستعمل أولى وإن انضم إلى ما دون القلتين ولم يبلغ الجميع قلتين فقد ذكرناه وإن بلغ قلتين باجتماعه فكذلك ويحتمل أن يزول المنع لحديث القلتين - وإن انضم مستعمل إلى مستعمل(1/20)
ولم يبلغ القلتين فالجميع مستعمل، وإن بلغ قلتين ففيه احتمالان لما ذكرنا (مسألة) (وإن أزيلت به النجاسة فانفصل متنيرا أو قبل زوالها فهو نجس) أما إذا انفصل متنيرا بالنجاسة فلا خلاف في نجاسته، وأما إذا انفصل غير متغير مع بقاء النجاسة فهو مبني على تنجس الماء القليل لمجرد ملاقاة النجاسة من غير تغيير وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى (مسألة) قال (وإن انفصل غير متغير بعد زوالها فهو طاهر) رواية واحدة أن كان المحل أرضا، وقال أبو بكر إنما يحكم بطهارته إذا كانت قد نشفت أعيان البول، فإن كانت أعيانها قائمة فجرى الماء عليها فطهرها وفي المنفصل روايتان كغير الأرض.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء " متفق عليه أمر بذلك لتطهير مكان البول فلو كان المنفصل نجسا لكان تكثيرا للنجاسة ولم يفرق بين نشافه وعدمه والظاهر أنه إنما أمر عقيب البول (مسألة) (وإن كان غير الأرض فهو طاهر في أصح الوجهين) وهو مذهب الشافعي لأنه انفصل عن محل محكوم بطهارته أشبه المنفصل من الأرض، ولأن المنفصل بعض المتصل والمتصل طاهر بالإجماع كذلك المنفصل (والوجه الثاني) أنه نجس وهو قول أبي حنيفة واختيار ابن حامد لأنه لاقى نجاسة أشبه مالو انفصل قبل زوالها أو وردت عليه وهل تكون طهورا؟ على وجهين بناء على المستعمل في رفع الحدث (مسألة) (وإن خلت بالطهارة منه امرأة فهو طهور) بالأصل لأنه يجوز لها أن تتوضأ به ولغيرها من النساء - أشبه الذي لم تخل به ولا يجوز للرجل الظهارة به في ظاهر المذهب لما روى الحكم بن عمرو(1/21)
الغفاري قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة رواه الترمذي (1) وقال حديث حسن.
قال أحمد جماعة كرهوه منهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن سرجس وخصصناه بالخلوة لقول عبد الله بن سرجس توضأ أنت ههنا وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه ومعنى الخلوة أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح، وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل مسلم، وذكر ابن عقيل في معنى الخلوة أن لا يشاركها أحد في الاستعمال وفيه رواية أخرى أنه يجوز للرجل أن يتطهر به لما روت ميمونة قالت أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت إني اغتسلت منه فقال " الماء ليس عليه جنابة " رواه أبو داود (2) والظاهر خلوها به لأن العادة أن الإنسان يقصد الخلوة في غسل الجنابة وهذا أقيس إن شاء الله تعالى فإن خلت به في إزالة النجاسة فقال ابن حامد فيه وجهان (أظهرهما) جواز الوضوء به لأن الأصل الجواز وإن خلت بالطهارة في بعض أعضائها أو في تجديد طهارة واستنجاء ففيه وجهان (أحدهما) المنع قياسا على الوضوء (والثاني) لا يمنع لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة فإن خلت به الذمية في غسل الحيض ففيه وجهان (أحدهما) المنع كالمسلمة لأنها أدنى منها وأبعد من الطهارة وقد تعلق به إباحة وطئها (والثاني) الجواز لأن طهارتها لا تصح، وكذلك النفاس والجنابة، ويحتمل التفرقة بين الحيض والنفاس وبين الجنابة لأن الجنابة لم تفد إباحة ولم تصح فهي كالتبرد والله أعلم وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير لأن النجاسة لا تؤثر في الماء الكثير فهذا أولى ويجوز غسل النجاسة به وذكر القاضي وجها أنه لا يجوز للرجل غسل النجاسة به لان مالا يجوز الوضوء به لا يجوز غسل النجاسة به كالخل ويمكن القول بموجبه فإن هذا يجوز للمرأة الطهارة به (فصل) ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا ويتوضآ من إناء واحد من غير كراهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1) بل رواه أحمد وأصحاب السنن الارعة وفي تصحيحه خلاف 2) وكذا أحمد والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح ولكن بابهام زوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي المرادة به فقد رواه ابن عباس وهي حالته وقد روي عنه احمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة(1/22)
كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد يغترفان منه جميعا رواه البخاري (فصل) ولا يجوز رفع الحدث إلا بالماء ولا يحصل بمائع سواه وبهذا قال مالك والشافعي وروي عن علي رضي الله عنه وليس بثابت أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وبه قال الحسن وقال عكرمة النبيذ وضوء من لم يجد الماء وقال إسحاق النبيذ حلوا أعجب إلي من التيمم وجمعهما أحب إلي وعن (أبي حنيفة) كقول عكرمة وقيل عنه يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر لما روى ابن مسعود أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فأراد أن يصلي صلاة الفجر فقال " أمعك وضوء؟ قال لا معي إداوة فيها نبيذ - فقال ثمرة طيبة وماء طهور " ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) أوجب الانتقال إلى التيمم عند عدم الماء ولأنه لا يجوز الوضوء به في الحضر ولا مع وجود الماء فأشبه الخل والمرق وحديثهم لا يثبت لأن راويه أبو زيد وهو مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث ولا يعرف بصحبة عبد الله قاله الترمذي وابن المنذر وروى مسلم باسناده عن عبد الله بن مسعود قال لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ووددت أني كنت معه.
فأما غير النبيذ فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يجوز به وضوء ولا غسل غير ما ذكرناه في الماء المعتصر فيما مضى والله أعلم(1/23)
(فصل) قال رضي الله عنه (القسم الثالث ماء نجس وهو ما تغير بمخالطة النجاسة) كل ماء تغير بمخالطة النجاسة فهو نجس بالإجماع حكاه ابن المنذر فإن لم يتغير وهو يسير فهل ينجس على روايتين (إحداهما) ينجس وهو ظاهر المذهب روى ذلك عن ابن عمر وهو قول الشافعي وإسحاق لما روى ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وتحديده القلتين يدل على تنجيس ما دونهما وإلا لم يكن التحديد مفيدا وصح نهى النبي صلى الله عليه وسلم القائم من نوم الليل عن غمس يده في الماء قبل غسلها فدل على أنه يفيد منعا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الاناء من لوغ الكلب وإراقة سؤره ولم يفرق بين ما تغير وبين ما لم يتغير مع أن الظاهر عدم التغيير (والرواية الثانية) أن الماء لا ينجس إلا بالتغير روى ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس والحسن
وهو مذهب مالك والثوري وابن المنذر وروي أيضاً عن الشافعي لما روى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولوغه " رواه ابن ماجه والدارقطني وروى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم والكلاب النتن قال " إن الماء طهور لا ينجسه شيئ " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وصححه الإمام أحمد (مسألة) قال (وإن كان كثيرا فهو طاهر ما لم تكن النجاسة بولا أو عذرة)(1/24)
بغير خلاف في المذهب روى ذلك عن عبد الله بن عمر وهو قول الشافعي وروي عن ابن عباس قال إذا كان الماء ذنوبين لم يحمل الخبث وقال عكرمة ذنوبا أو ذنوبين وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الماء الكثير يتنجس بالنجاسة من غير تغيير إلا أن يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه واختلفوا في حده فقال بعضهم ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر وقال بعضهم ما بلغ عشرة أذرع في مثلها وما دون ذلك قليل وإن بلغ ألف قلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " متفق عليه نهى عن الاغتسال من الماء الراكد بعد البول فيه ولم يفرق بين قليله وكثيره ولأنه ماء حلت فيه نجاسة لا يؤمن انتشارها إليه أشبه اليسير ولنا خبر القلتين وبئر بضاعة اللذان ذكرناهما مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن بئر بضاعة يلقى فيه الحيض والنتن ولحوم الكلاب مع أن بئر بضاعة لا يبلغ الحد الذي ذكروه قال أبو داود قدرت بئر بضاعة فوجدته ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها؟ قال لا وسألت قيمها عن عمقها فقلت أكثر ما يكون فيها الماء؟ فقال إلى العانة.
قلت فإذا نقص قال دون العورة ولأنه ماء يبلغ القلتين فأشبه الزائد على عشرة أذرع وحديثهم عام وحديثنا خاص فيجب تخصيصه به وحديثهم لابد من تخصيصه بما زاد على الحد الذي ذكروه فيكون تخصيصه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من(1/25)
تخصيصه بالرأي والتحكم من غير أصل وما ذكروه من الحد تقدير من غير توقيف ولا يصار اليه بغير نص ولا إجماع ثم إن حديثهم خاص في البول وهو قولنا في إحدى الروايتين جمعاً بين الحديثين فنقصر
الحكم على ما تناوله النص وهو البول لأن له من التأكيد والانتشار ما ليس لغيره (مسألة) قال (إلا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة ففيه روايتان إحداهما لا ينجس) وهو كسائر النجاسات وهو اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ومذهب الشافعي وأكثر أهل العلم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شئ " رواه الإمام أحمد ولأن نجاسة بول الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب وهو لا ينجس القلتين فهذا أولى وحديث النهي عن البول في الماء الدائم لابد من تخصيصه بما لا يمكن نزحه إجماعا فيكون تخصيصه بخبر القلتين أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم ولو تعارضا ترجح حديث القلتين لموافقته القياس (والرواية الأخرى ينجس) يروى نحو ذلك عن علي بن أبي طالب فروى الخلال بإسناده أن علياً رضي الله عنه سئل عن صبي بال في بئر فأمرهم بنزحها، وهو قول الحسن لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " متفق(1/26)
عليه وهذا يتناول القليل والكثير وهو خاص في البول فيجمع بينه وبين حديث القلتين بحمل هذا على البول وحمل حديث القلتين على سائر النجاسات والعذرة المائعة في معنى البول لأن أجزاءها تتفرق في الماء وتنتشر فهي في معنى البول وهي أفحش منه وقال ابن أبي موسى حكم الرطبة حكم المائعة قياسا عليها والأولى التفريق بينهما لما ذكرنا من المعنى (مسألة) قال (إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته فلا ينجس) لا نعلم خلافاً أن الماء الذي لا يمكن نزحه إلا بمشقة عظيمة مثل المصانع التي جعلت موردا للحاج بطريق مكة يصدرون عنها ولا ينفد ما فيها أنها لا تنجس إلا بالتغيير قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الماء الكثير كالرجل من البحر ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا إنه بحاله يتطهر منه (فصل) ولا فرق بين قليل البول وكثيره قال مهنا سألت أحمد عن بئر غزيرة وقعت فيها خرقة أصابها بول قال: تنزح لأن النجاسات لا فرق بين قليلها وكثيرها كذلك البول
(فصل) إذا كان بئر الماء ملاصقا لبئر فيها بول أو غيره من النجاسة وشك في وصوله إلى الماء فالماء طاهر بالأصل.
وإن أحب علم حقيقة ذلك فليطرح في البئر النجسة نفطا فإن وجد رائحته في الماء علم وصوله إليه وإلا فلا وإن وجده متغيراً تغيراً يصلح أن يكون منها ولم يعلم له سبباً آخر فهو نجس(1/27)
لأن الملاصقة سبب فيحال الحكم عليه والأصل عدم ما سواه ولو وجد ماء متغيرا في غير هذه الصورة ولم يعلم سبب تغيره فهو طاهر - وإن غلب على ظنه نجاسته لأن الأصل الطهارة.
وإن وقعت في الماء نجاسة فوجده متغيراً تغيراً يصلح أن يكون منها فهو نجس لأن الظاهر كونه منها والأصل عدم ما سواه فيحال الحكم عليه وإن كان التغيير لا يصلح أن يكون منها لكثرة الماء وقلتها أو لمخالفته لونها أو طعمها فهو طاهر لأن النجاسة لا تصلح أن تكون سببا هاهنا أشبه مالو لم يقع فيه شئ (فصل) فإن توضأ من الماء القليل وصلى ثم وجد فيه نجاسة أو توضأ من ماء كثير ثم وجده متغيرا بنجاسة شك هل كان قبل وضوئه أو بعده فالأصل صحة طهارته وصلاته وإن علم أن ذلك قبل وضوئه بأمارة أعاد وإن علم أن النجاسة قبل وضوئه ولم يعلم أكان دون القلتين أو كان قلتين فنقص بالاستعمال أعاد لأن الأصل نقص الماء (فصل) إذا وقعت في الماء نجاسة فغيرت بعضه فالمتغير نجس وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهو طاهر وإلا فهو نجس لأن الماء اليسير ينجس بمجرد الملاقاة لما ذكرنا وقال ابن عقيل وبعض الشافعية يكون نجسا وإن كثر كما لو كان يسيرا ولأن المتغير نجس فينجس ما يلاقيه وما يلاقي ما يلاقيه حتى ينجس جميعه، فإن اضطرب فزال تغيره طهر لزوال علة النجاسة وهي التغير ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شئ " وغير المتغير كثير فيدخل في عموم الحديث ولكنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة الواقعة فيه فلم ينجس كما لو لم يتغير منه شئ(1/28)
ولا يصح القياس على اليسير لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه، وقولهم أن الملاصق للمتغير ينجس ممنوع كالملاصق للنجاسة الجامدة وعلى قولهم ينبغي أن ينجس البحر.
إذا تغير جانبه والماء الجاري ولا قائل به
(فصل) قال ابن عقيل من ضرب حيوانا مأكولا (3) فوقع في ماء ثم وجده ميتاً ولم يعلم هل مات من الجراحة أو بالماء فالماء على أصله في الطهارة والحيوان على أصله في الحظر إلا أن تكون الجراحة موجبة فيكون الحيوان أيضا مباحا لأن الظاهر موته بالجرح والماء طاهر إلا أن يقع فيه دم (فصل) إذا كان الماء قلتين وفيه نجاسة فغرف منه بإناء فالذي في الإناء طاهر والباقي نجس إن قلنا القلتان تحديد لأنه ماء يسير فيه نجاسة، وإن قلنا بالتقريب لم ينجس إلا أن يكون الإناء كبيرا يخرجه عن التقريب، وإن ارتفعت النجاسة في الدلو فالماء الذي في الإناء نجس والباقي طاهر، ذكرها ابن عقيل.
(فصل) وإذا اجتمع ماء نجس إلى ماء نجس ولم يبلغ القلتين فالجميع نجس وإن بلغ القلتين فكذلك لأنه كان نجسا قبل الاتصال والأصل بقاء النجاسة، ولأن اجتماع النجس إلى النجس لا يولد بينهما طاهرا كما في سائر المواضع ويتخرج أن يطهر إذا بلغ قلتين وزال تغيره وهو مذهب الشافعي لزوال علة التنجيس، والغدير ان إذا كانت بينهما ساقية فيها ماء متصل بهما فهما كالغدير الواحد قل الماء أو كثر فمتى تنجس أحدهما ولم يبلغا القلتين لم يتنجس واحد منهما إلا أن يتغير بالنجاسة كما قلنا في الواحد
__________
3) أي بمحدد بقصد الصيد أو التذكية ولو قال من جرح أو رمي لكان أولى.
والضرب بالحجر غير المحدد قد يكشط الجلد وهو وقذوان جرح(1/29)
(مسألة) قال (وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهره إن لم يبق فيه تغير وإذا كان الماء النجس كثيرا فزال تغيره بنفسه أو بنزح بقي بعده كثير طهر) وجملة ذلك أن تطهير الماء النجس ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون الماء النجس دون القلتين فتطهيره المكاثرة بقلتين طاهرتين أما أن ينبع فيه أو يصب فيه أو يجري إليها من ساقية أو نحو ذلك فيزول بهما تغيره إن كان متغيرا فيطهر وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها وعما اتصل بها ولا تنجس إلا بالتغير إذا وردت عليها النجاسة فكذلك إذا كانت واردة - ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلط بهما (القسم الثاني) أن يكون قلتين فإن لم
يكن متغيرا بالنجاسة فتطهيره بالمكاثرة المذكورة وإن كان متغيرا بها فتطهيره بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير وبزوال تغيره بنفسه لأن علة التنجيس زالت وهي التغير أشبه الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يطهر إذا زال تغيره بنفسه بناء على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة (القسم الثالث) الزائد على القلتين فإن كان غير متغير فتطهيره بالمكاثرة لا غير وإن كان متغيرا فتطهيره بما ذكرنا من الأمرين وبأمر ثالث وهو أن ينزح منه حتى يزول التغير ويبقى بعد النزح قلتان فإن نقص عن القلتين قبل زوال تغيره ثم زال تغيره لم يطهر لأن علة التنجيس في القليل مجرد ملاقاة النجاسة فلم تزل العلة بزوال(1/30)
التغيير ولا يعتبر في المكاثرة صب الماء دفعة واحدة لأنه لا يمكن ذلك لكن يوصله على حسب الإمكان في المتابعة على ما ذكرنا (مسألة) (فإن كوثر بماء يسير أو بغير الماء كالتراب ونحوه فأزال التغير لم يطهر في أحد الوجهين) لأن هذا لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى (والثاني) يطهر لأن علة النجاسة زالت وهو التغير أشبه مالو زال تغيره بنفسه ولأن الماء اليسير إذا لم يؤثر فلا أقل من أن يكون وجوده كعدمه ويحتمل التفرقة بين المكاثرة بالماء اليسير وغيره فإذا كوثر بالماء اليسير طهر لما ذكرنا وإذا كوثر بالتراب أو غيره لم يطهر لأن ذلك ربما ستر التغير الحادث من النجاسة فيظن أنه قد زال ولم يزل (فصل) فأما الذي يقع فيه بول الآدمي إذا قلنا بنجاسته فلا يطهر بالمكاثرة بقلتين لأن القلتين بالنسبة إلى البول كما دونهما بالنسبة إلى غيره لكن يطهر بأحد ثلاثة أشياء المكاثرة بما لا يمكن نزحه.
الثاني: أن ينزح منه حتى يزول تغيره ويبقى مالا يمكن نزحه (الثالث) أن يزول تغيره بنفسه إن كان كذلك ذكره ابن عقيل (فصل) فأما غير الماء من المائعات إذا وقعت فيه نجاسة ففيه ثلاث روايات (إحداهن) أنه يتنجس وإن كثر وهو الصحيح إن شاء الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال " إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه " رواه الإمام أحمد - نهى عنه ولم يفرق بين قليله وكثيره ولأنها لا تطهر غيرها فلا تدفع النجاسة عن نفسها كاليسير (والثانية) إنها كالماء(1/31)
لا ينجس منها ما بلغ قلتين إلا بالتغير قياسا على الماء قال حرب سألت أحمد قلت كلب ولغ في سمن وزيت قال إذا كان في آنية كبيرة مثل حب أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس يؤكل وإن كان في آنية صغيرة فلا يعجبني (والثالثة) أن ما أصله الماء كالخل التمري يدفع النجاسة لأن الغالب فيه الماء وما لا فلا (فصل) وإذا قلنا: إن غير الماء من المائعات كالخل ونحوه يزيل النجاسة نبني على ذلك أن الكثير منه لا ينجس إلا بالتغيير لكون حكمه في دفع النجاسة حكم الماء والله أعلم (فصل) فأما الماء المستعمل في رفع الحدث وما كان طاهرا غير مطهر ففيه احتمالان (أحدهما) أنه يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر لحديث القلتين (والثاني) أنه ينجس لأنه لا يطهر أشبه الخل (فصل) ولا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها ما أدركه الطرف وما لم يدركه الا أن ما يعفى عن يسيره كالدم - حكم الماء الذي يتنجس به حكمه في العفو عن يسيره وكذلك كل نجاسة نجست الماء حكمه حكمها لأن نجاسة الماء ناشئة عن نجاسة الواقع وفرع عليها والفرع يثبت له حكم أصله، وروي عن الشافعي أن مالا يدركه الطرف من النجاسة معفو عنه للمشقة اللاحقة به ونص في موضع أن الذباب إذا وقع على خلاء رقيق أو بول ثم وقع على الثوب غسل موضعه ونجاسة الذباب مما لا يدركها الطرف(1/32)
ولنا أن دليل التنجيس لا يفرق بين قليل النجاسة وكثيرها ولا بين ما يدركه الطرف وما لا يدركه فالتفريق تحكم وما ذكروه من المشقة ممنوع - لأنا إنما نحكم بالنجاسة إذا علمنا وصولها ومع العلم لا يفترق القليل والكثير في المشقة ثم إن المشقة بمجردها حكمة لا يجوز تعلق الحكم بها بمجردها وجعل مالا يدركه الطرف ضابطا لها إنما يصح بالتوقيف أو باعتبار الشرع له في موضع ولم يوجد واحد منهما(1/33)
(مسألة) قال (والكثير ما بلغ قلتين واليسير ما دونهما) القلة الجرة سميت قلة لأنها تقل بالايدي والمراد ههنا بالقلة قلال هجر لما يأتي وإنما جعلنا
القلتين حدا للكثير لأن حديث القلتين دل على نجاسة ما لم يبلغهما بطريق المفهوم وعلى دفعهما للنجاسة عن أنفسهما فلذلك جعلناهما حدا للكثير فمتى جاء لفظ الكثير هاهنا فالمراد به القلتان والله أعلم(1/34)
(مسألة) قال وهما خمسمائة رطل بالعراقي) في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي لأنه روي عن ابن جرير أنه قال رأيت قلال هجر فرأيت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا والقربة مائة رطل بالعراقي باتفاق القائلين بتحديد الماء بالقرب والاحتياط أن يجعل الشئ نصفا فكانت القلتان بما ذكرنا خمسمائة رطل، وروى عن أحمد أن القلتين أربعمائة رطل بالعراقي.
رواه عنه الأثرم واسماعيل ابن سعيد، وحكاه ابن المنذر لما روى الجوزجاني بإسناده عن يحيى بن عقيل قال رأيت قلال هجر(1/35)
وأظن كل قلة تأخذ قربتين.
وروي نحو ذلك عن ابن جريج وإنما خصصنا القلة بقلال هجر لوجهين (أحدهما) ما روى الخطابي بإسناده إلى ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا " إذا كان الماء قلتين بقلال هجر " (والثاني) ان قلال هجر أكبر ما يكون من القلال وأشهرها في عصر النبي صلى الله(1/36)
عليه وسلم ذكره الخطابي فقال: هي مشهورة الصنعة، معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف الصيعان والمكاييل فلذلك حملنا الحديث عليها وعملنا بالاحتياط فإذا قلنا هما خمسمائة رطل بالعراقي فذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم - مائة وسبعة أرطال وسبع رطل (مسألة) (وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين) أحدهما: أنه تحديد وهو اختيار أبي(1/37)
الحسن الآمدي وظاهر قول القاضي وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اعتبار ذلك احتياط وما اعتبر احتياطا كان واجبا كغسل جزء من الرأس مع الوجه ولأنه قدر يدفع النجاسة فاعتبر تحقيقه كالعدد في الغسلات والثاني هو تقريب وهو الصحيح لأن الذين نقلوا تقدير القلال لم يضبطوها بحد إنما قال ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا ويحيى بن عقيل قال أظنها تسع قربتين وهذا(1/38)
لا تحديد فيه وتقدير القربة بمائة رطل تقريب ولأن الزائد على القلتين وهو الشيئ مشكوك والظاهر استعماله فيما دون النصف والقرب تختلف غالبا وكذلك لو اشترى شيئا أو أسلم في شئ وقدره بها لم يصح وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم إن الناس لا يكيلون الماء ولا يزنونه فالظاهر أنه ردهم إلى التقريب فعلى هذا من وجد نجاسة في ماء فغلب على ظنه أنه مقارب للقلتين توضأ منه وإلا فلا(1/39)
وفائدة الخلاف أن من اعتبر التحديد قال: لو نقص الماء نقصا يسيرا لم يعف عنه والقائلون بالتقريب يعفون عن النقص اليسير وإن شك في بلوغ الماء قدرا يدفع النجاسة ففيه وجهان (أحدهما) يحكم بطهارته لأن طهارته متيقنة قبل وقوع النجاسة فيه فلا يزول عن اليقين بالشك (والثاني) هو نجس لأن الأصل قلة الماء فيبني عليه ويلزم من ذلك النجاسة(1/40)
(فصل في الماء الجاري) نقل عن أحمد ما يدل على التفرقة بينه وبين الواقف فإنه قال في حوض الحمام قد قيل انه بمنزلة الماء الجاري وقال في البئر يكون لها مادة وهو واقف ليس هو بمنزلة الماء الجاري، فعلى هذا لا يتنجس الجاري إلا بالتغيير لأن الأصل طهارته ولم نعلم في تنجيسه نصاً ولا إجماعاً فبقي على الأصل وقال عليه السلام " الماء طهور لا ينجسه شئ " وقال " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " وهذا يدل على أنه لا ينجس لانه بمجموعه يزيد على القلتين فإن قيل فالجرية منه لا تبلغ(1/41)
قلتين فتنجس لحديث القلتين قلنا تخصيص الجرية بهذا التقدير تحكم لأنه لا يصح قياسه على الراكد لقوته بجريانه واتصاله بمادته وهذا اختيار شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي وأصحابه كل جرية من الماء الجاري معتبرة بنفسها فإذا كانت النجاسة جارية مع الماء فما أمامها طاهر لأنها لم تصل إليه وما وراءها طاهر لأنه لم يصل إليها والجرية إن بلغت قلتين ولم تتغير فهي طاهرة وإلا فهي نجسة وإن كانت النجاسة واقفة في النهر فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين فهي طاهرة وإلا فلا(1/42)
قالوا والجرية هي الماء الذي فيه النجاسة وما قرب منها من خلفها وأمامها مما العادة انتشارها إليه إن كانت مما تنتشر مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر، فإن كانت النجاسة ممتدة فينبغي أن يكون لك جزء منها مثل تلك الجرية المعتبرة للنجاسة القليلة لأنا لو جعلنا جميع ما حاذى النجاسة الكثيرة جرية أفضى إلى تنجيس النهر الكبير بالنجاسة القليلة دون الكثيرة لأن ما يحاذي القليلة قليل فينجس وما يحاذي الكثيرة كثير فلا ينجس وهذا ظاهر الفساد (فصل) فإن كان في جانب النهر أو في وهدة منه ماء واقف مائل عن سنن الماء متصل(1/43)
بالجاري وكان ذلك مع الجرية المقابلة له دون القلتين فالجميع نجس لأنه ماء يسير متصل فينجس بالنجاسة كالراكد، فإن كان أحدهما قلتين لم ينجس واحد منهما ماداما متلاقيين إلا بالتغيير، فإن كانت النجاسة في الجاري وهو قلتان فهو طاهر بكل حال وكذلك الواقف، وإن كان الواقف قلتين والجاري دون القلتين والنجاسة فيه فهو نجس قبل ملاقاته للواقف وبعد مفارقته له وطاهر في حال اتصاله به، وإن كانت في الواقف وهو قلتان لم ينجس بحال هو ولا الجاري وإن كان دون القلتين(1/44)
والجاري كذلك إلا أنهما بمجموعهما قلتان فصاعدا وكانت النجاسة في الواقف لم ينجس واحد منهما لأن الماء الذي فيه النجاسة مع ما يلاقيه لا يزال كثيرا وإن كانت في الجاري فقياس قول اصحابنا إن الجميع نجس لأن الجاري ينجس قبل ملاقاته للواقف ومر على الواقف وهو يسير فنسه لأن الواقف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ويحتمل أن يحكم بطهارة الجاري حال ملاقاته للواقف ولا يتنجس به الواقف لحديث القلتين وهو مذهب الشافعي - هذا كله إذا لم يتغير فإن تغير فهو نجس فإن كان الجاري متغيرا والواقف كثيرا فهو طاهر إن لم يتغير فإن تغير تنجس وكذلك الحكم في الجاري إن كان الواقف متغيرا وإن كان بعض الواقف متغيرا وبعضه غير متغير وكان غير المتغير مع الجرية الملاقية له قلتين لم ينجس وإن كان المتغير من الواقف يلي الجاري وغير المتغير لا يليه ولا يتصل به أصلا وكان كل(1/45)
واحد منهما يسيرا فينبغي أن يكون الكل نجسا لأن كل ما يلاقي الماء النجس يسير وإن اتصل به من ناحية فكل ما لم يتغير طاهر إذا كان كثيراً كالغديرين إذا كان بينهما ماء متصل بهما فإن شك في في ذلك فالماء طاهر بالأصل ويحتمل أن يكون نجسا، وإن كان في الماء قلتان طاهرتان متصلة سابقة أو لاحقة فالمجتمع كله طاهر ما لم يتغير بالنجاسة لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها وعما اجتمع إليها وإلا فالجميع نجس في ظاهر المذهب والله أعلم.
(مسألة) (وإذا شك في نجاسة الماء أو كان نجسا فشك في طهارته بني على اليقين) إذا شك في نجاسة الماء فهو طاهر لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك وإن وجده متغيراً لأن التغير يحتمل أن(1/46)
يكون بمكثه أو بما لا يمنع فلا يزول بالشك.
وإن تيقن نجاسته وشك في طهارته فهو نجس لما ذكرنا وإن أخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره لأنه ليس من أهل الشهادة ولا الرواية أشبه الطفل والمجنون وإن كان بالغاً عاقلا مسلما مستور الحال وعين سبب النجاسة لزم قبول خبره رجلا كان(1/47)
أو امرأة حرا أو عبدا بصيراً أو ضريراً لأن للأعمى طريقا إلى العلم بالحس والخبر كما لو أخبر بدخول وقت الصلاة وإن لم يعين سببها فقال القاضي: لا يلزم قبول خبره لاحتمال اعتقاد نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر كموت ذبابة عند الشافعي.
والحنفي يرى نجاسة الماء الكثير وإن لم يتغير والموسوس(1/48)
يعتقد نجاسته بما لا ينجسه ويحتمل أن يلزم قبول خبره إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه (فصل) فإن أخبره أن كلبا ولغ في هذا الإناء ولم يلغ في هذا وقال آخر إنما ولغ في هذا حكم بنجاستهما لأنه يمكن صدقهما لكونهما في وقتين أو كانا كلبين فخفي على كل واحد منهما ما ظهر للآخر وإن عينا كلبا ووقتا يضيق الوقت فيه عن شربه منهما تعارض قولهما ولم ينجس واحد منهما وإن قال أحدهما ولغ في هذا الإناء وقال الآخر نزل ولم يشرب قدم قول المثبت إلا أن يكون المثبت لم يتحقق
شربه مثل الضرير الذي يخبر عن حس فيقدم قول البصير عليه (مسألة) (وإن اشتبه الماء الطاهر بالنجس لم يتحر فيهما على الصحيح من المذهب ويتيمم) وجمنلته أنه إذا اشتبهت الآنية الطاهرة بالنجسة لم يخل من حالين (أحدهما) أن يستوي عدد الطاهر والنجس فلا يجوز التحري بغير خلاف في المذهب فيما علمنا (الثاني) أن يكثر عدد الطاهر فقال أبو علي النجاد من أصحابنا يجوز التحري فيها وهو قول أبي حنيفة لأن الظاهر إصابة الطاهر ولأن جهة(1/49)
الإباحة ترجحت أشبه مالو اشتبهت عليه أخته في نساء بلد وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز التحري فيها بحال وهو قول أكثر الأصحاب وقول المزني وأبي ثور وقال الشافعي يتحرى في الحالين لأنه شرط للصلاة فجاز التحري فيه كالو اشتبهت القبلة والثياب ولأن الطهارة تؤدي باليقين تارة وبالظن أخرى كما قلنا بجواز الوضوء بالماء المتغير الذي لا يعلم سبب تغيره، وقال ابن الماجشون: يتوضأ من كل واحد منهما وضوءا ويصلي به وبه قال محمد بن مسلمة إلا أنه قال يغسل ما أصابه من الأول لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين أشبه من فاتته صلاة من يوم ولا يعلم عينها وكما لو اشتبهت الثياب ولنا أنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري كما لو اشتبهت أخته بأجنبيات أو كما لو استوى العدد عند أبي حنيفة أو كان أحد الإناءين بولا عند الشافعي واعتذر أصحابه بأن البول لا أصل له في الطهارة قلنا وهذا الماء قد زال عنه أصل الطهارة وعلى أن البول قد كان(1/50)
ماء فله أصل في الطهارة فهو كالماء النجس، وقولهم إذا كثر عدد الطاهر ترجحت الطهارة يبطل بما لو اشتبهت أخته بمائة أجنبية، وأما إذا اشتبهت أخته في نساء مصر فإنه يشق اجتنابهن جميعا ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر بخلاف هذا، وأما القبلة فيباح تركها للضرورة وفي صلاة النافلة بخلاف مسألتنا، وأما الثياب فلا يجوز التحري فيها عندنا على ما يأتي وأما المتغير فيجوز الوضوء به استنادا إلى أصل الطهارة ولا يحتاج إلى تحر وفي مسألتنا عارض يقين الطهارة يقين النجاسة فلم يبق له حكم ولهذا احتاج إلى التحري، وما قاله ابن الماجشون باطل لأنه يتنجس يقينا وما قاله ابن مسلمة ففيه حرج
ويبطل بالقبلة حيث لم يوجبا الصلاة إلى أربع جهات والله أعلم (مسألة) قال (وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما فيه روايتان) إحداهما تشترط ذكره الخرقي لأن معه ماء طاهرا بيقين فلم يجز له التيمم مع وجوده فإذا خلطهما أو أراقهما جاز له التيمم لأنه لم يبق(1/51)
معه ماء طاهر (والثانية) يجوز التيمم قبل ذلك اختاره أبو بكر وهو الصحيح لأنه غير قادر على استعمال الطاهر أشبه مالو كان في بئر لا يمكنه الوصول إليه، فإن احتاج إليهما للشرب لم تجب إراقتهما بغير خلاف لأنه يجوز له التيمم لو كانا طاهرين فههنا أولى، فإذا أراد الشرب تحرى وشرب من الذي يظن طهارته فإن لم يغلب على ظنه شئ شرب من أحدهما لأنه حال ضرورة فإذا شرب من أحدهما أو أكل من المشتبهة بالميتة فهل يلزمه غسل فيه؟ يحتمل وجهين (احدهما) لا يلزمه لأن الأصل الطهارة (والثاني) يلزمه لأنه محل منع من استعماله لأجل النجاسة فلزمه غسل أثره كالمتيقن فإن علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك، فإن احتاج إلى الشرب شرب من الطاهر وتيمم، وإن خاف العطش في ثاني الحال فقال القاضي يتوضأ بالطاهر ويحبس النجس لأنه غير محتاج إلى شربه في الحال فلم يجز التيمم مع وجوده.
قال شيخنا: والصحيح إن شاء الله أنه يحبس الطاهر ويتيمم لأن وجود النجس كعدمه عند الحاجة إلى الشرب في الحال فكذلك في المآل وخوف العطش في إباحة التيمم كحقيقته (مسألة) وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما وصلى صلاة واحدة.
لا نعلم فيه خلافاً(1/52)
لأنه أمكنه إداء فرضه بيقين من غير حرج فلزمه ذلك كما لو كانا طهورين فلم يكفه أحدهما، فإن احتاج إلى أحد الإناءين للشرب تحرى وتوضأ بالطهور عنده وتيمم ليحصل له اليقين والله أعلم (مسألة) قال (وإن اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة) ولم يجز التحري وهذا قول ابن الماجشون لأنه أمكنه إداء فرضه بيقين من غير حرج فلزمه كما لو اشتبه الطاهر بالطهور وكما لو فاتته صلاة من يوم لا يعلم عينها وقال أبو ثور والمزني: لا يصلي في شئ منها وقال أبو حنيفة والشافعي يتحرى كقولهما في الأواني والقبلة والأول أولى والفرق بين
الثياب والأواني النجسة من وجهين (أحدهما) أن استعمال النجس في الأواني يتنجس به ويمنع صحة صلاته في الحال والمآل بخلاف الثياب (الثاني) أن الثوب النجس يباح له الصلاة فيه إذا لم يجد غيره بخلاف الماء النجس والفرق بينه وبين القبلة من ثلاثة أوجه (أحدها) أن القبلة يكثر فيها الاشتباه (الثاني) أن الاشتباه ههنا حصل بتفريطه لأنه كان يمكنه تعليم النجس بخلاف القبلة (الثالث) أن القبلة عليها أدلة من النجوم وغيرها فيغلب على الظن مع الاجتهاد فيها الإصابة بحيث يبقى احتمال الخطأ وهما ضعيفا بخلاف الثياب (فصل) فإن لم يعلم عدد النجس صلى حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر فإن كثر ذلك وشق(1/53)
فقال ابن عقيل يتحرى في أصح الوجهين دفعا للمشقة (والثاني) لا يتحرى لأن هذا يندر جدا فالحق للغالب (فصل) فإن سقط على إنسان من طريق ماء لم يلزمه السؤال عنه قال صالح سألت أبي عن الرجل يمر بموضع فيقطر عليه قطرة أو قطرتان فقال إن كان مخرجا يعني خلاء فاغسله وإن لم يكن مخرجا فلا تسأل عنه فإن عمر رضي الله عنه مر هو وعمرو بن العاص على حوض فقال عمرو: يا صاحب الحوض أترد على حوضك السباع؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد عليها وترد علينا، رواه مالك في الموطأ، فإن سأل فقال ابن عقيل: لا يلزم المسئول رد الجواب لخبر عمر قال شيخنا ويحتمل(1/54)
أن يلزمه لأنه سئل عن شرط الصلاة فلزمه الجواب كما لو سئل عن القبلة وخبر عمر يدل على أن سؤر السباع طاهر والله أعلم (باب الآنية) قال رحمه الله (كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله لو كان ثمينا كالجوهر ونحوه) وجملة ذلك أن جميع الآنية الطاهرة مباح اتخاذها واستعمالها سواء كان ثمينا كالبلور والياقوت والزمرد أو ليس بثمين كالعقيق والخشب والخزف والحجارة والصفر والحديد والأدم ونحوه في قول عامة أهل العلم إلا أنه روي عن ابن عمر أنه كره الوضوء في الصفر والنحاس والرصاص وما أشبهه واختار
ذلك أبو الفرج المقدسي لأن الماء يتغير فيها وقال وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس وقال الشافعي في أحد قوليه ما كان ثمينا لنفاسة جوهره فهو محرم لأن فيه سرفا وخيلاء وكسر قلوب الفقراء أشبه الأثمان ولان تحريم آنية الذهب والفضة تنبيه على تحريم ما هو أنفس منها(1/55)
ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ، رواه البخاري وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في تور من شبه رواه أبو داود وأما آنية الجواهر فلا يصح قياسها على الأثمان لوجهين (أحدهما) أن هذا لا يعرفه الاخواص الناس فلا تنكسر قلوب الفقراء لكونهم لا يعرفونه (الثاني) أن هذه الجواهر لقلتها لا يحصل اتخاذ الآنية منها إلا نادرا ولو اتخذت كانت مصونة لا تستعمل ولا تظهر غالبا فلا تفضي إباحتها إلى استعمالها بخلاف آنية الذهب والفضة فإنها في مظنة الكثرة فكان التحريم متعلقا بالمظنة فلم يتجاوزه كما تغلق حكم التحريم في اللباس بالحرير وجاز استعمال القصب من الثياب وإن زادت قيمته على قيمة الحرير ولو جعل فص خاتمه جوهرة ثمينة جاز ولو جعله ذهبا لم يجز (مسألة) قال (إلا آنية الذهب والفضة والمضبب بهما فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها على الرجال والنساء) قال شيخنا رحمه الله لا يختلف المذهب فيما علمنا في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وحكي عن(1/56)
الشافعي إباحته لتخصيص النهي بالاستعمال ولأنه لا يلزم من تحريم الاستعمال تحريم الاتخاذ كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير وذكره بعض أصحابنا وجها في المذهب ولنا أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالملاهي، وأما ثياب الحرير فإنها تباح للنساء وتباح التجارة فيها فحصل الفرق وأما تحريم استعمالها فهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك.
وعن معاوية بن قرة أنه قال لا بأس بالشرب من قدح فضة، وعن الشافعي قول أنه مكروه غير محرم لأن النهي لما فيه من التشبه بالأعاجم فلا يقتضي التحريم ولنا ما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم
في الدنيا ولكم في الآخرة " وعن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " متفق عليهما فتوعد عليه بالنار فدل على تحريمه ولأن في ذلك سرفا وخيلاء وكسر قلوب الفقراء - دل الحديثان على تحريم الأكل والشرب فكذلك الطهارة وسائر الاستعمال ولأنه إذا حرم في غير العبادة(1/57)
ففيها أولى ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء لعموم النص والمعنى فيهما وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج وهذا يختص الحلي فاختصت الإباحة به، وكذلك المضبب بهما فإن كان كثيرا فهو محرم بكل حال ذهبا كان أو فضة لحاجة أو غيرها وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة هو مباح لأنه تابع للمباح أشبه اليسير ولنا ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من شرب في إناء من ذهب أو فضة أو إناء فيه شئ من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم " رواه الدارقطني ولأن فيه سرفا وخيلاء أشبه الصفر الخالص وفارق اليسير فإنه لا يوجد فيه المعنى المحرم (مسألة) قال (فإن توضأ منها أو اغتسل فهل تصح طهارته؟ على وجهين) أحدهما: تصح طهارته اختاره الخرقي وهو قول أصحاب الرأي والشافعي وإسحاق وابن المنذر لأن فعل الطهارة وماءها لا يتعلق بشئ من ذلك أشبه الطهارة في الدار المغصوبة.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر لأنه(1/58)
استعمل المحرم في العبادة فلم تصح كما لو صلى في دار مغصوبة والأول أصح، ويفارق هذا الصلاة في الدار المغصوبة لأن القيام والقعود والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم وهي أفعال الصلاة وأفعال الوضوء من الغسل والمسح ليس بمحرم إذ ليس هو استعمال للإناء وإنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الإناء وفصله عنه فهو كما لو اغترف بإناء فضة في إناء غيره وتوضأ منه ولان المكان شرط في الصلاة لا يمكن وجودها إلا به والإناء ليس بشرط فهو كما لو صلى وفي يده خاتم ذهب، فإن جعل آنية الذهب مصبا لماء الوضوء والغسل يقع فيه الماء المنفصل عن العضو صح الوضوء لأن المنفصل الذي يقع في الآنية قد رفع الحدث فلم يبطل بوقوعه في الإناء، ويحتمل أن تكون كالتي قبلها ذكره ابن عقيل لأن الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء حاصل ههنا كحصوله في التي قبلها بل هو ههنا أبلغ وفعل الطهارة يحصل
هاهنا قبل وصول الماء إلى الإناء وفي التي قبلها بعد فصله عنه فهي مثلها في المعنى وإن افترقا في الصورة(1/59)
(فصل) فإن توضأ بماء مغصوب فهو كما لو صلى في ثوب مغصوب لا تصح في أصح الوجهين ووجهه ما يأتي في بابه (مسألة) قال (إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة كتشعيب القدح فلا بأس بها إذا لم يباشرها بالاستعمال) وممن رخص في ضبة الفضة سعيد بن جبير وميسرة وطاوس والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي واسحاق، وقال قد وضع عمر بن عبد العزيز فاه بين ضبتين، وكان ابن عمر لا يشرب من قدح فيه فضة ولا ضبة، وكره الشرب في الاناء المفضض علي بن الحسين وعطاء وسالم والمطلب بن حنظب ونهت عائشة أن يضبب الآنية أو يحلفها بالفضة ونحوه قول الحسن وابن سيرين، ولعلوم كرهوا ما قصد به الزينة أو كان كثيرا فيكون قولهم وقول الأولين واحدا ولا يكون في للسألة خلافا، فأما اليسير كتشعيب القدح ونحوه فلا بأس به لما روى أنس بن مالك أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة رواه البخاري، قال القاضي: يباح(1/60)
يسير الفضة مع الحاجة وعدمها لما ذكرنا ولأنه ليس فيه سرف ولا خيلاء أشبه الصفر إلا أنه كره الحلقة لأنها تستعمل، وقال أبو الخطاب لا نباح إلا لحاجة لأن الخبر إنما ورد في تشعيب القدح وهو للحاجة ومعنى ذلك أن تدعو الحاجة إلى فعله وليس معناه أن لا يندفع بغيره ويكره مباشرة موضع الفضة بالاستعمال لئلا يكون مستعملا للفضة التي جاء الوعيد في استعمالها (مسألة) قال (وثياب الكفار وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم تعلم نجاستها) والكفار على ضربين أهل الكتاب وغيرهم، فأما أهل الكتاب فيباح أكل طعامهم وشرابهم، واستعمال آنيتهم ما لم تعلم نجاستها، قال ابن عقيل لا تختلف الرواية في أنه لا يحرم استعمال أوانيهم لقول الله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وعن عبد الله بن مغفل قال: دلي جراب من شحم يوم(1/61)
خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي أحداً منه شيئاً فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم
رواه مسلم، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة من المسند وتوضأ عمر من جرة نصرانية.
وهل يكره استعمال أوانيهم على روايتين (إحداهما) لا يكره لما ذكرنا (والثانية) يكره لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها " متفق عليه، وأقل أحوال النهي الكراهة، ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم منها وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة، وأما ثيابهم فما لم يتسعملوه أو علا منها كالعمامة والثوب الفوقاني فهو طاهر لا بأس بلبسه وما لاقى عوراتهم كالسراويل ونحوه فروي عن أحمد أنه قال أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيه وهذا قول القاضي.
وكره أبو حنيفة والشافعي لبس الأزر والسراويلات وقال أبو الخطاب لا يعيد لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك(1/62)
(الضرب الثاني) غير أهل الكتاب وهم المجوس وعبدة الأوثان ونحوهم ومن يأكل لحم الخنزير من أهل الكتاب في موضع يمكنهم أكله أو يأكل الميتة أو يذبح بالسن والظفر فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة عملا بالأصل، وأما أوانيهم فقال أبو الخطاب حكمها حكم أواني أهل الكتاب يباح استعمالها ما لم يتحقق نجاستها وهذا مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضأوا من مزادة مشركة.
متفق عليه.
ولأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك، وقال القاضي هي نجسة لا يستعمل ما استعملوه منها إلا بعد غسله لحديث أبي ثعلبة ولأن أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم وذبائحهم ميتة فتتنجس بها وهذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال في المجوس لا يؤكل من طعامهم إلا الفاكهة لأن الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم، ومتى شك في الإناء هل استعملوه أم لا فهو طاهر لأن الأصل طهارته، ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة لبس الثوب الذي نسجه الكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كان لباسهم من نسج الكفار إلا أن ابن ابي موسى ذكر في الارشاد في وجوب غسلها قبل لبسها روايتين (إحداهما) لا يجب وهو الصحيح لما ذكرنا (والثانية) يجب ليتيقن الطهارة، فأما ثيابهم التي يلبسونها فأباح الصلاة فيها الثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك في ثوب الكافر إن صلى
فيه يعيد ما دام في الوقت.
ولنا أن الأصل الطهارة ولم يترجح التنجيس فيه أشبه ما نسجه الكفار (فصل) وتباح الصلاة في ثياب الصبيان والمربيات وفي ثوب المرأة الذي تحيض فيه إذا لم(1/63)
تتحقق نجاسته وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع متفق عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن على ظهره، قال أصحابنا والتوقي لذلك أولى لاحتمال النجاسة فيه وقد روى أبو داود عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا ولحفنا.
ولعاب الصبيان طاهر وقد روى أبو هريرة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حامل الحسين بن علي على عاتقه ولعابه يسيل عليه (فصل) ولا يجب غسل الثوب المصبوغ في حب الصباغ مسلما كان أو كتابيا نص عليه أحمد عملا بالأصل فإن علمت نجاسته طهر بالغسل وإن بقي اللون لقوله عليه السلام في الدم " الماء يكفيك ولا يضرك أثره " رواه أبو داود (فصل) ويستحب تخمير الأواني وإيكاء الأسقية لما روى أبو هريرة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي الإناء، ونوكي السقاء (مسألة) قال (ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ) .
هذا هو الصحيح من المذهب وهو إحدى الروايتين عن مالك روى ذلك عن عمر وابنه وعائشة وعمران بن حصين رضي الله عنهم لما روى عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة " إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " رواه أبو داود وليس في رواية أبي داود " كنت رخصت لكم " والإمام أحمد.
وقال(1/64)
إسناد جيد يرويه يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه وفي لفظ أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أو شهرين وهو ناسخ لما قبله لأنه في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه دال على سبق الرخصة وأنه متأخر عنه لقوله " كنت رخصت لكم " وإنما يؤخذ بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن قيل) هذا مرسل لأنه من كتاب لا يعرف حامله قلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كلفظه ولذلك لزمت
الحجة من كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وحصل له البلاغ لأنه لو لم يكن حجة لم تلزمهم الإجابة ولكان لهم عذر في ترك الإجابة لجهلهم بحامل الكتاب والأمر بخلاف ذلك، وروى أبو بكر الشافعي بإسناده عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تنتفعوا من الميتة بشئ " وإسناده حسن ولأنه جزء من الميتة فحرم الانتفاع به كسائرها ولقوله تعالى (حرمت عليكم الميتة (1) (مسألة) وهل يجوز استعماله في اليابسات (على روايتين) (إحداهما) لا يجوز لحديث عبد الله بن عكيم (والثانية) يجوز الانتفاع بجلد ما كان طاهرا حال الحياة إذا دبغ لأن النبي صلى الله
__________
1) الشبه بفتحين من المعادن ما يشبه الذهب في لونه وهو أرفع الصفر بضم الصاد (كقفل) وكسرها النحاس وتقدم ذكره(1/65)
عليه وسلم وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به " رواه مسلم ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة ونجاسته لا تمنع الانتفاع به كالاصطياد بالكلب وركوب البغل والحمار (مسألة) (وعنه يطهر منها جلد ما كان طاهرا حال الحياة) نص أحمد على ذلك قال بعض أصحابنا إنما يطهر جلد ما كان مأكول اللحم وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور واسحاق لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ذكاة الأديم دباغه " رواه الإمام أحمد وأبو داود فشبه الدباغ بالذكاة والذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم ولأنه أحد المطهرين للجلد فلم يؤثر في غير مأكول كالذبح والأول ظاهر كلام أحمد لعموم لفظه في ذلك ولأن قوله صلى الله عليه وسلم " أيما إهاب دبغ فقد طهر " يتناول(1/66)
المأكول وغيره وخرج منه ما كان نجسا في الحياة لكون الدبغ إنما يؤثر في رفع نجاسة حادثة بالموت فتبقى فيما عداه على قضية العموم، وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة التطيبب من قولهم رائحة ذكية أي طيبة ويحتمل أنه أراد بالذكاة الطهارة فعلى هذين التأويلين يكون اللفظ عاما في كل جلد فيتناول ما اختلفنا فيه ويدل على التأويل الذي ذكرنا أنه لو أراد بالذكاة الذبح لأضافه إلى الحيوان كله لا إلى الجلد (فصل) فأما جلود السباع فقال القاضي: لا يجوز الانتفاع بها قبل الداغ ولا بعده، وبذلك
قال الاوزاعي وابن المبارك واسحاق وأبو ثور، وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما كراهة الصلا في جلود الثعالب ورخص في جلود السباع جابر، وروي عن ابن سيرين وعروة أنهم رخصوا في الركوب على جلود النمور ومذهب الشافعي طهارة جلود الحيوانات كلها إلا الكلب والخنزير لأنه يرى طهارتها(1/67)
في حال الحياة وله في جلد الآدمي وجهان، وقال أبو حنيفة يطهر كل جلد إلا جلد الخنزير، وحكي عن أبي يوسف طهارة كل جلد وهو رواية عن مالك ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " أيما إهاب دبغ فقد طهر " متفق عليه ولنا ما روى أبو ريحانة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمور رواه الإمام أحمد وأبو داود، وعن معاوية والمقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع والركوب عليها.
رواه أبو داود والنسائي مع ما ذكرناه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتفاع بشئ من الميتة فجمعنا بين هذه الأحاديث وبين الأحاديث الدالة على طهارة جلود الميتة بحملها على ما كان طاهرا حال الحياة وحمل أحاديث النهي على ما لم يكن طاهرا لأنه متى أمكن الجمع بين الأحاديث ولو من وجه كان أولى من التعارض بينها - يحقق ذلك أن الدبغ إنما يزيل النجاسة(1/68)
الحادثة بالموت ويرد الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة فإذا كان في الحياة نجسا لم يؤثر فيه الدباغ شيئاً والله أعلم.
(فصل) واذا قلنا بطهارة الجلد بالدباغ لم يحل أكله في قول عامة أهل العلم، وحكي عن ابن حامد أنه يحل وهو وجه لأصحاب الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم " ذكاة الأديم دباغه " ولأنه معنى يفيد الطهارة في الجلد أشبه الذبح، وظاهر قول الشافعي أنه إن كان من حيوان مأكول جاز أكله لأن الدباغ بمنزلة الذكاة وإلا لم يجز لأن الذكاة لا تبيحه فالدباغ أولى، والأول أصح لقوله عزوجل (حرمت عليكم الميتة) والجلد منها ولقوله صلى الله عليه وسلم " إنما حرم من الميتة أكلها " متفق عليه ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل بدليل تحريم الخبائث مما لا ينجس بالموت وقياسهم لا يقبل مع معارضة
الكتاب والسنة (فصل) ويجوز بيعه وإجارته والانتفاع به في كل ما يمكن سوى الآكل وهو قول الشافعي في الجديد ولا يجوز بيعه قبل الدبغ لا نعلم فيه خلافا لأنه متفق على نجاسته أشبه الخنزير ويفتقر ما يدبغ(1/69)
به الى أن يكون منشفا للرطوبة منقيا للخبث كالشب والقرظ قال ابن عقيل يشترط أن يكون طاهرا لأنها طهارة من نجاسة فلم تطهر بنجس كالاستجمار وهل يطهر الجلد بمجرد الدبغ قبل غسله بالماء؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يحصل لقول النبي صلى الله عليه والسلم " يطهرها الماء والقرظ " رواه أبو داود ولأن ما يدبغ به نجس بملاقاة الجلد فإذا اندبغ الجلد بقيت الآلة نجسة فتبقى نجاسة الجلد لملاقاتها له فلا تزول إلا بالغسل (والثاني) يطهر لقوله صلى الله عليه وسلم " أيما إهاب دبغ فقد طهر " ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى استعمال الماء كالخمرة إذا انقلبت وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " طهور كل أديم دباغه قال شيخنا والأول أولى فإن المعنى والخبر إنما يدلان على طهارة عينه وذلك لا يمنع من وجوب غسله من نجاسة تلاقيه كما لو أصابته نجاسة سوى آلة الدبغ أو أصابته آلة الدبغ بعد فصله عنها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين(1/70)
(فصل) ولا يفتقر الدبغ إلى فعل فلو وقع جلد في مدبغة فاندبغ طهر لأنها إزالة نجاسة فهو كالمطر يطهر الأرض النجسة (مسألة) قال ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يطهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ذكاة الأديم دباغه " شبه الدبغ بالذكاة والدبغ بطهر الجلد على ما مضى كذلك الذكاة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش جلود السباع وركوب النمور وهو عام في المذكى وغيره ولأنه ذبح لا يبيح اللحم فلم يطهر الجلد كذبح المجوسي والخبر قد أجبنا عنه فيما مضى.
وأما قياس الذكاة على الدبغ فلا يصح فإن الدبغ أقوى لأنه يزيل الخبث والرطوبات كلها ويطيب الجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير والذكاة لا يحصل بها ذلك ولا يستغنى بها عن الدبغ فدل على أنه أقوى(1/71)
(مسألة) (ولبن الميتة نجس لأنه مائع في وعاء نجس فتنجس به وكذلك أنفحتها في ظاهر المذهب لما ذكرنا) وهو قول مالك والشافعي وروي أنها طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود لأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن وهو يعمل بالأنفحة وذبائحهم ميتة لأنهم مجوس والأول أولى لأنه مائع في إناء نجس أشبه مالو حلب في إناء نجس، وأما المجوس فقد قيل إنهم ما كانوا يذبحون بأنفسهم وكان جزاروهم اليهود والنصارى ولو لم ينقل ذلك عنهم كان الاحتمال كافيا فإنه قد كان فيهم اليهود والنصارى والأصل الحل فلا يزول بالشك وقد روي أن الصحابة رضي الله عنهم لما قدموا العراق كسروا جيشا من أهل فارس بعد أن وضعوا طعامهم ليأكلوه فلما فرغ المسلمون منهم جلسوا فأكلوا الطعام وهو لا يخلو من اللحم ظاهرا فلو حكم بنجاسة ما ذبح في بلدهم لما أكلوا من لحمهم، وإذا حكمنا بطهارة اللحكم فالجبن أولى، وعلى هذا لو دخل الإنسان أرضا فيها مجوس وأهل كتاب كان له أكل جبنهم ولحمهم لما ذكرنا(1/72)
(فصل) وإن ماتت الدجاجة وفيها بيضة قد صلب قشرها فهي طاهرة وهو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية وابن المنذر، وكرهها علي بن أبي طالب وابن عمر ومالك والليث وبعض الشافعية لأنها جزء من الميتة، ولنا أنها بيضة صلبة القشرة منفصلة عن الميتة أشبهت الولد إذا خرج حيا من الميتة وكراهية الصحابة محمولة على التنزيه استقذارا لها، وإن لم تكمل البيضة فقال بعض أصحابنا ما كان قشرها أبيض فهو طاهر وما لم يبيض فهو نجس لأنه ليس عليه حائل حصين، واختار ابن عقيل أنها لا تتنجس لأن البيضة عليها غاشية رقيقة كالجلد وهو القشر قبل أن يقوى فلا يتنجس منها إلا مالاقى النجاسة كالسمن الجامد إذا ماتت فيه فأرة إلا أن هذه تطهر إذا غسلت لأن لها من القوة ما يمنع دخول أجزاء النجاسة فيها بخلاف السمن والله أعلم(1/73)
(مسألة) قال (وعظمها وقرنها وظفرها نجس) عظام الميتة النجسة نجسة مأكولة اللحم أو غيرها كالفيلة لا تطهر بحال وهذا قول مالك والشافعي
واسحاق، ورخص في الانتفاع بعظام الفيلة محمد بن سيرين وابن جريج لما روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، وقال مالك إن الفيل إن ذكي فعظمه طاهر وإلا فهو نجس لأن الفيل مأكول عنده، وقال الثوري وأبو حنيفة عظام الميتات طاهرة لأن الموت لا يحلها (1) فلا تنجس به كالشعر ولنا قول الله تعالى (حرمت عليكم الميتة) والعظم من جملتها فيكون محرما والفيل لا يؤكل لحمه فيكون نجسا على كل حال، والدليل على تحريمه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع متفق عليه والفيل أعظمها نابا وحديث ثوبان قال الخطابي عن الأصمعي العاج الذبل ويقال
__________
1) الحكم صحيح والتعليل باطل كما ثبت في الاخبار والآثار.
والمحرم من الميتة أكلها كما صح مرفوعا والفيل ذو ناب وليس من السباع والنهي عن السباع للكراهة عند مالك وهو ما نختار لضرورة الجمع بينه وبين حصر القرآن المحرمات في أربع(1/74)
هو عظم ظهر السلحفاة البحرية وقولهم إن العظام لا يحلها الموت ممنوع لأن الحياة تحلها وكل ما تحله الحياة يحله الموت بدليل قوله تعالى (قال من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) ولأن دليل الحياة الإحساس والألم وهو في العظم أشد منه في اللحم والضرس يألم ويلحقه الضرس ويحس ببرد الماء وحرارته وما يحله الموت ينجس، والقرن والظفر والحافر كالعظم إن أخذ من مذكى فهو طاهر وإن أخذ من حي فهو نجس لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وكذلك ما يتساقط من قرون الوعول في حياتها ويحتمل أن هذا طاهر لأنه طاهر متصلا مع عدم الحياة فيه فلم ينجس بفصله من الحيوان كالشعر والخبر أريد به ما يقطع من البهيمة مما فيه حياة فيموت بفصله بدليل الشعر فأما ما لا ينجس بالموت كالسمك فلا بأس بعظامه فإنه لا ينجس بالموت فهو كالمذكى (مسألة) قال (وصوفها وشعرها وريشها طاهر) يعني شعر ما كان طاهرا في حياته وصوفه(1/75)
روى ذلك عن الحسن وابن سيرين، وبه قال مالك والليث بن سعد والاوزاعي وإسحاق وابن
المنذر وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد ما يدل على أنه نجس وهو قول الشافعي لأنه ينمي من الحيوان فنجس بموته كأعضائه، ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل " رواه الدارقطني وقال لم يأت به إلا يوسف بن السفر وهو ضعيف ولأنه لا تفتقر طهارة منفصلة إلى ذكاة أصله فلم ينجس بموته كأجزاء السمك والجراد ولأنه لا حياة فيه وما لا تحله الحياة لا يموت، والدليل على أنه لا حياة فيه أنه لو كان فيه حياة لنجس بفصله من الحيوان في حال حياته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أبين من حي فهو ميت " رواه أبو داود بمعناه وما ذكروه ينتقض بالبيض ويفارق الأعضاء لأن فيها حياة، ولذلك تنجس بفصلها من الحيوان حال حياته، والنمو لا يدل على الحياة بدليل نمو الشجر والريش كالشعر لأنه في معناه فأما أصول الريش والشعر إذا نتف من(1/76)
الميتة وهو رطب فهو نجس برطوبة الميتة وهل يطهر بالغسل على وجهين (أحدهما) يطهر كرءوس الشعر إذا تنجس (والثاني) لا يطهر لأنه جزء من اللحم لم يكمل شعرا ولا ريشا (فصل) وشعر الآدمي طاهر منفصلا ومتصلا في الحياة والموت، وقال الشافعي في أحد قوليه ينجس بفصله (1) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره بين أصحابه قال أنس لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحر نسكه ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فقال: أحلق فحلقه وأعطاه أبا طلحة فقال " اقسمه بين الناس " رواه مسلم، وروى أن معاوية أوصى أن يجعل نصيبه منه في فيه إذا مات.
وكان في قلنسوة خالد شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان نجسا لما ساغ ذلك ولما فرقه النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنهم يأخذونه يتبركون به وما كان طاهرا من النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1) إن كان الشافعي قال هذا فقد رجع هنا وقد زال الشارح هنا تبعا لاستاذه صاحب المغني فذكر شعر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام فخذفناه لبطلانه وتكريما لشعره عليه أفضل الصلاة والسلام(1/77)
كان طاهرا ممن سواه كسائره ولأنه شعر متصله طاهر فكذلك منفصله كشعر الحيوانات الطاهرة وكذلك نقول في أعضاء الآدمي وإن سلمنا نجاستها فإنها تنجس من الحيوانات بفصلها في الحياة بخلاف الشعر فحصل الفرق
(فصل) ولا يجوز استعمال شعر الآدمي وإن كان طاهراً لحرمته لا لنجاسته ذكره ابن عقيل فأما الصلاة فيه فصحيحة.
(فصل) وكل حيوان فحكم شعره حكم بقية أجزائه في النجاسة والطهارة لا فرق بين حالة الحياة والموت إلا أن الحيوانات التي حكمنا بطهارتها لمشقة التحرز كالهر وما دونها فيها بعد الموت وجهان (أحدهما) نجاستها لأنها كانت طاهرة في الحياة مع وجود علة التنجيس لمعارض وهو عدم إمكان التحرز عنها وقد زال ذلك بالموت فتنتفي الطهارة (والثاني) هي طاهرة وهو أصح لأنها كانت طاهرة في الحياة والموت لا يقتضي تنجيسها فتبقى طاهرة وما ذكر للوجه الأول لا يصح ولا نسلم(1/78)
وجود علة التنجيس وإن سلمناه غير أن الشرع ألغاه ولم يعتبره في موضع فليس لنا اعتباره بالتحكم (فصل) وهل يجوز الخرز بشعر الخنزير فيه روايتان (إحداهما) كراهته حكي ذلك عن الحسن وابن سيرين واسحاق والشافعي لأنه استعمال للعين النجسة ولا يسلم من التنجيس بها فحرم الانتفاع بها كجلده (والثانية) يجوز الخرز به قال وبالليف أحب إلينا، ورخص فيه الحسن ومالك والاوزاعي وأبو حنيفة لأن الحاجة تدعو إليه، فإذا خرز به شيئا رطبا أو كانت الشعرة رطبة نجس ويطهر بالغسل، قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد أنه لا بأس به ولعله قال ذلك لأنه لا يسلم الناس منه وفي تكليف غسله اتلاف أموال الناس قال شيخنا والظاهر أن أحمد إنما عنى لا بأس بالخرز فأما الطهارة فلابد منها(1/79)
(باب الاستنجاء) الاستنجاء استفعال من نجوت الشجرة أي قطعتها فكأنه قطع الأذى عنه، وقال ابن قتيبة هو مأخوذ من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها، فأما الاستجمار فهو استفعال من الجمار وهي الحجارة الصغار لأنه يستعملها في استجماره (مسألة) قال رحمه الله (يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول بسم الله) لما روى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن
يقول بسم الله " رواه ابن ماجه ويقول " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم " لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " متفق عليه، وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم " رواه ابن ماجه، قال أبو عبيدة الخبث بسكون الباء الشر، والخبث بضم الخاء والباء جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة استعاذ من ذكران الشياطين وانائهم(1/80)
(مسألة) قال رحمه الله (ولا يدخله بشئ فيه ذكر الله تعالى) لما روى أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه.
رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، وقيل إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه لأن فيه محمد رسول الله فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله واحترز عليه من السقوط وأدار فص الخاتم إلى كفه فلا بأس، قال أحمد الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء وبه قال إسحاق ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين، قال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم أرجو أن لا يكون به بأس (مسألة) قال (ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج) لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه (ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ولان ذلك أسترله(1/81)
(مسألة) (ويعتمد على رجله اليسرى) لما روى سراقة بن مالك قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى.
رواه الطبراني في المعجم (مسألة) قال رحمه الله (ولا يتكلم) لما روى عبد الله بن عمر قال: مر بالنبي صلى الله عليه وسلم رجل فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه.
رواه مسلم ولا يذكر الله تعالى على حاجته بلسانه.
روي كراهة ذلك عن ابن عباس وعطاء، وقال ابن
سيرين والنخعي لا بأس به.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام الذي يجب رده فذكر الله أولى فإن عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم، وقال ابن عقيل فيه رواية أخرى أن يحمد الله بلسانه والأول أولى لما ذكرناه، وروى أبو سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك " رواه أبو داود وابن ماجه(1/82)
(مسألة) قال (ولا يلبث فوق حاجته) لأنه يقال أن ذلك يدمي الكبد ويأخذ منه الباسور (مسألة) قال (فإذا خرج قال غفرانك، الحمدالله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) لما روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال " غفرانك " رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس بن مالك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: " الحمدلله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " رواه ابن ماجه (فصل) ويستحب أن يغطي رأسه لما روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء غطى رأسه وإذا أتى أهله غطى رأسه.
رواه البيهقي من رواية محمد بن يونس الكديمي وكان يتهم بوضع الحديث، ولا بأس أن يبول في الإناء قالت أمية بنت رقية كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت السرير رواه أبو داود والنسائي(1/83)
(مسألة) قال (وإن كان في الفضاء) أبعد لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد رواه أبو داود (مسألة) قال (واستتر وارتاد مكانا رخوا) لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أتى الغائط فليستتر فان لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " رواه أبو داود.
ويرتاد مكانا رخوا لما روى أبو داود قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال ثم قال " إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله " رواه الإمام أحمد وأبو داود من رواية أبي التياح عن رجل كان
يصحب ابن عباس لم يسمه عن أبي موسى ولئلا يترشش عليه البول ويستحب أن يبول قاعدا لئلا يترشش عليه ولأنه أستر وأحسن، قال ابن مسعود من الجفاء أن تبول وأنت قائم قالت عائشة من(1/84)
حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا.
قال الترمذي هذا أصح شئ في الباب وقد رويت الرخصة فيه عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت لما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما رواه البخاري ومسلم والأول أولى لما روى عمر بن الخطاب قال رآنى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال " يا عمر لا تبل قائما " فما بلت قائما بعد.
رواه ابن ماجه (1) وعن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول قائما رواه ابن ماجه، وأما حديث حذيفة فلعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين الجواز أو كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه وقيل فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه ليستشفي به والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان (مسألة) قال (ولا يبول في شق ولا سرب ولا طريق ولاظل نافع ولا تحت شجرة مثمرة) البول في هذه المواضع كلها مكروه منهي عنه ومثلها موارد الماء لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر رواه أبو داود قالوا لقتادة ما يكره من البول في الجحر؟ قال كان يقال أنها مساكن الجن رواه الإمام أحمد، وقد حكي عن سعد بن عبادة أنه بال في جحر ثم استلقى ميتا فسمعت الجن تقول نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * ورميناه بسهمين فلم نخط فؤاده ولأنه لا يأمن أن يكون فيه حيوان يلسعه، وروى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اتقوا الملاعن
__________
1) لكنه ضعيف كما قاله الترمذي(1/85)
الثلاثة البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل " رواه أبو داود وابن ماجة، والبول تحت الشجرة المثمرة ينجس الثمرة فيؤذي من يأكلها (فصل) ويكره البول في الماء الراكد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد متفق عليه، فأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه لأنه يؤذي من مر به، فأما البول فيه وهو كثير فلا بأس به لأن تخصيص النهي بالماء الراكد دليل على أن الجاري بخلافه، ولا يبول في المغتسل
لما روى الإمام أحمد وأبو داود عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله، وقد روي أن عامة الوسواس منه، رواه(1/86)
أبو داود وابن ماجة وقال سمعت علي بن محمد يقول إنما هذا في الحفيرة فأما اليوم فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير فإذا بال وأرسل عليه الماء فلا بأس به، وقال الإمام أحمد إن صب عليه الماء وجرى في البالوعة فلا بأس وقد قيل إن البصاق على البول يورث الوسواس وإن البول على النار يورث السقم، ويكره أن يتوضأ على موضع بوله أو يستنجي عليه لئلا يتنجس به وتوقي ذلك كله أولى (مسألة) قال (ولا يستقبل الشمس ولا القمر) لما فيهما من نور الله وقد روي أن معهما ملائكة فإن استتر عنهما بشئ فلا بأس ولا يستقبل الريح لئلا يتنجس باالبول (مسألة) (ولا يجوز أن يستقبل القبلة في الفضاء) وهذا قول أكثر أهل العلم لما روى أبو أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا " قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو(1/87)
الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله.
متفق عليه ولم يقل البخاري ببول ولا غائط (1) وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " رواه مسلم، وقال عروة وداود وربيعة يجوز استقبالها واستدبارها لما روى جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وهذا دليل على النسخ.
ولنا أحاديث النهي وهي صحيحة وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستترا بشئ فلا يثبت النسخ بالاحتمال ويتعين حمله على ما ذكرنا ليكون موافقاً لما ذكر من الأحاديث (مسألة) (وفي استدبارها فيه واستقبالها في البنيان روايتان) وجملة ذلك أن استدبار الكعبة بالبول والغائط فيه ثلاث روايات (إحداها) يجوز في الفضاء والبنيان جميعا لما روى ابن عمر
__________
1) اي في الحديث المسند ولكن ذكره في ترجمة الباب معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم(1/88)
قال رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبرا للكعبة.
متفق عليه (والثانية) لا يجوز ذلك فيهما لحديث أبي أيوب ولما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " رواه مسلم (والثالثة) يجوز ذلك في البنيان ولا يجوز في الفضاء وهو الصحيح روي جواز استقبال القبلة واستدبارها في البنيان عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر لحديث جابر، ولما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له إن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقد فعلوها؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة " رواه أصحاب السنن، قال أبو عبد الله أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة فإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن إنما سماه أبو عبد الله مرسلا لأن عراك بن مالك رواه عن عائشة، قال أحمد ولم يسمع عنها، وروى مروان الأصفر قال رأيت ابن عمر أناخ ناقته (راحلته) مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقلت أبا عبد الرحمن: أليس نهي عن هذا؟ قال بلى إنما نهى عن هذا في الفضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس.
رواه أبو داود وهذا تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام وفيه جمع بين الأحاديث بحمل أحاديث النهي على الفضاء وأحاديث الرخصة على البنيان فيتعين المصير إليه، وأما(1/89)
استقبالها في البنيان ففيه روايتان (إحداهما) يجوز لما ذكرنا وبه قال مالك والشافعي (والثانية) لا يجوز وهو قول الثوري وأبي حنيفة لعموم أحاديث النهي والأول أولى (مسألة) قال (فإذا فرغ مسح بيده اليسرى من أصل ذكره إلى رأسه ثم ينتره ثلاثا) فيجعل يده على أصل الذكر من تحت الأنثيين ثم يسلته إلى رأسه فينتر ذكره ثلاثا برفق لما روى يزداد اليماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات " رواه أحمد (مسألة) (ولا يمس ذكره بيمينه ولا يستجمر بها) لما روى أبو قتادة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه " متفق عليه فإن كان يستجمر من غائط أخذ الحجر بيساره فمسح به.
وإن كان من البول أمسك ذكره بشماله ومسحه على الحجر فإن كان الحجر، صغيرا وضعه بين عقبيه أو بين أصابعه ومسح عليه إن أمكنه وإلا أمسك الحجر بيمينه ومسح بيساره الذكر عليه، وقيل يمسك الذكر بيمينه ويمسحه بيساره والأول أولى لما ذكرنا من الحديث ولأنه إذا أمسك الحجر بيمينه ومسح بيساره لم يكن ماسحا(1/90)
بيمينه ولا ممسكا للذكر بها، فإن كان أقطع اليسرى أو بها مرض استجمر بيمينه للحاجة.
فأما الاستعانة بها في الماء فلا يكره لأن الحاجة داعية إليه (فإن استجمر بيمينه لغير حاجة أجزأه) في قول أكثر أهل العلم وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لا يجزئه لأنه منهي عنه أشبه مالو استنجى بالروث والرمة والأول أولى لأن الروث آلة الاستجمار المباشرة للمحل وشرطه فلم يجز استعمال الآلة المنهي عنها فيه واليد ليست المباشرة للمحل ولا شرطاً فيه إنما يتناول بها الحجر الملاقي للمحل فصار النهي عنها نهي تأديب لا يمنع الاجزاء (مسألة) (ثم يتحول عن موضعه لئلا يتنجس بالخارج منه ثم يستجمر ثم يستنجي بالماء) الجمع بين الحجر والماء أفضل لأن الحجر يزيل ما غلظ من النجاسة فلا تباشرها يده.
والماء يزيل ما بقي قال أحمد: إن جمعهما فهو أحب إلي لما روي عن عائشة أنها قالت للنساء: مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول فإني أستحبهما وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله قال الترمذي هذا حديث صحيح (مسألة) قال (ويجزئه أحدهما) في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء قال سعيد بن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا النساء؟ وقال عطاء غسل الدبر(1/91)
محدث، والأول أولى لما روى أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء متفق عليه ولما ذكرنا من حديث عائشة وروى ابو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نزلت هذه
الآية في أهل قباء (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيه هذه الآية " رواه أبو داود وروي عن ابن عمر أنه كان لا يفعله ثم فعله وقال لنافع إنا جربناه فوجدناه صالحا ولأنه يطهر النجاسة في غير محل الاستنجاء فجاز في محل الاستنجاء قياساً عليه، فأما الاقتصار على الاستجمار فهو جائز بغير خلاف بين أهل العلم لما يذكر من الأخبار وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ومتى أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لما روينا من الأحاديث ولأنه يزيل العين والأثر ويطهر المحل وأبلغ في التنظيف (مسألة) قال (ألا إن يعدوا الخارج موضع الحاجة فلا يجزئ إلا الماء) مثل أن ينتشر إلى الصفحتين أو يمتد إلى الحشفة كثيرا وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله لتكرر النجاسة فيه فما لا يتكرر لا يجزئ فيه إلا الماء كساقية ولذلك قال علي رضي الله عنه - إنكم كنتم تبعرون بعرا وأنتم اليوم تثلطون ثلطا فأتبعوا الماء الأحجار فأما قوله عليه السلام " يكفي أحدكم ثلاثة أحجار " يحمل على ما إذا لم يتجاوز موضع العادة لما ذكرنا (فصل) والمرأة البكر كالرجل لأن عذرتها تمنع انتشار البول، فأما الثيب فإن خرج البول بحدة ولم ينتشر فكذلك وإن تعدى إلى مخرج الحيض فقال أصحابنا يجب غسله لأن مخرج الحيض غير مخرج البول، قال شيخنا ويحتمل أن لا يجب لأن هذا إعادة في حقها فكفى فيه الاستجمار كالمعتاد في غيرها ولأن الغسل لو لزمها لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه لكونه مما يحتاج إلى معرفته، وإن شك في انتشار الخارج لم يجب الغسل لأن الأصل عدمه والأولى الغسل احتياطا(1/92)
(فصل) والأقلف إن كانت بسرته لا تخرج من قلفته فهو كالمختتن وإن كان يمكنه كشفها كشفها فإذا بال واستجمر أعادها، وإن تنجست بالبول لزمه غسلها كما لو انتشر إلى معظم الحشفة (فصل) وإن انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر لم يجز فيه الاستجمار، وحكي عن بعض أصحابنا أنه يجزئه لأنه صار معتادا - ولنا أن هذا نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم يثبت فيه أحكام الفرج ولأن لمسه لا ينقض الوضوء ولا يتعلق بالإيلاج فيه شئ من أحكام الوطئ أشبه سائر البدن (فصل) والأولى أن يبدأ الرجل بالاستنجاء في القبل لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر لأن قبله
بارز فأما المرأة فهي مخيرة في البداية بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها وإذا استنجى بالماء ثم فرغ استحب له دلك يده بالأرض لما روت ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك رواه البخاري(1/93)
ويستحب أن يمكث قليلا قبل الاستنجاء حتى ينقطع أثر البول فإن استنجى عقيب انقطاعه جاز لأن الظاهر انقطاعه، وقد قيل إن الماء يقطع البول ولذلك سمي الاستنجاء انتقاص الماء ويستحب أن ينضح على فرجه وسراويله بعد الاستنجاء ليزيل عنه الوسواس قال حنبل سألت أحمد قلت أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعد؟ قال: إذا توضأت فاستبرئ ثم خذ كفا من ماء فرشه في فرجك لا تلتفت إليه فإنه يذهب إن شاء الله، وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " جاءني جبريل فقال يا محمد إذا توضأت فانتضح " حديث غريب (فصل) وإذا استنجى بالماء لم يحتج إلى التراب لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه استعمل التراب مع الماء في الاستنجاء ولا أمر به (مسألة) قال (ويجوز الاستجمار بكل طاهر ينقي كالحجر ونحوه الخشب والخرق) أما الاستجمار بالاحجار فلا خلاف فيه فيما علمنا وذلك لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه " رواه أبو داود، فأما الاستجمار بما سواها كالخشب والخرق وما في معناها مما ينقي فهو جائز في الصحيح من المذهب وقول أكثر أهل العلم وعنه لا يجزئ إلا الأحجار اختارها أبو بكر وهو مذهب داود لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار وأمره يقتضي الوجوب ولأنه موضع رخصة ورد الشرع فيها بآلة مخصوصة فوجب الاقتصار عليها كالتراب في التيمم وقياسا على رمي الجمار، ولنا ما روى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله فلا يستقبلها ولا يستدبرها وليستطب بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب " رواه الدارقطني قال وقد روي عن ابن عباس مرفوعا والصحيح أنه مرسل وفي حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لينهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وأن نستنجي برجيع أو عظم رواه مسلم.
وتخصيص هذين بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة
وما قام مقامها وإلا لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى، ولأنه متى ورد النص بشئ لمعنى معقول(1/94)
وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى، والمعنى ههنا إزالة عين النجاسة وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها فأما التيمم فإنه غير معقول (فصل) ويشترط فيما يستجمر به أن يكون طاهرا كما ذكر، فإن كان نجسا لم يجزئه الاستجمار به وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يجزئه لأنه يجففه كالطاهر، ولنا أن ابن مسعود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة ليستجمر بها فأخذ الحجر وألقى الروثة وقال " هذا ركس " يعني نجسا، رواه الترمذي وهذا تعليل من النبي صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه، ولأنه إزالة نجاسة فلا تحصل بالنجس كالغسل، فإن استجمر بنجس احتمل أن لا يجزئه الاستجمار بعده لأنها نجاسة من خارج فلم يجز فيها غير الماء كما لو تنجس المحل بها ابتداء، ويحتمل أن يجزئه لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل فزالت بزوالها، ويشترط أن يكون مما ينقي لأن الإنقاء شرط في الاستنجاء فإن كان زلجا كالزجاج والفحم الرخو وشبههما أو نديا لا ينقي لم يجز في الاستجمار لأنه لا يحصل به المقصود (مسألة) قال (إلا الروث والعظام والطعام وما له حرمة وما يتصل بحيوان) وجملة ذلك أنه لا يجوز الاستجمار بالروث ولا العظام ولا يجزئ في قول أكثر أهل العلم وبهذا قال الثوري والشافعي واسحاق، وقال أبو حنيفة يجوز الاستجمار بهما لأنهما يجففان النجاسة وينقيان المحل فهما كالحجر، وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منهما، ولنا ما روى مسلم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن " وروى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث أو عظم وقال " إنهما لا يطهران " وقال إسناد صحيح، وروى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرويفع بن ثابت " أخبر الناس أنه من استنجى برجيع أو عظم فهو برئ من محمد " وهذا عام في الطاهر منهما وغيره، والنهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء، وكذلك الطعام يحرم الاستنجاء(1/95)
به بطريق التنبيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي عن الروث والرمة بكونه زاد الجن فزادنا أولى لكونه أعظم
حرمة، فإن قيل فقد نهى عن الاستجمار باليمين كنهيه عن الاستجمار بهذين ولم يمنع ذلك الإجزاء فعنه جوابان (أحدهما) أنه قد بين في الحديث أنهما لا يطهران (الثاني) الفرق بينهما وهو أن النهي ههنا لمعنى في شرط الفعل فمنع صحته كالنهي عن الوضوء بالماء النجس وثم لمعنى في آلة الشرط فلم يمنع كالوضوء من إناء محرم وكذلك ماله حرمة مثل كتب الفقه والحديث لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة وكذلك ما يتصل بحيوان كعقبه ويده وذنب البهيمة وصوفها المتصل بها لأن له حرمة فهو كالطعام (مسألة) (ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات إما بحجر ذي شعب أو بثلاثة) أما الاستجمار بثلاثة أحجار فيجزئ إذا حصل بها الإنقاء بغير خلاف علمناه لما ذكرناه من النص والإجماع فأما الحجر الذي له ثلاث شعب فيجوز الاستجمار به في ظاهر المذهب وهو اختيار الخرقي ومذهب الشافعي واسحاق وأبي ثور، وعن أحمد رواية أخرى لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار وهو قول أبي بكر وابن المنذر لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يستنج أحدكم بدون ثلاثة أحجار " رواه مسلم ولا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار ولأنه إذا استجمر بالحجر تنجس فلم يجز الاستجمار به ثانيا كالصغير.
ولنا أنه استجمر ثلاثا منقية بما وجد فيه شروط الاستجمار فأجزأه كما لو فصله ثلاثة أحجار واستجمر بها فإنه لا فرق بينهما إلا فصلة ولا أثر لذلك في التطهير والحديث يقتضي ثلاث مسحات بحجر كما يقال ضربته ثلاثة اسواط أي ثلاث ضربات بسوط وذلك لأن معناه معقول ومراده معلوم والحاصل من ثلاثة أحجار حاصل من ثلاث شعب، ومن مسحه ذكره في صخرة عظيمة بثلاثة مواضع منها فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه، وقولهم إن الحجر يتنجس قلنا إنما يمسح بالموضع الطاهر أشبه مالو تنجس جانبه بغير الاستجمار ولأنه لو استجمر به ثلاثة حصل لكل واحد منهم مسحة وقام مقام ثلاثة أحجار فكذلك إذا استجمر به الواحد (فصل) ولو استجمر ثلاثة بثلاثة أحجار لكل حجر ثلاث شعب استجمر كل واحد بشعبة(1/96)
من حجر أو استجمر بحجر ثم غسله وكسر ما تنجس منه ثم استجمر به ثانيا ثم فعل ذلك
واستجمر به ثلاثا أجزأه لحصول المعنى والإنقاء، ويحتمل على قول أبي بكر ان لا يجزئه جمودا على اللفظ وهو بعيد والله أعلم (فصل) ويشترط للاستجمار الإنقاء وكمال العدد ومعى الإنقاء في الاستجمار إزالة عين النجاسة وبللها بحيث يخرج نقيا ليس عليه أثر إلا شيئا يسيرا، ومعنى الإنقاء في الاستنجاء ذهاب لزوجة النجاسة وآثارها، فإن وجد الإنقاء ولم يكمل العدد لم يجزي وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك يجزي وبه قال داود لحصول المقصود وهو الإنقاء ولقوله صلى الله عليه وسلم " من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " ولنا قول سلمان لقد نهانا يعني النبي صلى الله عليه وسلم إن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار.
فأما قوله " فلا حرج " في حديثهم يعني في ترك الوتر لا في ترك العدد لأن المأمور به في الخبر الوتر فيعود نفي الحرج اليه (مسألة) (فإن لم ينق بها زاد حتى ينقي) لان المقصود إزالة آثار النجاسة فإذا لم ينق لم يحصل مقصود الاستجمار (مسألة) قال (ويقطع على وتر) لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من استجمر فليوتر " متفق عليه، وهو مستحب غير واجب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " رواه الإمام أحمد وأبو داود " فليستجمر ثلاثا أو خمسا أو سبعاً أو تسعا " فإن أنقى بشفع أجزأ لما ذكرنا (فصل) وكيفما حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأ، وذكر القاضي أن المستحب أن يمر الحجر الأول من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ثم يديره على اليسرى حتى يصل به إلى الموضع الذي بدأ منه ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين وحجرا للمسربة، " رواه الدارقطني وقال إسناد حسن،(1/97)
وذكر الشريف أبو جعفر وابن عقيل أنه ينبغي أن يعم المحل بكل واحد من الأحجار لأنه إذا لم يعم كان تلفيقا فيكون مسحة واحدة وقالا معنى الحديث البداية بهذه المواضع، قال شيخنا ويحتمل أن
يجزئه لكل جهة مسحة لظاهر الخبر والله أعلم (فصل) ويجزي الاستجمار في النادر كأجزائه في المعتاد، ولأصحاب الشافعي وجه أنه لا يجزئ في النادر قال ابن عبد البر يحتمل أن يكون قول مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر من المذي وظاهر الأمر الوجوب ولأن النادر لا يتكرر فلا يشق اعتبار الماء فيه فوجب كغير هذا المحل - ولنا أن الخبر عام في الكل ولأن الاستجمار في النادر إنما وجب لما صحبه من بلة المعتاد، ثم إن لم يشق فهو في محل المشقة فيعتبر مظنة المشقة دون حقيقتها كما جاز الاستجمار على نهر جار.
وأما المذي فمعتاد كثير وربما كان في بعض الناس أكثر من البول ولهذا أوجب مالك منه الوضوء وهو لا يوجبه من النادر فيجزئ فيه الاستجمار قياساً على سائر المعتاد والأمر محمول على الاستحباب جمعاً بينه وبين ما ذكرناه والله أعلم (مسألة) قال (ويجب الاستنجاء من كل خارج إلا الريح) سواء كان معتادا كالبول والغائط أو نادرا كالحصى والدود والشعر رطبا أو يابسا، فلو وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج منه وجب عليهما الاستنجاء هذا ظاهر كلام الخرقي وصرح به القاضي وغيره، ولو أدخل الميل في ذكره ثم أخرجه لزمه الاستنجاء لأنه خارج من السبيل فأشبه الغائط المستحجر، والقياس أن لا يجب الاستنجاء من ناشف لا ينجس المحل وهو قول الشافعي، وهذا الحكم في الطاهر وهو المني إذا حكمنا بطهارته لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة ههنا، ولأنه لم يرد به نص ولا هو في معنى المنصوص والقول بوجوب الاستنجاء في الجملة قول أكثر أهل العلم، وحكي عن(1/98)
ابن سيرين فيمن صلى بقوم ولم يستنج لا أعلم به بأسا وهذا يحتمل أن يكون فيمن لم يلزمه الاستنجاء كمن توضأ من نوم أو خروج ريح، ويحتمل أنه لم ير وجوب الاستنجاء وهذا مذهب أبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " رواه أبو داود ولأنها نجاسة يجزئ المسح فيها فلم يجب إزالتها كيسير الدم - ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه " رواه أبو داود، وقال صلى الله
عليه وسلم " لا يستنج أحدكم بدون ثلاثة أحجار " رواه مسلم أمر والأمر يقتضي الوجوب وقال فإنها تجزئ عنه والإجزاء إنما يستعمل في الواجب، ونهى عن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار والنهي يقتضي التحريم وإذا حرم ترك بعض النجاسة فالجميع أولى فأما قوله " لا حرج " يعني في ترك الوتر وقد ذكرناه وأما الإجتزاء بالمسح فيه فلمشقة الغسل لتكرر النجاسة في محل الاستنجاء.
فأما الريح فلا يجب لها استنجاء لا نعلم فيه خلافا، قال أبو عبد الله ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من استنجى من ريح فليس منا " رواه الطبراني في المعجم الصغير، وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إذا اقمتم من النوم ولم يأمر بغيره فدل على أنه لا يجب، ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد فيه نص ولا هو في معنى المنصوص ولأنها ليست نجسة ولا يصحبها نجاسة فلا يجب غسل المحل منها كسائر المحال الطاهرة (مسألة) (فإن توضأ قبله فهل يصح وضوؤه على روايتين) يعني إن توضأ قبل الاستنجاء (إحداهما) لا يصح لأنها طهارة يبطلها الحدث فاشترط تقديم الاستنجاء عليها كالتيمم (والثانية) يصح وهي أصح وهي مذهب الشافعي لأنها إزالة نجاسة فلم تشترط لصحة الطهارة كالتي على غير الفرج فعلى هذه الرواية إن قدم التيمم خرج على الروايتين (إحداهما) يصح قياساً على الوضوء (الثانية) لا يصح لأنه لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة ولا تباح مع قيام المانع كما لو تيمم قبل الوقت، وقيل في التيمم لا يصح وجها واحداً لما ذكرنا، وإن كانت النجاسة على غير الفرج فهو كما لو كانت على الفرج ذكرها ابن عقيل لما ذكرنا من العلة.
قال شيخنا: والأشبه التفريق بينهما كما افترقا في طهارة الماء، ولأن نجاسة الفرج سبب وجوب التيمم فجاز أن يكون بقاؤها مانعا منه بخلاف سائر النجاسات(1/99)
(باب السواك وسنة الوضوء) (مسألة) قال (والسواك مسنون في جميع الأوقات) لا نعلم خلافاً في استحبابه وتأكده وذلك لما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " رواه الإمام أحمد، وعن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته
بدأ بالسواك.
رواه مسلم، وروى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي " (مسألة) قال (إلا الصائم بعد الزوال فلا يستحب) قال ابن عقيل لا يختلف المذهب أنه لا يستحب للصائم السواك بعد الزوال لما نذكره، وهل يكره؟ على روايتين (إحداهما) يكره وهو قول الشافعي وإسحاق وأبي ثور لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك.
ولأن السواك إنما استحب لإزالة رائحة الفم وقد قال صلى الله عليه وسلم " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " رواه الترمذي وقال حديث حسن وإزالة المستطاب عند الله مكروه كدم الشهداء وشعث الإحرام (والثانية) لا يكره وهو قول النخعي وابن سيرين وعروة ومالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم لعموم الأحاديث المروية في السواك ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من خير خصال الصائم السواك " رواه ابن ماجه وقال عامر بن ربيعة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مالاً أحصي يتسوك وهو صائم رواه الترمذي وقال حديث حسن(1/100)
(فصل) أكثر أهل العلم يرون السواك سنة غير واجب.
ولا نعلم احدا قال بوجوبه إلا إسحاق وداود لأنه مأمور به والأمر يقتضي الوجوب.
وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا وغير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " متفق عليه وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء " وهذان الحديثان يدلان على أنه غير واجب لأن المشقة إنما تلحق بالواجب ويدل على أن الآمر في حديثهم أمر ندب واستحباب، ويحتمل أن يكون ذلك واجباً في حق النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص جمعا بين الخبرين (مسألة) قال (ويتأكد استحبابه في ثلاثة مواضع عند الصلاة للخبر) الأول ولما روى زيد بن خالد قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "
قال فكان خالد يضع السواك موضع القلم من أذن الكاتب كلما قام إلى الصلاة استاك رواه الترمذي وقال حديث صحيح (وعند القيام من النوم) لما روى حذيفة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، متفق عليه يعني يغسله يقال شاصه وماصه إذا غسله.
وعن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ رواه الإمام أحمد ولأنه إذا نام ينطبق فوه فتغير رائحته (وعند تغير رائحة الفم) بمأكول أو غيره لأن(1/101)
السواك مشروع لتطييب الفم وإزالة رائحته، وقال الشيخ أبو الفرج يتأكد استحبابه عند قراءة القرآن والانتباه من النوم وتغير رائحة الفم (فصل) (ويستاك على أسنانه ولسانه) قال أبو موسى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته يستاك على لسانه متفق عليه (مسألة) (ويستاك بعود لين ينقي الفم ولا يجرحه ولا يضره ولا يتفتت فيه) كالأراك والعرجون لما روي عن ابن مسعود قال كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكا من أراك رواه أبو يعلى الموصلي وقد رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكا من الأراك ولا يستاك بعود الرمان ولا الآس ولا الأعواد الذكية لأنه روي عن قبيصة بن ذؤيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تخللوا بعود الريحان ولا الرمان فإنهما يحركان عرق الجذام " رواه محمد ابن الحسين الأزدي الحافظ بإسناده وقيل السواك يعود الريحان يضر بلحم الفم (مسألة) (فإن استاك بأصبعه أو خرقة فهل يصيب السنة على وجهين) (أحدهما) لا يصيب السنة لأنه لا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود (والثاني) يصيب من السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها وهو الصحيح لما روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزئ من السواك الأصابع " رواه البيهقي قال الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي هذا إسناد لا أرى به بأسا(1/102)
(مسألة) (ويستاك عرضا ويدهن غبا ويكتحل وترا) لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا " ولأن السواك طولا ربما أدمى اللثة وأفسد الأسنان وروي الطبراني بإسناده عن بهز قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، فإن استاك على لسانه أو حلقه فلا بأس أن يستاك طولا لما روى أبو موسى قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق فوصف حماد كأنه يرفع سواكه قال حماد ووصفه لنا غيلان قال كأنه يستاك طولا رواه الإمام أحمد.
وروى الخلال بإسناده عن عبد الله بن مغفل قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غبا.
قال أحمد معناه يدهن يوما ويوما، وروى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالائمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " والوتر ثلاث في كل عين وقيل ثلاث في اليمنى واثنان في اليسرى ليكون الوتر حاصلا في العينين معا (فصول في الفطرة) روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الأبط " متفق عليه.
وروى عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الاظفار وغسل البراجم ونتف الأبط وحلق العانة وانتقاص الماء " قال بعض الرواة ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء رواه مسلم، الاستحداد حلق العانة وهو مستحب لأنه من الفطرة ويفحش بتركه وبأي شئ أزاله فلا بأس لأن المقصود إزالته قيل لأبي عبد الله ترى أن يأخذ الرجل سفلته بالمقراض وإن لم يستقص؟ قال أرجو أن يجزئ إن شاء الله، قيل ما تقول في الرجل إذا نتف عانته؟ قال وهل يقوى على هذا أحد؟(1/103)
وإن اطلى بالنورة فلا بأس ولا يدع أحدا بلي عورته إلا من يحل له الاطلاع عليها لما روى الخلال بإسناده عن نافع قال كنت أطلي ابن عمر فإذا بلغ عانته نورها هو بيده وقد روى ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم والحلق أفضل لموافقته الحديث الصحيح (فصل) ونتف الإبط سنة لأنه من الفطرة ويفحش بتركه وإن أزال الشعر بالنورة أو الحلق جاز والنتف أفضل لموافقته الخبر (فصل) ويستحب تقليم الاظفار لما ذكرنا ولأنها تتفاحش بتركها وربما مكث الوسخ فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة فيصير رائحة ذلك في رءوس أصابعه وربما منع وصول الماء في الطهارة إلى ما تحته، ويستحب أن يقلمها يوم الخميس لما روى علي رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره يوم الخميس ثم قال " يا علي قص الظفر ونتف الأبط وحلق العانة يوم الخميس، والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة " وروي في حديث " من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمدا " (1) وفسره أبو عبد الله بن بطة بأن يبدأ بخنصره اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة ثم بإبهام اليسرى ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر، ويستحب غسل رءوس الأصابع بعد قص الاظفار لأنه قيل إن الحك بالأظفار قبل غسلها يضر بالجسد، ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره لما روى الخلال بإسناده عن ثميل بنت مشرح الأشعرية قالت رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها ويقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وخرجه عنها البزار والطبراني والبيهقي في الشعر كذلك والحيكم الترمذي والبيهقي عن عبد الله بن بسر وأخرجه البيهقي وابن
__________
1) هذا الحديث غير بل قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة.
لم يثبت في كيفية قص الاظافر ولا في تعيين يوم له شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يعزى من النظم فيها لعلى فباطل(1/104)
عدي عن ابن عمر يعني مشروعية الدفن، وعن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان يعجبه دفن الدم قال مهنا سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أو يلقيه؟ قال يدفنه، قلت بلغك فيه شئ؟ قال كان ابن عمر يدفنه (فصل) ويستحب قص الشارب لأنه من الفطرة ويفحش إذا طال ولما روى زيد بن أرقم
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " رواه الترمذي وقال حديث صحيح، ويستحب إعفاء اللحية لما ذكرنا من الحديث، وهل يكره أخذ ما زاد على القبضة، فيه وجهان (أحدهما) يكره لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خالفوا المشركين احفوا الشوارب واعفوا اللحى " متفق عليه (والثاني) لا يكره يروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وروى البخاري قال كان عبد الله بن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه، ولا ينبغي أن يتركها أكثر من أربعين يوماً لما روى أنس بن مالك قال وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الأبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين رواه مسلم (فصل) واتخاذ الشعر أفضل من إزالته قال إسحاق سئل أبو عبد الله عن الرجل يتخذ الشعر قال سنة حسنة لو أمكننا اتخذناه، وقال كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمة وقال في بعض الحديث أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى شحمة أذنه وفي بعض الحديث إلى منكبيه، وروى البراء بن عازب قال ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم له شعر يضرب منكبيه متفق عليه، ويستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إذا طال فإلى المنكب وإذا قصر فإلى شحمة الأذن وإن طوله فلا بأس نص عليه أحمد، وقال أبو عبيدة: كان له عقيصتان وعثمان كان له عقيصتان، ويستحب ترجيل الشعر وإكرامه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان له شعر فليكرمه " رواه أبو داود، ويستحب فرقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره وذكره في الفطرة(1/105)
(فصل) وهل يكره حلق الرأس في غير الحج والعمرة؟ فيه روايتان (إحداهما) يكره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج " سيماهم التحليق " وقال عمر لصبيغ: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة " أخرجه الدارقطني في الأفراد (والثانية) لا يكره لكن تركه أفضل، قال حنبل كنت أنا وأبي نحلق رؤوسنا في حياة أبي عبد الله فيرانا ونحن نحلق فلا ينهانا وذلك لما روى عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم
قال " لا تبكوا على أخي بعد اليوم - ثم قال - ادعوا بي أخي - فجئ بنا قال - ادعوا لي الحلاق " فأمر بنا فحلق رؤوسنا.
رواه أبو داود الطيالسي، وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال " احلقه كله أو دعه كله " رواه أبو داود، ولأنه لا يكره استئصال الشعر بالمقراض وهذا في معناه، قال ابن عبد البر أجمع العلماء في جميع الامصار على إباحة الحلق وكفى بهذا حجة، فأما أخذه بالمقراض واستئصاله فغير مكروه رواية واحدة قال أحمد إنما كرهوا الحلق بالموسى وأما بالمقراض فليس به بأس لأن أدلة الكراهة تختص الحلق (فصل) وحلق المرأة رأسها مكروه رواية واحدة من غير ضرورة لما روى الخلال بإسناده عن قتادة عن عكرمة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها فإن كان لضرورة جاز، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته أتأخذه على(1/106)
حديث ميمونة؟ فقال لاي شئ تأخذه؟ قيل له لا تقدر على الدهن وما يصلحه تقع فيه الدواب فقال إذا كان لضرورة فارجو أن لا يكون به بأس (فصل) ويكره نتف الشيب لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال " إنه نور الإسلام " رواه الخلال في جامعه (فصل) ويكره حلق القفا لمن لم يحلق رأسه ولم يحتج إليه.
قال المروذي سألت أبا عبد الله عن حلق القفا قال هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال لا بأس ان يحلق قفاه في الحجامة فأما حف الوجه فقال أحمد: ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال (فصل) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الواصلة والمستوصلة والنامصة والمنتمصة والواشرة والمستوشرة فهذه الخصال محرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعلها، وفاعل المباح لا تجوز لعنته.
والواصلة هي التي تصل شعرها أو شعر غيرها بغيره والمستوصلة الموصول شعرها بأمرها فوصله بالشعر محرم لما ذكرنا، فأما وصله بغير الشعر فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس للحاجة وإن كان أكثر من ذلك ففيه روايتان (إحداهما) أنه مكروه غير محرم لما روي عن معاوية
أنه أخرج كبة من شعر وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا وقال " إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذا نساؤهم " فخص التي تصله بالشعر فيمكن جعل ذلك تفسيرا للفظ العام في الحديث الذي ذكرناه ولأن وصله بالشعر فيه تدليس بخلاف غيره (والثانية) أنه قال لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف وذلك لما روى الامام أحمد في مسنده عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئا قال شيخنا والظاهر أن المحرم إنما هو وصل الشعر بالشعر لما فيه من التدليس واستعمال الشعر المختلف في نجاسته.
وغير ذلك لا يحرم لعدم ذلك فيه وحصول المصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة وتحمل أحاديث النهي على الكراهة والله أعلم، فأما النامصة فهي التي تنتف الشعر من الوجه والمنتمصة المنتوف شعرها بأمرها فلا يجوز للخبر، وإن حلق الشعر فلا بأس لأن الخبر ورد في النتف نص عليه أحمد، وأما الواشرة فهي التي تبرد(1/107)
الأسنان لتحددها وتفلجها وتحسنها والمستوشرة المفعول بها ذلك بإذنها، وفي خبر آخر لعن الواشمة والمستوشمة - والواشمة التي تغرز جلدها أو جلد غيرها بإبرة ثم تحشوه كحلا والمستوشمة التي يفعل بها ذلك بإذنها (فصل) ويستحب الطيب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الطيب ويتطيب كثيرا ويستحب النظر في المرآة قال حنبل: رأيت أبا عبد الله وكانت له صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط فإذا فرغ من قراءة حزبه نظر في المرآة واكتحل وامتشط، وروى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح " رواه الإمام أحمد (فصل) ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به وذلك لما روى أن أبا بكر الصديق جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غيروهما وجنبوه السواد " ويستحب بالحناء والكتم لما روى الخلال وابن ماجة بإسنادهما عن تميم بن عبد الله بن موهب قال دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوبا بالحناء والكتم.
وخضب ابو بكر رضي الله عنه بالحناء والكتم ولا بأس بالورس والزعفران لان أبا مالك الأشجعي قال: كان
خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الورس والزعفران.
ويكره الخضاب بالسواد، قيل لأبي عبد الله تكره الخضاب بالسواد، قال إي والله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وجنبوه السواد " في حديث أبي بكر ولما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يربحون رائحة الجنة " ورخص فيه اسحاق بن راهويه للمرأة تتزين به لزوجها والله أعلم (مسألة) (ويكره القزع وهو حلق بعض الرأس) لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال " احلقه كله أو دعه كله " رواه أبو داود.
وفي شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا عن المسلمين فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم وقد نهى عن التشبه بهم(1/108)
(مسألة) قال (ويجب الختان ما لم يخفه على نفسه) وجملة ذلك أن الختان واجب على الرجال ومكرمة للنساء وليس بواجب عليهن وهذا قول كثير من أهل العلم قال أحمد والرجل أشد وذلك أنه إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة فلا ينقى ماثم والمرأة أهون، وفيه رواية أخرى أنه يجب على المرأة كالرجل.
قال أبو عبد الله وكان ابن عباس يشدد في أمره، وروي عنه لا حج له ولا صلاة يعني إذا لم يختتن.
ورخص الحسن في تركه قال قد أسلم الناس الأسود والأبيض لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا.
والدليل على وجوبه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم " ألق عنك شعر الكفر واختتن " رواه أبو داود وفي الحديث " اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة " متفق عليه واللفظ للبخاري وقال تعالى (وأوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) ولأنه من شعائر المسلمين فكان واجبا كسائر شعائرهم، ولأنه يجوز كشف العورة والنظر إليهم لأجله ولو لم يكن واجبا لما جاز النظر إلى العورة من أجله، وهذا ينتقض بالمرأة إذا قلنا لا يجب عليها فإنه ليس واجبا عليها ويجوز كشف عورتها من أجله، فأما إن خاف على نفسه منه سقط لأن الغسل والوضوء وما هو آكد منه يسقط بذلك فهذا أولى (فصل) ويشرع الختان في حق النساء لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا التقى الختانان وجب الغسل " فيه بيان أن النساء كن يختتن.
وروى الخلال بإسناده عن شداد بن أوس قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم " الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء (فصل) اختلف العلماء في وقت الختان فقال مالك: يختن يوم أسبوعه وهو قول الحسن، وقال أحمد(1/109)
لم أسمع في ذلك شيئاً، وقال الليث الختان للغلام مابين سبع سنين إلى العشرة وروى مكحول وغيره أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحاق لسبعة أيام وإسماعيل لثلاث عشرة سنة، وروي عن أبي جعفر أن فاطمة عليها السلام كانت تختن ولدها يوم السابع، قال إبن المنذر ليس في باب الختان خبر حتى يرجع إليه ولا سنة تتبع والأشياء على الإباحة.
قلت ولا يثبت في ذلك توقيت فمتى ختن قبل البلوغ كان مصيبا والله أعلم (مسألة) (ويتيامن في سواكه وطهوره وانتعاله ودخوله المسجد) لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.
متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ باليسرى " رواه الطبراني في المعجم الصغير ولأن عثمان وعليا وصفا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ باليمنى قبل اليسرى.
رواه أبو داود (مسألة) (وسنن الوضوء عشرة السواك) لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم مع كل وضوء بسواك " رواه الإمام أحمد (والتسمية وعنه أنها واجبة مع الذكر) وجملته أن التسمية فيها روايتان (إحداهما) أنها واجبة في طهارات الحدث كلها الغسل والوضوء والتيمم وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الحسن وإسحاق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه " رواه أبو داود والترمذي ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه منهم أبو سعيد.
قال أحمد حديث أبي سعيد أحسن حديث في الباب وهذا نفي في نكرة يقتضي أن لا يصح وضوؤه بدون التسمية (والثانية) أنها سنة وهذا ظاهر المذهب، قال(1/110)
الخلال: الذي استقرت الروايات عليه أنه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية وهذا قول الثوري ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي واختيار الخرقي لأنها طهارة فلا تفتقر إلى التسمية كالطهارة من النجاسة أو عبادة فلا تجب فيها التسمية كسائر العبادات.
والأحاديث قال أحمد ليس يثبت في
هذا حديث ولا أعلم فيها حديثا له إسناد جيد وإن صح ذلك فيحمل على تأكيد الاستحباب ونفي الكمال بدونها كقوله " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " (فصل) فإذا قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته قياساً على سائر الواجبات، وإن نسيها فقال بعض أصحابنا لا تسقط قياسا لها على سائر الواجبات والصحيح أنها تسقط بالسهو نص عليه أحمد في رواية أبي داود فإنه قال سألت أحمد إذا نسي التسمية في الوضوء قال أرجو أن لا يكون عليه شئ وهذا قول إسحاق ووجه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " ولأن الوضوء عبادة تتغاير أفعالها فكان في واجباتها ما يسقط بالسهو كالصلاة ولا يصح قياسها على سائر واجبات الطهارة لتأكد وجوبها بخلاف التسمية فعلى هذا إذا ذكرها في أثناء طهارته سمى حيث ذكر لأنه إذا عفي عنها مع السهو في جملة الوضوء ففي البعض أولى، وإن تركها عمدا حتى غسل عضوا لم يعتد بغسله لأنه لم يذكر اسم الله عليه، وقال الشيخ أبو الفرج إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأه يعني على كل حال لأنه قد ذكر اسم الله على وضوئه والتسمية قول بسم الله لا يقوم غيرها مقامها كالتسمية المشروعة(1/111)
على الذبيحة وعند الأكل والشرب وموضعها بعد النية لتكون شاملة لجميع أفعال الوضوء ولتكون النية شاملة لها كما يسمى على الذبيحة قبل ذبحها (مسألة) قال (وغسل الكفين إلا أن يكون قائما من نوم الليل ففي وجوبه روايتان) وجملة ذلك أن غسل اليدين إلى الكوعين سنة في الوضوء سواء قام من النوم أو لم يقم لأن عثمان وعليا وعبد الله بن زيد وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أنه غسل كفيه ثلاثا ولأنهما آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء وليس بواجب إذا لم يقم من النوم بغير خلاف علمناه فأما عند القيام من نوم الليل فاختلفت الرواية عن أحمد في وجوبه فروي عنه وجوبه وهو الظاهر عنه واختيار أبي بكر وهو مذهب بن عمر وأبي هريرة والحسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " متفق عليه.
والأمر يقتضي الوجوب، وروي عنه أن ذلك مستحب وهو اختيار
الخرقي وقول مالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن الله تعالى قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية وقال زيد بن أسلم في تفسيرها إذا قمتم من نوم.
أمر بغسل الوجه عقيب القيام إلى الوضوء ولم يذكر غسل الكفين والامر بالشئ يقتضي حصول الإجزاء به ولأنه قائم من نوم أشبه القائم من نوم النهار والحديث محمول على الاستحباب لأنه علل وهم النجاسة وطريان(1/112)
الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى والله أعلم (مسألة) قال (والبداية بالمضمضة والاستنشاق والمبالغة فيهما إلا أن يكون صائما) البداية بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه مستحب لأن عثمان وعليا وعبد الله بن زيد ذكروا ذلك في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة فيهما سنة - والمبالغة في المضمضة إدارة الماء في أعماق الفم وأقاصيه ولا يجعله وجورا ثم يمجه وإن ابتلعه جاز لأن الغسل قد حصل - ومعنى المبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف ولا يجعله سعوطا وذلك لما روى لقيط بن صبرة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال " أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ثبت بذلك استحباب المبالغة في الاستنشاق وقسنا عليه المضمضة، ولأنه من جملة إسباغ الوضوء المأمور به وقال أبو حفص العكبري هي واجبة في الاستنشاق على غير الصائم للحديث المذكور.
فأما الصائم فلا يستحب له المبالغة فيهما لا تعلم فيه خلافاً لما ذكرناه من الحديث (فصل) ويستحب المبالغة في غسل سائر الاعضاء بالتخليل ودلك المواضع التي ينبو عنها الماء ويستحب مجاوزة موضع الوجوب بالغسل لما روى نعيم المجمر أنه رأى أبا هريرة يتوضأ فغسل(1/113)
وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع
منكم أن يطيل غرته فليفعل " متفق عليه، ولمسلم عنه سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (مسألة) قال (وتخليل اللحية وهو سنة) وممن روي عنه أنه كان يخلل لحيته ابن عمر وابن عباس، ووجهه ما روى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخلل لحيته رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فجعله تحت حنكه وخلل به لحيته وقال " هكذا أمرني ربي " رواه أبو داود، وصفة التخليل أن يشبك لحيته بأصابعه ويعركها وكما روى ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عرك عارضه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها، رواه الدارقطني وقال الصواب أنه موقوف على ابن عمر، قال يعقوب سألت أحمد عن التخليل فأراني من تحت لحيته فخلل بالأصابع، وقال حنبل من تحت ذقنه من أسفل الذقن يخلل جانبي لحيته جميعا بالماء.
ويستحب أن يتعهد بقية شعور وجهه ويمسح مآقيه لما روى أبو داود قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الماقين (1) (مسألة) (وتخليل الأصابع) تخليل أصابع اليدين والرجلين في الوضوء مسنون لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة " وخلل بين الأصابع " وهو في الرجلين آكد قال المستورد بن شداد رأيت
__________
1) المؤق بالهمز وهو الاصل والموق والماق والماقي طرف العين المؤخرة الذي يلي الصدغ وجمعه أمآق وآماق بالقلب ومآقي(1/114)
النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجله بخنصره رواه أبو داود ويبدأ في تخليل اليمنى من خنصرها إلى إبهامها وفي اليسرى من إبهامها إلى خنصرها ليحصل له التيامن في التخليل.
وذكر ابن عقيل في استحباب تخليل أصابع اليدين روايتين (إحداهما) يستحب لما ذكرناه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك " رواه الترمذي وقال حديث حسن (والثانية) لا يستحب لأن تفريقها يغني عن التخليل والأولى أولى (مسألة) قال (والتيامن) لا خلاف بين أهل العلم فيما علمنا في استحباب البداية باليمنى وأجمعوا
على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه ووجه استحبابه حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.
متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم " رواه ابن ماجه (مسألة) (وأخذ ماء جديد للأذنين) يعني أنه مستحب قال أحمد أنا أستحب أن يأخذ لأذنه ماء جديدا يروي ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك والشافعي وقال ابن المنذر ليس بمسنون وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد لأن الذي قالوه غير موجود في الأخبار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " رواه ابن ماجه وروت الربيع بنت معوذ والمقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة رواه أبو داود ووجه الأول ما روي عن ابن عمر، وقد ذهب الزهري إلى أنهما من الوجه وقال الشعبي ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس، وقال الشافعي وأبو ثور ليستا من الرأس ولا من الوجه ففي إفرادهما بماء جديد خروج من الخلاف فكان أولى فإن مسحهما بماء الرأس أجزأه لما ذكرناه من الحديث (مسألة) قال (والغسلة الثانية والثالثة) وذلك لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ(1/115)
ثلاثا ثلاثا رواه الإمام أحمد والترمذي وقال هذا أحسن شئ في الباب وأصح وليس ذلك بواجب لما روى ابن عباس قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مره مرة رواه البخاري وعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة فقال " هذا وظيفة الوضوء - أو قال - وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة " ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر " ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي " رواه ابن ماجه (باب فروض الوضوء وصفته) (وفروضه ستة - غسل الوجه) وهو فرض بالإجماع والأصل فيه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية (مسألة) قال (والفم والأنف منه) لدخولهما في حده على ما يأتي:
(مسألة) قال (وغسل اليدين) وهو الفرض الثاني لقوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) (مسألة) قال (ومسح الرأس) وهو الفرض الثالث (وغسل الرجلين) وهو الفرض الرابع لقوله تعالى (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) لا نعلم خلافاً بين العلماء في وجوب غسل الوجه واليدين لما ذكرنا من النص، وكذلك مسح الرأس واجب بالإجماع في الجملة مع اختلاف الناس في قدر الواجب منه، فأما غسل الرجلين فهو فرض في قول أكثر أهل العلم، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه ثم دخل المسجد ثم خلع نعليه ثم صلى، وحكي عن ابن عباس أنه قال ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين وحكي عن الشعبي(1/116)
أنه قال الوضوء ممسوحان ومغسولان فالممسوحان بسقطان في التيمم وعن أنس بن مالك أنه ذكر له قول الحجاج اغسلوا القدمين ظاهرهما وباطنهما وخللوا بين الأصابع فانه ليس شئ من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فقال أنس صدق الله وكذب الحجاج وتلا هذه الآية (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وحكي عن ابن جرير أنه قال هو مخير بين المسح والغسل ولم نعلم احدا من أهل العلم قال بجواز مسح الرجلين غير من ذكرنا واحتجوا بظاهر الآية، وبما روى ابن عباس قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في الإناء فتمضمض واستنشق مرة واحدة ثم أدخل يده فصب على وجهه مرة واحدة وصب على يديه مرة مرة ومسح برأسه وأذنيه مرة ثم أخذ كفا من ماء فرش على قدميه وهو منتعل: رواه سعيد، وروى سعيد عن هشيم أنبأنا يعلى بن عطاء عن أبيه قال أخبرني أوس بن أوس الثقفي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أتي كظامة قوم بالطائف فتوضأ ومسح على قدميه قال هشيم كان هذا في أول الإسلام ولنا أن عبد الله بن زيد وعثمان وصفا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقالا فغسل قدميه وفي حديث عثمان ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً متفق عليه وحكي علي وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا وعن عمر رضي الله عنه أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر من قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضؤن وأعقابهم تلوح
فقال " ويل للأعقاب من النار " رواه مسلم.
وقد ذكرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخليل وأنه كان يعرك أصابعه(1/117)
بخنصره بعض العرك وهذا كله يدل على وجوب الغسل لأن الممسوح لا يحتاج إلى الاستيعاب والعرك، وأما الآية فقد روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأ (وأرجلكم) قال عاد إلى الغسل وروي ذلك عن علي وابن مسعود والشعبي قراءتها كذلك وهي قراءة بن عامر فتكون معطوفة على اليدين ومن قرأ بالجر فللمجاورة كقوله تعالى (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) جر أليما وهو صفا للعذاب على المجاورة.
وقول الشاعر: فظل طهاة اللحم من بين منضج * صفيف شواء أو قدير معجل فجر قديرا مع العطف للمجاورة.
وإذا احتمل الأمرين وجب الرجوع إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه مبين يبين بفعله تارة وبقوله أخرى ويدل على صحة هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عنبسة ثم غسل رجليه كما أمره الله فثبت بهذا أن الله تعالى إنما أمره بالغسل لا بالمسح ويحتمل أنه أراد بالمسح الغسل الخفيف، قال أبو علي الفارسي: العرب تسمي خفيف الغسل مسحا فيقولون تمسحت للصلاة أي توضأت، فإن قيل فعطفه على الرأس يدل على أنه أراد حقيقة المسح.
قلنا قد افترقا من وجوه (أحدها) إن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات (الثاني) أنهما محدودان بحد ينتهي إليه أشبها اليدين (الثالث) إنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض، وأما حديث أوس بن أوس فيحمل على أنه أراد الغسل الخفيف وكذلك حديث ابن عباس وكذلك قال أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه والمسح يكون بالبلل لا برش الماء والله أعلم(1/118)
(مسألة) قال (والترتيب على ما ذكر الله تعالى) وهو الفرض الخامس وجملة ذلك أن الترتيب في الوضوء كما ذكر الله تعالى واجب في قول أحمد، قال شيخنا لم أر عنه فيه اختلافا وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد واسحاق وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنه غير واجب وهو مذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي واختاره ابن المنذر لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بواو الجمع وهي لا تقتضي الترتيب فكيفما غسل كان ممتثلا، وروي عن علي أنه
قال: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت.
وعن ابن مسعود لا بأس ان تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء، ووجه الأول أن في الآية قرينة تدل على الترتيب فإنه أدخل ممسوحا بين مغسولين وقطع النظير عن نظيره والعرب لا تفعل ذلك إلا لفائدة والفائدة هي الترتيب.
فإن قيل فائدته استحباب الترتيب قلنا الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب ولهذا لم تذكر السنن فيها ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب كان مأمورا به ولأن كل من حكى وضوء رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبا وهو مفسر لما في كتاب الله تعالى وتوضأ مرتبا وقال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " أي بمثله وقولهم إن الواو لا تقتضي الترتيب ممنوع فقد اقتضت الترتيب في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) وما روي عن علي قال أحمد إنما عنى به اليسرى قبل اليمنى لأن مخرجهما في الكتاب واحد ويروي الإمام أحمد بإسناده أن عليا سئل فقيل له أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شئ فقال لا حتى يكون كما أمر الله تعالى وروايتهم عن ابن مسعود لا نعرف لها أصلا، فأما ترتيب اليمنى على اليسرى فلا يجب بالإجماع حكاه ابن المنذر لأن الله تعالى ذكر مخرجه واحدا فقال (وأيديكم وأرجلكم) وكذلك الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والفقهاء يعدون اليدين عضوا والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب بين العضو الواحد والله أعلم(1/119)
(فصل) فإن نكس وضوءه فبدأ بشئ من أعضائه قبل وجهه لم يحتسب بما غسله، قبله وإن بدأ برجليه وختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، وإن توضأ منكسا أربع مرات صح وضوؤه إذا كان متقاربا يحصل له من كل مرة غسل عضو ومذهب الشافعي نحو هذا ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح إلا غسل وجهه وإن انغمس في ماء جار فلم يمر على أعضائه إلا جرية واحدة فكذلك وإن مر عليه أربع جريات وقلنا الغسل يجزئ عن المسح أجزأه كما لو توضأ أربع مرات، وإن كان الماء راكدا فقال بعض أصحابنا إذا أخرج وجهه ثم يديه ثم مسح رأسه ثم خرج من الماء أجزأه لان الحديث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو.
ونص أحمد في رجل أراد الوضوء فاغتمس في الماء ثم خرج من الماء فعليه مسح رأسه وغسل رجليه وهذا يدل على أن الماء إذا كان جاريا فمرت عليه جرية واحدة أنه يجزئه مسح
رأسه ثم يغسل رجليه.
وإن اجتمع الحدثان سقط الترتيب والموالاة على ما سنذكره إن شاة الله تعالى (مسألة) قال (والموالاة على إحدى الروايتين) الموالاة هي الشرط السادس وفيها روايتان (إحداهما) هي واجبة نص عليها أحمد في مواضع وهو قول الأوزاعي وقتادة وأحد قولي الشافعي، قال القاضي وفيها رواية أخرى أنها غير واجبة وهو قول النخعي والحسن والثوري وأصحاب الرأي والقول الثاني للشافعي واختاره ابن المنذر لأن المأمور به غسل الأعضاء فكيفما غسل فقد أتى بالمأمور به، وقد ثبت أن ابن عمر توضأ بالسوق فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم دعي لجنازة فمسح على خفيه ثم صلى عليها ولأنها إحدى الطهارتين فلم تجب فيها الموالاة كالكبرى.
وقال مالك إن تعمد التفريق بطل وإلا فلا.
ووجه الأولى ما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يعيد الوضوء والصلاة رواه أبو داود (1) ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة حسب ولأنها عبادة يفسدها الحدث فاشترطت لها الموالاة كالصلاة والآية دلت على وجوب الغسل وبين النبي صلى الله عليه وسلم كيفيته بفعله فانه لم ينقل عنه أنه توضأ إلا متواليا وغسل الجنابة بمنزلة العضو الواحد، وحكى بعض اصحابنا فيه منعا ذكره الشيخ أبو الفرج وفعل ابن عمر ليس فيه دليل على أنه أخل بالموالاة المشترطة
__________
1) راجع حديث عمر عند مسلم في أول ص 123 من المغني(1/120)
(مسألة) قال (وهو أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله) في الزمان المعتدل اعتبار الزمن الحار الذي يسرع فيه النشاف ولا بالزمن البارد الذي يبطئ فيه، ولا يعتبر ذلك بين طرفي الطهارة، وقال ابن عقيل التفريق المبطل في إحدى الروايتين ما يفحش في العادة لأنه يحد في الشرع فرجع فيه إلى العادة كلاحراز والتفرق في البيع (فصل) فإن نشفت أعضاؤه لاشتغاله بفرض في الطهارة أو سنة لم يبطل كما لو طول أركان الصلاة، وإن كان لوسوسة تلحقه فكذلك ويحتمل أن يبطل الوضوء لأنه غير مفروض ولا مسنون وإن كان ذلك لعبث أو شئ زائد على المسنون وأشباهه عد تفريقا (مسألة) قال (والنية شرط لطهارة الحدث كله) الغسل والوضوء والتيمم، والنية هي القصد
يقال نواك الله بخير أي قصدك ومحلها القلب لأن محل القصد القلب فمتى اعتقد بقلبه أجزأ وإن لم يلفظ بلسانه، وإن لفظ بلسانه ولم يقصد بقلبه لم يجزه، ولو سبق لسانه إلى غير ما اعتقده لم يمنع صحة ما قصده بقلبه.
ولا خلاف في المذهب في اشتراط النية لما ذكرنا، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول مالك وربيعة والليث والشافعي واسحاق وأبي عبيد وابن المنذر، وقال الثوري وأصحاب الرأي تشترط النية في التيمم دون طهارة الماء لأن الله تعالى قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية ولم يذكر النية ولو كانت شرطاً لذكرها، ولأن مقتضى الأمر حصول الإجزاء بفعل المأمور به فتقتضي الآية حصول الإجزاء بما تضمنته ولأنها طهارة بالماء فلم تفتقر إلى النية كغسل النجاسة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " متفق عليه فنفى أن يكون له عمل شرعي بدون النية، ولأنها طهارة عن حدث فلم تصح بغير نية كالتيمم فأما الآية فهي حجة لنا فإن قوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) أي للصلاة كما يقال إذا لقيت الأمير فترجل أي له، وقولهم لو كانت النية شرطا لذكرها، قلنا إنما ذكر الأركان ولم يذكر الشرائط كآية التيمم، وقولهم مقتضى الأمر حصول الإجزاء به قلنا بل مقتضاه وجوب الفعل ولا يمنع أن(1/121)
يشترط له شرط آخر كآية التيمم وقولهم إنها طهارة قلنا إلا أنها عبادة والعبادة لا تكون إلا منوية كالصلاة لأنها قربة إلى الله تعالى وطاعة وامتثال أمر ولا يحصل ذلك بغير نية (مسألة) قال (وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها) متى قصد بطهارته رفع الحديث وهو إزالة المانع مما يفتقر الى الطهارة أو قصد بطهارته الصلاة والطواف ومس المصحف أو قصد الجنب بالغسل اللبث في المسجد صحت طهارته عند القائلين باشتراط النية لا نعلم بينهم فيه اختلافا، فإن نوى التبرد وما لا تشرع له الطهارة كالأكل والبيع ولم ينو الطهارة لم يرتفع حدثه لأنه لم ينو الطهارة ولا ما يتضمن نيتها فأشبه من لم يقصد شيئاً، وإن نوى الطهارة مع ذلك صحت الطهارة لأنه نوى الطهارة وضم إليها مالا ينافيه فلم يؤثر كما لو نوى بالصلاة الطاعة والخلاص من خصمه (مسألة) قال (فإن نوى ما تسن له الطهارة أو التجديد فهل يرتفع حدثه؟ على روايتين
وجملته إذا نوى ما تشرع له الطهارة ولا تشترط كقراءة القرآن والأذان والنوم أو نوى التجديد ثم بان أنه كان محدثاً ففيه روايتان (إحداهما) لا تصح طهارته لأنه لم ينو رفع الحدث ولا ما يتضمنه أشبه ما لو نوى التبرد (والثانية) تصح طهارته وهي أصح لأنه نوى طهارة شرعية فينبغي أن تحصل له للخبر ولأنه يشرع له فعل هذا وهو غير محدث وقد نوى ذلك فينبغي أن يحصل ولأنه نوى شيئا من ضرورته صحة الطهارة وهو الفضيلة الحاصلة لمن فعل ذلك علي طهارة، فإن قيل يبطل بما إذا نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة قلنا إن نوى طهارة شرعية مثل من قصد الأكل وهو على طهارة شرعية أو قصد أن لا يزال على وضوء فهي كمسئلتنا تصح طهارته.
وإن قصد نظافة أعضائه من وسخ أو غيره لم تصح طهارته لأنه لم يقصدها، وإن نوى وضوءا مطلقا أو طهارة مطلقة ففيه وجهان (أحدهما) يصح لأن الوضوء والطهارة عند الإطلاق ينصرفان إلى المشروع فيكون ناويا لطهارة شرعية (والوجه الثاني) لا يصح لأنه قصد ما يباح بدون طهارة أشبه قصد الأكل ولأن الطهارة تنقسم إلى مشروع(1/122)
وغيره فلم تصح مع التردد والطهارة المطلقة منها مالا يرفع الحدث كالطهارة من النجاسة (مسألة) وإن نوى غسلا مسنونا فهل يجزئ عن الواجب؟ على وجهين) مضى توجيههما (مسألة) (وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل فنوى بطهارته أحدها فهل يرتفع سائرها؟ على وجهين) أحدهما لا يرتفع الا ما نواه قاله أبو بكر لأنه لم ينوه أشبه إذا لم ينو شيئاً، وقال القاضي يرتفع لأن الأحداث تتداخل فإذا ارتفع بعضها ارتفع جميعها كما لو نوى رفع الحدث، وإن نوى صلاة واحدة نفلا أو فرضا لا يصلي غيرها ارتفع حدثه ويصلي ما شاء لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا بسبب جديد ونية الصلاة تضمنت رفع الحدث (مسألة) (ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة) لأنها شرط لها فيعتبر وجودها في جميعها وأول واجباتها المضمضة أو التسمية على ما ذكرنا من الخلاف.
فإن وجد شئ من واجبات الطهارة قبل النية لم يعتد به فإن غسل الكفين بغير نية فهو كمن لم يغسلهما (ويستحب تقديمها على مسنوناتها) فيقدمها على غسل الكفين لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه فإن غسل الكفين بغير نية فهو كمن لم يغسلهما
(مسألة) (واستصحاب ذكرها في جميعها وإن استصحب حكمها أجزأه) وجملته أنه يستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر طهارته لتكون أفعاله مقترنة بالنية فإن استصحب حكمها أجزأه، ومعنى استصحاب حكمها أن لا ينوي قطعها فإن عزبت عن خاطره لم يؤثر في قطعها كالصلاة والصيام، ويجوز تقديم النية على الطهارة بالزمن اليسير قياساً على الصلاة، فإن قطع النية في أثناء طهارته وفسخها مثل أن ينوي أن لا يتم طهارته فقال ابن عقيل تبطل الطهارة من أصلها لأنها تبطل بالمبطلات أشبهت الصلاة وقال شيخنا لا يبطل ما مضى من طهارته لأنه وقع صحيحاً أشبه ما لو نوى قطعها بعد الفراغ من الوضوء وما غسله من أعضائه بعد قطع النية لا يعتد به فإن أعاد غسله بنية أخرى قبل طول الفصل صحت طهارته.
وإن طال الفصل انبنى على وجوب الموالاة، فأما إن غسل بعض أعضائه بنية(1/123)
الوضوء وبعضها بنية التبرد ثم أعاد غسل ما نوى به التبرد بنية الوضوء قبل طول الفصل أجزأه وإلا ابتنى على وجوب الموالاة وجهاً واحدا، فإن فسخ النية بعد الفراغ منها لم تبطل كالصلاة ويحتمل أن تبطل لأن الطهارة تبطل بالحدث بعد فراغها بخلاف الصلاة (فصل) إذا شك في النية أثناء الطهارة لزمه استئنافها كما لو شك في نية الصلاة وهو فيها لأن النية هي القصد فمتى علم أنه جاء ليتوضأ أو أراد فعل الوضوء مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية.
فمتى شك في وجود ذلك في أثناء طهارته لم يصح ما مضى منها وهكذا إن شك في غسل عضو أو مسح رأسه حكمه حكم من لم يأت به لأن الأصل عدمه إلا أن يكون وهما كالوسواس فلا يلتفت إليه.
وإن شك في شئ من ذلك بعد فراغه من الطهارة لم يلتفت إليه لأنه شك في العبادة بعد فراغه منها أشبه الشك في شرط الصلاة، ويحتمل أن تبطل لأن حكمها باق بدليل أنها تبطل بمبطلاتها بخلاف الصلاة.
والأول أصح لأنها كانت محكوما بصحتها فلا يزول ذلك بالشك كما لو شك في وجود الحدث والله أعلم (فصل) فإن وضأه غيره أو يممه اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ لأنه المخاطب بالوضوء والموضئ آلة له فهو كحامل الماء إليه، وإن توضأ وصلى صلاة ثم أحدث وتوضأ وصلى أخرى ثم علم أنه ترك واجبا في أحد الوضوءين لزمه إعادة الوضوء والصلاتين
(فصل) (وصفة الوضوء أن ينوي ثم يسمي ثم يغسل يديه ثلاثا) هذه صفة الوضوء الكامل ووجهه ما ذكرنا (ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا من غرفة وإن شاء من ثلاث وإن شاء من ست) المضمضة إدارة الماء في الفم والاستنشاق اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف.
والاستنثار مستحب وهو إخراج الماء من الأنف وقد يعبر بالاسستنثار عن الاستنشاق لكونه من لوازمه ولا تجب إدارة الماء في جميع الفم ولا إيصال الماء إلى جميع باطن الأنف وإنما ذلك مبالغة مستحبة وقد ذكرناها، فإن جعل الماء في فيه ينوي رفع الحدث الأصغر ثم ذكر أنه جنب فنوى رفع الحدثين ارتفعا لأن الماء إنما يثبت(1/124)
له حكم الاستعمال بعد الانفصال، ولو لبث الماء في فيه حتى تغير بما يتحلل من ريقه لم يمنع لأن التغير في محل الإزالة لا يمنع كما لو تغير الماء على عضوه بعجين عليه (فصل) ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمينه ثم يستنثر بيساره لما روي عن عثمان انه توضأ فدعا بماء فغسل يديه ثم غرف بيمينه ثم رفعها إلى فيه فتمضمض واستنشق بكف واحدة واستنثر بيسار فعل ذلك ثلاثا ثم ذكر سائر الوضوء ثم قال إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ لنا كما توضأت لكم.
رواه سعيد، وهو مخير بين أن يتمضمض ويستنشق بغرفة أو بثلاث أو بست لما ذكرنا من حديث عثمان، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل أيما أحب إليك المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو كل واحدة منها على حدة؟ قال بغرفة واحدة، وفي حديث عبد الله بن أبي زيد تمضمض واستنثر ثلاثا من غرفة واحدة رواه البخاري وعن علي رضي الله عنه أنه توضأ فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحدة وقال هذا وضوء نبيكم صلى الله عليه وسلم من المسند، وفي لفظ أنه مضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات متفق عليه وفي حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق رواه أبو داود ولأن الكيفية في الغسل غير واجبة ولا يجب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وبين الوجه لأنهما من جملته لكن يستحب أن يبدأ بهما لأن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه بدأ بهما إلا شيئا نادرا، وهل يجب الترتيب بينهما وبين سائر الأعضاء؟ على روايتين (إحداهما) يجب لأنهما من الوجه فوجب غسلهما قبل اليدين كسائره (والثانية) لا يجب بل لو تركهما وصلى تمضمض واستنشق وأعاد الصلاة ولم(1/125)
يعد الوضوء لما روى المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بوضوء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق رواه أبو داود، قال أصحابنا وهل يسميان فرضا إذا قلنا بوجوبهما على روايتين وهو مبني على اختلاف الروايتين في الواجب هل يسمى فرضا أم لا والصحيح تسميته فرضا فيسميان فرضا والله أعلم (مسألة) قال (وهما واجبان في الطهارتين وعنه أن الاستنشاق وحده واجب وعنه أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى) وجملة ذلك أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الغسل والوضوء جميعا لأن غسل الوجه فيهما واجب وهما من الوجه.
هذا المشهور في المذهب وهو قول ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق، وروى عن أحمد أن الاستنشاق وحده واجب في الطهارتين ذكر القاضي ذلك في المجرد رواية واحدة وبه قال أبو عبيد وأبو ثور قال إبن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه (1) ثم لينثر " متفق عليه ولمسلم " من توضأ فليستنشق " أمر والأمر يقتضي الوجوب ولأن الأنف لا يزال مفتوحا وليس له غطاء يستره بخلاف الفم، وقال غير القاضي من أصحابنا عن أحمد رواية أخرى أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي لأن الكبرى يجب فيها غسل ما تحت الشعور الكثيفة ولا يمسح فيها على الخفين فوجبا فيها بخلاف الصغرى، وقال مالك والشافعي هما مسنونان في الطهارتين وروي ذلك عن الحسن والحكم وربيعة والليث والاوزاعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عشر من الفطرة " وذكر منها المضمضة والاستنشاق.
والفطرة السنة وذكره لهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء ولأنهما عضوان باطنان فلم يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين ولأن الوجه ما تحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما ولنا ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المضمضة والاستنشاق من الوضوء
__________
1) أي فليجعل في أنفه ماء - حذف المفعول في اكثر روايات البخاري وثبت في بعضها وفي رواية مسلم.
وقوله فلينثر من الثلائي وفي رواية فلينثر(1/126)
الذي لابد منه " رواه أبو بكر في الشافي.
وعن أبي هريرة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق
وفي حديث لقيط بن صبرة " إذا توضأت فتمضمض " رواه أبو داود وأخرجه الدارقطني.
ولأن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقصى ذكر أنه تمضمض واستنشق ومداومته عليهما تدل على وجوبهما لأن فعله يصلح أن يكون بيانا لأمر الله تعالى ولأنهما عضوان من الوجه في حكم الظاهر لا يشق غسلهما فوجب لقوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم) والدليل على أنهما في حكم الظاهر أن الصائم لا يفطر بوضع الطعام فيهما ويفطر بوصول القئ إليهما ولا يجب الحد بترك الخمر فيها ويجب غسل النجاسة فيهما، فأما كونهما من الفطرة فلا ينفي وجوبهما لأنه ذكر الختان في الفطرة وهو واجب.
فأما غسل داخل العينين فلنا فيه منع وباطن اللحية يشق غسله فلذلك لم يجب في الوضوء ويجب في الطهارة الكبرى والله أعلم (مسألة) قال (ويغسل وجهه ثلاثا وحده من منابت شعر الرأس الى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا مع ما استرسل من اللحية ومن الأذن إلى الأذن عرضا) غسل الوجه ثلاثا مستحب لما ذكرنا من حديث علي وغيره وغسله مرة واجب بالنص والإجماع وقد ذكرناه، وقوله في حده من منابت شعر الرأس يعني في غالب الناس ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن مقدم رأسه ولا بالأقرع الذي ينزل شعره إلى وجهه بل بغالب الناس فالأصلع يغسل إلى حد منابت الشعر في غالب الناس والأقرع يغسل الشعر الذي ينزل عن الوجه في الغالب.
وقال الزهري الأذن من الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم " سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره " رواه مسلم أضاف السمع إلى الوجه كما أضاف البصر، وقال مالك: ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه ولا يجب غسله لأن الوجه(1/127)
ما تحصل به المواجهة وهذا لا يواجه به.
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا ولنا على الزهري قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " رواه ابن ماجه (1) ولم يحك أحد أنه غسلهما مع الوجه وإنما أضافهما إلى الوجه للمجاورة، وعلى مالك أن هذا من الوجه في حق من لا لحية له فكذلك من له لحية كسائر الوجه وهذا تحصل به المواجهة من الغلام، ويستحب تعاهد المفصل بالغسل وهو ما بين اللحية والاذن نص عيه الإمام أحمد، ويدخل في الوجه العذار وهو الشعر الذي على العظم الناتي.
سمت صماخ الأذن والعارض الذي تحت العذار وهو الشعر النابت على الخد واللحيين
قال الأصمعي: ما جاور وتد الأذن عارض، والذقن الشعر الذي على مجمع اللحيين فهذه الشعور النلاثة من الوجه يجب غسلها معه، وكذلك الحاجبان وأهداب العينين والشارب والعنفقة.
فأما الصدغ وهو الذي فوق العذار وهو يحاذي رأس الأذن وينزل عن رأسها قليلا ففيه وجهان (أحدهما) هو من الوجه اختاره ابن عقيل لحصول المواجهة به واتصاله بالعذار (والثاني) أنه من الرأس وهو الصحيح لأن في حديث الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه وأذنيه مرة واحدة.
رواه أبو داود ولم ينقل أحد أنه غسله مع الوجه.
ولأنه شعر يتصل بشعر الرأس وينبت معه في حق الصغير بخلاف العذار فأما التحذيف وهو الشعر الداخل في الوجه ما بين انتهاء العذار والنزعة فقال ابن حامد هو من الوجه لأنه شعر بين بياض الوجه أشبه العذار، وقال القاضي يحتمل أنه من الرأس لأنه شعر متصل به لم يخرج عن حده أشبه الصدغ، قال شيخنا والأول أصح لأن محله لو لم يكن عليه شعر كان من الوجه(1/128)
فكذلك إذا كان عليه شعر كسائر الوجه.
وأما النزعتان وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس فقال ابن عقيل هما من الوجه لقول الشاعر: فلا تنكحي إن فرق الله بيننا * أغم القفا والوجه ليس بأنزعا وقال القاضي وشيخنا هما من الرأس وهو الصحيح لأنه لا تحصل بهما المواجهة ولدخولهما في حد الرأس لأنه ما ترأس وعلا، وذكر ابن عقيل في الشعر المسامت للنزعتين هل هو من الوجه أم لا؟ على وجهين ويجب غسل ما استرسل من اللحية في ظاهر المذهب وكذلك ما خرج عن حد الوجه عرضا وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنها من الوجه بدليل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غطى لحيته في الصلاة فقال " اكشف لحيتك فإن اللحية من الوجه " ولانه نابت في محل الفرض أشبه اليد الزائدة ولأنها تحصل بها المواجهة أشبهت سائر الوجه، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لا يجب غسل ما نزل منها عن حد الوجه طولا ولا ما خرج عرضا لأنه شعر خارج عن محل الفرض أشبه ما نزل من شعر الرأس، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب غسل اللحية الكثيفة وما تحتها من بشرة الوجه لأن الوجه اسم للبشرة التي تحصل بها المواجهة ولم يوجد ذلك في واحدة منهما، وقال الخلال الذي ثبت
عن أبي عبد الله في اللحية أنه لا يغسلها وليست من الوجه، وظاهر هذا كمذهب أبي حنيفة فيما ذكر عنه آخرا، والمشهور عن أبي حنيفة وجوب غسل ربع اللحية كقوله في مسح الرأس والقول(1/129)
الأول هو المشهور في المذهب.
وما روي عن أحمد يحتمل أنه أراد ما خرج عن الوجه منها كما ذكرنا عن الشافعي وأبي حنيفة فعلى هذا يصير فيه روايتان.
ويحتمل أنه أراد غسل باطنها فيكون موافقا للقول الأول وهو الصحيح إن شاء الله.
وقياسهم على النازل من شعر الرأس لا يصح لأنه لا يدخل في اسم الرأس وهذا يدخل في اسم الوجه لما ذكرنا من الحديث (مسألة) (فإن كان فيه شعر خفيف يصف البشرة وجب غسلها معه.
وإن كان يسترها أجزأه غسل ظاهره ويستحب تخليله) أما إذا كانت الشعور في الوجه تصف البشرة وجب غسل البشرة والشعر لأن البشرة ظاهرة تحصل بها المواجهة فوجب غسلها كالتي لا شعر عليها ويجب غسل الشعر لأنه نابت في محل الفرض تبع له، وإن كان كثيفا يستر البشرة أجزأه غسل ظاهره لحصول المواجهة به ولم يجب غسل ما تحته لأنه مستور أشبه باطن الأنف.
ويستحب تخليله وقد ذكرنا ذلك في سنة الوضوء، ولا يجب التخليل لا نعلم فيه خلافاً في المذهب وهو مذهب أكثر أهل العلم لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر التخليل ولأن أكثر من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحكه ولو كان واجباً لما أخل به ولو فعله لنقله الذين نقلوا وضوءه أو أكثرهم.
وتركه لذلك يدل على أن غسل ما تحت الشعر الكثيف ليس بواجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيف اللحية فلا يبلغ الماء إلى تحت شعرها إلا بالتخليل وفعله للتخليل في بعض أحيانه يدل على استحبابه، وقال(1/130)
إسحاق إذا ترك تخليل لحيته عامدا أعاد الوضوء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه وخلل به لحيته، وقال " هكذا أمرني ربي عزوجل " رواه أبو داود ولما ذكرنا من حديث ابن عمر، وقال عطاء وأبو ثور يجب غسل ما تحت الشعور الكثيفة في الوضوء قياسا على الجنابة ونحوه قول سعيد بن جبير.
وقول الجمهور أولى، والفرق بين الوضوء والغسل أن
غسل باطن الشعر الكثيف يشق في الوضوء لتكرره بخلاف الغسل، فإن كان بعض الشعر كثيفا وبعضه خفيفا وجب غسل بشرة الخفيف معه وظاهر الكثيف.
وجميع شعور الوجه في ذلك سواء، وذكر بعض أصحابنا في الشارب والعنفقة والحاجبين وأهداب العينين ولحية المرأة إذا كانت كثيفة وجهين (أحدهما) يجب غسل باطنها لأنها لا تستر عادة وإن وجد ذلك فهو نادر ينبغي ان لا يتعلق به حكم وهو مذهب الشافعي (والثاني) لا يجب قياسا على لحية الرجل ودعوى الندرة في غير الأهداب ممنوع والله أعلم (فصل) ولا يجب غسل داخل العينين ولا يستحب في وضوء ولا غسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به وفيه ضرر، وذكر القاضي في المجرد في وجوبه روايتين عن بعض الأصحاب قال ابن عقيل إنما الروايتان في وجوبه في الغسل فأما في الوضوء فلا يجب رواية واحدة وذكر أن أحمد نص على استحبابه في الغسل لأنه يعم جميع البدن ويجب فيه غسل ما تحت الشعور الكثيفة وذكره القاضي وابو الخطاب من سنن الوضوء لأنه روي عن ابن عمر أنه عمي من كثرة إدخال الماء(1/131)
في عينيه ولأنهما من جملة الوجه، والأول أولى وهو اختيار شيخنا وما ذكر عن ابن عمر فهو دليل على كراهته لكونه ذهب ببصره، وفعل ما يخاف منه ذهاب البصر إذ لم يرد به الشرع ولم يكن محرما فلا أقل من الكراهة والله أعلم (فصل) ويستحب التكثير في ماء الوجه لأن فيه غضونا وشعورا ودواخل وخوارج ليصل الماء إلى جميعه وقد روى علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه رواه أبو داود يعني تسيل وتنصب.
قال محمد بن الحكم كره أبو عبد الله أن يأخذ الماء ثم يصبه ثم يغسل وجهه وقال هذا مسح ولكنه يغسل غسلا والله أعلم (مسألة) (ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ويدخل المرفقين في الغسل) غسل اليدين واجب بالإجماع لقول الله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) ويجب إدخال المرفقين في الغسل في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال ابن داود وبعض المالكية لا يجب، وحكي ذلك عن
زفر لأن الله تعالى أمر بالغسل إلى المرافق وجعلها غاية بحرف إلى وهو لانتهاء الغاية فلا يدخل المذكور بعده فيه كقول الله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ، ولنا ما روى جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه أخرجه الدارقطني وهذا بيان للغسل المأمور به في الآية.
وقولهم إن إلى لانتهاء الغاية قلنا قد تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (من أنصاري إلى الله * يزدكم قوة إلى قوتكم * ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أي مع أموالكم (1) وقال المبرد إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه كقولهم بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف
__________
1) الصواب ان هنا تضمينا لفعل الضم اي مضمونة إلى قوتكم والى اموالكم(1/132)
(فصل) ويجب غسل أظفاره وإن طالت والأصبع واليد الزائدة والسلعة لأن ذلك من يده كالثؤلول وإن كانت نابتة في غير محل الفرض كالعضد لم يجب غسلها طويلة كانت أو قصيرة لأنها في غير محل الفرض فهي كالقصيرة وهذا قول ابن حامد وابن عقيل، وقال القاضي يجب غسل ما حاذى محل الفرض منها والصحيح الأول، واختلف أصحاب الشافعي في ذلك نحو ما ذكرنا، وإن كانتا متساويتين ولم تعلم الأصلية منهما غسلهما جميعا ليخرج عن العهدة بيقين كما لو تنجست إحدى يديه غير معينة وإن تعلقت جلدة من الذراع فتدلت من العضد لم يجب غسلها لأنها صارت في غير محل الفرض، وإن كان بالعكس وجب غسلها لأنها صارت في محل الفرض أشبهت الأصبع الزائدة.
وإن تعلقت من أحد المحلين فالتحم رأسها في الآخر وبقي وسطها متجافيا وجب غسل ما حاذى محل الفرض من ظاهرها وباطنها وما تحتها (فصل) إذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله كما لو كان على يده شمع، قال شيخنا ويحتمل أن لا يجب ذلك لأن هذا يستتر عادة فلو كان غسله واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كونهم يدخلون عليه قلحا ورفغ أحدهم بين أنملته وظفره يعني أن وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها ولم يعب بطلان طهارتهم ولو كان مبطلا للطهارة لكان ذلك أهم من نتن الريح (فصل) ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه فغرف منه بيديه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك في
الماء، وقال بعض أصحاب الشافعي يصير الماء مستعملا بغرفه منه لأنه موضع غسل اليد وهو ناو للوضوء ولغسلها أشبه مالو غمسها في الماء ينوي غسلها فيه، ولنا أن في حديث عثمان: ثم غرف بيده اليمنى على ذراعه اليمنى(1/133)
فغسلها إلى المرفقين ثلاثا ثم غرف بيمينه فغسل يده اليسرى رواه سعد.
وفي حديث عبد الله بن زيد: ثم أدخل يده في الإناء فغسل يديه إلى المرفقين مرتين متفق عليه.
ولو كان هذا يفسد الوضوء لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمعرفته ولبينه لكون الحاجة ماسة إليه إذ كان لا يعرف بدون البيان ولا يتوقاه إلا متحذلق، وما ذكروه لا يصح فإن المغترف لم يقصد بغرفه إلا الاغتراف دون الغسل فأشبه من يغوص في البئر لترقية الدلو وهو جنب لا ينوي الغسل ونية الاغتراف صرفت نية الطهارة (1) والله أعلم (مسألة) (ثم يمسح رأسه) ومسح الرأس فرض بالإجماع لقول الله تعالى (وامسحوا برءوسكم) وهوما ينبت عليه الشعر في حق الصبي، وينبغي أن يعتبر غالب الناس فلا يعتبر الأقرع ولا الأجلح كما قلنا في حد الوجه، والنزعتان من الرأس وكذلك الصدغان وقد ذكرنا ذلك في الوجه (مسألة) (يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه) وجملته أن المستحب في مسح الرأس أن يبل يديه ثم يضع طرف إحدى سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه ويضع الإبهامين على الصدغين ثم يمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه كما روى عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمسح رأسه بيديه فأقبل
__________
1) هذا مذهب الشافعي الذي عليه العمل(1/134)
بهما وأدبر، وفي لفظ بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما الى المكان الذي بدأ منه، متفق عليه، فإن كان ذا شعر يخاف أن ينتفش برد يديه لم يردهما نص عليه الإمام أحمد لأنه قد روي عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها فمسح الرأس كله من فرق الشعر كل ناحية لمصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته، رواه أبو داود.
وسئل أحمد كيف تمسح المرأة؟ فقال هكذا ووضع يده على وسط
رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث منه بدأ ثم جرها إلى مؤخره، وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه ولا يحتاج إلى ماء جديد في رد يديه على رأسه قال القاضي وقد روي عن أحمد أنه يأخذ للرد ماء جديد وليس بصحيح قاله القاضي (مسألة) (ويجب مسح جميعه مع الأذنين، وعنه يجزئ مسح أكثره) اختلفت الرواية عن أحمد في قدر الواجب.
فروي عنه مسح جميعه في حق كل أحد وهو ظاهر قول الخرقي ومذهب مالك لقوله تعالى (فامسحو برءوسكم) الباء للإلصاق فكأنه قال وامسحوا رءوسكم وصار كقوله سبحانه في التيمم (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) قال ابن برهان من زعم أن الباء للتبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه ولأن الذين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه مسح رأسه كله، وقد ذكرنا حديث عبد الله بن زيد وحديث الربيع وهذا يصلح أن يكون بيانا للمسح المأمور به، وروى عن أحمد أنه يجزئ مسح بعضه نقلها عنه أبو الحارث.
ونقل عن سلمة بن الاكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ.(1/135)
وممن قال بمسح البعض الحسن والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر.
قال شيخنا إلا أن الظاهر عن أحمد رحمه الله في الرجل وجوب الاستيعاب وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها، قال الخلال العمل في مذهب أبي عبد الله أنها إن مسحت مقدم رأسها أجزأها لأن عائشة رضي الله عنه كانت تمسح مقدم رأسها، واحتج من أجاز مسح البعض بما روى المغيرة بن شعبة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة رواه أبو داود، واحتجوا بأن من مسح بعض الرأس يقال مسح برأسه كما يقال مسح برأس اليتيم وإذا قلنا بجواز مسح البعض فأي موضع مسح أجزأه إلا أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن الرأس لأنهما تبع ولا يجزئ مسحهما عن الأصل.
وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يجزئ إلا مسح الناصية لأنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته فوجب الاقتداء به واختلف العلماء في قدر البعض المجزئ فقال القاضي قدر الناصية لحديث المغيرة، وحكى أبو الخطاب
وبعض الشافعية أنه لا يجزئه إلا مسح الأكثر لأنه ينطلق عليه اسم الجميع.
وقال أبو حنيفة يجزئه مسح ربعه، وروي عنه أنه لا يجزئه أقل من ثلثه وهو قول زفر، وقال الشافعي يجزئ ما يقع عليه الاسم حكى عنه ثلاث شعرات وحكى عنه لو مسح شعرة أجزأه لوقوع اسم البعض عليه (فصل) ويجب مسح الأذنين معه لأنهما منه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " وروى عن أحمد انه لا يجب مسحهما وهو ظاهر المذهب، قال الخلال كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن(1/136)
ترك مسح أذنيه عامداً أو ساهياً أنه يجزئه وظاهر هذا أنه لا يجب سواء قلنا بوجوب الاستيعاب أو لا لأنهما من الرأس على وجه التبع ولا يفهم من إطلاق اسم الرأس دخولهما فيه ولا يشبهان أجزاء الرأس، ولذلك لا يجزي مسحهما عنه عند من اجتزأ بمسح البعض وهو اختيار شيخنا والأولى مسحهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما رواه الإمام أحمد، وروت الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عندها فرأيته مسح على رأسه محاذي الشعر ما أقبل منه وما أدبر ومسح صدغيه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما رواهما الترمذي وأبو داود ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه ويمسح ظاهرهما بابهاميه لأن في بعض ألفاظ حديث الربيع فأدخل أصبعيه في حجري أذنيه رواه أبو داود، ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر فالأذن أولى والله أعلم (فصل) ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده فوق رأسه أو لم يرده لأن الرأس ما ترأس وعلا، فإن نزل الشعر عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح عليه أجزأه لأنه شعر على محل الفرض أشبه القائم على محله ولأن هذا لا يمكن الاحتراز منه، وإن خضب رأسه بما يستره لم يجزه المسح عليه نص عليه أحمد في الخضاب لأنه لم يمسح على محل الفرض أشبه مالو مسح على خرقة فوق رأسه، ولو أدخل يده تحت الشعر فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه لأن(1/137)
الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره كما لو أوصل الماء إلى باطن اللحية ولم يغسل ظاهرها، فأما
إن مسح رأسه ثم حلقه أو غسل عضوا ثم قطع منه جزءا أو جلدة لم يؤثر في طهارته لأنه ليس بدلا عما تحته، وإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار ظاهرا فتعلق الحكم به ولو حصل في بعض أعضائه شق أو ثقب لزمه غسله لأنه صار ظاهرا (فصل) ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم قاله الترمذي، وجوز الحسن وعروة والاوزاعي وابن المنذر مسحه بفضل ذراعيه لما روي عن عثمان أنه مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا حين حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم رواه سعيد.
ويتخرج لنا مثل ذلك إذا قلنا إن المستعمل طهور لا سيما الغسلة الثانية والثالثة، ووجه الأول ما روى عبد الله بن زيد قال ومسح رأسه بماء غير فضل يديه رواه مسلم.
وفي حديثه المتفق عليه ثم أدخل يده في الإناء فمسح برأسه وكذلك حكى علي في رواية أبي داود ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ به المسح كما لو فصله في إناء ثم استعمله (فصل) فإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين (أحدهما) لا يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح والنبي صلى الله عليه وسلم مسح ولأنه أحد نوعي الطهارة فلم يجزئ عن الآخر كالمسح عن الغسل (والثاني) يجزئ لأنه لو كان جنبا فانغمس في ماء ينوي الطهارتين أجزأه مع أنه لم يمسح فكذلك في الحدث الأصغر وحده(1/138)
ولأن في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه ووجهه ثم أفرغ على رأسه ولم يذكر مسحا ولأن الغسل أبلغ من المسح فإذا أتى به ينبغي أن يجزئه وهذا فيما إذا لم يمر يده عليه فأما إن أمر يده على رأسه مع الغسل أو بعده اجزأه لأنه قد أتى بالمسح وذلك لما روى عن معاوية أنه توضأ للناس كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر ثم مسح من مقدمه إلى مؤخر ومن مؤخره إلى مقدمه رواه أبو داود ولو حصل على رأسه ماء المطر أوصب عليه إنسان ثم مسح عليه يقصد بذلك الطهارة أو كان قد صمد للمطر أجزأه وإن حصل الماء على رأسه من غير قصد أجزأه أيضا لأن حصول الماء على رأسه بغير قصد لم يؤثر في الماء فمتى وضع يده على ذلك البلل ومسح به فقد مسح بماء غير مستعمل فصحت طهارته كما لو حصل بقصده.
وقد نقل أبو داود عن أحمد إذا أصاب
برأسه ماء السماء فمسحه بيده لم يجزه وذلك لأنه لم يوجد منه نية لذلك.
ذكره القاضي في المجرد وهذا يدل على أنه يشترط أن يقصد حصول الماء على رأسه، قال ابن عقيل في هذه المسألة: تحقيق المذهب أنه متى صمد للمطر ومسح أجزأه ومتى أصابه المطر من غير قصد ولا نية لم يجزه وكذلك إن كان يتوضأ فصب إنسان على رأسه ماء وهو لا يصد فمسح رأسه فإنه لا يجزئه فأما أن حصل الماء على رأسه بغير قصد ولم يمسح بيده لم يجزه سواء قلنا إن الغسل يقوم مقام المسح أولا وإن قصد وجرى الماء على رأسه أجزأه إذا قلنا يجزئ الغسل وإلا فلا (فصل) فإن مسح رأسه بخرقة مبلولة أو خشبة أجزأه في أحد الوجهين لأنه مأمور بالمسح وقد مسح أشبه مالو مسح بيده ولأن مسحه بيده غير مشترط بدليل مالو مسح بيد غيره (والثاني) لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بيده وقال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " وإن وضع على رأسه خرقة مبلولة فابتل رأسه بها أو وضع خرقة ثم بلها حتى ابتل شعره لم يجزه لأن ذلك ليس بمسح ولا غسل، ويحتمل أن يجزئه لأنه بل شعره قاصدا للوضوء فأجزأه كما لو غسله، وإن مسح بإصبع أو إصبعين أجزأه إذا بهما مسح ما يجب مسحه كله وهو قول الثوري والشافعي، ونقل بكر بن محمد عن أحمد لا يجزئه المسح بإصبع، قال القاضي هذا محمول على الرواية التي توجب الاستيعاب لأنه لا يحصل بإصبع واحدة.
وإن حلق بعض رأسه وقلنا بوجوب الاستيعاب مسح المحلوق والشعر، وإن قلنا باجزاء مسح البعض أجزأه مسح أحدهما(1/139)
(فصل) وهل يستحب مسح العنق؟ فيه روايتان (إحداهما) يستحب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق.
رواه أحمد في المسند من رواية ليث بن أبي سليم وهو متكلم فيه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " امسحوا أعناقكم مخافة الغل " ذكره ابن عقيل في الفصول (والثانية) لا يستحب لأن الله تعالى لم يأمر به، وإن الذين حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وعلي وعبد الله بن زيد وابن عباس لم يذكروه ولم يثبت فيه حديث (مسألة) (ولا يستحب تكراره وعنه يستحب) الصحيح من المذهب أنه لا يستحب التكرار في مسح الرأس وهو قول أبي حنيفة ومالك، ويروى عن ابن عمر وابنه سالم والحسن ومجاهد قال
الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وعن أحمد أنه يستحب.
يروي ذلك عن أنس وعطاء وسعيد بن جبير وهو قول الشافعي لما روى أبو داود عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان غسل ذراعيه ثلاثا ومسح برأسه ثلاثاً ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل هذا وروي مثل ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى علي وابن عمر وأبو هريرة وأبي بن كعب وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وفي حديث أبي قال " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي " ورواه ابن ماجة وقياسا على سائر الأعضاء، ووجه الرواية الأولى أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسح برأسه مرة واحدة، متفق عليه وكذلك(1/140)
روى علي وقال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذا، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى وابن عباس وسلمة بن الاكوع والربيع كلهم قالوا ومسح برأسه مرة واحدة وحكايتهم لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم إخبار عن الدوام ولا يداوم إلا على الأفضل، وحكاية ابن عباس وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل حال خلوته ولا يفعل في تلك الحال إلا الأفضل، ولأنه مسح في طهارة فلم يسن تكراره كالمسح على الجبيرة والخفين، وأحاديثهم لا يصح منها شئ صريح، قال أبو داود أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا وقالوا فيها ومسح رأسه ولم يذكروا عددا والحديث الذي ذكر فيه مسح رأسه ثلاثا رواه يحيى بن آدم وخالفه وكيع فقال توضأ ثلاثا فقط والصحيح المتفق عليه عن عثمان أنه لم يذكر في مسح الرأس عددا.
ومن روي عنه ذلك سوى عثمان لم يصح لأنهم الذين رووا أحاديثنا وهي صحيحة فيلزم من ذلك ضعف ما خالفها والأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا أرادوا بها سوى المسح لأنهم حين فصلوا قالوا ومسح برأسه مرة واحدة قالوا والتفصيل يحكم به على الإجمال ويكون تفسيرا ولا يعارضه كالخاص مع العام(1/141)
وقياسهم منقوض بالتيمم وإن قيل يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة ليبين الجواز ومسح
ثلاثا ليبين الأفضل كما فعل في الغسل فنقل الأمران من غير تعارض قلنا قول الراوي هذا طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه كان يفعله على الدوام لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرفوا من سألهم وحضرهم صفة وضوئه في دوامه فلو شاهدوا وضوءه على صفة أخرى لم يطلقوا هذا الإطلاق الذي يفهم منه أنهم لم يشاهدوا سواه لأنه يكون تدليسا وإيهاما لغير الصواب فلا يظن ذلك بهم ويحمل حال الراوي لغير الصحيح على الغلط لاغير ولأن الحفاظ إذا رووا حديثا واحدا عن شخص واحد على صفة وخالفهم فيها واحد حكموا عليه بالغلط وإن كان ثقة حافظا فكيف إذا لم يكن معروفا بذلك والله أعلم (مسألة) ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ويدخلهما في الغسل) وقد ذكرنا اختلاف العلماء في غسل الرجلين ويستحب غسلهما ثلاثا لأن في حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، متفق عليه وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا رواه الترمذي وقال هذا أحسن شئ في الباب وأصح.
ويدخل الكعبين في الغسل قياسا على المرفقين والكعبان هما العظمان الناتئان اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: هما في مشط القدم وهو معقد الشرك من الرجل بدليل أنه قال إلى الكعبين فدل على أن في الرجل كعبين لاغير ولو أراد ما ذكرتم كانت كعاب الرجلين أربعة.(1/142)
ولنا أن الكعاب المشهورة هي التي ذكرنا قال أبو عبيد: الكعب هذا الذي في أصل القدم منتهى الساق إليه بمنزلة كعاب القنا وروي عن النعمان بن بشير قال كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة رواه الخلال.
وقوله إلى الكعبين حجة لنا فإنه أراد كل رجل تغسل إلى الكعبين ولو أراد كعاب جميع الا رجل لذكر بلفظ الجمع كما قال إلى المرافق ويخلل أصابعهما لما ذكرناه (مسألة) (فإن كان أقطع غسل ما بقي من محل الفرض) وسواء في ذلك اليدين والرجلين لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " (مسألة) (فإن لم يبق شئ سقط وجوب الغسل) لعدم محله ويستحب أن يمس محل القطع بالماء
لئلا يخلو العضو من طهارة، فإن كان أقطع اليدين فوجد من يوضئه متبرعا لزمه ذلك لأنه قادر عليه وإن لم يجد من يوضئه إلا بأجر يقدر عليه لزمه كما يلزمه شراء الماء.
وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يلزمه كما لو عجز عن القيام في الصلاة لا يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه، وإن عجز عن الأجر أو لم يجد من يستأجره صلى على حسب حاله كعادم الماء والتراب.
وإن وجد من ييممه ولم يجد من يوضئه لزمه التيمم كعادم الماء إذا وجد التراب وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا(1/143)
(مسألة) ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو - فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " رواه مسلم ورواه الترمذي وزاد فيه " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " ورواه الإمام أحمد وابو داود وفي بعض رواياته " فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء " وعن أبي سعيد الخدري قال: من توضأ ففرغ من وضوئه وقال " سبحانك اللهم أشهد ان لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك طبع عليها بطابع ثم رفعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة " رواه النسائي (فصل) (والوضوء مرة مرة يجزئ والثلاث أفضل) لما روى ابن عباس قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مره مرة رواه البخاري وروي ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة ثم قال " هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له الصلاة إلا به " ثم تحدث ساعة ثم دعا بوضوء فتوضأ مرتين مرتين فقال " هذا وضوء من توضأه ضاعف الله له الأجر مرتين " ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال " هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي " رواه سعيد وقد ذكر حديث أبي بن كعب بنحو هذا، وهذا قول أكثر أهل العلم إلا أن مالكاً لم يوقت مرة ولا ثلاثا(1/144)
قال إنما قال الله تعالى (فاغسلوا وجوهكم) وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز الوضوء ثلاثا ثلاثا
إلا غسل الرجلين فإنه ينقيهما.
والأول أولى لما ذكرنا من الاحاديث وقد ذكرنا اختلافهم في تكرار مسح الرأس والله أعلم وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فحسن لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ومسح برأسه مرة متفق عليه (فصل) وتكره الزيادة على الثلاث، قال أحمد رحمه الله لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى وذلك لما روى أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء فأراه ثلاثاً ثم قال " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ويكره الإسراف في الماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال " لا تسرف " فقال يا رسول الله في الماء إسراف؟ قال " نعم وإن كنت على نهر جار " رواه ابن ماجه (مسألة) (وتباح معونته) لما روى المغيرة بن شعبة أنه أفرغ على النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه رواه مسلم، وعن صفوان بن عسال قال صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في الحضر(1/145)
والسفر رواه ابن ماجه، وروى أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ينطلق لحاجته فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء متفق عليه، ولا يستحب لما روى ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكل طهوره إلى أحد ولا صدقته التي يتصدق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه.
رواه ابن ماجه وروى عن أحمد أنه قال: ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد لأن عمر قال ذلك (مسألة) قال ويباح تنشيف أعضائه ولا يستحب، قال الخلال المنقول عن أحمد أنه لا بأس بالتنشيف بعد الوضوء وممن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم.
وممن رخص فيه الحسن وابن سيرين ومالك والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وهو ظاهر قول أحمد لما روي سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قلب جبة كانت عليه فمسح بها وجهه.
رواه ابن ماجه والطبراني في المعجم الصغير، وذكر ابن حامد في كراهته روايتين (إحداهما) لا يكره لما ذكرنا (والثانية) يكره روى ذلك عن جابر بن عبد الله وابن أبي ليلى وسعيد بن المسيب
والنخعي ومجاهد وذلك لما روت ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل قالت فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه متفق عليه.
وروى عن ابن عباس أنه كرهه في الوضوء ولم يكرهه في الجنابة، والأول أصح لأن الأصل الإباحة فترك النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الكراهة فإنه قد يترك المباح، وهذه قضية في عين يحتمل أنه ترك تلك المنديل لأمر يختص بها ولأنه(1/146)
إزالة للماء عن بدنه أشبه نفضه بيديه ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه لحديث ميمونة، ويكره نفض يديه ذكره أبو الخطاب وابن عقيل (فصل) ويستحب تجديد الوضوء نص عليه أحمد في رواية موسى بن عيسى وذلك لما روى أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قلت وكيف كنتم تصنعون؟ قال يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث رواه البخاري، وقد نقل علي بن سعيد عن أحمد أنه لا فضل فيه والأول أصح، ولا بأس أن يصلي بالوضوء الواحد ما لم يحدث لا نعلم فيه خلافا لحديث أنس ولما روى بريدة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال " عمدا صنعته " رواه مسلم (فصل) ولا بأس بالوضوء في المسجد إذا لم يؤذ أحداً بوضوئه ولم يؤذ المسجد، قال إبن المنذر أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار وذلك لما روى أبو العالية عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال حفظت لك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ في المسجد رواه الإمام أحمد، وروى عن أحمد أنه كرهه صيانة للمسجد عن البصاق وما يخرج من فضلات الوضوء والله أعلم (فصل) والمفروض من ذلك بغير خلاف في المذاهب خمسة: النية وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، وخمسة فيها روايتان: المضمضة والاستنشاق، والتسمية والترتيب، والموالاة.
وقد ذكرنا عدد المسنون فيما مضى والله أعلم(1/147)
(باب المسح على الخفين)
المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم، قال ابن المبارك ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، وعن الحسن قال حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، والأصل فيه ما روى المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لا نزع خفيه فقال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما متفق عليه، وعن جرير بن عبد الله قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه متفق عليه، قال إبراهيم كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، قال الامام أحمد ليس في قلبي من المسح شئ فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل) روي عن أحمد أنه قال المسح أفضل من الغسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما طلبوا الفضل وهذا مذهب الشعبي والحكم واسحاق لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه " ولأن فيه مخالفة أهل البدع، وذكر ابن عقيل فيه روايتين (إحداهما) المسح أفضل لما ذكرنا (الثانية) الغسل أفضل لأنه المفروض في كتاب الله تعالى والمسح رخصة، وروى حنبل عن أحمد أنه قال كله جائز المسح والغسل ما في قلبي من المسح شئ ولا من الغسل(1/148)
وهذا قول ابن المنذر، وروي عن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا على أخفافهم وخلع هو خفيه وتوضأ وقال حبب إلي الوضوء وعن ابن عمر أنه قال إني لمولع بغسل قدمي فلا تقتدوا بي (مسألة) (يجوز المسح على الخفين لما ذكرنا ويجوز على الجرموقين) الجرموق مثال الخف إلا أنه يلبس فوق الخف في البلاد الباردة فيجوز المسح عليه قياسا على الخف، وممن قال بجواز المسح عليه إذا كان فوق الخف الحسن بن صالح وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في الجديد لا يمسح عليه وسنذكر ذلك إن شاء الله فيما إذا لبس خفا فوق خف آخر (والجوربين) قال إبن المنذر يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وعمار وابن مسعود وأنس وابن عمر والبراء وبلال وابن أبي أوفى وسهل بن سعد وهو قول عطاء والحسن وسعيد بن المسيب والثوري وابن المبارك واسحاق ويعقوب ومحمد، وقال أبو حنيفة ومالك
والاوزاعي والشافعي وغيرهم لا يجوز المسح عليهما إلا أن ينعلا لأنه لا يمكن متابعة المشي فيهما فهما كالرقيقين ولنا ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين.
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وهذا يدل على أنهما لم يكونا منعولين لأنه لو كان كذلك لم يذكر النعلين فإنه لا يقال مسحت على الخف ونعله ولأن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم والجورب في معنى الخف لأنه ملبوس ساتر لمحل الفرض يمكن متابعة المشي فيه أشبه الخف، وقولهم لا يمكن متابعة المشي فيهما قلنا إنما يجوز المسح عليهما إذا ثبت بنفسه وأمكن متابعة المشي فيه وإلا فلا فأما الرقيق فليس بساتر(1/149)
(فصل) وسئل أحمد عن جورب انخرق فكره المسح عليه ولعله إنما كرهه لأن الغالب فيه الخفة وأنه لا يثبت بنفسه فإن كان مثل جورب الصوف في الصفاقة فلا فرق، فإن كان لا يثبت إلا بالنعل أبيح المسح عليه ما دام النعل عليه لحديث المغيرة، فإن خلع النعل انتقضت الطهارة لأن ثبوت الجورب أحد شرطي جواز المسح وإنما حصل بالنعل فإذا خلعها زال الشرط المبيح للمسح فبطلت الطهارة كما لو ظهر القدم.
قال القاضي يمسح على الجورب والنعل كما جاء في الحديث والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مسح على سيور النعل التي على ظاهر القدم فأما أسفله وعقبه فلا يسن مسحه من الخف فكذلك من النعل (مسألة) قال (والعمامة والجبائر) وممن قال بجواز المسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه قال عمر بن الخطاب وأنس وأبو أمامة وروي عن سعد بن مالك وأبي الدرداء رضي الله عنهم وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة وابن المنذر وغيرهم، وقال عروة والنخعي والشعبي والقاسم ومالك والشافعي وأصحاب الرأي لا يمسح عليها لقول الله تعالى (وامسحوا برءوسكم) ولأنه لا تلحقه المشقة بنزعها (1) أشبهت الكمين ولنا ما روى المغيرة بن شعبة قال توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار وعن عمرو بن أمية قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه رواه البخاري ولأنه قول
من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ولأنه عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على
__________
1) هذا غير مسلم فالمشقة واقعة ولاسيما في العمائم المحنكة.
وما قبله يرد عليه نص الآية في الرجلين(1/150)
حائله كالقدمين والآية لا تنفي ما ذكرناه فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبين لكلام الله وقد مسح على العمامة وأمر بالمسح عليها وهذا يدل على أن المراد بالآية المسح على الرأس وحائلة، ومما يبين ذلك أن المسح في الغالب إنما يكون على الشعر ولا يصيب الرأس وهو حائل كذلك العمامة فإنه يقال لمن مسح عمامة إنسان أو قبلها قبل رأسه والله أعلم (فصل) والمسح على الجبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الشجة " إنما كان يكفيه أن يتيمم وبعصب أو يعصر على جرحه خرقة ويمسح عليها ويغسل سائر جسده " رواه أبو داود ولما روى علي رضي الله عنه قال انكسرت إحدى زندي فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم إن أمسح على الجبائر رواه ابن ماجه وهذا قول الحسن والنخعي ومالك واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في أحد قوليه يعيد كل صلاة صلاها لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يأت به، ووجه الأول ما ذكرنا ولأنه مسح على حائل أبيح له المسح عليه فلم تجب معه الإعادة كالخف.
(مسألة) (وفي المسح على القلانس وخمر النساء المدارة تحت حلوقهن روايتان) أراد القلانس المبطنات كدنيات القضاة والمنومنات فأما الكلتة فلا يجوز المسح عليها لا نعلم فيه خلافا لأنها لا تستر جميع الرأس عادة ولا تدوم عليه فأما القلانس التي ذكرناها ففيها روايتان (إحداهما) لا يجوز المسح عليها رواه عنه إسحاق بن إبراهيم وهو قول الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ومالك والشافعي والنعمان واسحاق.
قال إبن المنذر لا نعلم أحدا قال به إلا أنه يروى عن أنس أنه مسح على قلنسيته لأنها لا يشق(1/151)
نزعها أشبهت الكلتة ولأن العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها لا يجوز المسح عليها وهو اختيار الخلال قال لأنه قد روي عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحاح فروى الأثرم بإسناده عن عمر أنه قال إن شاء حسر عن رأسه وإن شاء مسح على قلنسيته وعمامته وروى بإسناده عن أبي موسى
أنه خرج من الخلاء فمسح على القلنسوة ولأنه ملبوس معتاد يستر الرأس أشبه العمامة المحنكة وفارق العمامة التي قاسوا عليها لأنها منهي عنها والله أعلم، وفي مسح المرأة على خمارها روايتان (إحداهما) يجوز يروي ذلك عن أم سلمة حكاه ابن المنذر ولأنه ملبوس للرأس يشق نزعه أشبه العمامة (والثانية) لا يجوز وهو قول نافع والنخعي وحماد والاوزاعي ومالك والشافعي لأنه ملبوس يختص بالمرأة أشبه الوقاية ولا يجوز المسح على الوقاية رواية واحدة ولا نعلم فيه خلافا لأنها لا يشق نزعها فهي كطاقية الرجل (مسألة) قال (ومن شرطه أن يلبس الجميع بعد كمال الطهارة) لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لكل ما يجوز المسح عليه خلافا إلا للجبيرة ووجهه ما روى المغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لا نزع خفيه فقال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما متفق عليه.
وعنه قال قلت يا رسول الله أيمسح أحدنا على خفيه؟ فقال " نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان " رواه الدارقطني فأما إن غسل أحد رجليه ثم لبس الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف لم يجز المسح أيضاً وهو(1/152)
قول الشافعي واسحاق ونحوه عن مالك، وعنه أنه يجوز رواها أبو طالب عنه وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس فجاز كما لو نزع الخف الأول ثم لبسه وكذلك الحكم فيمن مسح رأسه ولبس العمامة ثم غسل رجليه قياسا على الخف، وقد قيل فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم غسل بقية أعضائه إذا قلنا إن الترتيب ليس بشرط جاز له المسح ووجه الأولى، ما ذكرناه من الحديثين وهو يدل على وجود الطهارة فيهما جميعا وقت إدخالهما ولم يوجد ذلك وقت لبس الأولى ولأن ما اعتبر له الطهارة اعتبر له جميعها كالصلاة.
وفارق ما إذا نزع الخف الأول ثم لبسه لأنه لبسه بعد كمال الطهارة (فصل) كره أحمد لبس الخف وهو يدافع أحد الأخبثين لأن الصلاة مكروهة بهذه الطهارة وكذلك اللبس الذي يراد للصلاة والأولى ان لا يكره، وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان إذا أراد أن يبول لبس خفيه ولأنها طهارة كاملة أشبه ما لو لبسهما عند غلبة النعاس.
والصلاة إنما كرهت للحاقن لأن اشتغال قلبه بمدافعة الأخبثين يذهب بخشوع الصلاة ويمنع الاتيان بها على الكمال ويحمله على العجلة ولا يضر ذلك في اللبس.
(فصل) فإن تطهر ثم لبس الخف فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف لم يجز له المسح لأن الرجل
حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ اللبس وهو محدث (فصل) فإن تيمم ثم لبس الخف لم يكن له المسح لأنه لبسه على طهارة غير كاملة ولأنها طهارة(1/153)
ضرورة بطلت من أصلها فصار كاللابس له على غير طهارة ولأن التيمم لا يرفع الحدث فقد لبسه وهو محدث، فأما إن تطهرت المستحاضة ومن به سلس البول وشبههما ولبسوا خفافا فلهم المسح عليها، نص عليه أحمد لأن طهارتهم كاملة في حقهم، قال ابن عقيل لأنها مضطرة إلى الترخص وأحق من يترخص المضطر فإن انقطع الدم وزالت الضرورة بطلت الطهارة من أصلها ولم يكن لها المسح كالمتيمم إذا وجد الماء، وإن لبس الخف بعد طهارة مسح فيها على العمامة أو العمامة بعد طهارة مسح فيها على الخف فقال بعض أصحابنا ظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز المسح لأنه لبس على طهارة ممسوح فيها على بدل فلم يستبح المسح باللبس فيها كما لو لبس خفا على طهارة مسح فيها على خف، وقال القاضي يحتمل جواز المسح لأنها طهارة كاملة وكل واحد منهما ليس ببدل عن الآخر بخلاف الخف الملبوس على خف ممسوح عليه (فصل) فإن لبس الجبيرة على طهارة مسح فيها على خف أو عمامة وقلنا ليس من شرطها الطهارة جاز المسح عليها وإن اشترطنا الطهارة احتمل أن يكون كالعمامة الملبوسة على طهارة مسح فيها على الخف واحتمل جواز المسح بكل حال لأن مسحها عزيمة، وإن لبس الخف على طهارة مسح فيها على الجبيرة جاز المسح عليه لأنها عزيمة ولأنها إن كانت نافعة فهو لنقص لم يزل فلم يمنع طهارة المستحاضة، وإن لبس الجبيرة عل طهارة مسح فيها على الجبيرة جاز المسح لما ذكرنا (مسألة) قال (إلا الجبيرة على إحدى الروايتين) اختلفت الرواية عن أبي عبد الله رحمه الله في الجبيرة فروي أنه لا يشترط تقدم الطهارة لها(1/154)
اختاره الخلال وذلك لما ذكرنا من حديث جابر في الذي أصابته الشجة فإنه قال إنما كان يجزئه أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها ولم يذكر الطهارة، وكذلك حديث علي لم يأمره بالطهارة ولأن اشتراط الطهارة لها تغليظ على الناس ويشق عليهم ولأن المسح عليها إنما جاز لمشقة نزعها وهو موجود إذا لبسها على غير
طهارة.
ويحتمل أن يشترط له التيمم عند العجز عن الطهارة فإن في حديث جابر إنما كان بكفيه أن يتيمم ويعصب أو يعصر على جرحه ثم يمسح عليها لأنها عبادة اشترطت لها الطهارة فقام التيمم مقامها عند العجز كالصلاة، وروي عنه أنه يشترط تقدم الطهارة عليها وهو ظاهر قول الخرقي لأنه حائل يمسح عليه فاشترط تقدم الطهارة على لبسه كسائر الممسوحات فعلى هذا إذا لبسها على غير طهارة ثم خاف من نزعها تيمم لها لأنه موضع يخاف الضرر باستعمال الماء فيه أشبه الجرح (فصل) ولا يحتاج مع مسحها إلى تيمم، قال شيخنا ويحتمل أن يتيمم مع مسحها فيما إذا تجاوز بها موضع الحاجة لأن ما على موضع الحاجة يقتضي المسح والزائد يقتضي التيمم وكذلك فيما إذا شدها على غير طهارة لأنه مختلف في جواز المسح عليها فإذا جمع بينهما خرج من الخلاف، وللشافعي في الجمع بينهما قولان في الجملة لحديث صاحب الشجة: ولنا أنه محل واحد فلا يجمع فيه بين بدلين كالخف (فصل) ولا فرق بين كون الشد على كسر أو جرح لحديث صاحب الشجة فإنها جرح الرأس وقياسا على الكسر وكذلك إن وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه مسح عليه نص عليه في رواية الأثرم وذلك لما روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة فألقمها مرارة وكان يتوضأ(1/155)
ويمسح عليها، ولو انقلع ظفر إنسان أو كان بإصبعه جرح يخاف إن أصابه الماء أن يزرق الجرح جاز المسح عليه في المنصوص.
وقال القاضي في اللصوق على الجروح إن لم يكن في نزعه ضرر نزعه وغسل الصحيح وتيمم للجريح ويمسح على موضع الجرح، وإن كان في نزعه ضرر مسح عليه كالجبيرة فان كان في رجله شق فجعل فيه قيرا فقال أحمد ينزعه ولا يمسح عليه هذا أهون هذا لا يخاف منه، فقيل له متى يسع صاحب الجرح أن يمسح عليه؟ قال إذا خشي أن يزداد وجعا أو شدة.
وتعليل أحمد في القير بسهولته يقتضي أنه متى كان يخاف منه جاز المسح عليه كالإصبع المجروحة إذا ألقمها مرارة أو عصبها، قال مالك في الظفر يسقط يكسوه مصطكا ويمسح عليه وهو قول أصحاب الرأي (فصل) فإن لم يكن على الجرح عصاب غسل الصحيح وتيمم للجريح.
وقد روى حنبل عن أحمد في المجروح
والمجدور يخاف عليه يمسح موضع الجرح ويغسل ما حوله يعني يمسح إذا لم يكن عصاب والله أعلم (مسألة) قال (ويمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) لا نعلم فيه خلافاً في المذهب وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال شريح وعطاء والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وهو ظاهر قول الشافعي.
وقال الليث يمسح ما بدا له وهو قول أكثر أصحاب مالك وكذلك قول مالك في المسافر، وعنه في المقيم روايتان وذلك لما روى أبي بن عمارة قال قلت يا رسول الله نمسح على الخفين؟ قال " نعم " قلت يوما؟ قال " ويومين " قلت وثلاثة؟ قال " وما شئت " رواه أبو داود(1/156)
ولأنه مسح في طهارة فلم تتوقت كمسح الرأس والجبيرة.
ولنا ما روى علي قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم رواه مسلم.
وعن عوف بن مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم رواه الإمام أحمد والدارقطني.
قال الامام أحمد: هذا أجود حديث في المسح لأنه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وحديثهم ليس بالقوي.
وقد اختلف في إسناده قاله أبو داود، ويحتمل أنه قال وما شئت من اليوم واليومين والثلاثة، ويحتمل أنه يمسح ما شاء إذا نزعها عند انتهاء مدته ثم لبسها.
وقياسهم منقوض بالتيمم ومسح الجبيرة عندنا موقت بإمكان نزعها والله أعلم (فصل) وسفر المعصية كالحضر في مدة المسح لأن ما زاد على اليوم والليلة رخصة والرخص لا تستباح بالمعصية والله أعلم، وقال القاضي يحتمل أن لا يباح له المسح أصلا لكونه رخصة (1) والله أعلم (مسألة) قال (إلا الجبيرة فإنه يمسح عليها إلى حلها) لأن مسحها للضرورة فيقدر بقدرها والضرورة تدعو إلى مسحها إلى حلها بخلاف غيرها (فصل) ويفارق مسح الجبيرة الخف من خمسة أوجه (الأول والثاني) أنه لا يشترط تقدم الطهارة لها ولا يتقدر مسحها بمدة وقد ذكرناهما (الثالث) انه يجب استيعابها بالمسح لأنه لا ضرر في تعميمها
__________
1) هذا التعليل وما قبله الرأى الذي لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا اثر عن الصحابة ولا قياس صحيح ويمكن نقضه برأي اقوى منه بما يدل عليه من حكمة الشارع
وهو ان العصاة اولى بالرخص من الاتقياء لئلا يتركوا الفرائض، والعمدة في رد الجمهور له ان خطاب الشرع عان وهذا الرأي لا يصح مخصصاله(1/157)
بخلاف الخف (الرابع) أنه لا يجوز المسح عليها إلا عند خوف الضرر بنزعها (الخامس) أنه يمسح عليها في الطهارة الكبرى لأن الضرر يلحق بنزعها فيها بخلاف الخف (مسألة) (وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس، وعنه من المسح بعده) يعني بعد الحدث، ظاهر المذهب أن ابتداء المدة من الحدث بعد اللبس وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وفيه رواية أخرى أن ابتداءها من المسح بعد الحدث يروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو اختيار ابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وقال الشعبي وإسحاق وأبو ثور يمسح المقيم خمس صلوات لا يزيد عليها، ووجه الرواية الأولى ما نقله القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان عن الحدث إلى الحدث ولأنها عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة.
ويجوز أن يكون أراد بالخبر استباحة المسح دون فعله.
وأما تقديره بخمس صلوات فلا يصح لكون النبي صلى الله عليه وسلم قدره بالوقت دون الفعل، فعلى هذا يمكن المقيم أن يصلي بالمسح ست صلوات يؤخر الصلاة ثم يمسح في اليوم الثاني في أول وقتها قبل انقضاء المدة وإن كان له عذر يبيح الجمع من مرض أو غيره أمكنه أن يصلي سبع صلوات، ويمكن المسافر أن يصلي ستة عشر صلاة إن لم يجمع وسبع عشرة صلاة إن جمع على ما فصلناه والله أعلم (مسألة) قال (ومن مسح مسافرا ثم أقام أتم مسح مقيم) وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي(1/158)
ولا نعلم فيه خلافا لأنه صار مقيماً فلم يجز له أن يمسح مسح المسافر، ولأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر فإذا ابتدأها في السفر ثم حضر في أثنائها غلب حكم الحضر كالصلاة، فإن كان قد مسح يوماً وليلة ثم أقام أو قدم خلع، وإن كان مسح أقل من يوم وليلة ثم أقام أو قدم أتم يوما وليلة لما ذكرنا، ولو مسح في السفر أكثر من يوم وليلة ثم دخل في الصلاة فنوى الإقامة في أثنائها بطلت لأن المسح بطل فبطلت الطهارة التي هي شرط لصحة الصلاة، ولو تلبس بالصلاة في سفينة فدخلت البلدة في أثنائها بطلت صلاته لذلك والله أعلم
(مسألة) (وإن مسح مقيما ثم سافر أو شك في ابتادئه أتم مسح مقيم، وعنه يتم مسح مسافر) اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه أنه يتم مسح مقيم اختاره الخرقي وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق لأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه كالصلاة، وروي عنه أنه يتم مسح مسافر سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن لا تنقضي مدة المسح وهو حاضر وهذا مذهب أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وهذا مسافر ولأنه سافر قبل انقضاء مدة المسح أشبه من سافر بعد الحدث وقبل المسح وهذا اختيار الخلال وصاحبه، قال الخلال رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا، وإن شك هل ابتدأ المسح في الحضر أو السفر بنى على مسح حاضر لأنه لا يجوز المسح مع الشك في إباحته ولأن الأصل الغسل والمسح رخصة فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل.
فإن ذكر بعد أنه كان قد ابتدأ المسح في السفر جاز البناء على مسح مسافر، وإن كان قد صلى بعد اليوم والليلة مع الشك ثم تيقن فعليه إعادة ما صلى مع الشك لأنه صلى بطهارة لم يكن له أن يصلي بها فهو كما لو صلى يعتقد أنه محدث ثم ذكر أنه(1/159)
متطهر فإن وضوءه صحيح ويلزمه إعادة الصلاة وهذا التفريع على الرواية الأولى.
ومتى شك الماسح في الحدث بنى على الأحوط عنده لأن الأصل غسل الرجل (فصل) فإن لبث وأحدث وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أو بعدها وقلنا ابتداء المدة من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر وفي الصلاة على أنه مسح بعدها لأن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ووجوب غسل الرجل فرددنا كل واحد منهما إلى أصله والله أعلم (مسألة) (وإن أحدث ثم سافر قبل المسح أتم مسح مسافر) لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن؟ وهذا حال ابتداء المسح كان مسافرا (مسألة) قال (ولا يجوز المسح إلا على ما يستر محل الفرض ويثبت بنفسه) متى كان الخف ساترا لمحل الفرض لا يرى منه الكعبان لكونه ضيقا أو مشدودا جاز المسح عليه.
فأما المقطوع من دون الكعبين فلا يجوز المسح عليه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وهو الصحيح عن مالك، وحكي عن
الأوزاعي ومالك جواز المسح عليه لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه أشبه السائر ولنا أنه لا يستر محل الفرض أشبه اللالكة والنعلين ولأن حكم ما ظهر الغسل وحكم ما استتر المسح ولا سبيل إلى الجمع من غير ضرورة فغلب الغسل كما لو ظهرت إحدى الرجلين ولو كان للخف قدم وله شرج إذا شده يستر محل الفرض جاز المسح عليه وقال أبو الحسن الآمدي لا يجوز المسح(1/160)
عليه كاللفائف، ولنا أنه خف ساتر يمكن متابعة المشي فهى أشبه غير ذي الشرج (فصل) فإن كان الخف محرما كالقصب الحرير لم يجز المسح عليه في الصحيح من المذهب لأن المسح رخصة فلا تستباح بالمعصية كما لا يستبيح المسافر الرخص بسفر المعصية (فصل) ويجوز المسح على كل خف ساتر لمحل الفرض سواء كان من جلود أو لبود وما أشبهها فإن كان خشبا أو حديدا وما أشبههما جاز المسح عليه وهذا قول أبي الخطاب قال القاضي وهو قياس المذهب لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه ساتر لمحل الفرض أشبه الجلود، وقال بعض أصحابنا لا يجوز المسح عليها لأن الرخصة وردت في الخفاف المتعارفة للحاجة (1) ولا تدعو الحاجة إلى المسح على هذه في الغالب.
(مسألة) قال (ويثبت بنفسه) فإن كان لا يثبت بنفسه بحيث يسقط من القدم إذا مشى فيه لم يجز المسح عليه لأن الذي تدعو الحاجة إلى لبسه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه فأما ما يسقط إذا مشى فيه فلا يشق نزعه ولا يحتاج إلى المسح عليه (مسألة) (فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم أو كان واسعا يرى منه الكعب أو الجورب خفيفا يصف القدم أو يسقط منه إذا مشى أو شد لفائف لم يجز المسح عليه) وجملة ذلك أنه إنما يجوز المسح على الخف ونحوه إذا كان ساتر المحل الفرض لما ذكرنا، فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم أو كان واسعا يرى منه الكعب لم يجز المسح سواء كان الخرق كبيرا أو صغيرا من موضع الخرز أو من غيره.
فأما ان
__________
1) إذا كانت الرخصة للحاجة فلم تقيد بالمتعارف في صفة عارضة لادخل لها في مس الحاجة كمادة الخف وشكله وصنعته؟ الحق الاول وهذا تعليل ضعيف(1/161)
كان الشق ينضم فلا يبدو منه القدم لم يمنع جواز المسح نص عليه وهو مذهب معمر وأحد قولي الشافعي،
وقال الثوري وإسحاق وابن المنذر يجوز المسح عل كل خف، وقال الأوزاعي يمسح الخف المخروق وعلى ما ظهر من رجله وقال أبو حنيفة إن كان أقل من ثلاث أصابع جاز المسح عليه وإلا لم يجز، وقال مالك إن كثر وتفاحش لم يجز وإلا جاز وتعلقوا بعموم الحديث وبأنه خف يمكن متابعة المشي فيه أشبه الصحيح ولأن الغالب على خفاف العرب كونها مخرقة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلبسها من غير تفصيل فينصرف إلى الخفاف الملبوسة عندهم غالبا ولنا أنه غير ساتر للقدم فلم يجز المسح عليه كما لو كثر وتفاحش ولأن حكم ما ظهر الغسل وحكم ما استتر المسح فإذا اجتمعا غلب الغسل كما لو ظهرت إحدى الرجلين (فصل) وكذلك إن كان الجورب خفيفا يصف القدم لم يجز المسح عليه لأنه غير ساتر (1) لمحل الفرض أشبه النعل.
وكذلك إن كان يسقط من القدم ولا يثبت فيه لما ذكرنا، ولا يجوز المسح على اللفائف والخرق نص عليه أحمد لأنها لا تثبت بنفسها إنما تثبت بشدها ولا نعلم في هذا خلافاً (مسألة) (وإن لبس خفا فلم يحدث حتى لبس عليه آخر جاز المسح عليه) يعني على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحا أو مخرقا وهذا قول الثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي، ومنع منه مالك والشافعي في أحد قوليهما لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب فلم تتعلق به رخصة عامة كالجبيرة
__________
1) ان بدو القليل المعتاد في الخفاف ولا سيما في السفر وهذا اختيار شيخ الاسلام تقي الدين من الحنابلة(1/162)
ولنا أنه خف ساتر يثبت بنفسه أشبه المنفرد وقوله الحاجة لا تدعو إليه ممنوع فإن البلاد الباردة لا يكفي فيها خف واحد غالبا ولو سلمنا ذلك لكن الحاجة معتبرة بدليلها وهو الإقدام على اللبس لا بنفسها فهو كالخف الواحد.
إذا ثبت ذلك فمتى نزع الفوقاني قبل مسحه لم يؤثر فيه، وإن نزعه بعد مسحه بطلت الطهارة ووجب نزع الخفين وغسل الرجلين لزوال محل المسح ونزع أحد الخفين كنزعهما لأن الرخصة تعلقت بهما فصار كانكشاف القدم، ولو أدخل يده من تحت الفوقاني ومسح الذي تحته جاز لأن كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح عليه كما يجوز غسل قدميه في الخف مع جواز المسح
عليه، ولو لبس أحد الجرموقين في أحد الرجلين دون الأخرى جاز المسح عليه وعلى الخف الذي في الرجل الأخرى فهو كما لو لم يكن تحته شئ (فصل) وإن لبس مخرقا فوق صحيح فالمنصوص عن أحمد جواز المسح عليه رواها عنه حرب لأن القدم مستور بخف صحيح فجاز المسح عليه كما لو كان مكشوفا، وقال القاضي وأصحابه لا يجوز المسح إلا على التحتاني لأن الفوقاني لا يجوز المسح عليه مفردا أشبه مالو كان تحته لفافة، فإما إن لبس مخرقا فوق لفافة لم يجز المسح عليه لأن القدم غير مستور بخف صحيح، وإن لبس مخرقا فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل أن لا يجوز المسح لذلك واحتمل جواز المسح لأن القدم استتر بهما أشبه مالو كان أحدهما مخرقا والآخر صحيحا(1/163)
(فصل) فأما إن لبس الفوقاني بعد أن أحدث لم يجز المسح لأنه لبسه على غير طهارة وكذلك إن مسح على الأول ثم لبس الثاني، وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز لأن المسح قام مقام الغسل ولنا أن المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فلم تكمل الطهارة أشبه التيمم ولأن الخف الممسوح عليه بدل والبدل لا يكون له بدل آخر والله أعلم (مسألة) (ويمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه فيضع يده على الأصابع ثم يمسح إلى ساقه) هذه السنة في مسح الخف، فإن عكس فمسح في ساقه إلى أسفل جاز والمسنون الأول لما روى الخلال بإسناده عن المغيرة فذكر وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم توضأ ومسح على الخفين فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنطر إلى أثر أصابعه على الخفين قال ابن عقيل: سنة المسح هكذا أن يمسح خفيه بيديه باليمنى اليمنى وباليسرى اليسرى وقال أحمد كيفما فعلت فهو جائز باليد الواحدة أو باليدين، وإن مسح بإصبع أو إصبعين أجزأه إذا كرر المسح بها حتى يصير مثل المسح بأصابعه ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه وهذا قول عروة وعطاء والحسن والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وروي مسح ظاهر الخفين وباطنهما عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وعمر ابن عبد العزيز وابن المبارك ومالك والشافعي لما روى المغيرة بن شعبة قال وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمسح أعلى الخف وأسفله رواه أبو داود والترمذي ولأنه يحاذي محل الفرض أشبه ظاهره(1/164)
ولنا قول علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه رواه الإمام أحمد وأبو داود، وعن عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالمسح على ظاهر الخفين إذا لبسهما وهما طاهرتان رواه الخلال ولأن مسحه غير واجب ولا يكاد يسلم من مباشرة أذى فيه تتنجس به يده فكان تركه أولى، وحديثهم معلول قاله الترمذي وقال وسألت أبا زرعة ومحمدا عنه فقال ليس بصحيح وقال أحمد هذا من وجه ضعيف وأسفل الخف ليس بمحل لفرض المسح بخلاف أعلاه (فصل) فإن مسح أسفله أو عقبه دون أعلاه لم يجزه في قول أكثر العلماء، قال شيخنا لا نعلم أحدا قال يجزئه مسح أسفل الخف إلا أشهب من أصحاب مالك وبعض الشافعية لأنه مسح بعض ما يحاذي محل الفرض فأجزأه كما لو مسح ظاهره، ومنصوص الشافعي كمذهب الجمهور لما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مسح ظاهر الخف ولا خلاف في أنه يجزئ الاقتصار على مسح ظاهر الخف حكاه ابن المنذر (فصل) والقدر المجزئ في المسح أن يمسح أكثر مقدم ظاهره خطوطا بالاصابع قاله القاضي لما ذكرنا من حديث المغيرة، وقال الشافعي والثوري وأبو ثور يجزئ القليل منه لأنه أطلق لفظ المسح ولم ينقل فيه تقدير فرجع إلى ما تناوله الاسم، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن يجزئه قدر ثلاث أصابع وهو قول الأوزاعي، وقال إسحاق لا يجزئ حتى يمسح بكفيه(1/165)
ولنا أن لفظ المسح ورد مطلقا وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله كما ذكرنا في حديث المغيرة، ولا يستحب تكرار مسحه لأن في حديث المغيرة مسحة واحدة.
روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال عطاء يمسح ثلاثا (فصل) فإن مسح بخرقة أو خشبة احتمل الإجزاء لحصول المسح، واحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بيده، فإن غسل الخف لم يجزه وهذا قول مالك واختيار القاضي، قال إبن المنذر وهو اقيس لأنه أمر بالمسح فلم يفعله فلم يجزه كما لو طرح التراب على وجهه ويديه في التيمم لكن
إن أمر يديه على الخفين في حال الغسل أو بعده اجزأه لوجود المسح.
وقال ابن حامد يجزئه وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه أبلغ من المسح والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى والمستحب أن يفرج أصابعه إذا مسح قال الحسن خطوطا بالأصابع ووضع الثوري أصابعه على مقدم خفيه وفرج بينهما ثم مسح على أصل الساق، وروي عن عمر أنه مسح حتى رئي آثار أصابعه على خفيه خطوطا (مسألة) (ويجوز المسح على العمامة المحنكة إذا كانت ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه) قد ذكرنا دليل جواز المسح على العمامة، ومن شروط جواز المسح عليها أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين وجوانب الرأس فإنه يعفى عنه بخلاف خرق الخف فإنه يعفى عنه لأن هذا جرت العادة به ويشق التحرز عنه وإن ظهر بعض القلنسوة من تحت العمامة فالظاهر جواز المسح عليهما لأنهما صارا كالعمامة الواحدة، ومتى كانت محنكة جاز المسح عليها رواية(1/166)
واحدة سواء كان له ذؤابة أو لم يكن لأن هذه عمائم العرب وهي أكثر سترا ويشق نزعها قاله القاضي وسواء كانت صغيرة او كبيرة ولأنها مأمور بها وتفارق عمائم أهل الكتاب (مسألة) قال (ولا يجوز على غير المحنكة إلا أن تكون ذات ذؤابة فيجوز في أحد الوجهين) أما إذا لم يكن لها حنك ولا ذؤابة فلا يجوز المسح عليها لأنها على صفة عمائم أهل الذمة وقد نهى عن التشبه بهم ولأنها لا يشق نزعها وإن كان لها ذؤابة ولا حنك لها ففيه وجهان (أحدهما) جوازه لأنها لا تشبه عمائم أهل الذمة إذ ليس من عادتهم الذؤابة (والثاني) لا يجوز وهو الأظهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم امر بالتحلي ونهى عن الاقتعاط.
رواه أبو عبيد قال: والاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شئ وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا ليس بمحنك بعمامته فحنكه بكور منها وقال ما هذه الفاسقية ولأنها لا يشق نزعها فلم يجز المسح كالتي لا ذؤابة لها ولا حنك (فصل) وما جرت العادة بكشفه من الرأس استحب أن يمسح عليه مع العمامة، نص عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعمامته في حديث المغيرة وهو صحيح، وهل يجب الجمع بينهما إذا قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس؟ فيه وجهان (أحدهما) يجب للخبر ولان العمامة ثابت عما استتر
فوجب مسح الباقي كما لو ظهر سائر رأسه (والثاني) لا يجب لأن العمامة نابت عن الرأس فانتقل الفرض إليها وتعلق الحكم بها فلم يبق لما ظهر حكم ولأن الجمع بينهما يفضي إلى الجمع بين البدل والمبدل في عضو واحد فلم يجز من غير ضرورة كالخف(1/167)
ولا يجب مسح الأذنين مع العمامة لا نعلم فيه خلافاً لأنه لم ينقل وليستا من الرأس إلا على وجه التبع (فصل) وحكمها في التوقيت واشتراط تقدم الطهارة لها حكم الخف قياساً عليه، فإن كانت العمامة محرمة اللبس كالحرير والمغصوبة لم يجز المسح عليها في الصحيح لما ذكرنا في الخف فإن لبست المرأة عمامة لم يجز المسح عليها لأنها منهية عن التشبه بالرجال فكانت محرمة في حقها وإن كان لها عذر فهذا نادر لا يفرد يحكم (مسألة) (ويجزئ مسح أكثرها وقيل لا يجزئ إلا مسح جميعها) اختلفت الرواية في وجوب استيعاب العمامة بالمسح فروي ما يدل على أنه يجزئ مسح أكثرها لأنها أحد الممسوحين على وجه البدل فأجزأ مسح بعضه كالحف، وروي عنه أنه يلزم استيعابها قياسا على مسح الرأس.
والفرق بينهما أن البدل ههنا من جنس المبدل فيقدر بقدره كمن عجز عن قراءة الفاتحة وقدر على قراءة غيرها من القرآن يجب أن يكون بقدرها.
ولو كان البدل تسبيحا لم يتقدر بقدرها لكونه ليس من جنسها.
والخف بدل من غير الجنس لكونه بدلا عن الغسل فلم يتقدر بقدره كالتسبيح بدلا عن القرآن، والصحيح الأول قياسا عى الخف وما ذكر للرواية الثانية ينتقض بمسح الجبيرة فإنه بدل عن الغسل وهو من غير جنس المبدل ويجب فيه الاستيعاب، وقال القاضي يجزئ مسح بعضها كالخف ويختص ذلك بأكوارها دون وسطها فان مسح وسطها وحده ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه كما يجزئ مسح بعض دوائرها (والثاني) لا يجزئه كما لو مسح أسفل الخف(1/168)
(مسألة) (ويمسح على جميع الجبيرة إذا لم تتجاوز قدر الحاجة) لأنه لا يشق المسح عليها كلها بخلاف الخف فانه يشق تعيميم جميعه ويتلفه المسح ولأنه مسح للضرورة أشبه التيمم، وإن كان بعضها في محل الفرض وبعضها في غيره مسح ما حاذى محل الفرض نص عليه أحمد.
وإنما يجوز المسح عليها إذا لم يتعد بها موضع الكسر إلا بما لابد من وضع الجبيرة عليه فانها لابد أن توضع على طرفي الصحيح ليرجع
الكسر، فإن شدها على مكان يستغني عن شدها عليه كان تاركا لغسل ما يمكنه غسله من غير ضرر فلم يجز كما لو شدها على مالا كسر فيه، وقد روي عن أحمد أنه سهل في ذلك في مسألة الميموني والمروذي لأن هذا مما لا ينضبط وهو شديد جدا.
فعلى هذا لا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها والأول أولى لما ذكرنا.
فعلى هذا إذا تجاوز بها موضع الحاجة لزمه نزعها إن لم يخف الضرر وإن خاف من نزعها تيمم لها لأنه موضع يخاف الضرر باستعمال الماء فيه فجاز التيمم له كالجرح.
(مسألة) قال (ومتى ظهر قدم الماسح أو رأسه أو انقضت مدة المسح استأنف الطهارة) لأن المسح بدل عن الغسل فمتى ظهر القدم وجب غسله لزوال حكم البدل كالمتيمم يجد الماء (وعنه يجزئه مسح رأسه وغسل قدميه) وجملة ذلك أنه متى ظهر قدم الماسح بعد الحدث والمسح وقبل انقضاء المدة فقد اختلف العلماء فيه فالمشهور عن أحمد رحمه الله أنه يعيد الوضوء وبه قال النخعي والزهري ومكحول والاوزاعي واسحاق وهو أحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية أنه يجزئه غسل قدميه وهو قول الثوري وأبي ثور(1/169)
والمزني وأصحاب الرأي والقول الثاني للشافعي لأن مسح الخفين ناب عن الرجلين خاصة فظهورهما يبطل ما ناب عنه كالتيمم إذا بطل برؤية الماء بطل ما ناب عنه.
وهذا الاختلاف مبني على وجوب الموالاة فمن لم يوجبها في الوضوء جوز غسل القدمين لأن سائر أعضائه سواهما مغسولة ومن أوجب الموالاة أبطل الوضوء لفوات الموالاة، فعلى هذا لو خلع الخفين قبل جفاف الماء عن بدنه أجزأه غسل قدميه وصار كأنه خلعهما قبل مسحه عليهما، وقال الحسن وقتادة: لا يتوضأ ولا يغسل قدميه واختاره ابن المنذر لأنه أزال الممسوح عليه بعد كمال الطهارة أشبه مالو حلق رأسه بعد مسحه ووجه الرواية الأولى أن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث وما ذكروه يبطل بنزع أحد الخفين فإنه يلزمه غسلهما وإنما ناب مسحه عن إحداهما.
وأما التيمم عن بعض الأعضاء فسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله.
وقال مالك والليث بن سعد: أن غسل رجليه مكانه صحت طهارته فإن تطاول أعاد الوضوء لأن الطهارة كانت صحيحة إلى حين نزع الخفين أو انقضاء المدة وإنما بطلت في القدمين خاصة فإذا غسلهما عقيب النزع حصلت الموالاة بخلاف ما إذا تطاول، ولا يصح ذلك لأن
المسح بطل حكمه وصار الآن يضيف الغسل إلى الغسل فلم يبق للمسح حكم ولأن الاعتبار في الموالاة إنما هو بقرب الغسل من الغسل لا من حكمه فإنه متى زال حكم الغسل بطلت الطهارة ولم ينفع قرب الغسل من الخلع شيئا لكون الحكم لا يعود بعد زواله إلا بسبب جديد والله أعلم(1/170)
(فصل) وحكم خلع العمامة بعد المسح عليها عند القائلين بجواز المسح عليها حكم الخف لأنها في معناه إلا أنه ههنا يلزمه مسح رأسه وغسل قدميه إذا قلنا بوجوب الترتيب.
وكذلك الحكم لو نزع الجبيرة بعد المسح عليها قياسا على الخف والعمامة إلا أنه إن كان مسح عليها في الجنابة لم يحتج إلى إعادة غسل ولا وضوء لأن الترتيب والموالاة ساقطان فيه (فصل) وإذا انقضت مدة المسح بطلت طهارته أيضا ولزمه خلع الخفين والعمامة وإعادة الوضوء على الرواية الأولى وعلى الثانية يجزئه مسح رأسه وغسل قدميه وقد ذكرنا وجه الروايتين، ومتى أمكنه نزع الجبيرة من غير ضرر فهو كما لو انقضت مدة المسح قياساً عليه.
وقال الحسن لا يبطل الوضوء ويصلي حتى يحدث ونحوه قول داود فإنه قال ينزع خفيه ويصلي حتى يحدث لأن الطهارة لا تبطل إلا بالحدث والخلع ليس بحدث ولنا أن غسل الرجلين شرط للصلاة وإنما قام المسح مقامه في المدة فإذا انقضت لم يجز أن يقوم مقامه إلا بدليل ولأنها طهارة لا يجوز ابتداؤها فيمنع من استدامتها كالمتيمم عند رؤية الماء (فصل) ونزع أحد الخفين كنزعهما في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ويلزمه نزع الآخر، وقال الزهري وأبو ثور يغسل القدم الذي نزع منه الخف ويمسح الآخر لأنهما عضوان فأشبها الرأس والقدم ولنا أنهما في الحكم كعضو واحد ولهذا لا يجب ترتيب أحدهما على الآخر فيبطل مسح أحدهما بظهور الآخر كالرجل الواحدة وبهذا فارق الرأس والقدم (فصل) وانكشاف بعض القدم من خرق كنزع الخف.
فإن انكشطت الظهارة دون البطانة وكانت(1/171)
البطانة ساترة لمحل الفرض تثبت بنفسها جاز المسح كما لو لم تنكشط، وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف
فهو كخلعه وهذا قول إسحاق وأصحاب الرأي، وقال الشافعي لا يتبين لي أن عليه الوضوء إلا أن يظهر بعضها لأن القدم مستور بالخف، وحكى أبو الخطاب في رءوس المسائل عن أحمد نحو ذلك، ولنا أن استقرار الرجل في الخف شرط جواز المسح بدليل مالو أدخل رجله الخف فأحدث قبل استقرارها فيه لم يكن له المسح، فإذا تغير الاستقرار زال شرط جواز المسح فبطل كما لو ظهر، وإن كان إخراج القدم إلى ما دون ذلك لم يبطل المسح لأنها لم تزل عن مستقرها، وقال مالك: إذا أخرج قدمه من موضع المسح خروجا بينا غسل قدميه (فصل) وإن نزع العمامة بعد المسح عليها بطلت الطهارة نص عليه أحمد وكذلك إن انكشف رأسه إلا أن يكون يسيراً مثل أن حك رأسه ورفعها لأجل الوضوء، قال أحمد: إذا زالت العمامة من هامته لا بأس ما لم ينقضها أو يفحش ذلك لأن هذا مما جرت العادة به فيشق التحرز عنه، وإن انتقضت بعد مسحها فهو كنزعها لأنه في معناه، وإن انتقض بعضها ففيه روايتان (إحداهما) لا تبطل طهارته لأنه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستورا فهو ككشط الخف مع بقاء البطانة (والثانية) تبطل قال القاضي لو انتقض منها كور واحد بطلت لأنه زال الممسوح عليه أشبه نزع الخف(1/172)
(مسألة) قال (ولا مدخل لحائل في الطهارة الكبرى إلا الجبيرة) لا يجوز المسح على غير الجبيرة في الطهارة الكبرى لما روى صفوان بن عسال قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أو سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة.
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فأما الجبيرة فيجوز المسح عليها في الطهارة الكبرى لحديث صاحب الشجة ولأنه مسح أبيح للضرر أشبه التيمم والله أعلم (باب نواقض الوضوء) (وهي ثمانية الخارج من السبيلين قليلاً كان أو كثيرا نادرا أو معتادا) وجملة ذلك أن الخارج من السبيلين على ضربين معتاد كالبول والغائظ والمذي والودي والريح فهذا ينقض الوضوء إجماعا حكاه ابن المنذر، ودم الاستحاضة ينقض الطهارة في قول عامة أهل العلم إلا في قول ربيعة
(الضرب الثاني) نادر كالدم والدود والحصى والشعر فينقض الوضوء أيضاً، وهو قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال قتادة ومالك ليس في الدود يخرج من الدبر الوضوء، وروي عن مالك أنه لم يوجب الوضوء من هذا الضرب لأنه نادر أشبه الخارج من غير السبيل(1/173)
ولنا أنه خارج من السبيل أشبه المذي ولأنه لا يخلو من بلة تتعلق به وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة ودمها غير معتاد (فصل) فإن خرجت الريح من قبل المرأة وذكر الرجل فقال القاضي ينقض الوضوء ونقل صالح عن أبيه في المرأة يخرج من فرجها الريح: ما خرج من السبيلين ففيه الوضوء.
وقال ابن عقيل يحتمل أن يكون الأشبه بمذهبنا في الريح الخارج من الذكر أن لا ينقض لأن المثانة ليس لها منفذ إلى الجوف ولا جعلها أصحابنا جوفا ولم يبطلوا الصوم بالحقنة فيه، قال شيخنا ولا نعلم لها وجودا في حق أحد.
وقد قيل إنه يعلم بأن يحس الإنسان في ذكره دبيبا وهذا لا يصح لكونه لا يحصل به اليقين والطهارة لا تبطل بالشك.
فان وجد ذلك يقينا نقض الطهارة قياساً على سائر الخارج من السبيلين (فصل) فإن قطر في إحليله دهناً ثم عاد فخرج نقض الوضوء لأنه خارج من السبيلين لا يخلو من بلة نجسة تصحبه فينتقض بها الوضوء كما لو خرجت منفردة.
وقال القاضي لا ينقض لأنه ليس بين الإحليل والمثانة منفذ وإنما يخرج البول رشحا فإذا كان كذلك لم يصل الدهن إلى موضع نجس فإذا خرج فهو طاهر فلم ينقض كسائر الطاهرات إذا خرجت من البدن والأول أولى.
وقوله لا يصل الدهن إلى موضع نجس ممنوع فإن باطن الذكر نجس من آثار البول والماء لا يصل إليه فيطهره فيتنجس به الدهن، ولو احتشى قطنا في ذكره ثم أخرجه وعليه بلل نقض الوضوء أيضا كما لو خرج البلل منفردا(1/174)
وإن خرج ناشفا ففيه وجهان (أحدهما) ينقض لأنه خارج من السبيل أشبه سائر الخارج (والثاني) لا ينقض لأنه ليس بين المثانة والجوف منفذ ولم تصحبه نجاسة فلم ينقض كسائر الطاهرات، ونقل القاضي في المجرد عن أحمد في رواية عبد الله إذا احتشى القطن في ذكره وصلى ثم أخرجه ووجد بللا فلا بأس ما لم يظهر
يعني جاريا وهذا يدل على أن نفس البلل لا ينقض، ولو احتقن في دبره فرجعت أجزاء خرجت من الفرج نقضت الوضوء، وهكذا لو وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه فدخل الفرج ثم خرج نقض الوضوء وعليهما الاستنجاء لأنه خارج من السبيل لا يخلو من بلة تصحبه من الفرج، فإن لم يعلم خروج شئ منه احتمل وجهين (أحدهما) النقض فيهما لأن الغالب أنه لا ينفك عن الخروج فنقض كالنوم (والثاني) لا ينقض عملا بالأصل.
لكن إن كان المحتقن قد أدخل رأس الزراقة ثم أخرجه نقض الوضوء وكذلك إن أدخل فيه ميلا أو غيره ثم خرج لأنه خارج من السبيل فنقض كسائر الخارج (فصل) قال أبو الحرث سألت أحمد عن رجل به علة ربما ظهرت مقعدته قال إن علم أنه يظهر معها ندى توضأ وإن لم يعلم فلا شئ عليه.
قال شيخنا رحمه الله يحتمل أنه إنما أراد ندي ينفصل عنها فأما الرطوبة اللازمة لها فلا تنقض لأنها لا تنفك عن رطوبة فلو نقضت لنقض خروجها على كل حال وذلك لانه شئ لم ينفصل عنها فلم ينقض كسائر أجزائها وقد قالوا فيمن أخرج لسانه وهو صائم وعليه بلل ثم أدخله وابتلع ذلك البلل لم يفطر لأنه لم يثبت له حكم الانفصال والله أعلم(1/175)
(فصل) والمذي ما يخرج عقيب الشهوة زلجا متسبسبا فيكون على رأس الذكر ينقض الوضوء إجماعا وهل يجب غسل الذكر والأنثيين منه؟ فيه روايتان (إحداهما) يوجب ذلك لما روى أن علياً رضي الله عنه قال كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ " رواه أبو داود.
وفي لفظ " توضأ وانضح فرجك " رواه مسلم.
والأمر للوجوب ولأنه خارج بسبب الشهوة فأوجب غسلا زائدا على موجب البول كالمني فعلى هذا يجزئه غسلة واحدة لأن المأمور به غسل مطلق فيكفي ما يقع عليه الاسم وقد بينه قوله في اللفظ الآخر " وانضح فرجك " وسواء غسله قبل الوضوء أو بعده لأنه غسل غير مرتبط بالوضوء أشبه غسل النجاسة (والثانية) لا يوجب الا الاستنجاء والوضوء روى ذلك عن ابن عباس وهو قول أكثر أهل العلم لما روى سهل بن حنيف قال كنت ألقى من المذي شدة وعناء وكنت أكثر منه الاغتسال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إنما يجزيك من ذلك الوضوء " رواه الترمذي وقال حسن صحيح
ولأنه خارج لا يوجب الغسل أشبه الودي والأمر بالنضح والغسل في حديث علي محمول على الاستحباب وقوله " إنما يجزيك من ذلك الوضوء " صريح في حصول الإجزاء به، والودي ماء أبيض يخرج عقيب البول ليس فيه وفي بقية الخارج إلا الوضوء سوى المني يروي ذلك عن ابن عباس والله أعلم(1/176)
(مسألة) (الثاني خروج النجاسات من سائر البدن فإن كانت غائطا أو بولا نقض قليلها) لا يختلف المذهب في نقض الوضوء بخروج الغائط والبول سواء كان من مخرجهما أو من غيره ويستوي قليلهما وكثيرهما في ذلك سواء كان السبيلان منسدين أو مفتوحين من فوق المعدة أو من تحتها، وقال أصحاب الشافعي إن انسد المخرج وانفتح آخر دون المعدة لزم الوضوء بالخارج منه قولاً واحداً.
وإن انفتح فوق المعدة ففيه قولان.
وإن كان المخرج مفتوحا فالمشهور أنه لا ينقض الوضوء بالخارج من غيره وبناه على أصله في أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض ولنا عموم قوله تعالى (أو جاء أحد منكم من الغائط) وقول صفوان بن عسال أمرننا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين - أو سفرا - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم.
هذا حديث صحيح قاله الترمذي ولأنه غائط وبول خارج من البدن فنقض كالخارج من السبيلين (مسألة) قال (وإن كان غيرهما لم ينقض إلا كثيرها وهو ما فحش في النفس وحكي عنه ان قليلها ينقض) وجملة ذلك أن الخارج النجس من غير السبيلين غير البول والغائط ينقض كثيره بغير خلاف في المذهب روى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وقتادة والثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي ويحيى الانصاري وأبو ثور وابن المنذر لا وضوء فيه لأنه خارج من غير المخرج مع بقاء المخرج فلم ينقض كالبصاق ولانه لانص فيه ولا يصح قياسه على الخارج من السبيل لكون الحكم فيه غير معلل ولأن الخارج من السبيل لا فرق بين قليله وكثيره.
وطاهره ونجسه.
وههنا بخلافه فامتنع القياس(1/177)
ولنا ماروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ قال ثوبان صدق أنا سكبت له وضوءه رواه الترمذي وقال هذا أصح شئ في الباب، قيل لاحمد حديث ثوبان ثبت عندك؟ قال نعم، ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة " إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة " رواه الترمذي علل بكونه دم عرق وهذا كذلك ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه خارج نجس فنقض كالخارج من السبيلين.
وقياسهم منقوض بما إذا انفتح مخرج دون المعدة.
والبصاق طاهر بخلاف هذا (فصل) فأما القليل فظاهر المذهب أنه لا ينقض الوضوء حكاه القاضي رواية واحدة، وقال بعض أصحابنا فيه رواية أخرى أن القليل ينقض قياسا على الخارج المعتاد.
روى ذلك عن مجاهد وهذا قول أبي حنيفة وسعيد بن جبير فيما إذا سال الدم، قال إن وقف على رأس الجرح لم يجب لقوله صلى الله عليه وسلم " من قاء أو رعف في صلاته فليتوضأ " ووجه الرواية الأولى أنه قد روي ذلك عن جماعة من الصحابة قال أبو عبد الله: عدة من الصحابة تكلموا فيه: أبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه وابن عمر عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ وابن أبي أوفى عصر دملا، وابن عباس قال إذا كان فاحشا فعليه الإعادة، وجابر أدخل أصابعه في أنفه ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعا وحديثهم لا نعرف صحته ولم يذكره أصحاب السنن وقد تركوا العمل به فقالوا: إذا كان دون ملء الفم لم يجب منه الوضوء (فصل) وظاهر المذهب أن الكثير الذي.
ينقض الوضوء لاحد له إلا أن يكون فاحشا قيل يا أبا عبد الله ما قدر الفاحش؟ قال ما فحش في قلبك، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، قال الخلال الذي استقرت الرواية عن أبي عبد الله أن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " وقال ابن عقيل إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس لا المتبذلين ولا الموسوسين كما رجعنا في يسير اللقطة إلى مالا تبيعه نفوس أوساط الناس، وقد روي عن أحمد أنه(1/178)
سئل عن الكثير فقال شبر في شبر، وفي موضع قال قدر الكف فاحش، وقال في موضع إذا كان مقدار ما يرفعه الإنسان بأصابعه الخمس من القيح والصديد والقئ فلا بأس به، قيل له فعشر أصابع فرآه كثيرا وقال قتادة في موضع: الدرهم فاحش وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم " والصحيح ان ذلك إنما يرجع فيه
إلى العرف فانه لاحد له في الشرع وما رووه فلا يصح قال الحافظ المقدسي هو موضوع، وقال القاضي إذا كان الدم قطرة أو قطرتين لم ينقض، وإن كان قدره إذا انفرش شبراً في شبر نقض وما كان بينهما ففيه روايتان، وقال في القئ إن كان ملء الفم نقض، وإن كان مثل الحمصة والنواة لم ينقض رواية واحدة فيهما وما بينهما على روايتين وما نقله الخلال عنه أولى لما ذكرنا، ولأن اعتبار حال الإنسان بما يستفحشه غيره حرج فيكون منفيا (فصل) والقيح والصديد كالدم فيما ذكرنا قال أحمد هما أخف حكماً من الدم لوقوع الخلاف فيهما فإنه روى عن ابن عمر والحسن أنهما لم يريا القيح والصديد كالدم، وقال إسحاق كل ما سوى الدم لا يوجب وضوءا.
وقال مجاهد وعطاء وعروة والشعبي وقتادة والحكم هو بمنزلة الدم، واختيار أبي عبد الله مع ذلك إلحاقه بالدم وإثبات مثل حكمه فيه قياسا عليه لأنه خارج نجس أشبه الدم لكن الذي يفحش منه يكون أكثر من الذي يفحش من الدم، والقلس كالدم ينقض الوضوء منه ما فحش قال الخلال الذي أجمع عليه أصحاب أبي عبد الله أنه إذا كان فاحشا أعاد الوضوء، وقد حكي عنه إذا كان ملء الفم(1/179)
نقض، وإن كان أقل من نصف الفم لا يتوضأ، وممن كان يأمر بالوضوء من القئ علي وابن عمر وأبو هريرة والاوزاعي وأصحاب الرأي والمذهب إلحاقه بالدم لأنه في معناه.
وهذا قول حماد بن أبي سليمان وكذلك الحكم في الدود الخارج من الجروح لأنه خارج نجس أشبه الدم، فأما الجشاء والبصاق فلا وضوء فيه لا نعلم فيه خلافاً، وكذلك النخامة سواء خرجت من الرأس أو من الصدر لأنه لا نص فيها ولا هي في معنى المنصوص ولأنها طاهرة أشبهت البصاق والله أعلم (مسألة) قال (الثالث زوال العقل إلا النوم اليسير جالسا أو قائما وعنه أن نوم الراكع والساجد لا ينقض يسيره) زوال العقل على ضربين: نوم وغيره، فأما غير النوم وهو الجنون والإغماء والسكر ونحوه مما يزيل العقل فينقض الوضوء يسيره وكثيره إجماعا، ولأن في إيجاب الوضوء على النائم تنبيها على وجوبه بما هو آكد منه (الضرب الثاني) النوم وهو ناقض للوضوء في الجملة في قول عامة أهل العلم إلا ما حكي عن أبي
موسى الأشعري وأبي مجاز أنه لا ينقض وعن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ثم يصلي ولا يعيد الوضوء ولعلهم ذهبوا إلى أن النوم ليس بحدث في نفسه والحدث مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " العين؟؟ فمن نام فليتوضأ " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن(1/180)
ماجه وقول صفوان بن عسال لكن من غائط وبول ونوم حديث صحيح ولأن النوم مظنة الحدث فأقيم مقامه كالتقاء الختانين في وجوب الغسل أقيم مقام الإنزال إذا ثبت هذا فالنوم ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) نوم المضطجع فينقض يسيره وكثيره عند جميع القائلين بنقض الوضوء بالنوم (الثاني) نوم القاعد فإن كان كثيرا نقض رواية واحدة وان كان يسيراً لم ينقض وهذا قول مالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال قوم متى خالط النوم القلب نقض بكل حال، وهذا قول الحسن واسحاق وابي عبيد، وروي معنى ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وأنس وابن المنذر لعموم الأحاديث الدالة على أن النوم ينقض ولنا ما روى مسلم عن أنس قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤن وعنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤن رواه أبو داود ولأن النوم يكثر من منتظري الصلاة فعفي عنه لمشقة التحرز عنه، وقال الشافعي، لا ينقض وإن كثر إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض لحديثي أنس وبهما يتخصص عموم الحديثين الأولين ولأنه متحفظ عن خروج الحدث فلم ينقض كاليسير ولنا عموم الحديثين الأولين خصصناهما بحديث أنس وليس فيه بيان كثرة ولا قلة فحملناه على القليل لأنه اليقين وما زاد عليه محتمل لا يترك له العموم المتيقن ولأن نقض الوضوء بالنوم معلل بإفضائه إلى الحدث ومع الكثرة والغلبة لا يحس بما يخرج منه بخلاف اليسير، وبهذا فارق اليسير الكثير فلا يصح قياسا عليه.
(الثالث) ما عدا ذلك وهو نوم القائم والراكع والسجاد ففيه روايتان (إحداهما ينقض وهو قول
الشافعي لأنه لم يرد فيه نص ولا هو في معنى المنصوص لكون القاعد متحفظا متعمدا بمحل الحدث على الارض فهو أبعد من خروج الخارج بخلاف غيره (والثانية) حكمه حكم الجالس قياساً عليه ولأنه على(1/181)
حالة من أحوال الصلاة أشبه الجالس، والظاهر عن أحمد رحمه الله التسوية بين نوم القائم والجالس وهذا قول الحكم وسفيان وأصحاب الرأي، لما روى ابن عباس قال بت ليلة عند خالتي ميمونة فقلت لها إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فقام صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني في شقه الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني.
رواه مسلم ولأنهما يشتبهان في الانخفاض واجتماع المخرج وربما كان القائم أبعد من الحدث لكونه لو استثقل في النوم سقط فأما الراكع والساجد فالظاهر إلحاقهما بالمضطجع لأنه ينفرج محل الحدث فلا يتحفظ فهو كالمضطجع، ويحتمل التفرقة بين الراكع والساجد فيلحق الراكع بالقائم لكونه لا يستثقل في النوم إذ لو استثقل سقط، فالظاهر أنه يحس بما يخرج منه بخلاف الساجد فإنه يعتمد بأعضائه على الأرض ويستثقل في النوم فيشبه المضطجع فلا يحس بما يخرج وذكر ابن عقيل رواية عن أحمد أنه لا ينقض إلا نوم الساجد وحده (فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي فعنه لا ينقض يسيره كالقاعد الذي ليس بمستند، وعنه ينقض بكل حال وهو ظاهر المذهب قال القاضي متى نام مضطجعا أو متسندا أو متكئا إلى شئ متى أزيل عنه سقط نقض الوضوء قليله وكثيره لأنه معتمد على شئ فهو كالمضطجع، وعنه ما يدل على التفرقة بين المحتبي والمستند فإنه قال في رواية أبي داود المتساند كأنه أشد - يعني من المحتبي (قال شيخنا) والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير لأن دليل انتفاء النقض في القاعد لا تفريق فيه فيسوى بين أحواله (فصل) واختلف أصحابنا في حد اليسير من النوم الذي لا ينقض فقال القاضي ليس للقليل حد يرجع إليه فعلى هذا يرجع إلى العرف وقيل حد الكثير ما يتغير به النائم عن هيئته مثل أن يسقط على الأرض أو يرى حلما، قال شيخنا والصحيح انه لاحد له لأن التحديد إنما يعلم بالتوقيف ولا توقيف فمتى(1/182)
وجد ما يدل على الكثرة مثل سقوط المتمكن انتقض وضوؤه وإلا فلا، وإن شك في كثرته لم ينتقض لأن الأصل الطهارة فلا تزول عن اليقين بالشك (فصل) والنوم الغلبة على العقل فمن لم يغلب على عقله فلا وضوء عليه، وقال بعض أهل اللغة في قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم) السنة ابتداء النعاس في الرأس فإذا وصل الى القلب صار نوما قال الشاعر: وسنان أقصده النعاس فرنقت * في عينه سنة وليس بنائم ولأن الناقض زوال العقل فمتى كان العقل ثابتا وحسه غير زائل مثل من يسمع ما يقال عنده ويفهمه لم يوجد سبب النقض وإن شك في النوم أو خطر بباله شئ لا يدري أرؤيا أو حديث نفس فلا وضوء عليه (مسألة) (الرابع مس الذكر بيده ببطن كفه أو بظهره) اختلفت الرواية عن أحمد في مس الذكر على ثلاث روايات (إحداها) لا ينقض بحال روى ذلك عن علي وعمار وابن مسعود وحذيفة وعمران بن حصين وأبي الدرداء وهو قول ربيعة والثوري وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روى قيس بن طلق عن أبيه قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال مسست ذكري - أو - الرجل يمس ذكره في الصلاة عليه وضوء؟ قال " لا إنما هو بضعة منك " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ولأنه عضو فلم ينقض كسائر الأعضاء والرواية الثانية ينقض الوضوء بكل حال وهي ظاهر المذهب وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة وسليمان بن يسار والزهري والاوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك لما روت بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من مس ذكره فليتوضأ " وعن جابر مثل ذلك رواهما ابن ماجة قال الترمذي حديث بسرة حسن صحيح وقال البخاري أصح شئ في هذا الباب حديث بسرة وصححه الإمام أحمد، فأما حديث قيس فقال أبو زرعة وأبو حاتم قيس ممن لا تقوم بروايته حجة ووهناه ولم يثبتاه ثم إن حديثنا متأخر لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين وكان قدوم طلق علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يؤسسون المسجد فيكون حديثنا ناسخا له وقياس الذكر(1/183)
على سائر البدن لا يصح لأنه يتعلق به أحكام ينفرد بها من وجوب الغسل بإيلاجه والحد والمهر وغير ذلك والرواية الثالثة لا ينقض إلا أن يقصد مسه قال أحمد بن الحسين: قيل لأحمد الوضوء من مس
الذكر؟ فقال هكذا - وقبض على يده - يعني إذا قبض عليه وهو قول مكحول وقال طاوس وسعيد بن جبير وحميد الطويل: إن مسه يريد وضوءا وإلا فلا شئ عليه لأنه لمس فلا ينقض الوضوء لغير قصد كلمس النسا وسواء مسه ببطن كفه أو بظهره وهذا قول عطاء والاوزاعي، وقال مالك والشافعي واسحاق لا ينقض مسه بظاهر الكف وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه ليس بآلة للمس فأشبه مالو مسحه بفخذه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء " رواه الإمام أحمد والدارقطني وظاهر كفه من يده والإفضاء اللمس من غير حائل ولأنه جزء من يده أشبه باطن الكف.
وإنما ينتقض وضوؤه إذا لمسه من غير حائل لما ذكرنا، وذكر القاضي عن أحمد رواية أنه لا ينقض إلا مس الثقب الذي في رأس الذكر ولا ينقض لمس غيره.
قال والأول أصح لعموم الأحاديث الدالة على النقض، وذكر أبو الخطاب رواية أنه لا ينقض إلا لمس الحشفة خاصة والأول أصح لعموم النص (مسألة) قال (ولا ينقض مسه بذراعه) وعنه ينقض لأنه من يده وهو قول الأوزاعي والأول ظاهر المذهب لأن الحكم المعلق على مطلق اليد في الشرع إنما ينصرف إلى الكوع بدليل قطع السارق وغسل اليد من نوم الليل ولأنه ليس بآلة للمس أشبه العضد وقياسهم يبطل بالعضد فإنه لا خلاف بين العلماء فيه (فصل) ولا فرق بين ذكره وذكر غيره خلافا لداود قال لأن النص إنما ورد في ذكره ولنا أنه إذا نقض الوضوء مس ذكره مع كون الحاجة تدعو إلى مسه وهو جائز فلأن ينقض بمس ذكر غيره مع كونه معصية أولى، ولأن نصه على نقض الوضوء بمس ذكره مع أنه لم يهتك حرمة تنبيه على نقضه بمس ذكر غيره، ولأن في بعض ألفاظ خبر بسرة " من مس الذكر فليتوضأ " وحكم ذكر الكبير والصغير واحد وهو قول الشافعي، وقال الزهري والاوزاعي لا ينقض مس ذكر الصغير لأنه يجوز مسه والنظر إليه بخلاف الكبير ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم مس زبيبة الحسن ولم يتوضأ وذكره الآمدي رواية عن أحمد(1/184)
ولنا عموم الأحاديث وخبرهم ليس بثابت ثم ليس فيه أنه صلى ولم يتوضأ فيحتمل أنه لم يتوضأ في مجلسه ذلك وجواز مسه والنظر إليه يبطل بذكر نفسه وذكر الميت كذكر الحي لبقاء الاسم والحرمة وهو قول الشافعي وقال إسحاق لا وضوء عليه وهو قول بعض أصحابنا كالمرأة الميتة
(مسألة) (وفي مس الذكر المقطوع وجهان) (أحدهما) ينقض لبقاء اسم الذكر (والثاني) لا ينقض لذهاب الحرمة فهو كيد المرأة المقطوعة، ولو مس القلفة التي تقطع في الختان قبل قطعها انتقض وضوؤه لأنها من جملة الذكر وإن مسها بعد القطع فلا وضوء عليه لزوال الاسم والحرمة، وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه لأنه ليس بفرج (مسألة) (وإذا لمس قبل الخنثى المشكل وذكره انتقض وضوءه وإن مس أحدهما لم ينقض إلا أن يمس الرجل ذكره لشهوة) لمس الخنثى المشكل ينقسم أربعة اقسام (أحدها) أن يمس فرج نفسه فمتى لمس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه لجواز أن يكون خلقة زائدة وإن لمسهما جميعا انتقض وضوءه إن قلنا إن مس المرأة فرجها ينقض الوضوء لأن أحدهما فرج بيقين وإلا فلا (الثاني) أن يكون اللامس رجلا فإن مسهما جميعا لغير شهوة فهي كالتي قبلها، وإن مسهما لشهوة انتقض وضوؤه في ظاهر المذهب لأنه إن كان رجلا فقد مس ذكره، وإن كان أنثى فقد مسها لشهوة، وكذلك الحكم اذا لمس ذكره لشهوة لما ذكرنا.
فأما إن مس القبل وحده أو مس الذكر لغير شهوة لم ينتقض لجواز أن يكون خلقة زائدة إلا إذا قلنا أن الملامسة تنقض الوضوء بكل حال فإنه ينتقض بلمس الذكر وحده لأنه إن كان رجلا فقد مس ذكره وإن كانت أنثى فقد مسها (الثالث) أن يكون امرأة فإن مستهما جميعا انتقض وضوؤها إن قلنا إن مس فرج المرأة ينقض الوضوء وإلا فلا وإن مست أحدهما لغير شهوة لم ينتقض وضوؤها وكذلك إن مست الذكر لشهوة لجواز أن يكون خلقة زائدة من امرأة.
وإن مست الفرج لشهوة انتقض وضوؤها في ظاهر المذهب لأنه إن كان رجلا فقد مسته لشهوة وإن كانت أنثى فقد مست فرجها (الرابع) أن يكون اللامس خنثى مشكلا فإن مس أحدهما لم ينتقض سواء كان لشهوة أو لا.
وإن مسهما جميعا انتقض وضوؤه إذا قلنا إن مس الفرج ينقض الوضوء.
وإن مس أحد الخنثيين ذكر الآخر ومس الآخر فرجه وكان اللمس لشهوة انتقض وضوء أحدهما قطعا لأنهما إن كانا ذكرين فقد وجد بينهما(1/185)
لمس ذكر، وإن كانا أنثيين فقد وجد بينهما مس فرج امرأة وإن كانا ذكرا وأنثى فقد وجدت بينهما ملامسة لشهوة ولا يحكم بنقض وضوء واحد منهما لأنه متيقن الطهارة شاك في الحدث.
وإن كان لغير
شهوة لم ينقض لجواز أن يكون الممسوس ذكره امرأة والممسوس فرجه رجلا، وإن مس كل واحد منهما ذكر الآخر أو قبله لم ينتقض لاحتمال أن يكونا امرأتين في الأولى ورجلين في الثانية والله أعلم (مسألة) (وفي مس الدبر ومس المرأة فرجها روايتان) إحداهما ينقض الوضوء لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " من مس فرجه فليتوضأ " رواه ابن ماجه عن أم حبيبة.
قال أحمد وأبو زرعة حديث أم حبيبة صحيح وبه قال الشافعي في مس الدبر ولأنه أحد الفرجين أشبه الذكر (والثانية) لا ينقض قال الخلال العمل والأشيع في قوله أنه لا يتوضأ من مس الدبر وكذلك روى المروذي أنه قيل لاحمد في الجارية إذا مست فرجها عليها وضوء؟ قال لم أسمع في هذا بشئ لأن الحديث المشهور إنما هو في مس الذكر وهذا ليس في معناه لأنه لا يقصد مسه ولا يفضي إلى خروج خارج فلم ينقض كلمس الانثيين (مسألة) قال (وعنه لا ينقض مس الفرج بحال) لحديث قيس بن طلق وقياسا على سائر الأعضاء (فصل) ولا ينقض الوضوء بمس غير الفرجين من البدن في قول الأكثرين إلا أنه روي عن عروة الوضوء من مس الأنثيين وقال عكرمة من مس ما بين الفرجين فليتوضأ، وقول الجمهور أولى لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص ولا ينتقض وضوء الملموس فرجه أيضا لأن السنة إنما وردت في اللامس، ولا ينتقض بمس فرج البهيمة.
وقال الليث بن سعد عليه الوضوء، وما عليه الجمهور أولى لأنه ليس بمنصوص ولا هو في معناه (مسألة) (الخامس أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة، وعنه لا ينقض، وعنه ينقض لمسها بكل حال) اختلفت الرواية عن أحمد رضي الله عنه في الملامسة فروي عنه أنها تنقض الوضوء بكل حال وهو مذهب الشافعي.
ويروى إيجاب الوضوء من القبلة مطلقا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر والزهري وعطاء والشعبي والنخعي وسعيد بن عبد العزيز رواه الأثرم، وروى عن أحمد رواية ثانية أنه لا ينقض بحال يروي ذلك عن ابن عباس وهو قول طاوس والحسن ومسروق، وبه قال أبو حنيفة(1/186)
وصاحباه.
وقال قوم من قبل حلالا فلا وضوء عليه ومن قبل حراما فعليه الوضوء وهو قول عطاء.
فإن باشر لشهوة وليس بنيهما ثوب وانتشر فعليه الوضوء في قول أبي حنيفة ويعقوب، وقال محمد لا وضوء
عليه إلا أن يخرج منه شئ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عائشة وصلى ولم يتوضأ رواه أبو داود والنسائي من رواية التميمي وقالا لم يسمع من عائشة.
وقال النسائي ليس في هذا الباب شئ أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدمه وهو في المسجد وهما منصوبتان.
رواه مسلم وعنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي متفق عليه.
وللنسائي مسني برجله.
والآية أريد بها الجماع قاله ابن عباس ولأن المراد بالمس الجماع فكذلك اللمس ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين، والرواية الثالثة وهي طاهر المذهب أنه ينقض إذا كان لشهوة ولا ينقض لغيرها جمعا بين الآية والأخبار ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
متفق عليه والظاهر أنه لا يسلم من مسها.
ولأن اللمس ليس بحدث في نفسه وإنما هو داع إلى الحدث فاعتبرت الحالة التي يدعو فيها إلى الحدث وهي حالة الشهوة ولأنه لمس لغير شهوة فلم ينقض كلمس ذوات المحارم وهذا مذهب الشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والثوري واسحاق.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين الكبيرة والصغيرة وذوات المحارم وغيرهن، وقال الشافعي في أحد قوليه لا ينقض لمس ذات المحرم ولا الصغيرة لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج أشبه لمس الرجل ولنا عموم النص واللمس الناقض معتبر بالشهوة فمتى وجدت فلا فرق بين الجميع، فأما لمس المرأة الميتة ففيه وجهان (أحدهما) ينقض اختاره القاضي لعموم الآية وكما يجب الغسل بوطئها (والثاني) لا ينقض اختاره الشريف أبو جعفر وابن عقيل لأنها ليست محلاً للشهوة فهي كالرجل (فصل) ولا يختص اللمس الناقض باليد بل أي شيء منه لاقى شيئا من بشرتها مع الشهوة انتقض الوضوء به سواء كان عضوا أصليا أو زائدا.
وحكي عن الأوزاعي لا ينقض اللمس إلا بأحد أعضاء الوضوء.
والأول أولى لعموم النصوص والتخصيص بغير دليل تحكم فلا يصار إليه (فصل) فإن لمسها من وراء حائل لم ينتقض وضوؤه هذا قول أكثر أهل العلم وقال مالك والليث ينقض(1/187)
إذا كان ثوباً رقيقا وكذلك قال ربيعة إذا غمزها من وراء ثوب رقيق لشهوة وذلك لأن الشهوة موجودة
ولنا أنه لمس فلم ينقض من وراة حائل كلمس الذكر ولأنه لم يلمس جسم المرأة أشبه مالو لمس ثيابها لشهوة والشهوة لا توجب الوضوء بمجردها كما لو وجدت الشهوة بغير لمس (فصل) فإن لمست المرأة رجلا لشهوة انتقض وضوؤها في إحدى الروايتين وهو ظاهر قول الخرقي.
وقد سئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها قال ما سمعت فيه شيئا ولكن هي شقيقة الرجل يعجبني أن تتوضأ لأنها ملامسة تنقض الوضوء فاستوى فيها الرجل والمرأة كالجماع.
والرواية الثانية لا ينتقض وضوؤها.
وللشافعي قولان كالروايتين لأن النص إنما ورد في الرجال ولا يصح قياسها عليه لأن اللمس من الرجل مع الشهوة مظنة لخروج المذي الناقض فأقيم مقامه ولا يوجد ذلك في حق المرأة وإذا لم يكن نص ولا قياس فلا يثبت الحكم (مسألة) (ولا ينقض لمس الشعر والسن والظفر) وهذا ظاهر مذهب الشافعي وكذلك لمسها بشعره وسنه وظفره لأن ذلك مما لا يقع عليه الطلاق بإيقاعه عليه ولا الظهار فأشبه الثوب، ويتخرج أن ينقض لمس السن والشعر والظفر والأمرد إذا كان لشهوة ذكره أبو الخطاب لأن لمس المرأة إنما نقض لوجود الشهوة الداعية إلى خروج المذي، ولا ينقض لمس الأمرد ولا لمس الرجل ولا لمس المرأة المرأة لأنه ليس بداخل في الآية ولا في معناه لكونه ليس محلا لشهوة الآخر شرعا.
وقال القاضي في المجرد إذا لمس الرجل الرجل أو المرأة المرأة بشهوة انتقض وضوؤه في قياس المذهب.
والأول أولى لما ذكرنا ولا ينتقض الوضوء بلمس البهيمة لما ذكرنا.
ولا بمس خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا ولا امرأة ولا ينتقض وضوء الخنثى بمس امرأة ولا رجل لأنه متيقن بالطهارة شاك في الحدث، قال شيخنا ولا أعلم في هذا كله خلافا.
وإن مس عضو امرأة مقطوع لم ينتقض وضوؤه لأنه لا يقع عليه اسم المرأة ولا هو محل للشهوة (مسألة) وفي نقض وضوء الملموس روايتان (إحداهما) ينتقض لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين يستوي فيه اللامس والملموس كالجماع (والثانية) لا ينتقض لأن النص إنما ورد بالنقض في اللامس فاختص(1/188)
به كلمس الذكر ولأن الشهوة من اللامس أشد منها في الملموس فامتنع القياس وللشافعي قولان كهذين (مسألة) (السادس غسل الميت) وهو ناقض للوضوء في قول أكثر الأصحاب سواء كان
المغسول صغيراً أو كبيراً ذكرا أو انثى مسلماً أو كافراً وهو قول النخعي واسحاق لان ابن عمرو ابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء وعن أبي هريرة قال أقل ما فيه الوضوء ولا نعلم لهم مخالفاً في الصحابة فكان أجماعاً ولأن الغاسل لا يسلم من مس عورة الميت غالبا فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث وقال أبو الحسن التميمي لا ينقض وهو قول أكثر العلماء قال شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله لأنه لم يرد فيه نص صحيح ولا هو في معنى المنصوص عليه ولأنه غسل آدمي أشبه غسل الحي.
وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب فانه قال: أحب إلي أن يتوضأ وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الخبر الوارد فيه موقوفا على أبي هريرة فإذا لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة مع احتمال أن يكون مرفوعا فلأن لا يوجب الوضوء بقوله مع عدم هذا الاحتمال أولى ولأن الأصل عدم وجوبه فيبقى على الأصل (مسألة) (السابع أكل لحم الجزور) وجملة ذلك أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء سواء أكله عالما أو جاهلا نيئا أو مطبوخا في ظاهر المذهب، وهو قول جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وأبي خيثمة ويحيى بن يحيى وابن المنذر وأحد قولي الشافعي، قال الخطابي ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث.
وروي عن أبي عبد الله أنه قال إن كان لا يعلم فليس عليه وضوء وإن كان قد علم وسمع فعليه الوضوء واجب ليس هو كمن لا يعلم.
قال الخلال وعلى هذا استقر قول أبي عبد الله.
وقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي لا وضوء عليه بحال وحكاه ابن عقيل رواية عن أحمد لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الوضوء مما يخرج لا مما يدخل " وقال جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، رواه أبوداد ولأنه مأكول فلم ينقض كسائر المأكولات(1/189)
ولنا ما روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل انتوضأ من لحوم الابل؟ قال " نعم " قال أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال " لا " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي.
وروى جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أخرجه مسلم.
قال أحمد فيه حديثان صحيحان حديث البراء وجابر بن سمرة.
فأما حديث ابن عباس فإنما هو من قوله موقوف عليه ولو صح لوجب تقديم
حديثنا عليه لكونه أصح وأخص والخاص يقدم على العام، وحديث جابر لا يعارض حديثنا أيضا لصحته وخصوصه فإن قيل فحديث جابر متأخر فيكون ناسخا قلنا لا يصح أن يكون ناسخا لوجوه أربعة (أحدها) أن الأمر بالوضوء من لحوم الابل متأخر عن نسخ الوضوء مما ممست النار أو مقارن له بدليل أنه قرن الأمر بالوضوء من لحوم الابل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم وهي مما مست النار فأما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي أو بشئ قبله فإن كان حصل به كان الأمر بالوضوء من لحوم الابل مقارنا لنسخ الوضوء مما مست النار فلا يكون ناسخا إذ من شروط النسخ تأخر الناسخ وكذلك إن كان بما قبله لان الشئ لا ينسخ بما قبله (الثاني) أن النقض بلحوم الإبل يتناول ما مست النار وغيره ونسخ إحدى الجهات لا يثبت به نسخ الأخرى كما لو حرمت المرأة بالرضاع وبكونها ربيبة فنسح تحريم الرضاع لم يكن نسخا لتحريم الربيبة (الثالث) أن خبرهم عام وخبرنا خاص فالجمع بينهما ممكن يحمل خبرهم على ما سوى صورة التخصيص ومن شروط النسخ تعذر الجمع بين النصين (الرابع) إن خبرنا أصح من خبرهم وأخص والناسخ لابد وأن يكون مساويا للمنسوخ أو راجحا عليه، فإن قيل الأمر بالوضوء في خبركم يحتمل الاستحباب ويحتمل أنه أراد بالوضوء غسل اليد لأن إضافته إلى الطعام قرينة(1/190)
تدل على ذلك كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده وخص ذلك بلحم الإبل لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في غيره، قلنا أما الأول فمخالف للظاهر من وجوه (أحدها) إن مقتضى الأمر الوجوب (الثاني) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم هذا اللحم فأجاب بالأمر بالوضوء منه فلو حمل على غير الوجوب كان تلبيسا لا جوبا (الثالث) أنه صلى الله عليه وسلم قرنه بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم والمراد بالنهي ههنا نفي الإيجاب لا التحريم فتعين حمل الأمر على الإيجاب ليحصل الفرق وأما الثاني فلا يصح لوجوه أربعة (أحدها) أنه يلزم منه حمل الأمر على الاستحباب لكون غسل اليد بمفردها غير واجب وقد بينا فساده (الثاني) أن الوضوء في لسان الشارع إنما ينصرف إلى الموضوع الشرعي إذ الظاهر منه التكلم بموضوعاته (الثالث) أنه خرج جوابا للسؤال عن حكم الوضوء من لحومها، والصلاة في مباركها فلا يفهم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة ظاهرا (الرابع) أنه لو أراد
غسل اليد لما فرق بينه وبين لحم الغنم فإن غسل اليد منهما مستحب وما ذكروه من زيادة الزهومة ممنوع وإن ثبت فهو أمر يسير لا يقتضي التفريق وصرف اللفظ عن ظاهره إنما يكون بدليل قوي بقدر قوة الظواهر المتروكة وأقوى منها.
فأما قياسهم فهو طردي لا معنى فيه وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانثفاء المقتضى لا لكونه مأكولا ومن العجب أن مخالفينا في هذه المسألة أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الاصول، فأبو حنيفة أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها بحديث مرسل من مراسيل أبي العالية، ومالك والشافعي أوجباه بمس الذكر بحديث مختلف فيه معارض بمثله دون مس سائر الأعضاء وتركوا هذا الحديث الصحيح الذي لا معارض له مع بعده عن التأويل وقوة دلالته لقياس طردي لا معنى فيه (مسألة) (فإن شرب من لبنها فعلى روايتين) (إحداهما) ينقض الوضوء لما روى أسيد بن حضير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ألبان الابل فقل " توضؤا من ألبانها " وسئل عن ألبان الغنم فقال " لا تتوضؤا من ألبانها " رواه الإمام أحمد وابن ماجة، وروي عن عبد الله بن عمر نحوه (والثانية) لا وضوء فيه لأن الحديث الصحيح إنما ورد في(1/191)
اللحم، وحديث أسيد بن حضير في طريقه الحجاج بن أرطاة قال الامام أحمد والدارقطني لا يحتج به وحديث عبد الله بن عمر رواه ابن ماجه من رواية عطاء بن السائب وقد قيل عطاء اختلط في آخر عمره، قال أحمد: من سمع منه قديما فهو صحيح ومن سمع منه حديثا لم يكن بشئ، والحكم في اللحم غير معقول فيجب الاقتصار عليه (مسألة) (وإن أكل من كبدها أو طحالها فعلى وجهين) (أحدهما) لا ينقض لأن النص لم يتناوله (والثاني) ينقض لأنه من جملة الجزور، واللحم يعبر به عن جملة الحيوان فإن تحريم لحم الخنزير يتناول جملته كذلك ههنا، وحكم سائر أجزائه غير اللحم كالسنام والكرش والدهن والمرق والمصران والجلد حكم الكبد والطحال لما ذكرنا (فصل) ولا ينتقض الوضوء بما سوى لحم الجزور من الأطعمة وهذا قول الخلفاء الراشدين رضي
الله عنهم ولا نعلم اليوم فيه خلافا.
وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية في نقض الوضوء بأكل لحم الخنزير والصحيح عنه الأول، لأن الوجوب من الشرع ولم يرد وقد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى إيجاب الوضوء مما غيرت النار، منهم ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وغيرهم لما روى أبو هريرة وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " توضؤا مما مست النار " رواهما مسلم، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتوضأ من لحوم الغنم " وحديث جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، رواه أبو داود والنسائي وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل من كتف شاة وصلى ولم يتوضأ متفق عليه (مسألة) (الثامن الردة عن الإسلام) الردة عن الإسلام يبطل بها الوضوء والتيمم وهي الإتيان بما يخرج به عن الإسلام نطقا أو اعتقادا أو شكا فمتى عاود الإسلام لم يصل حتى يتوضأ وهذا قول الأوزاعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يبطل الوضوء بذلك وللشافعي في بطلان التيمم به قولان لقول الله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) ولأنها طهارة فلم تبطل بالردة كالطهارة الكبرى(1/192)
ولنا قول الله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) والطهارة عمل وحكمها باق فيجب أن يحبط بالآية، ولأنها عبادة يفسدها الحدث فبطلت بالشرك كالصلاة، ولأن الردة حدث لما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحدث حدثان حدث الفرج، وحدث اللسان أشد من حدث الفرج وفيهما الوضوء " رواه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب التحقيق وتكلم فيه وقال بقية يدلس، وما ذكروه تمسك بالمفهوم والمنطوق راجح عليه، وأما غسل الجنابة فقد زال حكمه وعندنا يجب الغسل على من أسلم أيضا.
(فصل) ولا ينقض الوضوء ما عدا الردة من الكذب والغيبة والرفث والقذف ونحوها نص عليه أحمد، قال إبن المنذر أجمع من نحفظ قوله من علماء الأمصار على أن القذف وقول الزور والكذب والغيبة لا يوجب طهارة ولا ينقض وضوءا وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء
من الكلام الخبيث وذلك استحباب عندنا ممن أمر به، ولا نعلم حجة توجب وضوءا في شئ من الكلام وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من حلف باللات فليقل لا إله إلا الله " ولم يأمر في ذلك بوضوء رواه البخاري (فصل) والقهقهة لا تنقض الوضوء بحال روى ذلك عن عروة وعطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وذهب الثوري والنخعي والحسن وأصحاب الرأي إلى أنها تبطل الوضوء داخل الصلاة دون خارجها لما روى أسامة عن أبيه قال: بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل(1/193)
رجل ضرير البصر فتردى في حفرة فضحكنا منه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء كاملا وإعادة الصلاة من أولها.
رواه الدارقطني من طرق كثيرة وضعفها وقال إنما روى هذا الحديث عن أبي العالية مرسلا، وقال نحو ذلك الإمام أحمد وعبد الرحمن بن مهدي ولنا أنه معنى لا يبطل الوضوء خارج الصلاة فلم يبطله داخلها كالكلام، ولأنه لا نص فيه ولا في شئ يقاس عليه وحديثهم قد ذكرنا الكلام عليه، قال ابن سيرين لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا، والقهقهة أن يضحك حتى يتحصل من ضحكه حرفان ذكره ابن عقيل (مسألة) ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو تيقن الحدث وشك في الطهارة بني على اليقين أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث يلغي الشك ويبني على اليقين لا نعلم في ذلك خلافا فإن تيقن أنه توضأ وشك هل أحدث أو لا بنى على أنه متطهر، وبهذا قال عامة أهل العلم، وقال الحسن إن شك وهو في الصلاة مضى فيها وإن كان قبل الدخول فيها توضأ.
وقال مالك إذا شك في الحدث إن كان يلحقه كثيرا فهو على وضوء وإن كان لا يلحقه كثيرا توضأ لا يدخل في الصلاة مع الشك ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشي فقال " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحا " متفق عليه، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أوجر أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لم يخرج فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " رواه مسلم ولأنه إذا شك تعارض
عنده الأمران فيجب سقوطهما كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى اليقين.
ولا فرق بين أن يغلب على ظنه أحدهما أو يتساوى الأمران لأن غلبة الظن إذا لم تكن مضبوطة بضابط شرعي لم يلتفت إليها كما لا يلتفت الحاكم إلى قول أحد المتداعيين اذا غلب على ظنه صدقه بغير دليل (مسألة) (فإن تيقنهما وشك في السابق منهما نظر في حالة قبلهما فإن كان متطهرا فهو محدث وإن كان محدثا فهو متطهر) مثاله أن يتيقن أنه كان في وقت الظهر متطهرا مرة ومحدثا أخرى ولا يعلم أيهما كان قبل الآخر فإنه ينظر في حاله قبل الزوال، فإن كان متطهرا فهو الآن محدث لأنه تيقن زوال تلك الطهارة بحدث ولم يتيقن زوال ذلك الحدث بطهارة أخرى لاحتمال أن تكون الطهارة التي(1/194)
يتيقنها بعد الزوال هي التي كانت قبله فلم يزل يقين الحدث بالشك.
وإن كان محدثا قبل الزوال فهو الآن متطهر لما ذكرنا في التي قبلها (فصل) فإن تيقن أنه نقض طهارته وتوضأ عن حدث في وقت واحد وشك في السابق منهما نظر في حالة قبلهما فإن كان متطهرا فهو الآن متطهر لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة ثم توضأ إذ لا يمكن أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة.
ونقض هذه الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك، وإن كان محدثا فهو الآن محدث لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى طهارة ثم أحدث منها ولم يتيقن بعد الحدث الثاني طهارة والله أعلم فهذه جميع نواقض الطهارة ولا ينتقض بغيرها في قول أكثر العلماء الا أنه قد حكي عن مجاهد والحكم وحماد في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الأبط الوضوء وقول جمهور العلماء بخلافهم وهو أولى ولا نعلم لهم فيما يقولون حجة والله أعلم (مسألة) قال (ومن أحدث حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف) أما الصلاة فلقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ " متفق عليه والطواف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الطواف بالبيت صلاة ألا أن الله أباح فيه الكلام " رواه الشافعي في مسنده، ومس المصحف روي هذا عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس وهو قول مالك وأصحاب الرأي، وقال داود يباح
مسه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى قيصر آية من القرآن.
وأباح الحكم وحماد مسه بظاهر الكف لأن آلة اللمس باطن اليد فينصرف إليه النهي دون غيره ولنا قوله تعالى (لا يمسه الا المطهرون) وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزام " أن لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر " رواه الأثرم، فأما الآية التي كتاب بها النبي صلى الله عليه وسلم فإنما قصد بها المراسلة والآية في الرسالة أو في كتاب فقه أو نحوه لا تمنع مسه ولا يصير بها الكتاب مصحفا.
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز مسه بشئ من جسده قياسا على اليد، قولهم إن المس يخص باطن اليد ممنوع بل كل شئ لاقى شيئا فقد مسه (فصل) ويجوز حمله بعلاقته وهو قول أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن وعطاء والشعبي وحماد ومنع منه الأوزاعي ومالك والشافعي تعظيما للقرآن ولأنه مكلف محدث قاصد لحمل المصحف فهو كما لو حمله مع مسه(1/195)
ولنا أنه غير ماس فلم يمنع كما لو حمله في رحله ولأن النهي إنما تناول المس والحمل ليس بمس وقياسهم لا يصح لأن العلة في الأصل مسه وهو غير موجود في الفرع والحمل لا أثر له فلا يصح التعليل به وعلى هذا لو حمله بحائل بينه وبينه مما لا يتبع في البيع جاز وعندهم لا يجوز.
ويجوز تقليبه بعود ومسه به وكتب المصحف بيده من غير أن يمسه، وذكر ابن عقيل في ذلك كله وفي حمله بعلاقته روايتين وفي مسه بكمه روايتان ووجههما ما تقدم والصحيح في ذلك كله الجواز قاله شيخنا لأن النهي إنما تناول مسه وهذا ليس بمس (فصل) ويجوز مس كتب الفقه والتفسير والرسائل وإن كان فيها آيات من القرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر كتابا فيه آية، ولأنها لا يقع عليها اسم المصحف ولا يثبت لها حرمته، وكذلك إن مس ثوبا مطرزا بآية من القرآن، وفي مس الصبيان ألواحهم التي فيها القرآن وجهان (أحدهما) الجواز لأنه موضع حاجة فلو اشترطنا الطهارة أدى الى تنفيرهم عن حفظه (والثاني) المنع لعموم النص، وفي الدراهم المكتوب عليها القرآن وجهان (أحدهما) المنع وهو مذهب أبي حنيفة لأن القرآن مكتوب عليها أشبهت الورق (والثاني) الجواز لأنه لا يقع عليها اسم المصحف أشبهت كتب الفقه
ولأن في الاحتراز منها مشقة أشبهت ألواح الصبيان، ومن كان متطهرا وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضو الطاهر جاز لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث، وإن احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء تيمم ومسه لأنه يقوم مقام الماء، ولو غسل المحدث بعض أعضاء الوضوء لم يجز له مسه به قبل إتمام وضوئه لأنه لا يكون متطهرا إلا بغسل الجميع (فصل) ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم "(1/196)
باب الغسل (وموجباته سبعة) - غسل الجنابة بفتح الغين ذكره ابن بري والغسل بالضم الماء الذي يغتسل به قاله ابن السكيت والغسل ما غسل به الرأس (أحدها) خروج المني الدافق بلذة وهو موجب للغسل من الرجل والمرأة في اليقظة والنوم، وهذا قول عامة الفقهاء حكاه الترمذي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لما روى أن أم سليم قالت يا رسول الله أن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم إذا رأت الماء " متفق عليه، وماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر لأن في حديث أم سليم في بعض رواياته فقالت وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " نعم فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه " رواه مسلم (مسألة) (فإن خرج لغير ذلك لم يوجب) يعني إذا خرج شبيه المني لمرض أو برد من غير شهوة وهذا قول أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي يجب ويحتمله كلام الخرقي، وذلك لقوله عليه السلام " نعم إذا رأت الماء " وقوله " الماء من الماء " ولأنه مني خارج فأوجب الغسل كما لو خرج حال الإغماء.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض وقال لعلي " إذا فضخت المني(1/197)
فاغتسل " رواه أبو داود - والفضخ خروجه على وجه الشدة، وقال إبراهيم الحربي بالعجلة وقوله عليه
السلام " إذا رأت الماء " يعني في الاحتلام وإنما يخرج في الاحتلام لشهوة والحديث الآخر منسوخ ويمكن منع كون هذا منيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المني بصفة غير موجودة في هذا (فصل) (فإن رأى أنه قد احتلم ولم ير بللا فلا غسل عليه) قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " نعم إذا رأت الماء " يدل على أنه لم يجب إذا لم تره، وروت عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولم يجد البلل قال " لا غسل عليه " قالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ " نعم إنما النساء شقائق الرجال " رواه الإمام أحمد وأبو داود وذكر ابن أبي موسى فيمن احتلم ووجد لذة الإنزال ولم ير بللا رواية في وجوب الغسل عليه والأول أصح لما ذكرنا من النص والإجماع، لكن إن مشى فخرج منه المني أو خرج بعد استيقاظه فعليه الغسل نص عليه أحمد لأن الظاهر أنه كان انتقل وتخلف خروجه إلى ما بعد الاستيقاظ وإن انتبه فرأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل.
قال شيخنا: لا نعلم فيه خلافاً، وروي ذلك عن عمر وعثمان وبه قال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي والحسن ومالك والشافعي واسحاق لأن الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه وذلك لما ذكرنا من حديث عائشة.(1/198)
(فصل) فإن انتبه من النوم فوجد بللا لا يعلم هل هو مني أو غيره فقال أحمد إذا وجد بلة غتسل إلا أن يكون به أبردة أو لاعب أهله فإنه ربما خرج منه المذي فارجو أو لا يكون به بأس وكذلك إن كان انتشر من أول الليل بتذكر أو رؤية وهو قول الحسن لأن الظاهر أنه مذي لوجود سببه فلا يجب الغسل بالاحتمال.
وإن لم يكن وجد ذلك فعليه الغسل لحديث عائشة.
وقد توقف أحمد في هذه المسألة، وقال مجاهد وقتادة لا غسل عليه حتى يوقن بالماء الدافق وهذا هو القياس والأولى الاغتسال لموافقة الخبر وعملا بالاحتياط.
(فصل) فإن رأى في ثوبه منيا وكان لا ينام فيه غيره وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثنتي عشرة سنة فعليه الغسل وإلا فلا لأن عمر وعثمان اغتسلا حين رأياه في ثوبهما ولأن الظاهر أنه منه ويلزمه إعادة
الصلاة من أحدث نومة نامها فيه الا إن يرى أمارة تدل على أنه قبلها فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها فأما إن كان ينام فيه هو وغيره ممن يحتلم فلا غسل على واحد منهما لأن كل واحد منهما مفرد شاك فيما يوجب الغسل والأصل عدم وجوبه، وليس لأحدهما الائتمام بالآخر لأن أحدهما جنب يقينا (فصل) فإن وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج أو وطئها في الفرج فاغتسلت ثم خرج ماؤه من فرجها فلا غسل عليها وبه قال قتادة والاوزاعي واسحاق، وقال الحسن تغتسل لأنه مني خارج فأشبه ماءها والأول أولى لأنه ليس منيها أشبه غير المني ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص (مسألة) فإن أحس بانتقاله فأمسك ذكره فلم يخرج فعلى روايتين (إحداهما) يجب عليه الغسل(1/199)
وهو المشهور عن أحمد، وأنكر أن يكون الماء يرجع اختاره ابن عقيل والقاضي ولم يذكر فيه خلافا قال لأن الجنابة تباعد الماء عن محله وقد وجد فتكون الجنابة موجودة فيجب بها الغسل.
ولأن الغسل تراعى فيه الشهوة وقد حصلت بانتقاله أشبه مالو ظهر.
والرواية (الثانية) لا غسل عليه وهو ظاهر قول الخرقي وقول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على رؤية الماء بقوله " إذا رأت الماء " وقوله " إذا فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه وما ذكروه من الاشتقاق ممنوع لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء ولا يحصل إلا بخروجه أو لمجانبته الصلاة أو المسجد وإذا سمي بذلك مع الخروج لم يلزم وجود التسمية من غير خروج فإن الاشتقاق لا يلزم منه الإطراد ومراعاة الشهوة في الحكم لا يلزم منه استقلالها به فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراعى له ولا يستقل بالحكم ثم يبطل ذلك بما لو وجدت الشهوة من غير انتقال فإنها لا تستقل بالحكم وكلام أحمد إنما يدل على أن الماء إذا انتقل لزم منه الخروج وإنما يتأخر.
وكذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه (مسألة) فإن خرج بعد الغسل وقلنا لا يجب الغسل بالانتقال لزمه الغسل لأنه مني خرج بسبب الشهوة أوجب الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا فضخت الماء فاغتسل " ولحديث أم سليم وكما لو خرج حال انتقاله وقد قال أحمد في الرجل يجامع ولم ينزل فيغتسل ثم يخرج منه المني عليه الغسل(1/200)
ولأنه لو لم يجب الغسل على هذه الرواية أفضى إلى نفي الوجوب عنه بالكلية مع انتقال المني بشهوة وخروجه.
وإن قلنا يجب الغسل بالانتقال لم يجب بالخروج لأنه تعلق بانتقاله وقد اغتسل له فلم يجب له غسل ثان كبقية المني إذا خرجت بعد الغسل.
وهكذا الحكم في بقية المني إذا خرج بعد الغسل هذا هو المشهور عن أحمد.
قال الخلال تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء بال أو لم يبل روى ذلك عن علي وابن عباس وعطاء والزهري ومالك والليث والثوري ولأنه مني خرج على غير وجه الدفق واللذة أشبه الخارج في المرض ولأنه جنابة واحدة فلم يجب به غسلان كما لو خرج دفعة واحدة، وفيه رواية (ثانية) أنه يجب بكل حال وهو مذهب الشافعي لأن الاعتبار بخروجه كسائر الأحداث.
قال شيخنا وهذا هو الصحيح لأن الخروج يصلح موجبا للغسل - قولهم إنه جنابة واحدة فلم يجب به غسلان يبطل بما إذا جامع فلم ينزل فاغتسل ثم أنزل فإن أحمد قد نص على وجوب الغسل عليه بالإنزال مع وجوبه بالتقاء الختانين.
واختار القاضي الرواية الأولى وحمل كلام أحمد في هذه المسألة على أن تكون قارنته شهوة حال خروجه قال فإن لم تقارنه شهوة فهو كبقية المني إذا خرجت، وفيه رواية ثالثة أنه إن خرج قبل البول اغتسل وإن خرج بعده لم يغتسل وهذا قول الأوزاعي وأبي حنيفة ونقل عن الحسن لأنه قبل البول بقية ما خرج بالدفق والشهوة فأوجب الغسل كالأول وبعد(1/201)
البول لا يعلم أنه بقية الأول لأنه لو كان بقية الأول لما تخلف بعد البول وقد خرج بغير دفق وشهوة وذكر القاضي في هاتين المسئلتين أنه إن خرج بعد البول لم يجب الغسل رواية واحدة وان خرج قبله فعلى روايتين (مسألة) (الثاني: التقاء الختانين وهو تغييب الحشفة في الفرج قبلاً كان أو دبراً من آدمي أو بهيمة حي أو ميت) معنى التقاء الختانين تغييب الحشفة في الفرج كما ذكر سواء كانا مختتنين أو لا.
وسواء مس ختانه ختانها أو لا فهو موجب للغسل، ولو مس الختان الختان من غير إيلاج لم يجب الغسل إجماعا، واتفق العلماء على وجوب الغسل في هذه المسألة وقال داود لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم " الماء من الماء " روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة وروي في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رخصة
أرخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالغسل فروي عن أبي بن كعب قال إن الفتيا التي كانوا يقولون ان الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها في أول الإسلام.
ثم أمر بالاغتسال بعدها رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل متفق عليه زاد مسلم " وإن لم ينزل " وحديثهم منسوخ بحديث أبي بن كعب (فصل) ويجب الغسل على كل واطئ وموطوء إذا كان من أهل الغسل سواء كان في الفرج قبلا أو دبراً من آدمي أو بهيمة حي أو ميت طائعا أو مكرها نائما أو يقظان، وقال أبو حنيفة لا يجب الغسل بوطئ الميتة ولا البهيمة لأنه ليس بمقصود ولأنه ليس بمنصوص ولا في معناه(1/202)
ولنا أنه ايلاج في فرج فوجب به الغسل كوطئ الآدمية في حياتها ووطئ الآدمية داخل في عموم الأحاديث وما ذكروه يبطل بالعجوز والشوهاء (فصل) فإن أولج بعض الحشفة أو وطئ دون الفرج ولم ينزل فلا غسل عليه لأنه لم يوجد التقاء الختانين ولا ما في معناه.
وإن انقطعت الحشفة فأولج الباقي من ذكره وكان بقدر الحشفة وجب الغسل وتعلقت به أحكام الوطئ من المهر وغيره وإن كان أقل من ذلك لم يجب شئ (فصل) فإن أولج في قبل خنثى مشكل أو أولج الخنثى ذكره في فرج امرأة أو وطئ أحدهما أو كل واحد منهما الآخر لم يجب الغسل على واحد منهما لاحتمال أن يكون خلقة زائدة.
فإن أنزل الواطئ أو أنزل الموطوء من قبله فعلى من أنزل الغسل.
ويثبت لمن أنزل من ذكره حكم الرجال ولمن أنزل من فرجه حكم النساء لأن الله تعالى أجرى العادة بذلك في حق الرجال والنساء، وذكر القاضي في موضع أنه لا يحكم له بالذكورية بالإنزال من ذكره ولا بالأنوثية بالحيض من فرجه ولا بالبلوغ بهذا ولنا أنه أمر خص الله تعالى به أحد الصنفين فكان دليلا عليه كالبول من ذكره أو من قبله ولأنه أنزل الماء الدافق لشهوة فوجب الغسل لقوله عليه السلام " الماء من الماء " (فصل) فإن كان الواطئ أو الموطوءة صغيرا فقال أحمد يجب عليهما الغسل.
وقال إذا أتى على
الصبية تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل.
وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع المرأة يكون عليهما الغسل؟ قال نعم.
قيل له أنزل أو لم ينزل؟ قال نعم.
وقال ترى عائشة حيث كان يطؤها النبي(1/203)
صلى الله عليه وسلم لم تكن تغتسل ويروى عنها " إذا التقى الختانان وجب الغسل " وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور لأن الصغيرة لا يتعلق بها المأثم ولا هو من أهل التكليف ولا تجب عليها الصلاة التي تجب لها الطهارة فأشبهت الحائض (قال شيخنا) ولا يصح حمل كلام أحمد على الاستحباب لتصريحه بالوجوب وذمه قول أصحاب الرأي بقوله هو قول سوء واحتج بفعل عائشة وروايتها للحديث العام في حق الصغير والكبير ولأنها أجابت بفعلها وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بقولها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا.
فكيف تكون خارجة منه وليس معنى وجوب الغسل في حق الصغير التأثيم بتركه بل معناه أنه شرط لصحة الصلاة والطواف وإباحة قراءة القرآن وإنما يأثم البالغ بتأخيره في موضع يتأخر الواجب بتركه ولذلك لو أخره في غير وقت الصلاة لم يأثم والصبي لا صلاة عليه فلم يأثم بالتأخير وبقي في حقه شرطا كما في حق الكبير فإذا بلغ كان حكم الحدث في حقه باقيا كالحدث الأصغر ينقض الطهارة في حق الصغير والكبير (مسألة) (الثالث: إسلام الكافر أصلياً كان أو مرتدا وقال أبو بكر لا غسل عليه) وجملته أن الكافر إذا أسلم وجب عليه الغسل أصلياً كان أو مرتدا سواء اغتسل قبل إسلامه أو لا وجد منه في زمن الكفر ما يوجب الغسل أو لم يوجد وهو قول مالك وأبي ثور وابن المنذر، وقال أبو بكر يستحب ولا يجب إلا أن يكون قد وجدت منه جنابة زمن كفره فعليه الغسل إذا أسلم وإن اغتسل قبل الإسلام وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب عليه الغسل بحال لأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا(1/204)
فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل نقلا متواترا أو ظاهرا.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر له الغسل ولو كان واجباً لأمرهم به لأنه أول واجبات الإسلام ولنا ما روى قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يغتسل بماء وسدر.
رواه الإمام أحمد
وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، والأمر للوجوب وما ذكروه من قلة النقل فلا يصح ممن أوجب الغسل على من أسلم بعد الجنابة في كفره لأن الظاهر أن البالغ لا يسلم منها على أن الخبر إذا صح كان حجة من غير إعتبار شرط آخر، وقد روي أن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ حين أرادا الإسلام سألا مصعب بن عمير كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال نغتسل ونشهد شهادة الحق.
وهذا يدل على أنه كان مستفيضا ولأن الكافر لا يسلم غالبا من جنابة تلحقه ونجاسة تصيبه وهو لا يصح غسله فأقيمت المظنة مقام حقيقة الحدث كما أقيم النوم مقام الحدث (فصل) فإن أجنب الكافر ثم أسلم لم يلزمه غسل الجنابة سواء اغتسل في كفره أو لم يغتسل وهذا قول من أوجب غسل الإسلام وقول أبي حنيفة، وقال الشافعي عليه الغسل وهو قول أبي بكر لأن عدم التكليف لا يمنع وجوب الغسل كالصبي والمجنون واغتساله في كفره لا يرفع حدثه قياسا على الحدث الأصغر، وحكي عن أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي أنه يرتفع حدثه لأنه أصح(1/205)
نية من الصبي ولا يصح لأن الطهارة عبادة محضة فلم تصح من الكافر كالصلاة، ووجه الأول أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا ممن أسلم بغسل الجنابة مع كثرة من أسلم من الرجال والنساء البالغين المتزوجين ولأن المظنة أقيمت مقام حقيقة الحدث فسقط حكم الحدث كالسفر مع المشقة.
ويستحب أن يغتسل بماء وسدر كما في حديث قيس.
ويستحب إزالة شعره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم " ألق عنك شعر الكفر واختتن " رواه أبو داود (مسألة) (الرابع) الموت (الخامس) الحيض (السادس) النفاس.
وسيذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
(مسألة) قال (وفي الولادة وجهان) يعني إذا عريت عن الدم (أحدهما) يجب الغسل لأنها مظنة النفاس الموجب فأقيمت مقامه كالتقاء الختانين ولأنه يحصل بها براءة الرحم أشبهت الحيض ولأصحاب الشافعي فيها وجهان، و (الثاني) لا يجب وهو ظاهر قول الخرقي لأن الوجوب من الشرع ولم يرد بالغسل ولا هو في منصوص.
قولهم إن ذلك مظنة (قلنا) إنما يعلم جعلها مظنة بنص أو إجماع
ولم يوجد واحد منهما والقياس الآخر مجرد طرد لا معنى تحته ثم قد اختلفا في كثير من الأحكام فليس تشبيهه في هذا الحكم أولى من مخالفته في غيره وهذا الوجه أولى (فصل) فإن كان على الحائض جنابة فليس عليها أن تغتسل حتى ينقطع حيضها في المنصوص وهو قول إسحاق لأن الغسل لا يفيد شيئاً من الأحكام وعنه عليها الغسل قبل الطهر ذكرها ابن أبي(1/206)
موسى والصحيح الأول لما ذكرناه فإن اغتسلت للجنابة في زمن حيضها صح غسلها وزال حكم الجنابة وبقي حكم الحيض لا يزول حتى ينقطع الدم نص عليه أحمد قال ولا أعلم أحداً قال لا تغتسل الاعطاء ثم رجع عنه وهذا لأن بقاء أحد الحدثين لا يمنع ارتفاع الآخر كما لو اغتسل المحدث الحدث الأصغر (مسألة) قال (ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة آية فصاعدا وفي بعض آية روايتان) رويت الكراهة لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري والشافعي وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول (سبحان الذي سخر لنا هذا * وقل رب أنزلني منزلا مباركا) وقال ابن عباس يقرأ ورده وقال سعيد بن المسيب يقرأ القرآن أليس هو في جوفه؟ وحكي عن مالك جواز القراءة للحائض دون الجنب لأن أيامها تطول فلو منعناها من القرآن نسيت ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه أوقال يحجزه عن قراءة القرآن شئ ليس الجنابة.
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي بمعناه وقال حسن صحيح.
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقرأ الحيض ولا النفاس شيئا من القرآن " رواه الدارقطني (فصل) ويحرم عليه قراءة آية فصاعدا لما ذكرنا، فأما بعض الآية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر فإن لم يقصد به القرآن فهو جائز فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى ولأنهم يحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم وقد روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه رواه مسلم.
وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرأه يتميز به القرآن عن غيره روايتان أظهرهما أنه لا يجوز لعموم النهي ولما روي أن علياً رضي الله عنه سئل(1/207)
عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال لا ولا حرفا وهذا مذهب الشافعي ولأنه قرآن فمنع منه كالآية و (والثانية) لا يمنع وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة أشبه الذكر ولأنه يجوز إذا لم يقصد به القرآن فكذلك إذا قصد (مسألة) (ويجوز له العبور في المسجد ويحرم عليه اللبث فيه الا إن يتوضأ) يحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " روه أبو داود فإن خاف على نفسه أو ماله أو لم يمكنه الخروج أو الغسل والوضوء تيمم وأقام في المسجد لأنه روي عن علي وابن عباس في قوله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل) يعني مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون، وقال بعض أصحابنا يلبث بغير تيمم لأنه لا يرفع الحدث وهو غير صحيح لمخالفته قول الصحابة ولأنه أمر تشترط له الطهارة فوجب له التيمم عند العجز عنه كسائر ما تشترط له الطهارة ويباح له العبور في المسجد للآية وإنما يباح العبور للحاجة من أخذ شئ أو تركه في المسجد أو كون الطريق فيه فأما لغير ذلك فلا، وممن رويت عنه الرخصة في العبور ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن ومالك والشافعي، وقال الثوري واسحاق لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدا فيتيمم وهو قول أصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود ولنا قول الله تعالى (إلا عابري سبيل) والاستثناء من النهي إباحة.
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ناوليني الخمرة من المسجد - قالت إني حائض قال - إن حيضتك ليست في يدك " رواه مسلم(1/208)
وعن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب.
رواه ابن المنذر وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا، فإن توضأ الجنب فله اللبث في المسجد عند أصحابنا وهو قول إسحاق، وقال الأكثرون لا يجوز للآية والخبر، ووجه الأول ما روى زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث وهذا إشارة إلى جميعهم فنخص عموم الحديث، وعن عطاء بن يسار
قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضوء وضوء الصلاة.
رواه سعيد بن منصور والأثرم، وحكم الحائض إذا انقطع حيضها حكم الجنب، فأما في حال حيضها فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح (فصل) فأما المستحاضة ومن به سلس البول فلهم العبور في المسجد واللبث فيه إذا أمنوا تلويثه لما روت عائشة أن امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفت معه وهي متسحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي.
رواه البخاري، فأما إن خاف تلويث المسجد أو خشيت الحائض ذلك بالعبور فيه حرم عليهما لأن المسجد يصان عن هذا كما يصان عن البول فيه (فصل) والأغسال المستحبة ثلاثة عشر غسلا (أحدها) غسل الجمعة وهو مستحب بغير خلاف وفيه آثار كثيرة صحيحة منها ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أتى منكم الجمعة فليغتسل "(1/209)
متفق عليه وروى سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ويصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " رواه البخاري وليس ذلك بواجب في قول أكثر أهل العلم وقد قيل إنه إجماع حكاه ابن عبد البر وسيذكر ذلك في موضعه بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى (الثاني) غسل العيدين مستحب لما روى ابن عباس والفاكه بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى رواه ابن ماجه (الثالث) الاستسقاء لأنها عبادة يجتمع لها الناس فاستحب لها الغسل كالجمعة (الرابع) الكسوف لأنه كالاستسقاء (الخامس) الغسل من غسل الميت وهو مستحب لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ " قال الترمذي هذا حديث حسن وليس بواجب، يروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وروي عن علي وأبي هريرة أنهما قالا من غسل ميتا فليغتسل، وبه قال سعيد
ابن المسيب وابن سيرين والزهري لما ذكرنا من الحديث وذكر أصحابنا في وجوب الغسل من غسل الميت الكافر روايتين (إحداهما) لا يجب كالمسلم (والثانية) يجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم(1/210)
أمر عليا أن يغتسل حين غسل أباه ولنا قول صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة حديث حسن ولأنه غسل آدمي فلم يوجب الغسل كغسل الحي وحديثهم موقوف على أبي هريرة قاله أحمد، وقال ابن المنذر: ليس في هذا حديث يثبت ولذلك لم يعمل به في وجوب الوضوء على حامله لا نعلم به قائلاً، وأما حديث علي فقال أبو إسحاق الجوزجاني ليس فيه أنه غسل أبا طالب إنما قال له النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " قال فأتيته فأخبرته فأمرني فاغتسلت، وذكر بعض أصحابنا رواية في وجوب الغسل من غسل الحي الكافر قياسا على الميت، والصحيح أنه لا يجب لأن الوجوب من الشرع ولم يرد به وقياسه على الميت لا يصح لأن المسلم الميت يجب من غسله الوضوء بخلاف الحي وهذا يدل على افتراق حال الميت والحي ولا نعلم احدا قال به من العلماء (السادس) الغسل من الإغماء والجنون إذا أفاقا من غير احتلام مستحب لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل للإغماء متفق عليه ولأنه لا يؤمن أن يكون قد احتلم ولم يشعر والجنون في معناه بل أولى لأن مدته تطول فيكون وجود الاحتلام فيه أكثر ولا يجب الغسل لذلك حكاه ابن المنذر إجماعا وذكر أبو الخطاب فيه روايتين (إحداهما) يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله (والثانية) لا يجب وهي أصح لأن زوال العقل بنفسه ليس موجبا للغسل والإنزال مشكوك فيه فلا يزول عن(1/211)
اليقين بالشك فإن تيقن منهما الإنزال فعليهما الغسل لأنه من جملة الواجبات (السابع) غسل المستحاضة لكل صلاة مستحب.
لما روى أبو داود أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة وقد ذهب بعض أهل
العلم إلى وجوبه لما ذكرنا من الحديث وسنذكره في موضعه إن شاء الله، وذكر ابن أبي موسى أن انقطاع دم الاستحاضة يوجب الغسل.
(الثامن) الغسل للإحرام وهو مستحب لما روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل، رواه الترمذي، وقال حديث حسن (التاسع) دخول مكة (العاشر) الوقوف بعرفة (الحادي عشر) المبيت بمزدلفة (الثاني عشر) رمي الجمار (الثالث عشر) الطواف وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله وروي الغسل للوقوف بعرفة عن علي وعبد الله بن مسعود واستحبه الشافعي، وروي عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية عرفة رواه مالك في الموطأ ولانها انساك تجتمع لها الناس فاستحب لها الغسل كالإحرام ودخول مكة والله أعلم.
(فصل) ولا يستحب الغسل من الحجامة وذكر ابن عقيل في استحبابه روايتين (إحداهما) يستحب(1/212)
لأنه يروي عن علي وابن عباس ومجاهد انهم كانوا يفعلون ذلك (والثانية) لا يستحب لأنه دم خارج أشبه الرعاف والله أعلم (فصل في صفة الغسل) وهو ضربان: كامل ومجزئ فالكامل يأتي فيه بعشرة أشياء: النية والتسمية وغسل يديه ثلاثا وغسل ما به من أذى وقد ذكرنا الدليل على ذلك والوضوء ويحثي على رأسه ثلاثا يروي بها أصول الشعر ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثا ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيديه وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه.
ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه، ووجه ذلك ما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثا وتوضأ وضوءه للصلاة ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده، متفق عليه.
وقالت ميمونة: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأفرغ على يديه
فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه ثم غسل جسده فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه متفق عليه، وفي رواية للبخاري: ثم تنحى فغسل قدميه، ففي هذين الحديثين كثير من الخصال المسماة.
والبداية بشقه الأيمن لأنه قد روي في حديث عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشئ نحو الحلاب فأخذ بكفيه بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه، متفق عليه، وقد اختلف عن أحمد في غسل الرجلين فقال في رواية بعد الوضوء على حديث ميمونة وقال في رواية العمل على حديث(1/213)
عائشة وفيه أنه توضأ للصلاة قبل اغتساله وقال في موضع غسل رجليه في موضعه، وبعده وقبله سواء ولعله ذهب إلى أن اختلاف الأحاديث فيه يدل على أن موضع الغسل ليس بمقصود وإنما المقصود أصل الغسل (مسألة) قال (مجزئ) وهو أن يغسل ما به من أذى وينوي ويعم بدنه بالغسل مثل أن ينغمس في ماء راكد أو جار غامر أو يقف تحت صوب المطر أو ميزاب حتى يعم الماء جميع جسده فيجزئه لقوله تعالى (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقوله (حتى تغتسلوا) وقد حصل الغسل فتباح له الصلاة لأن الله تعالى جعل الغسل غاية للمنع من الصلاة فتقتضي أن لا يمنع منها بعد الاغتسال (فصل) ويستحب إمرار يده على جسده في الغسل والوضوء ولا يجب إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده وهذا قول الحسن والنخعي والشعبي والثوري والشافعي واسحاق(1/214)
وأصحاب الرأي.
وقال مالك إمرار يده على بدنه إلى حيث تنال واجب.
ونحوه قال أبو العالية قالوا لأن الله تعالى قال (حتى تغتسلوا) ولا يقال اغتسل إلا لمن دلك نفسه ولأنها طهارة عن حدث فوجب فيها إمرار اليد كالتيمم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في غسل الجنابة " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث
حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " رواه مسلم ولأنه غسل واجب فلم يجب فيه إمرار اليد(1/215)
كغسل النجاسة وما ذكروه ممنوع فإنه يقال غسل الإناء وإن لم يدلكه والتيمم أمرنا فيه بالمسح لأنها طهارة بالتراب ويتعذر في الغالب إمرارا التراب إلا باليد (فصل) ولا يجب الترتيب في غسل الجنابة لأن الله تعالى قال (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقال (حتى تغتسلوا) فكيفما اغتسل فقد حصل التطهير ولا نعلم في هذا خلافاً ولا تجب فيه موالاة نص عليه أحمد.
قال حنبل سألت أحمد عمن اغتسل وعليه خاتم ضيق؟ قال يغسل موضع الخاتم قلت فإن جف غسله؟ قال يغسله ليس هو بمنزلة الوضوء.
قلت فإن صلى ثم ذكر؟ قال يغسل موضعه ثم يعيد الصلاة وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال ربيعة من تعمد ذلك أعاد الغسل وهو قول الليث واختلف فيه عن مالك، وفيه وجه لأصحاب الشافعي قياساً على الوضوء، وذكر الشيخ أبو الفرج في الإيضاح أنه شرط، والأولى قول الجمهور لأنها طهارة لا ترتيب فيها فلم تجب فيها موالاة كغسل النجاسة فعلى هذا نكون(1/216)
واجبات الغسل شيئين.
النية وتعميم البدن بالغسل وقد ذكرنا الاختلاف في التسمية فيما مضى (فصل) وإن اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة والتقاء الختانين والإنزال فنواهما بغسلة أجزأه عنهما وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن الحسن والنخعي في الحائض والجنب تغتسل غسلين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغتسل من الجماع إلا واحدا وهو يتضمن التقاء الختانين والإنزال غالبا ولأنهما سببان يوجبان الغسل فأجزأ الغسل الواحد عنهما كالحدث والنجاسة، وهكذا الحكم إن اجتمعت أحداث توجب الطهارة الصغرى كالنوم واللمس وخروج النجاسة فنواها بطهارته وإن نوى أحدها ففيه وجهان مضى ذكرهما (فصل) إذا بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فمسحها بيده أو بشعره أو عصر شعره عليها فقد اختلفت الرواية فيه عن احمد.
فروى أنه سئل عن حديث العلاء بن زياد أن النبي صلى الله عليه وسلم
اغتسل فرأى لمعة لم يصبها الماء فدلكها بشعره قال نعم أخذ به، وروي علي قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك " رواه ابن ماجه وروى عن أحمد أنه قال يأخذ لها ماءا جديدا فيه حديث لا يثبت يعصر شعره.
وذكر له حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عصر لمته على لمعة كانت في جسده فضعفه ولم يصححه.
قال(1/217)
شيخنا والصحيح أن ذلك يجزئه إذا كان من بلل الغسلة الثانية أو الثالثة وجرى ماؤها على اللمعة لأنه كغسلها بماء جديد على ما فيه من الأحاديث، فإن لم يجر الماء فالأولى غسلها بماء جديد.
ويمكن حمل المسح على الغسل الخفيف في الحديث فإن الغسل الخفيف يسمى مسحا وإن عصر شعره في الغسلة الأولى انبنى على المستعمل في رفع الحدث على ما مضى (فصل) ولا يجب على المرأة نقض شعرها لغسلها من الجنابة رواية واحدة إذا روت أصوله ولا نعلم في هذا خلافاً إلا أنه روي عن ابن عمرو أنه كان يأمر النساء بذلك وهو قول النخعي ولا نعلم احدا وافقهما على ذلك.
ووجه الأول ما روت ام سلمة أنها قالت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال " لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " رواه مسلم، وعن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن فقالت يا عجبي لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤسهن لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
رواه مسلم إلا أن يكون في رأس المرأة حشو أو سدر يمنع وصول الماء إلى ما تحته فتجب إزالته، وإن كان خفيفاً لا يمنع لم تجب (فصل) فأما غسل الحيض فنص أحمد على أنها تنقض شعرها فيه، قال مهنا سألت أحمد عن(1/218)
المرأة تنقض شعرها من الحيض قال نعم فقلت له كيف تنقضه من الحيض ولا تنقضه من الجنابة؟ فقال
حديث أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تنقضه " واختلف فيه أصحابنا فمنهم من أوجبه وهو قول الحسن وطاوس لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إذ كانت حائضا " خذي ماءك وسدرك وامتشطي " ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور.
وللبخاري " انقضي رأسك وامتشطي " ولأن الأصل وجوب نقض الشعر ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته فعفي عنه في غسل الجنابة لأنه يكثر فيشق ذلك بخلاف الحيض.
وقال بعض أصحابنا هو مستحب غير واجب.
روى ذلك عن عائشة وأم سلمة وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة أفأنقضه للحيضة والجنابة قال لا؟ رواه مسلم.
وهذه زيادة يجب قبولها وهذا صريح في نفي الوجوب فأما حديث عائشة الذي رواه البخاري فليس فيه أمر بالغسل.
ولو كان فيه أمر لم يكن فيه حجة لأن ذلك ليس هو غسل الحيض إنما أمرت بالغسل في حال الحيض للإحرام بالحج ولو ثبت الأمر بالغسل حمل على الاستحباب جمعاً بين الحديثين ولأن ما فيه يدل على الاستحباب وهو المشط والسدر وليس بواجب فما هو من ضرورته أولى (فصل) ويجب غسل بشرة الرأس كثيفا كان الشعر أو خفيفا وكذلك كل ما تحت الشعر كجلد اللحية لما روت أسماء قالت سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال " تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور.
ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها ثم تفيض(1/219)
عليه الماء رواه مسلم.
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل به من النار كذا وكذا " قال علي فمن ثم عاديت شعري قال وكان يجز شعره رواه أبو داود (فصل) فأما غسل ما استرسل من الشعر وبل ما على الجسد منه ففيه وجهان (أحدهما) يجب وهو ظاهر قول أصحابنا ومذهب الشافعي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " رواه أبو داود ولأنه شعر نابت في محل الفرض فوجب غسله كشعر الحاجبين (والثاني) لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات " مع إخبارها إياه بشد ضفر رأسها ومثل هذا لا يبل الشعر المشدود ضفره في العادة
ولو وجب غسله لوجب نقضه ليعلم أن الماء قد وصل إليه ولأن الشعر ليس من الحيوان بدليل أنه لا ينقض مسه من المرأة.
ولا تطلق بإيقاع الطلاق عليه فلم يجب غسله كثوبها.
وأما حديث " بلوا الشعر " فيرويه الحارث بن وجيه وحده وهو ضعيف الحديث عن مالك بن دينار: والحاجبان إنما وجب غسلهما من ضرورة غسل بشرتهما وكذلك كل شعر لا يمكن غسل بشرته إلا بغسله لأنه من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به.
فإن قلنا بوجوب غسله فترك غسل شئ منه لم يتم غسله فإن قطع المتروك ثم غسله أجزأه لأنه لم يبق في بدنه شئ غير مغسول ولو غسله ثم تقطع لم يجب غسل موضع القطع كما لو قص أظفاره بعد الوضوء(1/220)
(فصل) وغسل الحيض كغسل الجنابة إلا أنه يستحب أن يغتسل بماء وسدر وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها مجرى الدم والموضع الذي يصل إليه الماء من فرجها ليزول عنها زفورة الدم فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب فإن لم تجد فالماء كاف لأن في حديث أسماء " تأخذ إحداكن سدرتها وماءها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليه الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها " قالت أسماء وكيف تطهر بها؟ فقال " سبحان الله تطهرين بها " فقالت عائشة تتبعين بها أثر الدم، رواه مسلم - الفرصة هي القطعة من كل شئ والمسك الأذفر الخالص (مسألة) قال (ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع فإن سبغ بدونهما أجزأه) المد رطل وثلث بالعراقي والصاع أربعة أمداد وهو خمسة أرطال وثلث وهو برطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم رطل وسبع والمد ربعه وهو ثلاث أواق وثلاثة أسباع أوقية، ورطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم وذلك تسعون مثقالاً والمثقال درهم وثلاثة أسباع ولا خلاف في حصول الإجزاء بالمد في الوضوء والصاع في الغسل فيما علمنا وذلك لما روى أنس قال: كان(1/221)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، متفق عليه، وعن سفينة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد، رواه مسلم، وفي حديث جابر أنه سئل عن غسل الجنابة فقال يكفيك صاع فقال رجل ما يكفيني فقال جابر كان يكفي من هو أوفى منك شعراً
وخيراً منك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، والصاع والمد ما ذكرنا وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة الصاع ثمانية أرطال والمد رطلان لان أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وهو رطلان ويغتسل بالصاع ولنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة " اطعم ستة مساكين فرقا من طعام " متفق عليه، قال أبو عبيد: لا إختلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع والفرق ستة عشر رطلاً، فثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وروي أن أبا يوسف دخل المدينة فسألهم عن الصاع فقالوا خمسة أرطال وثلث فطالبهم بالحجة فقالوا غدافجاء من الغد سبعون شيخاً كل منهم أخذ صاعاً تحت ردائه فقال صاعي ورثته من أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجع أبو يوسف عن قوله، وهذا تواتر يحصل به القطع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المكيال مكيال أهل المدينة " وحديثهم تفرد به موسى بن نصر وهو ضعيف الحديث قاله الدارقطني (فصل) فإن أسبغ بدونهما أجزأه - معنى الإسباغ أن يعم جميع الأعضاء بالماء بحيث يجري عليها(1/222)
لأن هذا هو الغسل وقد أمرنا بالغسل نص عليه أحمد.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم وقد قيل لا يجزئ في الغسل دون الصاع ولا في الوضوء دون المد، وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأن جابراً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزئ من الوضوء مد ومن الجنابة صاع " والتقدير بهذا يدل على أنه لا يحصل الأجزاء بدونه ولنا أن الله تعالى أمر بالغسل وقد أتى به، وقد روي عن عائشة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك رواه مسلم.
وعن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد وحديثهم إنما يدل بمفهومه وهم لا يقولون به وإن ذكروه على وجه الإلزام فما ذكرناه منطوق وهو راجح عليه، وقد روي عن سعيد بن المسيب قال إن لي ركوة أو قدحاً ما يسع إلا نصف المد أو نحوه ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلاً.
قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث لسليمان بن يسار فقال سليمان وأنا يكفيني مثل ذلك فذكرت ذلك لابي عبيدة بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة وهكذا سمعنا(1/223)
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إبراهيم النخعي أني لأتوضأ من كوز الحب مرتين (فصل) فإذا زاد على المد في الوضوء على الصاع في الغسل جاز فإن عائشة قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له الفرق - والفرق ثلاثة آصع وقال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد متفق عليه.
وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالماء يسع رطلين رواه أبو داود.
ويكره الإسراف في الماء والزيادة الكثيرة فيه لما روينا من الآثار، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال " ما هذا السرف؟ " فقال أفي الوضوء إسراف؟ قال " نعم وإن كنت على نهر جار " رواه ابن ماجه.
وعن أبي كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للوضوء شيطاناً يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء " رواه أحمد وابن ماجة (مسألة) (وإذا اغتسل ينوي الطهارتين أجزأ عنهما وعنه لا يجزئه حتى يتوضأ) ظاهر المذهب أنه يجزئه الغسل عن الطهارتين إذا نواهما نص عليه أحمد وعنه لا يجزئه حتى يتوضأ قبل الغسل أو بعده وهو أحد قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ولأن الجنابة والحدث وجد منه فوجب لهما الطهارتان كما لو كانا منفردين(1/224)
ووجه الاولى قوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله - ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) جعل الغسل غاية للمنع من الصلاة فإذا اغتسل يجب أن لا يمنع منها ولأنهما عبادتان من جنس فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة قال ابن عبد البر المغتسل من الجنابة إذا لم يتوضأ وعم جميع بدنه فقد أدى ما عليه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل من الجنابة دون الوضوء بقوله (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وهو إجماع لا خلاف فيه بين العلماء إلا أنهم أجمعوا على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة رواه الإمام أحمد والترمذي
(فصل) وإن لم ينو الوضوء لم يجزه إلا عن الغسل لقوله عليه السلام " وإنما لأمرئ ما نوى " فإن نواهما أحدث في أثناء غسله أتم غسله ثم يتوضأ، وقال الحسن يستأنف الغسل ولا يصح لأن الحدث الأصغر لا ينافي الغسل فل يؤثر وجوده فيه كغير الحدث(1/225)
(فصل) ويسقط الترتيب والموالاة في أعضاء الوضوء إذا قلنا الغسل يجزئ عنهما لأنهما عبادتان دخلت إحداهما في الأخرى فسقط حكم الصغرى كالعمرة مع الحج نص عليه أحمد: فلو اغتسل إلا أعضاء الوضوء لم يجب الترتيب فيها لأن حكم الجنابة باق وقال ابن عقيل والآمدي فيمن غسل جميع بدنه إلا رجليه ثم أحدث يجب الترتيب في الأعضاء الثلاثة لانفرادها في الحدث الأصغر دون الرجلين لاجتماع الحدثين فيهما، ويعايابها فيقال طهارة يجب الترتيب في بعضها ولا يجب في البعض (مسألة) (ويستحب للجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو الوطئ ثانياً أن يغسل فرجه ويتوضأ) وروي ذلك عن علي وعبد الله بن عمر وكان ابن عمر يتوضأ إلا غسل قدميه وقال ابن المسيب إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه ويتمضمض.
وحكي نحوه عن امامنا واسحاق وأصحاب الرأي.
وقال مجاهد يغسل كفيه لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
وقال مالك يغسل يديه إن كان أصابهما أذى.
وقال ابن المسيب وأصحاب الرأي ينام ولا يمس ماء لما روت عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام(1/226)
وهو جنب ولا يمس ماء رواه أبو داود وابن ماجة ولنا أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال " نعم إذا توضأ فليرقد " متفق عليه، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ " رواه مسلم.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ يعني وهو جنب رواه أبو داود.
فأما أحاديثهم فأحاديثنا أصح ويمكن الجمع بينها يحملها على الجواز وحمل أحاديثنا على الاستحباب (فصل) وإذا غمست الحائض أو الجنب أو الكافر أيديهم في الماء فهو طاهر ما لم يكن على
أيديهم نجاسة لأن أبدانهم طاهرة وهذه الأحداث لا تقتضي تنجيس الماء قال إبن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر يروي ذلك عن عائشة وابن عباس وابن عمر وهو قول مالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافاً، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة قال فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال " أين كنت يا أبا هريرة " قال يا رسول الله كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضأ منها فقالت امرأة إني غمست يدي فيها وأنا جنب فقال " الماء لا يجنب " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب من سؤر عائشة(1/227)
وهي حائض وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة متفق عليه، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً أضافه يخبز وإهالة سنخة.
قال شيخنا ويتخرج التفريق بين الكتابي الذي لا يأكل الميتة والخنزير وبين غيره ممن يأكل ذلك ومن لا تحل ذبيحتهم كقولنا في آنيتهم وقد ذكرناه (فصل) فأما طهورية الماء فإن الحائض والكافر لا يؤثر غمسهما أيديهما في الماء لأن حدثهما لا يرتفع وأما الجنب فإن لم ينو بغمس يده في الماء رفع الحدث عنها فكذلك بدليل حديث المرأة التي قالت غمست يدي في الماء وأنا جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الماء لا يجنب " ولأن الحدث لا يرتفع من غير نية أشبه غمس الحائض، وإن نوت رفع حدثها فحكم الماء حكم مالو اغتسل الجنب فيه للجنابة كذا ذكره شيخنا وفي هذا نظر.
فإنهم قد قالوا إن الماء المستعمل إذا اختلط بالماء الطهور إنما يؤثر فيه إذا كان بحيث لو كان مائعاً آخر غيره.
والمنفصل عن اليد ههنا يسير فينبغي إذا كان الماء كثيراً بحيث لا يؤثر فيه المنفصل عن غسل اليد لو غسلت منفردة بماء ثم صب فيه أن لا يؤثر ههنا لأنه في معناه، وإن كان الماء يسيراً بحيث يغلب على الظن أن قدر المنفصل عن اليد يؤثر فيه لو غسلت منفردة ثم صب فيه أثر ههنا وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا فإنه سئل عن جنب وضع له ماء فأدخل يده ينظر حره من برده؟ قال إن كان إصبعا فارجو أن لا يكون به بأس وإن كانت اليد أجمع فكأنه كرهه(1/228)
(فصل) قال بعض أصحابنا إذا نوى رفع الحدث ثم غمس يده في الماء ليغرف بها صار الماء مستعملاً.
قال شيخنا والصحيح إن شاء الله ان ذلك لا يؤثر لأن قصد الاغتراف منع قصد غسلها على ما بيناه في المتوضئ إذا اغترف من الإناء لغسل يديه بعد وجهه، وإن انقطع حيض المرأة فهي قبل الغسل كالجنب فيما ذكرنا من التفصيل.
وقد اختلف عن أحمد في هذا فقال في موضع في الجنب والحائض يغمس يديه في الإناء إذا كانا نظيفين فلا بأس به، وقال في موضع كنت لا أرى به بأساً ثم حدثت عن شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر وكأني تهيبته، وسئل عن جنب وضع له ماء فوضع يده فيه ينظر حرمه من برده فقال إن كان إصبعا فارجو أن لا يكون به بأس وإن كانت اليد أجمع فكأنه كرهه وسئل عن الرجل يدخل الحمام وليس معه ما يصب به الماء على يده ترى له أن يأخذ بفيه؟ فقال لا يده وفمه واحد وقياس المذهب ما ذكرنا وكلام أحمد محمول على الكراهة لما فيه من الخلاف، وقال أبو يوسف إن أدخل الجنب يده في الماء لم يفسد وإن أدخل رجله فسد لأن الجنب نجس فعفي عن يده لموضع الحاجة وكره النخعي الوضوء بسؤر الحائض، وأكثر أهل العلم لا يرون به بأسا منهم الحسن ومجاهد والزهري ومالك والاوزاعي والثوري والشافعي.
وقد دللنا على طهارة الجنب والحائض، والتفريق بين اليد والرجل لا يصح لاستوائهما فيما إذا أصابتهما نجاسة كذلك في الجنابة قال شيخنا ويحتمل أن نقول به لأن اليد يراد بها الاغتراف وقصده هو المانع من جعل الماء مستعملاً وهذا لا يوجد في الرجل فيؤثر غمسها في الماء والله أعلم(1/229)
(فصول في الحمام) بناء الحمام وكراؤه وبيعه وشراؤه مكروه عند أبي عبد الله فإنه قال في الذي يبني حماماً للنساء ليس بعدل وإنما كرهه لما فيه من كشف العورة والنظر إليها ودخول النساء إليه (فصل) فأما دخول الحمام فإن دخل رجل وكان يسلم من النظر إلى عورات الناس ونظرهم إلى عورته فلا بأس به فإنه يروى أن ابن عباس دخل حماماً بالجحفة، ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن وابن سيرين يدخلان الحمام رواه الخلال.
وإن خشي أن لا يسلم من ذلك كره له لأنه
لا يأمن وقوعه في المحظور وهو النظر إلى عورات الناس ونظرهم إلى عورته وهو محرم بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة " وقوله عليه السلام " لا تمشوا عراة " رواهما مسلم.
قال أحمد: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فأدخله وإلا فلا تدخل(1/230)
(فصل) فأما النساء فليس لهن دخوله مع ما ذكرنا من الستر إلا لعذر من حيض أو نفاس أو مرض أو حاجة إلى الغسل ولا يمكنها أن تغتسل في بيتها لتعذر ذلك عليها أو خوفها من مرض أو ضرر فيباح لها إذا سترت عورتها وغضت بصرها ولا يجوز من غير عذر لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ستفتح أرض العجم وستجدون فيها حمامات فامنعوا نسائكم إلا حائضا أو نفساء " وروي أن عائشة دخل عليها نساء من أهل حمص فقالت لعلكن من النساء اللاتي يدخلن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت سترها بينها وبين الله تعالى " رواهما ابن ماجة (فصل) ومن اغتسل عرياناً بين الناس لم يجز لما ذكرنا وإن كان وحده جاز لأن موسى عليه السلام اغتسل عرياناً وأيوب اغتسل عرياناً رواهما البخاري، وإن ستره الإنسان بثوب فلا بأس فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستر بثوب ويغتسل متفق عليه، ويستحب التستر وإن كان خالياً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فالله أحق أن يستحيي منه من الناس " وقد قال أحمد لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستتراً أن للماء سكانا لأنه يروي عن الحسن والحسين أنهما دخلا الماء وعليهما بردان(1/231)
فقيل لهما في ذلك فقالا: إن للماء سكاناً ولأن الماء لا يستر فتبدو عورة من دخله عرياناً والله أعلم (فصل) ويجزئه الوضوء والغسل من ماء الحمام قال أحمد لا بأس بالوضوء من ماء الحمام وذلك لأن الأصل الطهارة وروى عن أحمد أنه قال لا بأس أن يأخذ من الأنبوبة وهذا على سبيل الاحتياط ولو لم يفعله جاز لأن الأصل الطهارة، وقد قال أحمد ماء لاحمام عندي طاهر وهو بمنزلة الماء الجاري، وهل يكره استعماله؟ فيه وجهان (أحدهما) يكره لأنه يباشره من يتحرى ومن لا يتحرى وحكاه ابن عقيل رواية
عن أحمد وقد روى الأثرم عن أحمد.
قال منهم من يشدد فيه ومنهم من يقول هو بمنزلة الماء الجاري (والثاني) لا يكره لكون الأصل طهارته فهو كالماء الذي شككنا في نجاسته والله أعلم (قال شيخنا) وقوله هو بمنزلة الماء الجاري فيه دليل على أن الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغيير لأنه لو تنجس بمجرد لملاقاة لم يكن لكونه جارياً أثر وإنما جعله بمنزلة الماء الجاري إذا كان الماء يفيض من الحوض ويخرج فإن الذي يأتي أخيراً يدفع ما في الحوض ويثبت مكانه بدليل أنه لو كان ما في الحوض كدراً وتتابعت عليه دفع من الماء صافياً لزالت كدورته (فصل) ولا بأس بذكر الله في الحمام فإن ذكره سبحانه حسن في كل مكان ما لم يرد المنع منه وقد روي أن أبا هريرة دخل الحمام فقال: لا إله إلا الله وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه رواه مسلم.
فأما قراءة القرآن فيه فكرهها أبو وائل والشعبي والحسن ومكحول وحكاه ابن عقيل عن علي وابن عمر لانه كحل للتكشف ويفعل فيه ما لا يحسن في غيره فاستحب صيانة القرآن عنه ولم يكرهه النخعي ومالك لأنا لا نعلم حجة توجب الكراهة، فإما رد السلام فقال أحمد ما سمعت فيه شيئا.
وقال ابن عقيل يكره.
والأولى جوازه من غير كراهة لعموم قوله عليه السلام " أفشوا السلام بينكم " ولأنه لم يرد فيه نص والأشياء على الإباحة والله أعلم(1/232)
باب التيمم التيمم في اللغة القصد قال الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) وقال امرؤ القيس تيممت العين التي عند ضارج * يفئ عليها الظل عرمضها طامي وقول الله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا) أي اقصدوه ثم نقل في عرف الفقهاء إلى مسح الوجه واليدين بشئ من الصعيد، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) وأما السنة فحديث عمار وغيره، وأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة وله شروط وفرائض وسنن ومبطلات تأتي في أثناء الباب إن شاء الله تعالى (مسألة) قال (وهو بدل لا يجوز إلا بشرطين (أحدهما) دخول الوقت فلا يجوز لفرض
قبل وقته ولا لنفل في وقت النهي عنه) وجملة ذلك أن التيمم بدل عن الماء إنما يجوز عند تعذر الطهارة بالماء لعدمه أو مرض أو خوف أو نحوه لقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " التراب كافيك ما لم تجد الماء "(1/233)
ولحديث ضاحب الشجة وحديث عمرو بن العاص وغير ذلك، ويشترط له ثلاثة شروط (أحدها) دخول الوقت فلا يجوز لصلاة مفروضة قبل دخول وقتها ولا لنافلة في وقت النهي عنها لأنه ليس بوقت لها ولأنه مستغن عن التيمم فيه فأشبه مالو تيمم عند وجود الماء، وإن كانت فائتة جاز التيمم لها في كل وقت لجواز فعلها فيه.
وهذا قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يصح التيمم قبل وقت الصلاة لأنها طهارة مشترطة للصلاة فأبيح تقديمها على الوقت كسائر الطهارات.
وروى عن أحمد أنه قال القياس أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء أو يحدث، فعلى هذا يجوز قبل دخول الوقت.
والصحيح الأول لأنها طهارة ضرورة فلم تجز قبل الوقت كطهارة المستحاضة.
وقياسهم ينتقض بطهارة المستحاضة ويفارق التيمم سائر الطهارات لكونها ليست لضرورة (الشرط الثاني) العجز عن استعمال الماء لعدمه لما ذكرنا وعدم الماء إنما يشترط لمن تيمم لعذر عدم الماء دون من تيمم لغيره من الأعذار (الشرط الثالث) طلب الماء وفيه خلاف نذكره إن شاء الله (فصل) وعدم الماء يبيح التيمم في السفر الطويل والقصير، والطويل ما يبيح القصر، والقصير ما دونه مثل أن يكون بين قريتين متباعدتين أو متقاربتين.
قال القاضي: لو خرج إلى ضيعة له تفارق البنيان والمنازل ولو بخمسين خطوة جاز له التيمم والصلاة على الراحلة وأكل الميتة للضرورة.
وهذا قول مالك والشافعي.
وقال قوم لا يباح إلا في الطويل قياساً على سائر رخص السفر ولنا قوله تعالى (وإن كنتم مرضى أو على سفر - إلى قوله - فتيمموا) فإنه يدل بمطلقه على إباحة التيمم(1/234)
في كل سفر ولأن السفر القصير يكثر فيكثر عدم الماء فيه فيحتاج إلى التيمم فيه فينبغي أن يسقط به الفرض كالطويل.
والقياس على رخص السفر لا يصح لأن التيمم يباح في الحضر على ما يأتي ولأن التيمم
عزيمة لا يجوز تركه بخلاف سائر الرخص.
ولا فرق بين سفر الطاعة والمعصية لأن التيمم عزيمة لا يجوز تركه بخلاف بقية الرخص فإن تيمم وصلى فهل يعيد؟ ذكر القاضي فيه احتمالين أولاهما لا يعيد لأنه عزيمة (فصل) فإن عدم الماء في الحضر بأن انقطع عنهم الما أو حبس وعدم الماء تيمم وصلى وهذا قول مالك والثوري والاوزاعي والشافعي وقال أبو حنيفة في رواية عنه لا يصلي لأن الله تعالى شرط السفر لجواز التيمم فلا يجوز في غيره وقد روي عن أحمد أنه سئل عن رجل حبس في دار أو أغلق عليه الباب بمنزل المضيف أيتيمم؟ قال لا ولنا ما روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير " قال الترمذي حديث حسن صحيح وهذا عام في السفر وغيره ولأنه عادم للماء أشبه المسافر فأما الآية فلعل ذكر السفر فيها خرج مخرج الغالب لكون الغالب أن الماء إنما يعدم فيه - كما ذكر السفر وعدم وجود الكاتب في الرهن وليسا شرطين فيه.
ثم أن الآية إنما تدل على ذلك بدليل الخطاب وأبو حنيفة لا يقول به ولو كان حجة(1/235)
فالمنطوق راجح عليه فعلى هذا إذا تيمم في الحضر لعدم الماء وصلى فهل يعيد إذا قدر على الماء؟ على روايتين (إحداهما) يعيد وهو مذهب الشافعي لأنه عذر نادر فلا يسقط به القضاء كالحيض في الصوم (والثانية) لا يعيد وهو مذهب مالك لأنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة ولأنه صلى بالتيمم المشروع على الوجه المشروع فأشبه المريض والمسافر مع أن عموم الخبر يدل عليه، وقال أبو الخطاب أن حبس في المصر صلى ولم يذكر إعادة وذكر الروايتين في غيره.
قال شيخنا: ويحتمل أنه إن كان عدم الماء لعذر نادر أو يزول قريباً كرجل أغلق عليه الباب مثل الضيف وما أشبه هذا فعليه الإعادة لأن هذا بمنزلة المتشاغل بطلب الماء وتحصيله، وإن كان عذراً ممتداً ويوجد كثيراً كالمحبوس ومن انقطع الماء من قريته واحتاج إلى استقاء الماء من مسافة بعيدة فله التيمم ولا إعادة عليه لأن هذا عادم للماء بعذر متطاول معتاد فهو كالمسافر ولأن عدم هذا الماء أكثر من عدم المسافر له فالنص على التيمم للمسافر تنبيه على التيمم ههنا.
وما قاله صحيح والله تعالى أعلم
(فصل) ومن خرج من المصر إلى أرض من أعماله كالحراث والحصاد والحطاب وأشباههم ممن لا يمكنه حمل الماء معه لوضوئه فحضرت الصلاة ولا ماء معه ولا يمكنه الرجوع ليتوضأ إلا بتفويت حاجته فله أن يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه لأنه مسافر أشبه الخارج إلى قرية اخرى ويحتمل أن تلزمه الإعادة لكونه في أرض من عمل المصر أشبه المقيم فيه فإن كانت الأرض التي خرج إليها من غير(1/236)
أرض قريبة فلا إعادة عليه وجهاً واحداً لأنه مسافر (فصل) فإن لم يجد إلا ماء ولغ فيه بغل أو حمار فروي عن أحمد أنه قال إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم معه فيقدم الوضوء ثم يتيمم نص عليه أحمد ليكون عادماً للماء بيقين.
قال ابن عقيل: ويحتمل في المذهب أن يصلي بكل واحد منهما ليحصل له تأدية فرضه بيقين، فعلى هذا يقدم التيمم ويصلي ثم يتوضأ لجواز أن يكون الماء نجساً ولا يضر ههنا تقديم التيمم مع كونه مسقطاً للفرض كما إذا اشتبهت الثياب فإن أراد أن يصلي صلاة أخرى في وقت واحد لم يحتج إلى إعادة الوضوء إذا لم يحدث لأن الماء إن كان طاهراً فالوضوء بحاله وإن كان نجساً فلا حاجة إلى تكرار الوضوء بماء نجس ولا يحتاج في الصلاة الثانية إلى أن يفعلها مرتين لأنه لا يحصل له تأدية فرضه بيقين لأن أعضاءه قد تنجست بالماء على تقدير نجاسته هذا إذا كان مستديماً للطهارة الأولى ذكره ابن عقيل قال ويمكن تأديته بيقين بأن يتيمم للحدث والنجاسة ويصلي لأنه إن كان الماء طاهراً فقد صحت صلاته وإن كان نجساً فقد تيمم للنجاسة والحدث فتصح صلاته (مسألة) قال (أو لضرر في استعماله من جرح أو برد شديد أو مرض يخشى زيادته أو تطاوله) هذه تشتمل على مسائل أحدها التيمم لخوف البرد متى أمكنه تسخين الماء أو استعماله على وجه يأمن الضرر مثل أن يغسل عضواً عضواً كلما غسل شيئاً ستره لزمه ذلك وإن لم يقدر تيمم وصلى في قول أكثر أهل العلم، وقال عطاء والحسن يغتسل وإن مات.
ومقتضى قول ابن مسعود نحو ذلك.
ووجه الأول قوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) ولما روى عمرو بن العاص قال احتلمت في ليلة باردة في عزوة ذات(1/237)
السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله عزوجل يقول (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.
رواه الخلال وأبو داود وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز لأنه لا يقر على الخطأ ولأنه خائف على نفسه أشبه المريض، وهل تلزمه الإعادة إذا قدر على استعمال الماء؟ فيه روايتان (إحداهما) لا تلزمه وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة وابن المنذر لحديث عمرو فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة ولو وجبت لأمره بها فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأنه خائف على نفسه أشبه المريض (والثانية) تلزمه الإعادة في الحضر دون السفر وهو قول أبي يوسف ومحمد لأنه عذر نادر غير متصل فلم يمنع الإعادة كنسيان الطهارة، قال الشيخ والأول أصح ويفارق نسيان الطهارة فإنه لم يأت بما أمر به وإنما ظن أنه أتى به بخلاف مسئلتنا، وقال الشافعي يعيد الحاضر لما ذكرنا وفي المسافر قولان (فصل) الثاني الجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء فله التيمم هذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس والنخعي وقتادة ومالك والشافعي، وقال عطاء والحسن لا يجوز التيمم إلا عند عدم الماء(1/238)
ولنا قول الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) وحديث عمرو بن العاص حين تيمم من خوف البرد وحديث صاحب الشجة ولأنه يباح له التيمم إذا خاف العطش أو خاف من سبع فكذلك ههنا لأن الخوف لا يختلف وإنما اختلفت جهاته، واختلفوا في الخوف المبيح للتيمم فروي عن أحمد لا يبيحه إلا خوف التلف وهذا أحد قولي الشافعي، والصحيح من المذهب أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء أو خاف شيئاً فاحشاً أو ألماً غير محتمل وهذا مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي لعموم قوله تعالى (وإن كنتم مرضى) ولأنه يجوز له التيمم إذا خاف ذهاب شئ من ماله أو ضرراً في نفسه من لص أو سبع أو لم يجد الماء إلا بزيادة كثيرة على ثمن مثله فلأن يجوز ههنا أولى.
ولأن ترك القيام في
الصلاة وتأخير الصوم في المرض لا ينحصر في خوف التلف فكذا ههنا.
فأما المريض والجريح الذي لا يخاف الضرر باستعمال الماء مثل من به الصداع والحمى الحارة وأمكنه استعمال الماء الجاري ولا ضرر عليه فيه لزمه ذلك لأن إباحة التيمم لنفي الضرر ولا ضرر عليه، وحكي عن مالك وداود إباحة التيمم للمريض مطلقاً لظاهر الآية.
ولنا أنه قادر على استعمال الماء من غير ضرر فأشبه الصحيح والآية اشترط فيها عدم الماء فلم يتناول محل النزاع على أنه لابد من إضمار الضرورة والضرورة إنما تكون عند الضرر (مسألة) (أو عطش يخافه على نفسه أو رفيقه أو بهيمته) متى خاف العطش على نفسه جاز له التيمم ولا إعادة عليه إجماعاً قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا كان(1/239)
معه ماء وخشي العطش أنه يبقى الماء للشرب ويتيمم منهم علي وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد والثوري ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وإن خاف على رفيقه أو رقيقه أو بهائمه فهو كما لو خاف على نفسه لأن حرمه رفيقه كحرمة نفسه والخائف على بهائمه خائف من ضياع ماله وعليه ضرر فيه فجاز له التيمم كالمريض، وإن وجد عطشان يخاف تلفه لزمه سقيه ويتيمم.
قيل لاحمد رجل معه إداوة من ماء للوضوء فيرى قوماً عطاشاً أحب إليك أن يسقيهم أو يتوضأ؟ قال لا بل يسقيهم ثم ذكر عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم وقال أبو بكر والقاضي لا يلزمه بذله لأنه محتاج إليه ولنا أن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة بدليل مالو رأى حريقاً أو غريقاً عند ضيق وقت الصلاة لزمه ترك الصلاة والخروج لإنقاذه فلأن يقدمها على الطهارة بالماء أولى وقد روي في حديث البغي أن الله غفر لها بسقي الكلب عند العطش فإذا كان في سقي الكلب فالآدمي أولى (فصل) واذا وجد الخائف من العطش ماء طاهراوماء نجساً يكفيه أحدهما لشربه فإنه يحبس الطاهر لشربه ويريق النجس إن استغنى عنه، وقال القاضي: يتوضأ بالطاهر ويحبس النجس لشربه لأنه وجد ماء طاهراً يستغني عن شربه أشبه ما لو كان الكل طاهراً(1/240)
ولنا أنه لا يقدر على ما يجوز شربه والوضوء به إلا الطاهر فجاز له حبسه لشربه كما لو انفرد، وإن وجدهما وهو عطشان شرب الطاهر وأراق النجس إذا استغنى عنه سواء كان في الوقت أو قبله، وقال بعض الشافعية إن كان في الوقت شرب النجس لأن الطاهر مستحق للطهارة فهو كالعدم، ولا يصح لأن شرب النجس حرام وإنما يصير الطاهر مستحقاً للطهارة إذا استغنى عن شربه، وهذا غير مستغن عن شربه فوجود النجس كعدمه (مسألة) قال (أو خشية على ماله في طلبه) متى خاف على نفسه أو ماله في طلب الماء كمن بينه وبين الماء سبع أو عدو أو حريق أو لص فهو كالعادم لأنه خائف للضرر باستعماله أو التلف فهو كالمريض ولو كان الماء بمجمع الفساق تخاف المرأة على نفسها منهم فهي كالعادمة وقد توقف أحمد عن هذه المسألة وقال ابن أبي موسى تتيمم ولا إعادة عليها في أصح الوجهين، قال شيخنا والصحيح جواز التيمم لها وجهاً واحداً ولا إعادة عليها بل لا يحل لها الخروج إلى الماء لما فيه من التعرض للزنا وهتك نفسها وعرضها وتنكيس رؤس أهلها وربما أفضى إلى قتلها.
وقد أبيح لها التيمم حفظاً للقليل من مالها المباح لها بذله وحفظ نفسها من زيادة مرض أو تباطؤ برء فههنا أولى وكذلك إن كان يخاف إذا ذهب إلى الماء شرود دابته أو سرقتها أو يخاف على أهله لصاً أو سبعاً فهو كالعادم لما دكرنا، فإن كان خوفه جبناً لا عن سبب يخاف من مثله كالذي يخاف بالليل وليس شئ يخاف منه لم يجز له التيمم نص عليه أحمد قال شيخنا ويحتمل أن يباح له التيمم ويعيد إذا اشتد خوفه لأنه بمنزلة الخائف لسبب، ومن كان خوفه لسبب ظنه مثل من رأى سواداً ظنه عدواً فتبين أنه ليس بعدو أو رأى كلباً فظنه نمراً فتيمم(1/241)
وصلى فبان خلافه فهل تلزمه الإعادة؟ على وجهين (أحدهما) لا تلزمه الإعادة لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته (والثاني) تلزمه لأنه تيمم من غير سبب يبيح التيمم أشبه من نسي الماء بموضع يمكنه استعماله (فصل) ومن كان مريضاً لا يقدر على الحركة ولا يجد من يناوله الماء فهو كالعادم قاله ابن أبي موسى وهو قول الحسن لأنه لا سبيل له إلى الماء أشبه من وجده في بئر ليس له ما يستقي به منها، وإن
وجد من يناوله قبل خروج الوقت فهو كالواجد في الحال لأنه بمنزلة من يجد ما يستقي به في الوقت، وإن خاف خروج الوقت قبل مجيئه فقال ابن أبي موسى والحسن له التيمم ولا إعادة عليه لأنه عادم في الوقت أشبه العادم مطلقاً ويحتمل أن ينتظر مجئ من يناوله لأنه حاضر ينتظر حصول الماء أشبه المشتغل باستقاء الماء وتحصيله (فصل) واذا وجد بئراً وقدر على النزول إلى مائها من غير ضرر أو الاغتراف بشئ أو ثوب يبله ثم يعصره لزمه ذلك وإن خاف فوت الوقت لأن الإشتغال به كالاشتغال بالوضوء وحكم من في السفينة في الماء كحكم واجد البئر إن لم يمكنه الوصول إلى الماء إلا بمشقة أو تغرير بالنفس فهو كالعادم وهذا قول الثوري والشافعي، وإذا كان الماء موجوداً إلا أنه إن اشتغل بتحصيله واستعماله فات الوقت لم يبح له التيمم سواء كان حاضراً أو مسافراً في قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وعن الاوزاعي والثوري أنه يتيمم رواه عنهما الوليد بن مسلم وروي عن مالك(1/242)
وابن أبي ذئب كقول الجمهور لقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا واجد ولقوله عليه السلام " التراب كافيك ما لم تجد الماء " ولأنه قادر على الماء فلم يجز له التيمم كما لو لم يخف فوت الوقت (مسألة) قال (أو تعذره إلا بزيادة كثيرة على ثمن مثله أو ثمن يعجز عن آدائه) وجملته أنه متى وجد ماء بثمن مثله في موضعه لزمه شراؤه إذا قدر على الثمن مع استغنائه عنه لقوته ومؤنة سفره لأنه قادر على استعماله من غير ضرر وكذلك إن كانت الزيادة يسيرة لا تجحف بماله ذكره أبو الخطاب لما ذكرنا، وقال الشافعي لا يلزمه شراؤه مع الزيادة قليلة كانت أو كثيرة لأن عليه ضرراً في الزيادة أشبه مالو خاف لصاً يأخذ من ماله ذلك المقدار ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا واجد فإن القدرة على ثمن العين كالقدرة على العين في المنع من الانتقال إلى البدل كما لو بيعت بثمن مثلها لأن ضرر المال دون ضرر النفس وقد قالوا في المريض يلزمه الغسل ما لم يخف التلف فتحمل الضرر اليسير في المال أحرى وما ذكروه من الدليل يبطل بما إذا كان بثمن المثل فإن كان عاجزاً عن الثمن فهو كالعادم لأنه عاجز عن إستعمال الماء.
وإن
بذل له ثمنه لم يلزمه قبوله لأن فيه منه.
فأما إن وهب له ماء لزمه قبوله لأنه قادر على استعمال الماء ولا منة في ذلك في العادة.
فأما إن كانت الزيادة كثيرة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه لأن عليه ضرراً كثيراً وإن كانت كثيرة لا تجحف بماله ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه شراؤه لأنه واجد للماء قادر عليه من غير إجحاف بماله فلزمه استعماله للآية وكما لو كانت الزيادة بسيرة (والثاني) لا يلزمه لأن فيه ضرراً ولما ذكرنا في الزيادة اليسيرة(1/243)
(فصل) فإن بذل له بثمن في الذمة يقدر على ادائه في بلده فقال القاضي يلزمه شراؤه لأنه قادر على أخذه بما لا مضرة فيه.
وقال الآمدي لا يلزمه لأن عليه ضرراً في بقاء الدين في ذمته وربما تلف ماله قبل أدائه وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، وإن لم يكن له في بلده ما يؤدي ثمنه لم يلزمه شراؤه لأن عليه ضرراً، وإن لم يبذله له وكان فاضلاً عن حاجته لم يجز له أخذه منه قهراً (1) لأن الضرورة لا تدعو إليه ولأن هذا له بدل وهو التيمم بخلاف الطعام في المجاعة (مسألة) (فإن كان بعض بدنه جريحاً تيمم له وغسل الباقي) وجملة ذلك أن الجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض بدنه دون بعض لزمه غسل ما أمكنه غسله وتيمم للباقي وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك إن كان أكثر بدنه صحيحاً غسله ولا يتيمم وإن كان أكثره جريحاً تيمم ولا غسل عليه لأن الجمع بين البدل والمبدل لا يجب كالصيام والإطعام ولنا ما روى جابر قال خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا شجة في وجهه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فاقل " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ثم يغسل سائر جسده " رواه أبو داود ولأنها شرط من شرائط الصلاة فالعجز عن بعضها لا يسقط جميعها كالستارة وما ذكروه ينتقض بالمسح على الخفين مع غسل بقية الأعضاء، فأما الذي قاسوا عليه فانه جمع بين البدل والمبدل في محل واحد بخلاف مسئلتنا فإن التيمم بدل عما لم يصبه، وكل مالا يمكن غسله من الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح حكمه حكم الجريح فان لم يمكنه ضبطه وقدر أن يستنيب من يضبطه لزمه ذلك فإن عجز تيمم وصلى واجزأه
لأنه عجز عن غسله فأجزأه التيمم عنه كالجريح
__________
1) عبارة المغني لم يجز له مكارته الخ فهل سقط من كل مكان ما ثبت نظيره في الاخر؟ يتأمل(1/244)
(فصل) ولا يلزمه أن يمسح على الجرح بالماء إذا أمكنه ذلك سواء كان معصوباً أو لا هذا اختيار الخرقي، وقال ابن عقيل نص أحمد في رواية صالح في المجروح إذا خاف مسح موضع الجرح وغسل ما حوله لقوله عليه السلام " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " لأنه عجز عن غسله وقدر على مسحه وهو بعض الغسل فوجب الإتيان بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود وقدر على الإيماء ووجه القول الأول أنه محل واحد فلا يجمع فيه بين المسح والتيمم كالجبيرة فإذا قلنا يجب المسح على موضع الجرح فهل يتيمم معه؟ على روايتين (إحداهما) لا يتيمم كالجرح المعصوب عليه والجبيرة على الكسر (والثانية) عليه التيمم لأن المسح بعض الغسل فيجب أن يتيمم للباقي، ويفارق هذا الجبيرة لأن الفرض فيها انتقل إلى الحائل فهي كالخفين (فصل) فإن كانت جميع أعضاء الوضوء قريحة تيمم لها فان لم يمكنه التيمم صلى على حسب حاله وفي الإعادة روايتان كمن عدم الماء والتراب وسنذكر ذلك إن شاء الله(1/245)
(فصل) إذا كان الجريح جنباً فهو مخير إن شاء قدم التيمم على الغسل وإن شاء أخره بخلاف ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لطهارته فإنه يلزمه استعمال الماء أولاً لأن التيمم للعدم ولا يتحقق مع وجود الماء وههنا التيمم للعجز وهو متحقق على كل حال ولأن الجريح يعلم أن التيمم بدل عن غسل الجرح والعادم لا يعلم القدر الذي يتيمم له إلا بعد استعمال الماء فلزمه تقديم استعماله وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلاً عنه، فإن كان الجرح في الوجه بحيث لا يمكنه غسل شئ منه تيمم أولاً ثم أتم الوضوء، وإن كان في بعض وجهه خير بين غسل الصحيح منه ثم يتيمم وبين التيمم ثم يغسل صحيح وجهه
ويتم الوضوء، وإن كان الجرح في عضو آخر لزمه غسل ما قبله ثم كان فيه على ما ذكرنا في الوجه.
وإن كان في وجهه ويديه ورجليه احتاج في كل عضو إلى تيمم في محل غسله ليحصل الترتيب ولو غسل صحيح وجهه ثم تيمم له وليديه تيمماً واحداً لم يجزه لأنه يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حال واحدة، فإن قيل هذا يبطل بالتيمم عن جملة الطهارة حيث يسقط الفرض عن جميع الأعضاء جملة واحدة قلنا.
إذا كان عن جملة الطهارة فالحكم له دونها وإن كان عن بعضها ناب عن ذلك البعض فاعتبر فيه ما يعتبر فيما ينوب عنه من الترتيب (قال شيخنا) ويحتمل أن لا يجب هذا الترتيب لأن التيمم طهارة مفردة فلا يجب الترتيب بينها وبين الطهارة الأخرى كما لو كان الجريح جنباً(1/246)
ولأنه تيمم عن الحدث الأصغر فلا يجب أن يتيمم عن كل عضو في موضع غسله كما لو تيمم عن جملة الوضوء ولأن فيه حرجاً فيندفع بقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وحكى الماوردي عن مذهب الشافعي مثل هذه وحكي ابن الصباغ عنه مثل القول الأول والله تعالى أعلم (فصل) وإن تيمم الجريح لجرح في بعض أعضائه ثم خرج الوقت بطل تيممه ولم تبطل طهارته بالماء إن كان غسلاً للجنابة أو نحوها لأن الترتيب والموالاة غير واجبين فيها، وإن كانت وضوءاً وكان الجرح في وجهه.
فإن قلنا يجب الترتيب بين التيمم والوضوء بطل الوضوء ههنا لأن طهارة العضو الذي ناب التيمم عنه بطلت فلو لم يبطل ما بعده لتقدمت طهارة ما بعده عليه فيفوت الترتيب.
فإن قلنا لا يجب الترتيب لم يبطل الوضوء وجوز له التيمم لاغير، وإن كان الجرح في رجليه فعلى قولنا لا يجب الترتيب لا تجب الموالاة بينهما أيضاً وعليه التيمم وحده.
وإن قلنا يجب الترتيب فينبغي أن يخرج وجوب الموالاة ههنا على وجوبها في الوضوء وفيها روايتان.
فان قلنا تجب في الوضوء بطل الوضوء ههنا لفواتها.
وإن قلنا لا تجب كفاه التيمم وحده (قال شيخنا) ويحتمل ان لا تجب الموالاة بين الوضوء والتيمم وجهاً واحداً لأنهما طهارتان فلم تجب الموالاة بينهما كسائر الطهارات ولأن في إيجابها حرجاً فينتفي بقوله تعالى (ما جل عليكم في الدين من حرج) (مسألة) قال (وإن وجد ماء يكفي بعض بدنه لزمه إستعماله وتيمم للباقي إن كان جنباً.
وإن كان(1/247)
محدثاً فهل يلزمه استعماله على وجهين) وجملة ذلك أنه إذا وجد الجنب ماء يكفي بعض بدنه لزمه إستعماله وتيمم للباقي نص عليه أحمد فيمن وجد ماء يكفيه لوضوئه وهو جنب قال يتوضأ ويتيمم وهذا قول عطاء وهو أحد قولي الشافعي، وقال الحسن والزهري ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر والقول الثاني للشافعي يتيمم ويتركه لأن هذا الماء لا يطهره فلم يلزمه استعماله كالمستعمل ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وخبر أبي ذر شرط في التيمم عدم الماء.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " رواه البخاري.
ولأنه وجد ما يمكنه استعماله في بعض جسده أشبه مالو كان أكثر جسده صحيحاً وباقيه جريحاً.
ولأنه قدر على بعض الشرط فلزمه كالسترة وإزالة النجاسة والحكم الذي ذكروه في المستعمل ممنوع وإن سلم فلأنه لا يطهر شيئاً منه بخلاف هذا ويجب عليه استعمال الماء قبل التيمم ليتحقق العدم وقد ذكرناه (فصل) فإن وجده المحدث الحدث الأصغر فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين (أحدهما) يلزمه استعماله اختاره القاضي لما ذكرنا في الجنب وكما لو كان بعض بدنه صحيحاً وبعضه جريحاً (والثاني) لا يلزمه لأن الموالاة شرط فيه فإذا غسل بعض الأعضاء دون بعض لم يفد بخلاف الجنابة وكذلك لو وجد الماء في الجنابة أجزأه غسل ما لم يغسله فقط.
وفي الحدث الأصغر يلزمه استئناف الطهارة وفارق ما إذا كان بعض أعضائه صحيحاً وبعضه جريحاً لأن العجز ببعض البدن يخالف العجز ببعض الواجب لأن من بعضه حر إذا ملك يجزئه الحر رقبة لزمه اعتاقها في كفارته.
ولو ملك الحر بعض رقبة لم يلزمه(1/248)
اعتاقه وللشافعي قولان كهذين.
والصحيح أنه يلزمه استعماله لما ذكرنا بمن الأدلة فيما إذا كان جنباً قياساً عليه وكما لو كان بعض أعضائه صحيحاً وما ذكروه من أن العجز ببعض الواجب يخالف العجز ببعض البدن يبطل بالجنب وقولهم أنه إذا وجد الماء في الحدث الأصغر يلزمه استئناف الطهارة - قلنا هذا لا يمنع وجوب استعمال الماء كالجريح.
وإن منعوا ذلك ثم فهذا في معناه والله أعلم، وإن قلنا لا تجب الموالاة في الوضوء فهو كالجنب سواء
(مسألة) قال (ومن عدم الماء لزمه طلبه في رحله وما قرب منه.
وإن دل عليه قريباً لزمه قصده وعنه لا يجب الطلب) المشهور عن أحمد رحمه الله اشتراط طلب الماء لصحة التيمم وهذا مذهب الشافعي وروي عنه لا يشترط الطلب وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام " التراب كافيك ما لم تجد الماء " ولأنه غير واجد للماء قبل الطلب أشبه من طلب فلم يجد - ووجه الاولى قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ولا يقال لم يجد إلا لمن طلب لجواز أن يكون بقربه ماء لا يعلمه ولأنه بدل فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل كالصيام في الظهار ولانه سبب في الصلاة مختص بها فلزمه الاجتهاد في طلبه عند الاعواز كالقبلة.
إذا ثبت هذا فصفة الطلب أن يطلب في رحله وما قرب منه وإن رأى خضرة أو شيئاً يدل على الماء قصده فاستبرأه وإن كان بقربه ربوة أو شئ قائم أتاه فطلب عنده وينظر وراءه وأمامه وعن يمينه وشماله.
وإن كانت له رفقة يدل عليهم طلب منهم وإن وجد من له خبرة بالمكان سأله فان لم يجد تيمم.
فإن دل على ماء قريب لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أو يخشى فوات(1/249)
رفقته ولم يفت الوقت وهذا مذهب الشافعي (فصل) وإنما يكون الطلب بعد الوقت فإن طلب قبله لزمه إعادة الطلب بعده ذكره ابن عقيل لأنه طلب قبل المخاطبة بالتيمم فلم يسقط فرضه كالشفيع إذا طلب الشفعة قبل البيع.
وإن طلب بعد الوقت ولم يتيمم عقيبه جاز التيمم بعد ذلك من غير تجديد طلب (فصل) إذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت أو مر بماء قبل الوقت فتاجوزه وعدم الماء في الوقت صلى بالتيمم من غير إعادة وهو قول الشافعي.
وقال الأوزاعي إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت وإلا صلى بالتيمم من غير إعادة كقولنا وإلا صلى بالتيمم وعليه الإعادة لأنه مفرط ولنا أنه لم يجب عليه استعماله أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت.
فأما إن أراق الماء في الوقت أو مر به في الوقت فلم يستعمله ثم عدم الماء تيمم وصلى، وفي الإعادة وجهان (أحدهما) لا يعيد لأنه صلى بتيمم صحيح فهو كما لو أراقه قبل الوقت (والثاني) يعيد لأنه وجبت عليه الصلاة بوضوء وهو فوت القدرة على نفسه فبقي في عهدة الواجب وإن وهبه بعد دخول الوقت لم تصح الهبة ذكره
القاضي لأنه تعلق به حق الله تعالى فلم تصح هبته كالأضحية.
وقال ابن عقيل يحتمل أن تصح والأول أولى، فإن تيمم مع بقاء الماء لم يصح تيممه لأنه واجد للماء وإن تصرف فيه الموهوب له فهو كما لو أراقه إلا أن يهبه لمحتاج إلى شربه من العطش وقد ذكرناه (مسألة) (وإن نسي الماء بموضع يمكنه استعماله وتيمم لم يجزه) نص عليه أحمد وقطع أنه لا يجزئه وقال هذا واجد للماء وروي عنه التوقف في هذه المسألة والمذهب الأول وهو آخر قولي الشافعي(1/250)
وقال أبو حنيفة وابن المنذر يجزئه وعن مالك كالمذهبين وعنه أنه يعيد ما دام في الوقت لأنه مع النسيان غير قادر على استعمال الماء أشبه العادم ولنا أنها طهارة تجب مع الذكر فلم تسقط بالنسيان كما لو صلى ناسياً لحدثه ثم ذكر أو صلى الماسح ثم بان له انقضاء مدة المسح قبل الصلاة ويفارق ما قاسوا عليه فإنه غير مفرط وههنا مفرط بترك الطلب (فصل) وإن ضل عن رحله الذي فيه الماء أو كان يعرف بئراً فضاعت عنه ثم وجدها فقال ابن عقيل يحتمل أن يكون كالناسي، والصيح أنه لا إعادة عليه وهو قول الشافعي لأنه ليس بواجد للماء فيدخل في عموم قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ولانه غير مفرط بخلاف الناسي، وإن كان الماء مع عبده فنسيه العبد حتى صلى سيده احتمل أن يكون كالناسي واحتمل أن لا يعيد لأن التفريط من غيره فإن صلى ثم بان أنه كان بقربه بئر أوماء فإن كانت أعلامه ظاهرة فعليه الإعادة لأنه مفرط وإن كانت خفية وطلب فلم يجدها فلا إعادة عليه لعدم التفريط والله أعلم (مسألة) (ويجوز التيمم لجميع الأحداث وللنجاسة على جرح يضره إزالتها) يجوز التيمم للحدث الأصغر بغير خلاف علمناه إذا وجدت الشرائط لما ذكرنا من الأدلة ويجوز للجنابة في قول أكثر أهل العلم منهم علي وابن عباس وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري وعماراً وهو قول الثوري ومالك والشافعي(1/251)
واسحاق وأصحاب الرأي وكان ابن مسعود لا يرى التيمم للجنب وروي نحوه عن عمر رضي الله عنهما والدليل على إباحته ما روى عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم
يصل مع القوم فقال " يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟ " فقال أصابتني جنابة ولا ماء فقال " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " متفق عليه وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وحديث صاحب الشجة ولأنه حدث أشبه الحدث الأصغر وحكم الحائض إذا انقطع دمها حكم الجنب (فصل) ويجوز التيمم للنجاسة على بدنه إذا عجز عن غسلها لخوف الضرر أو عدم الماء قال أحمد هو بمنزلة الجنب يتيمم روي نحو ذلك عن الحسن، وقال الاوزاعي والثوري وأبو ثور يمسحها بالتراب ويصلي لأن طهارة النجاسة إنما تكون في محل النجاسة دون غيره.
وقال أكثر الفقهاء لا يتيمم للنجاسة لأن الشرع إنما ورد بالتيمم للحدث وغسل النجاسة ليس في معناه لأن الغسل إنما يكون في محل النجاسة دون غيره ولأن مقصود الغسل إزالة النجاسة ولا يحصل ذلك بالتيمم.
(ووجه الأول) قوله عليه السلام " الصعيد الطيب طهور المسلم " وقوله " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ولأنها طهارة في البدن تراد للصلاة فجاز لها التيمم قياسا على الحدث ويفارق الغسل التيمم فإنه في طهارة الحدث يؤتى به في غير محله فيما إذا تيمم لجرح في رجله بخلاف الغسل - قولهم لم يرد به الشرع قلنا هو داخل في عموم الأخبار، إذا ثبت هذا فتيمم وصلى فهل تلزمه الإعادة؟ فيه(1/252)
روايتان (إحداهما) لا تجب عليه الإعادة لأنه أتى بما أمر (والثانية) تجب عليه لأنه صلى مع النجاسة أشبه إذا لم يتمم.
واختار أبو الخطاب وجوب الإعادة فيما إذا تيمم لعدم الماء بخلاف ما إذا كانت النجاسة على جرح لأنه خائف للضرر باستعمال الماء أشبه المريض.
وقال أصحابنا لا تلزمه الإعادة فيهما لقوله عليه السلام " التراب كافيك ما لم تجد الماء " وقياساً على طهارة الحدث وكما لو تيمم للنجاسة على الجرح عند أبي الخطاب فأما إن كانت النجاسة على ثوب لم يتيمم لها لأن التيمم طهارة في البدن فلا تنوب عن غير البدن كالغسل (فصل) إذا ثبت أنه تيمم للنجاسة فقال القاضي يحتمل أن لا يحتاج إلى نية لأن غسلها لا يفتقر إلى نية كذلك التيمم لها وقياساً على الاستجمار، قال ابن عقيل ويحتمل أن يشترط لقوله عليه السلام " وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأن التيمم طهارة حكمية، وغسل النجاسة بالماء طهارة عينية فجاز أن تشترط النية في الحكمية دون العينية لما بينهما من الاختلاف
(فصل) وإن اجتمع عليه نجاسة وحدث ومعه ماء يكفي أحدهما حسب قدم غسل النجاسة نص عليه أحمد وروي عن سفيان ولا نعلم فيه خلافاً لأن التيمم للحدث ثابت بالإجماع والتيمم للنجاسة مختلف فيه، وإن كانت النجاسة على ثوبة قدم غسلها وتيمم للحدث، وحكي عن أحمد أنه يدع الثوب ويتوضأ لأنه واجد للماء والوضوء أشد من الثوب وحكاه أبو حنيفة عن حماد في الدم والأول أولى لما ذكرنا، ولأنه إذا قدمت نجاسة البدن مع أن للتيمم فيها مدخلاً فتقديم طهارة الثوب وليس له فيها مدخل أولى.
وإ ن اجتمع نجاسة على الثوب ونجاسة على البدن غسل الثوب وتيمم لنجاسة البدن لأن للتيمم فيها مدخلاً (مسألة) وإن تيمم في الحضر خوفاً من البرد وصلى ففي وجوب الإعادة روايتان (إحداهما) تجب عليه الإعادة لأن الحضر مظنة إسخان الماء ودخول الحمامات فهو عذر نادر بخلاف السفر (والثانية) لا إعادة عليه لأنه خائف أشبه المريض والمسافر (مسألة) فإن عدم الماء والتراب صلى على حسب حاله في الصحيح من المذهب وهو قول الشافعي وروي عن أحمد أنه لا يصلي حتى يقدر على أحدهما وهو قول الثوري والاوزاعي وأبي حنيفة لأنها(1/253)
عبادة لا تسقط القضاء فلم تجب كصيام الحائض.
وقال مالك لا يصلي ولا يقضي لأنه عجز عن الطهارة فلم تجب عليه الصلاة كالحائض قال ابن عبد البر هذه رواية منكرة عن مالك وذكر عن أصحابه قولين (أحدهما) كقول أبي حنيفة (والثاني) يصلي ويعيد ولنا ما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء فأتوا للنبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا أمرهم بإعادة فدل على أنها غير واجبة ولأن الطهار شرط فلم تؤخر الصلاة عند عدمه كالسترة، إذا ثبت هذا فصلى ثم وجد الماء والتراب لم تجب عليه الإعادة في أصح الروايتن لما ذكرنا من الخبر ولأنه أتى بما أمر فوجب أن يخرج عن العهدة ولأنه أحد شروط الصلاة فسقط عند العجز كسائر شروطها (والثانية) تجب عليه الإعادة وهو مذهب الشافعي لأنه فقد شرط الصلاة أشبه مالو
صلى بالنجاسة والاولى أولى لما ذكرنا وما قاسوا عليه ممنوع.
فأما قياس أبي حنيفة على الحائض في تأخير الصيام فلا يصح لأن الصوم يدخله التأخير بخلاف الصلاة لأن المسافر يؤخر الصوم دون الصلاة ولأن عدم الماء لو قام مقام الحيض لأسقط الصلاة بالكلية لأن قياس الصلاة على جنسها أولى من قياسها على الصوم وقياس مالك لا يصح لمخالفته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " ولأن قياس الطهارة على شرائط الصلاة أولى من قياسه على الحائض والحيض عذر معتاد يتكرر والعجز ههنا عذر نادر فلا يصح إلحاقه بالحيض لأن النادر لا يشق إيجاب القضاء فيه بخلاف المعتاد ولأنه عذر نادر فلم يسقط الفرض كنسيان الصلاة وفقد سائر الشروط والله أعلم (مسألة) (ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد) لأن الله تعالى قال (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) قال ابن عباس الصعيد تراب الحرث والطيب الطاهر وقال سبحانه (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) وما لا غبار له لا يمسح بشئ منه.
وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو يوسف وداود وقال مالك وأبو حنيفة يجوز بكل ما كان من جنس الأرض كالنورة والزرنيخ والحجارة وقال الأوزاعي الرمل من الصعيد.
وقال حماد بن أبي سليمان لا بأس ان يتيمم بالرخام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً " رواه البخاري ولأنه من جنس(1/254)
الأرض فجاز التيمم به كالتراب.
ولنا أن الله تعالى أمر بالصعيد وهو التراب وقال (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ولا يحصل المسح بشئ منه إلا أن يكون ذا غبار يعلق باليد، وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله جعل لي التراب طهوراً " وذكر الحديث رواه الشافعي في مسنده ولو كان غير التراب طهوراً ذكره فيما من الله به عليه، ولأن الطهارة اختصت بأعم المائعات وجوداً وهو الماء فتختص بأعم الجامدات وجوداً وهو التراب وحديثهم تخصه بحديثنا (فصل) فأما السبخة فعن أحمد أنه يجوز التيمم بها رواها عنه أبو الحارث أنه قال أرض الحرث أحب إلي، وإن تيمم من أرض السبخة أجزأه وهذا مذهب الشافعي والاوزاعي وابن المنذر
لقوله عليه السلام " وجعل تربتها طهوراً " وعن أحمد في الرمل والنورة والجص نحو ذلك، وحمل القاضي قول أحمد في جواز التيمم بذلك إذا كان له غبار والموضع الذي منع إذا لم يكن لها غبار، وعنه قول ثالث أنه يجوز ذلك مع الإضطرار خاصة رواه عنه سندي.
وقال الخلال إنما سهل أحمد فيها مع الأضطرار إذا كانت غبرة كالتراب، فمأ إذا كانت قحلة كالملح فلا يتيمم بها أصلاً، وقال ابن أبي موسى يتيمم عند عدم التراب بكل طاهر تصاعد على وجه الأرض مثل الرمل والسبخة والنورة والكحل وما في معنى ذلك ويصلي وهل يعيد؟ على روايتين (فصل) وإن دق الخزف أو الطين المحرق لم يجز التيمم به لأن الطبخ أخرجه عن أن يقع عليه اسم التراب وكذا إن نحت المرمر والكذان حتى صار غباراً لم يجز التيمم به لأنه غير تراب وإن دق الطين الصلب كالأرمني جاز تيممه به لأنه تراب.
وقال ابن عقيل يخرج عندي فيه وجهان لشبهة بالمعادن فهو كالنورة، وإن ضرب بيده على لبد أو ثوب أو في شعير أو نحوه فعلق بيديه غبار فتيمم به جاز نص عليه أحمد وكذلك لو ضرب بيده على صخرة أو حائط أو حيوان أو أي شئ كان فصار على يده(1/255)
غبار بدليل ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه.
رواه أبو داود، ولأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، وقد روي عن مالك وأبي حنيفة التيمم بصخرة لا غبار عليها وتراب ندي لا يعلق باليد منه غبار، وأجاز مالك التيمم بالثلج والحشيش وكل ما تصاعد على وجه الأرض ومنع من التيمم بغبار اللبد والثوب قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضرب بيديه نفخهما ولنا قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ومن للتبعيض فيحتاج أن يمسح بجزء منه والنفخ لا يزيل الغبار الملاصق وذلك يكفي.
وروى الأثرم عن عمر أنه قال: لا يتيمم بالثلج فان لم يجد فصفحة فرسه (1) أو معرفة دابته (فصل) فأما التراب النجس فلا يجوز التيمم به لا نعلم فيه خلافاً إلا أن الأوزاعي قال إن تيمم بتراب المقبرة وصلى مضت صلاته.
ولنا قوله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا) والنجس ليس بطيب ولأن
التيمم طهارة لم تجز بغير طاهر كالوضوء، فأما المقبرة فإن كانت لم تنبش فترابها طاهر وإن تكرر نبشها والدفن فيها لم يجز التيمم بترابها لاختلاطه بصديد الموتى ولحومهم ذكر ذلك شيخنا.
وقال ابن عقيل في التربة المنبوشة لا يجوز التيمم منها سوا تكرر النبش أم لا، وإن شك في ذلك أو في نجاسة التراب الذي يتيمم به جاز التيمم به لأن الأصل الطهارة فهو كما لو شك في نجاسة الماء، وذكر ابن عقيل فيما إذا لم يعلم حال المقبرة وجهين (أحدهما) يجوز لما ذكرنا (والثاني) لا يجوز لأن الظاهر من الدفن فيها حصول النجاسة في بعضها فيشتبه بغيره والمشتبه لا تجوز الطهارة به كالأواني.
قال ابن عقيل ويكره الوضوء من البئر الذي في المقبرة وأكل البقل وثمر الشجر الذي فيها كالزروع التي تسمد بالنجاسة وكالجلالة
__________
1) عبارة المغني فضفة سرجه(1/256)
(فصل) ويجوز أن يتيمم جماعة من موضع واحد بغير خلاف كما يجوز أن يتوضؤا من حوض واحد، فأما التراب الذي يتناثر من الوجه واليدين بعد مسحهما به ففيه وجهان (أحدهما) يجوز التيمم به لأنه لم يرفع الحدث وهو قول أبي حنيفة (والثاني) لا يجوز لأنه مستعمل في طهارة أباحت الصلاة أشبه الماء المستعمل في الطهارة وللشافعي وجهان كهذين وكذلك التراب الذي بقي على وجه المتيمم ويديه إذا مسح غيره به أعضاء تيممه كالماء المستعمل (مسألة) (فإن خالطه ذو غبار لا يجوز التيمم به كالجص ونحوه فهو كالماء إذا خالطته الطاهرات) إن كانت الغلبة للتراب جاز وإن كانت للمخالط لم يجز، ذكره القاضي وأبو الخطاب قياساً على الماء وقال ابن عقيل يمنع التيمم به وإن كان قليلاً، وهو مذهب الشافعي لأنه ربما حصل في العضو فمنع وصول التراب إليه بخلاف الماء فإن المائع يستهلك فيه فلا يجري على العضو إلا ومعه جزء من الماء، فأما إن كان المخالط لا يعلق باليد لم يمنع لأن أحمد قد نص على جواز التيمم من الشعير وذلك لأنه لا يحصل على اليد منه بما يحول بين الغبار وبينها (فصل) فإن خالطه نجاسة فقال ابن عقيل: لا يجوز التيمم به وإن كثر التراب لأن التراب لا يدفع النجاسة عن نفسه فهو كالمائعات تتنجس بالنجاسة وإن كثرت
(فصل) وإن كان في طين لا يجد تراباً فحكي عن ابن عباس أنه يأخذ الطين فيطلي به جسده فإذا جف تيمم به وإن خاف فوات الوقت قبل جفافه فهو كالعادة، ويحتمل أنه إن كان يجف قريباً انتظر جفافه وإن فات الوقت كالمشتغل بتحصيل الماء من بئر ونحوه، وإن لطخ وجهه بطين لم يجزه لأنه لا يقع عليه اسم الصعيد ولأنه لا غبار فيه أشبه التراب الندي (فصل) (فرائض التيمم أربعة: مسح جميع وجهه ويديه إلى كوعيه والترتيب والموالاة على إحدى(1/257)
الروايتين) لا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين في التيمم لقوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ويجب استيعاب الوجه والكفين بالمسح فيمسح ما يأتي عليه الماء إلا المضمضة والاستنشاق وما تحت الشعور الخفيفة وهذا قول الشافعي، وقال سليمان بن داود يجزئه إذا لم يصب إلا بعض وجهه وبعض كفيه ولنا قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) والباء للإلصاق فصار كأنه قال فامسحوا وجوهكم وأيديكم، فيجب تعميمهما كما وجب تعميمهما بالغسل بقوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) فإن بقي من محل الفرض شئ لم يصله التراب أمر يده عليه ما لم يفصل راحته فإن فصل راحته وكان قد بقي عليها غبار جاز أن يمسح بها وإن لم يبق عليها غبار احتاج إلى ضربة أخرى، وإن كان المتروك من الوجه مسحه وأعاد مسح يديه ليحصل الترتيب، وإن تطاول الفصل بينهما وقلنا بوجوب الموالاة استأنف التيمم ويرجع في طول الفصل وقصره إلى القدر الذي ذكرناه في الطهارة لأن التيمم فرع عليها وقد ذكرنا الخلاف في وجوب الترتيب والموالاة في الوضوء وذكرنا الدليل بما يغني عن إعادته والتيمم مبني عليه لأنه بدل عنه ومقيس عليه، وظاهر المذهب وجوبهما في الوضوء كذلك ههنا، والحكم في التسمية ههنا كالحكم في التسمية في الوضوء على ما ذكرنا من الخلاف فيه (فصل) ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق أومأ إليه أحمد وقال: قال الله(1/258)
تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) من أين تقع يد السارق أليس من ههنا.
وأشار إلى الرسغ
وقد روينا عن ابن عباس نحو هذا، وقال الشافعي يجب المسح إلى المرفقين كالوضوء وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فإن كان أقطع من فوق الرسغ سقط مسح اليدين وإن كان من دونه مسح ما بقي وإن كان من المفصل فقال ابن عقيل يمسح موضع القطع ونص عليه أحمد لأن الرسغين في التيمم كالمرفقين في الوضوء فكما إنه إذا قطع من المرفقين في الوضوء غسل ما بقي كذلك ههنا يمسح العظم الباقي وقال القاضي يسقط الفرض لأن محله الكف الذي يؤخذ في السرقة وقد ذهب لكن يستحب إمرار التراب عليه، ومسح العظم الباقي مع بقاء اليد إنما كان ضرورة استيعاب الواجب لأن الواجب لا يتم إلا به فإذا زال الأصل أسقط ما هو من ضرورته كمن سقط عنه غسل الوجه لا يجب عليه غسل جزء من الرأس (فصل) وإن أوصل التراب إلى محل الفرض بخرقة أو خشبة فقال القاضي يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح ولم يعين آلته وقال ابن عقيل فيه وجهان بناء على مسح الرأس بخرقة رطبة وإن مسح محل الفرض بيد واحدة أو ببعض يده أجزأه وإن يممه غيره جاز كما لو وضأه وتعتبر النية في المتيمم دون الميمم لأنه الذي يتعلق به الإجزاء والمنع (مسألة) (ويجب تعيين النية لما يتيمم له من حدث أو غيره) وجملته أن النية شرط للتيمم وهو قول أكثر أهل العلم منهم الليث وربيعة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم عن غيرهم خلافهم إلا ما حكي عن الاوزاعي والحسن بن صالح أنه يصح بغير نية وقد ذكرنا قول القاضي في التيمم للنجاسة، وسائر أهل العلم على خلافهم لقوله عليه السلام " وإنما لأمرئ ما نوى " وينوي به(1/259)
استباحة الصلاة فإن نوى رفع الحدث لم يصح تيممه لأنه لا يرفع الحدث قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن طهارة التيمم لا ترفع الحدث إذا وجد الماء بل إذا وجده أعاد الطهارة جنباً كان أو محدثاً وهذا مذهب مالك والشافعي وغيرهما، وحكي عن أبي حنيفة أنه يرفع الحدث وعن أحمد ما يدل على ذلك لأنها طهارة عن حدث تبيح الصلاة فرفعت الحدث كطهارة الماء ولنا أنه لو وجد الماء لزمه استعماله لرفع الحدث الذي كان قبل التيمم وإن كان جنباً أو محدثاً أو امرأة حائضاً ولو رفع الحدث لاستوى الجميع لاستوائهم في الوجدان ولأنها طهارة ضرورة فلم ترفع
الحدث كطهارة المستحاضة وبهذا فارق الماء (فصل) ويجب تعيين النية لما يتيمم له من الحدث الأصغر والجنابة والحيض والنجاسة وإن كان التيمم عن جرح في عضو من أعضائه نوى التيمم عن غسل ذلك العضو لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وانما لا مرئ ما نوى " (مسألة) (فإن نوى جميعها جاز) لقوله عليه السلام " وإنما لأمرئ ما نوى " ولأن فعله واحد أشبه ما لو كانت عليه أحداث توجب الوضوء أو الغسل فنواها وقال ابن عقيل إذا كان عليه حدث ونجاسة هل يكتفي بتيمم واحد؟ يبني على تداخل الطهارتين في الغسل فإن قلنا لا يتداخلان ثم فأولى أن لا يتداخلا ههنا لكونهما من جنسين وإن قلنا يتداخلان فقال القاضي ههنا كذلك قياساً عليه فعلى هذا يتيمم لها تيمماً واحداً قال والأشبه عندي لا يتداخلان كالكفارات والحدود وإذا كانت من جنسين والأول أصح.
(مسألة) قال (وإن نوى أحدهما لم يجزه عن الآخر) وبهذا قال مالك وأبو ثور وقال أبو(1/260)
حنيفة والشافعي يجزئه لأن طهارتهما واحدة فسقطت إحداهما بفعل الأخرى كالبول والغائط، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنما لا مرئ ما نوى " فيدل على أنه لا يحصل له ما لم ينوه، ولأنها أسباب مختلفة فلم تجزي نية بعضها عن الآخر كالحج والعمرة وهذا يفارق ما قاسوا عليه فإن حكمهما واحد وهو الحدث الأصغر ولهذا تجزئ نية أحدهما عن نية الآخر في طهارة الماء (فصل) إذا تيمم للجنابة دون الحدث الأصغر أبيح له ما يباح للمحدث من قراءة القرآن واللبث في المسجد ولم تبح له الصلاة والطواف ومس المصحف فإن أحدث لم يؤثر ذلك في تيممه كمالا يؤثر في الغسل.
وإن تيمم للجنابة والحدث ثم أحدث بطل تيممه للحدث وبقي تيمم الجنابة بحاله، ولو تيممت المرأة بعد طهرها من حيضها للحيض ثم أجنبت لم يحرم وطؤها لأن حكم تيمم الحيض باق ولا يبطل بالوطئ لأنه إنما يوجب حدث الجنابة، وقال ابن عقيل أن قلنا كل صلاة تحتاج إلى تيمم احتاج كل وطئ إلى تيمم يخصه والأول أصح
(مسألة) (وإن نوى نفلا أو أطلق النية للصلاة لم يصل إلا نفلاً) وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة له أن يصلي بها ما شاء ويتخرج لنا مثل ذلك إذا قلنا إن التيمم لا يبطل بخروج الوقت فيكون حكمه حكم طهارة الماء لأنها طهارة يصح بها النفل فأشبهت طهارة الماء(1/261)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لأمرئ ما نوى " وهذا ما نوى الفرض فلا يحصل له وفارق طهارة الماء لأنها ترفع الحدث المانع من فعل الصلاة فيباح له جميع ما يمنعه الحدث ولا يلزمه استباحة النفل بنية الفرض لأن الفرض أعلى ما في الباب فنيته تضمنت نية ما دونه فإذا إستباحة استباح ما دونه تبعاً (مسألة) قال (وإن نوى فرضاً فله فعله والجمع بنى الصلاتين وقضاء الفوائت والتنفل إلى آخر الوقت) وجملة ذلك أنه متى نوى بتيممه فريضة سواء كانت معينة أو مطلقة فله أن يصلي ما شاء من الصلوات فيصلي الحاضرة ويجمع بين الصلاتين ويقضي فوائت إن كان عليه ويتطوع قبل الصلاة وبعدها إلى آخر الوقت هذا قول أبي ثور.
وقال مالك والشافعي لا يصلي به فرضين وقد روي عن أحمد أنه قال لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للأخرى.
وهذا يحتمل أن يكون مثل قولهما لما(1/262)
روى ابن عباس أنه قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للأخرى وهذا مقتضى سنة محمد صلى الله عليه وسلم ولأنها طهارة ضرورة فلا يجمع فيها بين فريضتين كما لو كانا في وقتين ولنا أنها طهارة صحيحة أباحت فرضاً فأباحت فرضين كطهارة الماء ولأنه بعد الفرض الأول تيمم صحيح مبيح للتطوع نوى به المكتوبة فكان له أن يصلي به فرضاً كحالة ابتدائه.
ولأن الطهارة في الأصول إنما تتقيد بالوقت دون الفعل كطهارة الماسح على الخف وهذه في النوافل وطهارة المستحاضة ولأن كل تيمم أباح صلاة أباح ما هو من نوعها بدليل النوافل، وأما حديث ابن عباس فيرويه الحسن ابن عمارة وهو ضعيف ثم يحتمل أنه أراد أن لا يصلي به صلاتين في وقتين بدليل أنه يجوز أن يصلي به صلاة من التطوع وإنما امتنع أن يصلي به فرضين في وقتين لبطلان التيمم بخروج الوقت ولذلك لا تصح به نافلة بخلاف هذا
(فصل) وإذا تيممت الحائض عند انقطاع دمها وقلنا أن التيمم لا يبطل إلا بالحدث جاز له وطؤها ما لم تحض وإن قلنا يبطل بخروج الوقت فمتى خرج إحتاجت إلى تيمم للوطئ وإن قلنا يتيمم لكل فريضة احتاج كل وطئ إلى تيمم ذكره ابن عقيل(1/263)
(فصل) إذا نوى الفرض استباح كل ما يباح بالتيمم من النفل قبل الفرض وبعده وقراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك لا يتطوع قبل الفريضة بصلاة غير راتبة وروي ذلك عن أحمد لأن النفل تبع للفرض فلا يتقدم المتبوع ولنا أنه تطوع فأبيح له فعله إذا نوى الفرض كالسنن الراتبة وكما بعد الفرض، وقوله أنه تبع قلنا إنما هو تبع في الإستباحة لا في الفعل كالسنن الراتبة وقراءة القرآن وغيرهما، وإن نوى نافلة أبيح له قراءة القرآن ومس المصحف والطواف لأن النافلة آكد من ذلك كله لكون الطهارة مشترطة لها بالإجماع وفيما سواها خلاف فدخل في نيتها كدخول النافلة في الفريضة ولأن النافلة تشتمل على قراءة القرآن، وإن نوى شيئاً من ذلك لم تبح له النافلة لأنها أعلى منه لما بينا، وإن نوى الطواف أبيح له قراءة القرآن واللبث في المسجد لأنه أعلى منهما فإنه صلاة وله نفل وفرض ويدخل في ضمنه اللبث في المسجد لأنه إنما يكون في المسجد وإن نوى أحدهما لم يستبح الطواف لأنه أعلى منهما وإن نوى فرض الطواف إستباح نفله ولا يستبيح الفرض منه بنية النفل كالصلاة، وإن نوى قراءة القرآن لكونه جنباً أو مس المصحف أو اللبث في المسجد لم يستبح غير ما نواه لقوله عليه السلام " وإنما لأمرئ ما نوى " (فصل) وإن تيمم الصبي لإحدى الصلوات الخمس ثم بلغ لم يستبح بتيممه فرضاً لأن ما نواه كان(1/264)
نفلاً، ويباح له أن يتنفل به كما نوى به البالغ النفل، فأما إن توضأ قبل البلوغ ثم بلغ فله أن يصلي به فرضاً ونفلاً لأن الوضوء للنفل يبيح فعل الفرض (فصل) وإذا قلنا يجوز أن يصلي بالتيمم فرائض إلى آخر الوقت جاز أن يطوف طوافي فرض وطوافي فرض ونذر، وأن يصلي على جنائز إذا تعينت عليه وإن فاتته صلاة لا يعلم عينها كفاه تيمم
واحد يصلي به خمس صلوات، وإن قلنا لا يصلي به إلا فرضاً واحداً فينبغي أن يحتاج كل واحد مما ذكرنا إلى تيمم قياساً عليه(1/265)
(مسألة) (ويبطل التيمم بخروج الوقت ووجود الماء ومبطلات الوضوء) مبطلات التيمم ثلاثة كما ذكر وزاد بعض أصحابنا ظن وجود الماء على ما يأتي ذكره وخروج الوقت مبطل للتيمم في ظاهر المذهب فلا يجوز أن يصلي بالتيمم صلاتين في وقتين روى ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وهو قول الشعبي والنخعي وقتادة ومالك والشافعي واسحاق، وروى الميموني عن أحمد أنه قال في المتيمم أنه ليعجبني أن يتيمم لكل صلاة ولكن القياس أنه بمنزلة الطهارة حتى(1/266)
يجد الماء أو يحدث لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الجنب يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين وإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك " وهذا مذهب سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عباس كما ذكرنا ولأنها طهارة تبيح الصلاة فلم تتقدر بالوقت كطهارة الماء(1/267)
ولنا أنه روي عن علي وابن عمر أنه قال يتيمم لكل صلاة ولأنها طهارة ضرورة فتقيدت بالوقت كطهارة المستحاضة وطهارة الماء ليست للضرورة بخلاف مسئلتنا والحديث أراد به أنه يشبه الوضوء في إباحة الصلاة ولا يلزم التساوي في سائر الأحكام (الثاني) وجود الماء المقدور على استعماله من غير ضرر على ما مر في موضعه وهو مبطل للتيمم خارج الصلاة إجماعاً لا نعلم فيه خلافاً لما ذكرنا(1/268)
من الأحاديث، وإن وجده في الصلاة ففيه اختلاف نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى (الثالث) مبطلات الوضوء وهو مبطل للتيمم عن الحدث الأصغر لأنه بدل عنه فإذا أبطل الأصل أبطل البدل بطريق الأولى فأما التيمم عن الجنابة فلا يبطل إلا بخروج الوقت ووجود الماء وموجبات
الغسل وكذلك التيمم لحدث الحيض والنفاس لا يزول حكمه إلا بحدثهما أو بأحد الأمرين (مسألة) (فإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه ثم خلعه لم يبطل تيممه وقال أصحابنا يبطل)(1/269)
إذا تيمم وعليه خف أو عمامة يجوز المسح عليها ثم خلعها أو خلع الخف لم يبطل تيممه في اختيار شيخنا، وقال أصحابنا يبطل قال بعضهم نص عليه أحمد لأنه مبطل للوضوء فأبطل التيمم كسائر مبطلاته وهذا يختص التيمم عن الحدث الأصغر على ما ذكرنا، والصحيح ما اختاره شيخنا رحمه الله وهو قول سائر الفقهاء لأن التيمم طهارة لم يمسح فيها عليه فلا يبطل بنزعه كطهارة الماء وكما لو كان الملبوس مما لا يجوز المسح عليه.
ولا يصح قولهم أنه مبطل للوضوء لأن مبطل الوضوء نزع ما هو ممسوح عليه فيه ولم يوجد ههنا.
ولأن إباحة المسح لا يصير بها ماسحاً ولا بمنزلة الماسح كما لو لبس عمامة يجوز المسح عليها(1/270)
ومسح على رأسه من تحتها فإن الطهارة لا تبطل بنزعها كذلك هذا (فصل) ويجوز التيمم لكل ما يتطهر له من نافلة أو مس مصحف أو قراءة قرآن أو سجود تلاوة أو شكر أو لبث في مسجد، قال أحمد يتيمم ويقرأ جزأه يعني الجنب وبذلك قال عطاء ومكحول والزهري ومالك والشافعي والثوري وأصحاب الرأي، وقال أبو مجلز لا يتيمم إلا لمكتوبة، وكره الأوزاعي أن يمس المتيمم المصحف ولنا حديث أبي ذر وقوله عليه السلام " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ولأنه يستباح بطهارة الماء فيستباح بالتيمم كالمكتوبة(1/271)
(فصل) فإن تيمم ثم رأى ركباً يظن أن معه ماء أو خضرة أوما يدل على الماء وقلنا بوجوب الطلب بطل تيممه وكذلك إن رأى سراباً ظنه ماء وهو قول الشافعي لأنه لما وجب الطلب بطل التيمم وسواء تبين له خلاف ظنه أو لا (قال شيخنا) ويحتمل أن لا يبطل تيممه لأن الطهارة المتيقنة لا تبطل بالشك كطهارة الماء ووجوب الطلب لا يبطل التيمم لأن كونه مبطلاً إنما ثبت بدليل شرعي وليس
ههنا نص ولا معنى نص فينتفي الدليل (مسألة) (وإن وجد الماء بعد الصلاة لم تجب إعادتها) وجملته أن العادم للماء في السفر إذا وجد الماء بعد خروج الوقت وكان قد صلى بالتيمم لم تجب عليه إعادة الصلاة إجماعاً حكاه ابن المنذر وإن وجد في الوقت لم يلزمه أيضاً إعادة سواء يئس من وجود الماء في الوقت أو ظن وجوده فيه وهذا قول أبي سلمة والشعبي والنخعي والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي وقال عطاء وطاوس والقاسم بن محمد وابن سيرين والزهري يعيد الصلاة ولنا ما روى أبو داود عن أبي سعيد أن رجلين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيما صعيدا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال للذي لم يعد " أصبت وأجزأتك صلاتك " وقال للذي أعاد " لك الأجر مرتين " واحتج أحمد بأن ابن عمر تيمم وهو يرى بيوت المدينة فصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد، ولأنه أدى فرضه كما أمر فلم تلزمه الإعادة كما لو وجده بعد الوقت ولأن عدم الماء عذر معتاد فإذا تيمم معه يجب أن يسقط فرض الصلاة كالمرض وكما لو وجده بعد الوقت(1/272)
(مسألة) (وإن وجده فيها بطلت وعنه لا تبطل) ظاهر المذهب أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء وهو في الصلاة بطل تيممه وبطلت صلاته لبطلان طهارته فيتوضأ إن كان محدثاً ويغتسل إن كان جنباً واستقبل الصلاة ويتخرج أن يبني على ما مضى من صلاته كمن سبقه الحدث.
وفيه روايتان أصحهما أن يستقبل الصلاة وههنا أولى لأن ما مضى من صلاته إنبنى على طهارة ضعيفة فلم يكن له البناء عليه كطهارة المستحاضة بخلاف من سبقه الحدث.
والقول ببطلان الصلاة قول الثوري وأبي حنيفة وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا تبطل الصلاة وروى عن أحمد نحو ذلك وروي عنه أنه قال كنت أقول يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية، واحتجوا بأنه وجد المبدل بعد تلبسه بمقصود البدل فلم يلزمه الخروج كما لو وجد الرقبة بعد التلبس بالصيام ولأنه غير قادر على استعمال الماء لأن قدرته تتوقف على إبطال الصلاة وهو منهي
عن إبطالها بقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) ولنا قوله عليه السلام " الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك " أخرجه أبو داود والنسائي.
دل بمفهومه على أنه لا يكون طهوراً عند وجود الماء وبمنطوقه(1/273)
على وجوب استعماله عند وجوده ولأنه قدر على استعمال الماء فبطل تيممه كالخارج من الصلاة ولأن التيمم طهارة ضرورة فبطلت بزوال الضرورة كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها.
وقياسهم لا يصح فإن الصوم هو البدل نفسه فنظيره إذا قدر على الماء بعد تيممه ولا خلاف في بطلانه، ثم الفرق بينهما أن مدة الصيام تطول فيشق الخروج منه لما فيه من الجمع بين فرضين شاقين بخلاف مسئلتنا.
وقوله هو غير قادر غير صحيح فإن الماء قريب وآلته صحيحة والموانع منتفية.
قولهم إنه منهي عن إبطال الصلاة قلنا لم يبطلها وإنما هي بطلت بزوال الطهارة كما في نظائرها (فصل) فإن وجد الماء قد ولغ فيه بغل أو حمار أو شئ من سباع البهائم وقلنا إنه مشكوك فيه لم يلزمه الخروج لأنه دخل في الصلاة بطهارة متيقنة فلم يخرج بأمر مشكوك فيه ذكره ابن عقيل، قال ويحتمل ان يخرج كما لو وجد ماء طاهراً والأول أولى.
وكذلك إن رأى ركباً أو خضرة أو ما يدل على الماء في الصلاة لم تبطل صلاته ولا تيممه لأنه دخل فيها بطهارة متيقنة فلا تزول بالشك (فصل) والمصلي على حسب حاله بغير وضوء ولا تيمم إذا وجد ماء في الصلاة أو تراباً خرج منها بكل حال لأنها صلاة بغير طهارة، ويحتمل أن لا يخرج منها إذا قلنا لا تلزمه الإعادة كما في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة ولأن الطهارة شرط سقط إعتباره فأشبهت السترة إذا عجز عنها فصلى عرياناً ثم وجد السترة في أثناء الصلاة قريباً منه، وكل صلاة تلزمه إعادتها فإنه يلزمه الخروج منها إذا زال العذر فيها ويلزمه إستقبالها (فصل) ولو يمم الميت ثم قدر على الماء في أثناء الصلاة عليه لزمه الخروج لأن غسل الميت ممكن غير متوقف على إبطال المصلي صلاته بخلاف مسئلتنا، ويحتمل أن يكون كمسئلتنا لأن الماء وجد بعد الدخول في الصلاة
(فصل) وإذا قلنا لا يلزم المصلي الخروج لرؤية الماء فهل يجوز له الخروج؟ فيه وجهان (أحدهما)(1/274)
له ذلك لأنه شرع في مقصود البدل فجاز له الرجوع الى المبدل كمن شرع في صوم الكفارة يجوز له الانتقال إلى العتق (والثاني) لا يجوز له الخروج وهو أولى لأن ما لا يوجب الخروج من الصلاة لا يبيحه كسائر الأشياء ولأن فيه إبطالاً للغسل فلم يجز لقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) إذا رأى ماء في الصلاة ثم انقلب قبل استعماله بطل تيممه وصلاته إن قلنا يلزمه الخروج منها ويلزمه استئناف التيمم والصلاة.
وإن قلنا لا يبطل واندفق وهو في الصلاة فقال ابن عقيل ليس له أن يصلي بذلك التيمم صلاة أخرى وهو مذهب الشافعي لأن رؤية الماء حرمت عليه إفتتاح صلاة أخرى.
ولو تلبس بنافلة ثم رأى ماء فإن كان نوى عدداً أتى به وإن لم يكن نوى عدداً لم يكن له أن يزيد على ركعتين لأنه أقل الصلاة على ظاهر المذهب قال شيخنا، ويقوى عندي أننا إذا قلنا لا تبطل الصلاة برؤية الماء فله إفتتاح صلاة أخرى لأن رؤية الماء لم تبطل التيمم في الصلاة ولا وجد بعدها ما يبطله فأشبه ما لو رآه وبينه وبينه سبع ثم اندفق قبل زوال المانع فعلى هذا له أن يصلي ما يشاء كما لو رأى الماء والله أعلم (فصل) وإن خرج الوقت وهو في الصلاة بطل تيممه وصلاته لأن طهارته انتهت بانتهاء وقتها فبطلت كما لو انقضت مدة المسح وهو في الصلاة (مسألة) (ويستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء) ذكره أبو الخطاب وإن يئس من وجوده استحب تقديمه وهذا مذهب مالك، وقال الشافعي في أحد قوليه التقديم أفضل إلا أن يكون واثقاً بوجود الماء في الوقت لان أول الوقت فضيلة متيقنة فلا تترك لأمر مظنون، وظاهر كلام الخرقي إستحباب تأخير التيمم بكل حال وهو قول القاضي نص عليه أحمد روى ذلك(1/275)
عن علي وعطاء والحسن وابن سيرين والزهري والثوري وأصحاب الرأي لقول علي رضي الله عنه
في الجنب يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت فإن وجد الماء وإلا تيمم، ولأنه يستحب تأخير الصلاة إلى بعد العشاء وقضاء الحاجة كيلا يذهب خشوعها وحضور القلب فيها، ويستحب تأخيرها لإدراك الجماعة فتأخيرها لإدراك الطهارة المشترطة أولى (مسألة) (فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه) ولا تجب عليه الإعادة سواء وجد الماء في الوقت أو لم يجد وقد ذكرنا ذلك ولأنه أتى بما أمر في حال العذر فلم تجب عليه الإعادة بزوال العذر كمن صلى عرياناً ثم قدر على السترة وكمن صلى جالساً لمرض ثم برأ في الوقت (مسألة) (والسنة في التيمم أن ينوي ويسمي ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة فيمسح وجهه بباطن أصابعه وكفيه براحتيه) المسنون عن أحمد رحمه الله التيمم بضربة واحدة، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله التيمم ضربة واحدة؟ فقال نعم للوجه والكفين.
ومن قال ضربتين فإنما هو شئ زاده، قال الترمذي وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم منهم علي وعمار وابن عباس وعطاء والشعبي والاوزاعي ومالك واسحاق، قال الشافعي: لا يجزئ التيمم إلا بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين، وروي ذلك عن ابن عمر وابنه سالم والحسن والثوري وأصحاب الرأي لما روى ابن الصمة أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه، وروى ابن عمر وجابر وأبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " ولأنه بدل يؤتى به في محل مبدله فكان حده فيهما واحداً كالوجه، ولنا ما روى عمار قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه متفق عليه، ولأنه حكم علق على مطلق اليدين فلم يدخل فيه الذراع كقطع السارق ومس الفرج، وقد احتج ابن عباس بهذا وأما أحاديثهم فضعيفة قال الخلال الأحاديث في ذلك ضعاف جداً ولم يرو أصحاب السنن منها إلا حديث ابن عمر، وقال أحمد ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندهم(1/276)
حديث منكر قال الخطابي يرويه محمد بن ثابت وهو ضعيف وحديث ابن الصمة صحيح لكن إنما جاء
في المتفق عليه فمسح وجهه ويديه فيكون حجة لنا لأن ما علق على مطلق اليدين لا يتناول الذراعين.
ثم أحاديثهم لا تعارض حديثنا لأنها تدل على جواز التيمم بضربتين ولا ينفي ذلك جواز التيمم بضربة كما أن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا ينفي الأجزاء بمرة فإن قيل: فقد روي في حديث عمار إلى المرفقين فيحتمل أنه أراد بالكفين اليدين إلى المرفقين.
قلنا حيث إلى المرفقين لا يعول عليه إنما رواه سلمة وشك فيه ذكر ذلك النسائي فلا يثبت مع الشك مع أنه قد أنكر عليه وخالف به سائر الرواة الثقاة فكيف يلتفت إلى مثل هذا؟ وأما التأويل فباطل لأمور: أحدها أن عماراً الراوي له الحاكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم أفتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم للوجه والكفين عملاً بالحديث وقد شاهد فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل لا احتمال فيه (الثاني) أنه قال ضربة واحدة وهم يقولون ضربتان (الثالث) أنا لا نعرف في اللغة التعبير بالكفين عن الذراعين (الرابع) أن الجمع بين الخبرين بما ذكرناه من أن كل واحد من الفعلين جائز أقرب من تأويلهم وأسهل وقياسهم ينتقض بالتيمم عن الغسل الواجب فإنه ينقص عن المبدل وكذلك في الوضوء فإنه في عضوين وكذا في الوجه فإنه لا يجب مسح ما تحت الشعور الخفيفة والله أعلم.
(فصل) لا يختلف المذهب أنه يجزئ التيمم بضربة واحدة وبضربتين وإن تيمم بأكثر من ضربتين جاز لأن المقصود إيصال التراب إلى محل الفرض فكيفما حصل جاز كالوضوء، فإن تيمم بضربة فإنه يمسح وجهه بباطن أصابعه وظاهر كفيه إلى الكوعين بباطن راحتيه.
ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ولا يجب ذلك لأن فرض الراحتين قد سقط بإمرار كل واحدة على ظهر الكف.
ويفرق أصابعه عند الضرب ليدخل الغبار فيما بينها، وإن كان التراب ناعماً فوضع اليدين عليه وضعاً أجزأه، وإن مسح بضربتين مسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه.
قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيباً مستحقاً في الوضوء وهو أنه يعتد بمسح باطن أصابعه مع مسح وجهه وكيفما مسح بعد أن يستوعب محل الفرض أجزأه(1/277)
(فصل) والمسنون عن أحمد رحمه الله التيمم بضربة كما وصفنا نص عليه، وقال القاضي التيمم
بضربة إلى الكوعين صفة الأجزاء، والمسنون ضربتان يمسح بأولاهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين فيضع بطون أصابع اليسرى على ظهر أصابع اليمنى يمرها إلى مرفقه ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمرها عليه ويمر إبهام اليسرى على ظهر إبهام اليمنى ثم يمسح يده اليسرى بيده اليمنى كذلك ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويستحب تخليل الأصابع قياسا على الوضوء وإنما استحب ذلك لوجهين (أحدهما) أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم بضربتين إلى المرفقين وأقل أحوال فعله إذا لم يدل على الإيجاب الاستحباب (الثاني) أنه فيه خروجاً من الخلاف وإنما إختار الإمام أحمد الأول لأن الأحاديث الصحيحة إنما جاء فيها المسح إلى الكوعين (فصل) وإذا وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب نحو أن نسفت الريح عليه غباراً فإن لم يكن قصد الريح ولاصمد لها فمسح وجهه بما عليه لم يجزه لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد ولم يوجد وإن مسح وجهه بغير ما عليه أجزأه لأنه قد أخذ التراب لوجهه فلا فرق بين أن يأخذ من ثيابه أو من الأرض، وإن كان صمد للريح وأحضر النية فقال القاضي والشريف أبو جعفر يجزئه كما لو صمد للمطر حتى جرى على أعضائه، قال شيخنا والصحيح أنه لا يجزئه وهو اختيار ابن عقيل لأنه لم يمسح وقد أمر الله تعالى بالمسح فعلى هذا إن مسح وجهه بما عليه أجزأه لحصول المسح، ويحتمل أن لا يجزئه(1/278)
لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسخ به والله أعلم (فصل) وإذا علا على يديه تراب كثير لم يكره نفخه لأن في حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه الأرض ونفخ فيهما قال أحمد لا يضره فعل أو لم يفعل، وهذا قول ابن المنذر وممن لم يكره نفخ اليدين ونفضهما الشعبي.
وقال مالك نفضاً خفيفاً.
وقال الشافعي لا بأس به إذا بقي علي يديه غبار وهو قول إسحاق، وقال أصحاب الرأي ينفضهما وكان ابن عمر لا ينفض يديه، وذكر القاضي وابن عقيل رواية أنه يكره كما يكره نفض الماء عن اليدين في الوضوء.
فإن كان التراب خفيفاً فقال أصحابنا يكره نفخه رواية واحدة.
فإن ذهب ما عليهما بالنفخ أعاد الضرب لأنه مأمور بالمسح بشئ من الصعيد (مسألة) (ومن حبس في المصر صلى بالتيمم ولا إعادة عليه) قد ذكرنا أن من صلى بالتيمم
في الحضر لعدم الماء هل تجب عليه الإعادة؟ فيه روايتان على الإطلاق (إحداهما) لا تجب عليه الإعادة وهو مذهب مالك قياساً على السفر (والثانية) تجب عليه وهو مذهب الشافعي لأنه عذر نادر فلا يلحق بالغالب وعنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر ذكره في المجرد، وقال أبو الخطاب لا تجب عليه الإعادة في هذه المسألة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
وذكر في غيرها روايتين ووجه قول أبي الخطاب أن هذا عادم للماء بعذر متطاول معتاد أشبه المسافر (مسألة) (ولا يجوز لواجد الماء التيمم خوفاً من فوات المكتوبة ولا الجنازة وعنه يجوز للجنازة) وجملة ذلك أنه إذا كان الماء موجوداً إلا أنه إن اشتغل بتحصيله واستعماله فات الوقت لم يبح له التيمم سواء كان حاضراً أو مسافراً في قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن الاوزاعي والثوري له التيمم.
وروي عن مالك وسعيد بن عبد العزيز نحو القول الأول لقول الله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وحديث أبي ذر وهذا واجد للماء ولأنه قادر على الماء فلم يجز له التيمم كما لو لم يخف فوت الوقت ولأن الطهارة شرط فلم يبح تركها خيفة فوت وقتها كسائر شرائطها وإن خاف فوت العيد فكذلك، وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي له التيمم لأنه يخاف فوتها بالكلية فأشبه العادم، ووجه الأول ما ذكرنا من الآية والمعنى.
فأما إن خاف فوت الجنازة ففيه روايتان أظهرهما(1/279)
لا يجوز له التيمم لما ذكرنا وهو قول الشافعي وابن المنذر (والثانية) يجوز يروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والزهري والحسن والثوري والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي لأنه لا يمكن استدراكها بالوضوء أشبه العادم، وقال الشعبي يصلي عليها من غير وضوء ولا تيمم لأنه لا ركوع فيها ولا سجود أشبهت الدعاء في غير الصلاة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " ولأن الله تعالى قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية ثم أباح ترك الغسل مشروطاً بعدم الماء بقوله (فلم تجدوا ماء فتيمموا) فيبقى فيما عداه على قضية العموم.
(مسألة) (وان اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض فبذل ماء يكفي أحدهم - لاولاهم به فهو
للميت وعنه أنه للحي وأيهما يقدم؟ فيه وجهان) وجملته أنه إذا إجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض ومعهم ماء لا يكفي إلا أحدهم فإن كان ملكاً لأحدهم فهو أحق به لأنه محتاج إليه لنفسه ولا يجوز بذله لغيره وإن كان الماء لغيرهم فأراد أن يجود به على أولاهم به ففيه روايتان (أولاهما) إن الميت أحق به لأن غسله خاتمة طهارته وصاحباه يرجعان إلى الماء فيغتسلان ولان لاقصد بغسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتيمم والحي يقصد بغسله إباحة الصلاة وذلك يحصل بالتراب (والثانية) الحي أولى لأنه متعبد بالغسل مع وجود الماء والميت قد سقط الفرض عنه بالموت ولأن الحي يستفيد مالا يستفيد الميت من قراءة القرآن ومس المصحف والوطئ إختارها الخلال.
وهل يقدم الجنب أو الحائض فيه وجهان (أحدهما) الحائض لأنها تقصي حق الله تعالى وحق زوجها في إباحة وطئها (والثاني) الجنب أحق إذا كان رجلاً لأنه يصلح إماماً لها ولا تصلح لإمامته.
وان كان على أحدهم نجاسة فهو أولى لأن طهارة الحدث لها بدل مجمع عليه بخلاف النجاسة.
وإن وجدوا الماء في مكان فهو للأحياء لأنه لا وجدان(1/280)
للميت وإن كان للميت ففضلت منه فضلة فهو لورثته فإن لم يكن له وارث حاضر فللحي أخذه بقيمته لأن في تركه إتلافه، وقال بعض أصحابنا ليس له أخذه لأن مالكه لم يأذن فيه الا إن يحتاج إليه للعطش فيأخذه بشرط الضمان (فصل) وإن اجتمع جنب ومحدث وكان الماء لا يكفي الجنب فهو أولى لأنه يستفيد به مالا يستفيده المحدث، وإن كان فوق حاجة المحدث فهو أولى به لأنه يستفيد به طهارة كاملة، وإن كان لا يكفي واحداً منهما فالجنب أولى به لأنه يستفيد به تطهير بعض أعضائه، وإن كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يقدم الجنب لأنه يستفيد بغسله ما لا يستفيده المحدث (والثاني) يقدم المحدث لان فضلته يلزم الجنب إستعمالها رواية واحدة (والثالث)(1/281)
التسوية لأنه تقابل الترجيحان فتساويا فيدفع إلى أحدهما أو يقرع بينهما، وإذا تغلب من غيره أولى منه على الماء فاستعمله كان مسيئاً وأجزأه لأن الآخر لم يملكه وإنما رجح لشدة حاجته
(فصل) وهل يكره للعادم جماع زوجته إذا لم يخف العنت؟ فيه روايتان (إحداهما) يكره يروى نحوه عن مالك لأنه يفوت على نفسه طهارة ممكناً بقاؤها (والثانية) لا يكره روى ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وهو قول الزهري وجابر بن زيد والحسن وقتادة والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وحكي عن عطاء أن كان بينه وبين الماء أربع ليال فأكثر فليصب أهله، وإن كان ثلاث ليال فما دونها فلا يصبها وقال الزهري إن كان في سفر فلا(1/282)
يقربها حتى يأتي وإن كان لاماء معزباً فلا بأس أن يصيبها، والأولى جواز وطئها مطلقاً من غير كراهة لان أبا ذر قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أعزب عن الماء ومعي أهل فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " الصعيد الطيب طهور " رواه أبو داود والنسائي.
وأصاب ابن عباس جارية له رومية وهو عادم للماء وصلى بأصحابه وفيهم عمار فلم ينكروه، قال اسحاق بن راهويه هو سنة مسنونة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي ذر وعمار وغيرهما فإذا فعلا ووجدا من الماء ما يغسلان به فرجيهما غسلاهما ثم تيمما وإن لم يجدا تيمماً للجنابة والحدث الاصغر والنجاسة وصليا، ويجوز للمتيمم أن يصلي بالمتوضئين لما ذكرنا من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه والله أعلم باب إزالة النجاسة (لا تجوز إزالتها بغير الماء) في المصهور من المذهب وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وزفر (وروى عن أحمد ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر مزيل للعين والأثر كالخل وماء الورد وماء الشجر ونحوه) وهو قول أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً متفق عليه أطلق الغسل فتقييده بالماء يحتاج إلى دليل ولانه مائع طاهر مزيل فجازت إزالة النجاسة به كالماء ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لاسماء " إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه(1/283)
بماء ثم لتصل به " متفق عليه.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذنوب من ماء فأهريق على بول
الأعرابي وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأنها إحدى الطهارتين المشترطة للصلاة فأشبهت طهارة الحدث ومطلق حديثهم مقيد بحديثنا والماء مختص بإحدى الطهارتين فكذلك الاخرى فأما ما لا يزيل كالمرق واللبن والدهن ونحوه فلا خلاف في أن النجاسة لا تزال به والله أعلم (مسألة) (ويجب غسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب) لا يختلف المذهب في نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما أنه نجس عينه وسؤره وعرقه وكل ما خرج منه روى ذلك عن عروة وهو قول الشافعي وأبي عبيدة وبه قال أبو حنيفة في السؤر.
وقال مالك والاوزاعي وداود سؤرهما طاهر يتوضأ منه وان ولغ في طعام لم يحرم أكله، وقال الزهري يتوضأ منه إذا لم يجد غيره.
وقال عبدة بن أبي لبابة والثوري وابن الماجشون يتوضأ ويتيمم قال مالك ويغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب تعبداً، واحتج مبعضهم على طهارته بأن الله تعالى قال (فكلوا مما أمسكن عليكم) ولم يأمر بغسل أثر فمه وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال " لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور " رواه ابن ماجه ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه ويشق الاحتراز منه فكان طاهراً كالهر ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً " متفق عليه ولمسلم " فليرقه ثم لغسله سبع مرارا " ولو كان سؤره طاهراً لم تجز إراقته ولا وجب غسله فانه قالوا إنما وجب غسله تعبداً كما تغسل أعصاء الوضوء وتغسل اليد من نوم الليل.
قلنا الأصل وجوب الغسل عن النجاسة كما في سائر الغسل: ثم لو كان تعبداً لما أمر بإراقة الماء ولما اختص الغسل(1/284)
بموضع الولوغ لعموم اللفظ في الإناء كله وأما غسل اليد من نوم الليل فإنما أمر به للإحتياط لاحتمال النجاسة والوضوء شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله تعالى على أحسن حال وأكملها ثم إن سلمنا ذلك فإنما عهدنا التعبد في غسل البدن أما الآنية والثياب فإنما يجب غسلها من النجاسات وقد روي في لفظ " طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً " أخرجه أبو داود ولا يكون الطهور إلا في محل الطهارة، وقولهم أن الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل غسله
قلنا الله تعالى أمر بأكله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بغسله فيعمل بأمرهما، وإن سلمنا أنه لا يجب غسله فلأنه يشق فعفي عنه، وحديثهم قضية في عين يحتمل أن الماء المسئول عنه كان كثيراً ولذلك قال في موضع آخر حين سئل عن الماء وما ينويه من السباع فقال " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " ولان لنا رواية أن الماء لا ينجس إلا بالتغيير فلذلك لا ينجس الماء شربها منه وقياسهم على الهر في معارضة النص لا يصح.
والفرق بينهما أن الكلب يأكل النجاسات عادة بخلاف الهر والله أعلم.
وإذا ثبتت نجاسة الكلب ثبتت نجاسة الخنزير بطريق التنبيه لأنه شر منه وقد نص الشارع على تحريمه فكان تنجيسه أولى، إذا ثبت هذا فإنه يجب غسلها إذا كانت على غير الأرض سبعاً(1/285)
إحداهن بالتراب، وممن قال يغسل سبع مرات أبو هريرة وابن عباس وعروة وطاوس وعمرو بن دينار والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو عبيد وابن المنذر وقال الزهري يغسل ثلاث مرات وقال عطاء كل قد سمعت ثلاثاً وخمسا وسبعاً، وعن أحمد أنه يجب غسلها ثمانية إحداهن بالتراب وهو رواية عن الحسن لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب " رواه مسلم، ووجه الرواية الأولى ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب " رواه مسلم وهذه الرواية أصح ويحمل هذا الحديث على أنه عد التراب ثامنة لكونه جنساً آخر جمعا بين الخبرين.
وقال أبو حنيفة لا يجب العدد في شئ من النجاسات إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء " يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعاً " فلم يعين عدداً، ولأنها نجاسة فلم يجب فيها العدد كما لو كانت على الأرض ولنا ما ذكرنا من الحديثين وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف فلا يعارض حديثنا وقد روى غيره من الثقاة " فليغسله سبعاً " وعلى أنه يحتمل الشك من الراوي فينبغي أن يتوقف فيه والأرض سومح في غسلها للمشقة بخلاف غيرها (مسألة) (فإن جعل مكانه أشناناً أو نحوه فعلى وجهين) يعني أن جعل مكان التراب في غسل
نجاسة الكلب غيره من الأشنان والصابون والنخالة ففيه وجهان (أحدهما) لا يجزئه طهارة أمر فيها(1/286)
بالتراب فلم يقم غيره مقامه كالتيمم ولأن الأمر به تعبد فلا يقاس عليه (والثاني) يجزئه لأن هذه الأشياء أبلغ من التراب في الإزالة فنصه على الترب تنبيه عليها ولأنه جامد أمر به في إزالة النجاسة فألحق به ما يماثله كالحجر في الأستجمار، وقال ابن حامد إنما يجوز العدول إلى غير التراب عند عدمه أو فساد المخل المغسول به فأما مع وجوده وعدم الضرر فلا.
فإن جعل مكانه غسلة ثامنة فقال بعض أصحابنا فيه وجهان والصحيح أنها لا تقوم مقام التراب لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة فذلك لا يحصل من الثامنة وإن وجب تعبداً أمتنع إبداله والقياس عليه والله أعلم وهذا اختيار شيخنا (فصل) ولا فرق بين غسل النجاسة من ولوغ الكلب أو يده أو رجله أو شعره أو غير ذلك من أجزائه قياساً على السؤر ولأن ذلك حكم غيره من الحيوانات فكذلك الكلب وحكم الخنزير في سؤره وسائر أجزائه حكم الكلب على ما فصلنا لأنه شر منه وقد نص الشارع على تحريمه وأجمع المسلمون عليه ولا يباح اقتناؤه بحال فثبت الحكم فيه بطريق الأولى (1) (فصل) وإذا ولغ في الإناء كلاب أو أصاب المحل نجاسات متساوية في الحكم فهي كنجاسة واحدة وإن كان بعضها أغلظ كالولوغ مع غيره فالحكم لأغلظها ويدخل فيه ما دونه، ولو غسل الإناء دون السبع ثم ولغ فيه مرة أخرى فغسله سبعاً أجزأه لأنه إذا أجزأ عما يماثل فعما دونه أولى (فصل) والمستحب أن يجعل التراب في الغسلة الأولى لموافقة لفظ الخبر وليأتي الماء بعده
__________
1) الجمهور يمتنعون القياس في هذه المسائل لعدم ثبوت العلة واهل الحديث أولى بالوقوف فيها عند النص(1/287)
فينظفه ومتى غسل به أجزأه لأنه روي في حديث إحداهن وفي حديث أولاهن وفي حديث في الثامنة فيدل على أن محل التراب من الغسلات غير مقصود (فصل) وإذا غسل محل الولوغ فأصاب ماء بعض الغسلات محلاً آخر قبل إتمام السبع ففيه وجهان (أحدهما) يجب غسله سبعاً وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد لأنها نجاسة فلا يراعي فيها حكم
المحل الذي إنفصلت عنه كنجاسة الأرض ومحل الاستنجاء (والثاني) يجب غسله من الأولى ستاً ومن الثانية خمساً كذلك إلى آخره لأنها نجاسة تطهر في محلها بدون السبع فطهرت به في مثله قياساً عليه وكالنجاسة على الأرض.
وتفارق المنفصل عن الأرض ومحل الاستنجاء لأن العلة في خفتها المحل وقد زالت عنه فزال التخفيف والعلة في تخفيفها ههنا قصور حكمها بما مر عليها من الغسل وهذا لازم لها حيثما كانت.
ثم إن كانت قد انفصلت عن محل الغسل بالتراب غسل محلها بغير تراب وإن كانت الأولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب وهذا اختيار القاضي وهو أصح إن شاء الله تعالى (مسألة) (وفي سائر النجاسات ثلاث روايات (إحداهن) يجب غسلها سبعاً وهل يشترط التراب على وجهين (والثانية) ثلاثا (والثالثة) تكاثر بالماء من غير عدد كالنجاسات كلها إذا كانت على الأرض) وجملة ذلك أن في سائر النجاسات غير نجاسة الكلب والخنزير إذا كانت على غير الأرض ثلاث روايات (إحداهن) يجب غسلها سبعاً قياساً على نجاسة الكلب والخنزير لما روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً فينصرف إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا هل يشترط التراب؟ فيه وجهان (أحدهما) يجب قياسا على الولوغ وهذا اختيار الخرقي (والثاني) لا يشترط لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل للدم وغيره ولم يأمر بالتراب إلا في نجاسة الكلب فوجب أن يقتصر عليه(1/288)
ولأن الأمر بالتراب إن كان تعبداً وجب قصره على محله وإن كان لمعنى في نجاسة الولوغ من اللزوجة التي لا تنقلع إلا بالتراب فلذلك لا يوجد في غيره.
وفي هذا الدليل نظر لأنه غير موجود في نجاسة الكلب غير الولوغ وقد قالوا بوجوب التراب فيه (والرواية الثانية) يجب غسلها ثلاثا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده " رواه مسلم أمر بغسلها ثلاثاً ليرتفع وهم النجاسة ولا يرفع وهم النجاسة إلا ما يرفع الحقيقة (والثالثة) تكاثر بالماء من غير عدد حتى تزول عين النجاسة وهذا مذهب الشافعي لما روى ابن عمر قال كان غسل الثوب من البول سبع مرات فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل غسل الثوب من البول مرة رواه الإمام أحمد وأبو داود ألا إن في رواته أيوب بن جابر وهو ضعيف ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء في الدم " إغسليه بالماء " ولم يذكر عدداً ولأنها نجاسة فلم يجب فيها العدد كنجاسة الأرض وقد روي أن النجاسة في محل الاستنجاء تطهر بثلاث وفي غيره بسبع لأن محل الاستنجاء تتكرر النجاسة فيه فاقتضى ذلك التخفيف ولأنه قد اجتزئ فيها بثلاثة أحجار فأولى أن يجتزأ فيها بثلاث غسلات لأن الماء أبلغ من الأحجار وفيه (رواية خامسة) (1) إن العدد لا يجب في نجاسة البدن ويجب في غيرها لأن الأبدان تعم البلوى فيها بملاقاة النجاسة تارة منها وتارة من غيرها فخفف أمرها لأجل المشقة ذكرها ابن عقيل وذكر القاضي رواية إن العدد لا يعتبر في غير محل الاستنجاء من البدن ويجب في محل الاستنجاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعدد الأحجار فيه ويجب في سائر المحال وقال الخلال هذه الرواية وهم ولم يثبتها (فصل) وإذا أصابت النجاسة الأجسام الصقيلة كالمرآة ونحوها وجب غسله ولم يطهر بالمسن
__________
1) ينظر أين الرابعة(1/289)
لأنه محل لا تنكر فيه النجاسة فلم يجز فيه المسح كالأواني (فصل) وغسل النجاسة يختلف بإختلاف محلها فإن كان جسماً لا يتشرب النجاسة كالآنية فغسله بإمرار الماء عليه كل مرة غسلة سواء كان بفعل الآدمي أولاً مثل أن ينزل عليه ماء المطر أو يجري عليه الماء فكل جرية تمر عليه غسلة لأن القصد غير معتبر أشبه مالو صبه آدمي بغير قصد وإن وقع في ماء راكد قليل نجسه ولم يطهر وإن كان كثيراً أعتبر وضعه فيه ومرور الماء على أجزائه غسلة وإن حركه في الماء بحيث تمر عليه أجزاء غير التي كانت ملاقية له إحتسب بذلك غسلة ثانية كما لو مرت عليه جريات من الماء الجاري.
وإن كان المغسول إناء فطرح فيه الماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغه منه لانه العادة في غسله.
فان كان الإناء يسع قلتين فصاعداً فملاه احتمل أن إدارة الماء فيه تجري مجرى الغسلات لأن أجزاءه تمر عليها جريات من الماء غير التي كانت ملاقية لها أشبه ما لو مرت عليه جريات من الجاري.
وقال ابن عقيل لا يكون غسلة إلا بتفريغه أيضاً، وإن كان المغسول جسما تدخل فيه أجزاء النجاسة كالثوب لم يحتسب برفعه من الماء غسلة حتى يعصره وعصر كل شئ بحسبه فإن كان بساطاً
ثقيلاً أو نحوه فعصره بتقليبه ودقه حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء والله أعلم (فصل) إذا أصاب ثوب المرأة دم حيضها استحب أن تحته بظفرها لتذهب خشونته ثم تقرصه بريقها ليلين للغسل ثم تغسله بالماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء في دم الحيض " حثيه ثم أقرصيه(1/290)
ثم أغسليه بالماء، وإن اقتصرت على الماء جاز وإن لم يزل لونه وكانت إزالته تشق أو تتلف الثوب أو تضره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يضرك أثره " رواه أبو داود، وإن إستعملت في إزالته شيئاً يزيله كالملح وغيره فحسن لما روى أبو داود عن امرأة من غفار أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة فحاضت قالت فنزلت فإذا بها دم مني فقال " مالك لعلك نفست؟ " قالت نعم قال " فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم " قال الخطابي فيه من الفقه جواز إستعمال الملح وهو مطعوم في غسل الثوب وتنقيته من الدم فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان الصابون يفسده وبالخل إذا أصابه الحبر والتدلك بالنخالة وغسل الأيدي بها وبالبطيخ ودقيق الباقلاء وغيرها من الأشياء التي لها قوة الجلاء.
(فصل) فإن كان في الإناء خمر أو شبهة من النجاسات التي يتشربها الإناء ثم متى جعل فيها مائع سواه ظهر فيه طعما النجاسة أو لونها لم يطهر بالغسل لأن الغسل لا يستأصل أجزاء النجاسة من جسم الإناء فلم يطهره كالسمسم الذي ابتل بالنجاسة، قال الشيخ أبو الفرج المقدسي في المبهج آنية الخمر منها المزفت فيطهر بالغسل لأن الزفت يمنع وصول النجاسة إلى جسم الإناء ومنها ما ليس بمزفت فيتشرب أجزاء النجاسة فلا يطهر بالتطهير فإنه متى ترك فيه مائع ظهر فيه طعمه أو لونه (فصل في تطهير النجاسة على الأرض) متى تنجست الأرض بنجاسة مائعة أي نجاسة كانت كالبول والخمر ونحوهما فطهورها أن تغمر بالماء بحيث يذهب لون النجاسة وريحها فإن لم يذهبا لم تطهر لان بقاءهما دليل بقاء النجاسة، فإن كانت مما لا يزول لونها أو رائحتها إلا بمشقة سقط ذلك كما قلنا(1/291)
في الثوب، والدليل على أن الأرض تطهر بذلك ما روى أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد فزجره
الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهرق عليه.
متفق عليه ولا نعلم في ذلك خلافا (فصل) إذا أصاب الأرض ماء المطر أو السيول فغمرها وجرى عليها فهو كما لو صب عليها لأن تطهير النجاسة لا تعتبر النية فيه فاستوى ما صبه الآدمي وغيره.
قال أحمد في البول يكون في الأرض فتمطر عليه السماء إذا أصابه من المطر بقدر ما يكون ذنوباً كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب على البول فقد طهر، وقال المروذي: سئل أبو عبد الله عن ماء المطر يختلط بالبول فقال: ماء المطر عندي لا يخالط شيئاً إلا طهره إلا العذرة فإنها تنقطع، وسئل عن ماء المطر يصيب الثوب فلم ير به بأساً إلا أن يكون بيل فيه بعد المطر، وقال: كل ما ينزل من السماء إلى الأرض فهو نظيف داسته الدواب أو لم تدسه، وقال في الميزاب إذا كان في الموضع النظيف لا بأس بما قطر عليك من المطر إذا لم تعلم قيل له فأسأل عنه؟ قال لا وما دعاك إلى السؤال؟ واحتج في طهارة طين المطر بحديث الأعرابي وبأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين كانوا يخوضون المطر في الطرقات فلا يغسلون أرجلهم روى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، قال ابن مسعود كنا لا نتوضأ من موطئ ونحوه عن ابن عباس وهذا قول عوام أهل العلم لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك (فصل) فإن كانت النجاسة ذات أجزاء متفرقة كالرميم والدم إذا جف والروث فاختلطت بأجزاء الأرض لم تطهر بالغسل لان عينها لا تنقلب ولا تطهر إلا بزالة أجزاء المكان بحيث يتيقن زوال(1/292)
أجزاء النجاسة ولو بادر البول وهو رطب فقلع التراب الذي عليه أثره فالباقي طاهر لأن النجس كان رطباً وقد زال وإن جف فأزال ما وجد عليه الأثر لم يطهر لأن الأثر إنما يبين على ظاهر الأرض لكن إن قلع ما تيقن به زوال ما أصابه البول فالباقي طاهر (مسألة) (ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح) وممن روي عنه ذلك أبو ثور وابن المنذر والشافعي في أحد قوليه، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن تطهر إذا ذهب أثر النجاسة، وقال أبو قلابة جفاف الأرض طهورها لأن ابن عمر روى أن الكلاب كانت تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء " والأمر يقتضي الوجوب (2) ولأنه محل نجس فلم يطهر بغير الغسل كالثياب، فأما حديث ابن عمر فرواه البخاري وليس فيه ذكر البول ويحتمل أنه أراد أنها كانت تبول ثم تقبل وتدبر في المسجد فيكون إقبالها وإدبارها فيه بعد بولها (مسألة) (ولا يطهر شئ من النجاسات بالإستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها) فلو أحرق السرجين فصار رماداً أو وقع كلب في ملاحة فصار ملحاً لم يطهر كالدم إذا استحال قيحاً أو صديداً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وألبانها لأكلها النجاسة فلو كانت النجاسة تطهر
__________
2) يقول الحنيفة كان هذا عقب بوله والنجاسة ظاهرة.
ونظيره غسلهم المنى رطبا وفركه جافا.
والمطلوب أن لا يكون هنا لك قدر بين ولم يرد نص بغسل كل ما تنجس على سبيل التعبد(1/293)
بالإستحالة لم يؤثر أكلها النجاسة لأنها تستحيل، ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالإستحالة قياساً على الخمرة إذا انقلبت، وجلود الميتة إذا دبغت والجلالة إذا حبست (فصل) ودخان النجاسة وغبارها نجس فإن إجتمع منه شئ أو لاقى جسماً صقيلاً فصار ماء فهو نجس إلا إذا قلنا أن النجاسة تطهر بالإستحالة وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة وغبارها فلم يجتمع منه شئ ولا ظهرت له صفة فهو طاهر لعدم إمكان التحرز منه، فأما الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا فإنها تطهر لا نعلم في ذلك خلافاً لأن نجاستها لشدتها المسكرة الحادثة لها وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر كالماء الذي يتنجس بالتغيير إذا زال تغييره بنفسه ولا يلزم عليه سائر النجاسات لكونها لا تطهر بالاستحالة لأن نجاستها لعينها والخمر نجاستها لأمر زال بالإنقلاب (مسألة) (فإن خللت لم تطهر في ظاهر المذهب) روى ذلك عن عمر وهو قول مالك، وقال الشافعي إن القي فيها شئ كالملح فتخللت لم تطهر وإن نقلت من شمس إلى ظل أو بالعكس فتخللت ففي إباحتها قولان، ويخرج لنا أيضاً فيها إحتمالان (أحدهما) تطهر كما لو نقلها لغير قصد التخليل فتخللت فإنه لا فرق بينهما سوى النية (والثاني) لا تطهر كما لو وضع فيها شئ فتخللت لما روي أن أبا طلحة
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال " أهرقها " قال أفلا أخللها؟ قال " لا " من المسند رواه الترمذي ولو جاز التخليل لم ينه عنه ولم تبح اراقته.
وقيل تطهر لأن علة التحريم زالت أشبه مالو تخللت بنفسها ولأن التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل العبد كتطهير(1/294)
الثوب والأرض وهذا قول أبي حنيفة وروي نحوه عن عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي (مسألة) (ولا تطهر الادهان النجسة بالغسل) في ظاهر المذهب إختاره القاضي وابن عقيل قال ابن عقيل إلا الزئبق فإنه لقوته وتماسكه يجري مجرى الجامد.
وقال أبو الخطاب يطهر بالغسل منها ما يتأتى غسله كالزيت ونحوه لأنه يمكن غسله بالماء فطهر به كالجامد.
وطريق تطهيره أن يجعل في ماء كثير ويحرك حتى يصيب الماء جميع أجزائه ثم يترك حتى يعلو على الماء فيؤخذ وإن تركه في جرة وصب عليه ماء وحركه فيه وجعل له بزا لا يخرج منه الماء جاز.
ووجه القول الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السمن إذا وقعت فيه الفأرة فقال إن كان مائعاً فلا تقربوه رواه أبو داود ولو كان يمكن تطهيره لم يأمر بإراقته ومن نصر قول أبي الخطاب قال الخبر ورد في السمن ولعله لا يمكن تطهيره لأنه يجمد ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمر بغسله لمشقة ذلك وقلة وقوعه (فصل) وإذا وقعت النجاسة في غير الماء وكان مائعاً نجس، وقد ذكرنا الخلاف فيه وإن كان جامداً كالسمن الجامد أخذت النجاسة فما حولها فألقيت والباقي طاهر لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال " إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه " من المسند وإسناده على شرط لصحيحين - وحد الجامد الذي لا نسري النجاسة إلى جميعه الذي يكون فيه قوة تمنع إنتقال أجزاء النجاسة من الموضع الذي وقعت فيه النجاسة إلى ما سواه وقال ابن عقيل: الجامد الذي إذا فتح وعاؤه لم تسل أجزاؤه والظاهر خلاف هذا لأن سمن الحجاز لا يكاد يبلغه ولأن المقصود بالجمود أن لا تسري أجزاء النجاسة وهذا حاصل بما ذكرناه فنقتصر عليه(1/295)
(فصل) فإن تنجس العجين ونحوه لم يطهر لأنه لا يمكن غسله وكذلك نقع شئ من الحبوب
في الماء النجس حتى انتفخ وابتل نص عليه أحمد أنه لا يطهر وإن غسل مراراً إذا ثبت ذلك فقال أحمد في العجين يطعم النواضح وقال الشافعي بطعم البهائم وقال الثوري وأبو عبيد يطعم الدجاج وقال ابن المنذر لا يطعم شيئاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن ويستصبح بها الناس قال " لا هو حرام " وهذا في معناه ولنا ما روى أحمد عن ابن عمر أن قوما اختبزوا من آبار الذين مسخوا فقال عليه السلام " أعلفوه النواضح " وقال في كسب الحجام " أعلفه ناضحك أو رقيقك " احتج به أحمد وقال ليس هذا بميتة والنهي إنما تناول الميتة ولأن إستعمال شحوم الميتة فيما سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم يفضي إلى تعدي نجاستها وهذا لا يتعدى أكله قال أحمد ولا يطعم لشئ يؤكل في الحال ولا يحلب لبنه لئلا يتنجس به ويصير كالجلالة.
(مسألة) (وإذا خفيت النجاسة لزمه غسل ما يتيقن به إزالتها) متى خفيت النجاسة في بدن أو ثوب وأراد الصلاة فيه لم يجز له حتى يتيقن زوالها وإنما يتيقن ذلك بغسل كل محل يحتمل أن النجاسة أصابته فإن لم يعلم جهتها من ثوب غسله وإن علمها في أحد الكمين غسلهما وإن رآها في بدنه أو ثوبه الذي عليه غسل كل ما يدركه بصره منه وبذلك قال النخعي ومالك والشافعي وابن المنذر، وقال(1/296)
ابن شبرمة يتحرى مكان النجاسة فيغسله، وقال عطاء والحكم وحماد إذا خفيت النجاسة في الثوب نضحه كله وذلك لحديث سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم في المذي قال: قلت يا رسول الله فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال " يجزئك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه " فأمر بالتحري والنضح ولنا أنه تيقن المانع من الصلاة فلم تبح له الصلاة إلا بيقين زواله كمن تيقن الحدث وشك في الطهارة والنضح لا يزيل النجاسة وحديث سهل مخصوص بالمذي دون غيره لأنه يشق التحرز منه فلا يتعدى حكمه إلى غيره لأن أحكام النجاسات تختلف.
وقوله حيث ترى أنه أصاب منه محمول على من ظن أنه أصاب ناحية من ثوبه من غير يقين فيجزئه نضح المكان أو غسله (فصل) فإن خفيت النجاسة في موضع فضاء واسع صلى حيث شاء ولا يجب غسل جميعه لأن
ذلك يشق فلو منع من الصلاة أفضى إلى أن لا يجد موضعاً يصلي فيه.
فإن كان الموضع صغيراً كالبيت ونحوه غسله كله كالثوب (مسألة) (ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح) معنى النضح أن يغمره بالماء وإن لم ينزل عنه ولا يحتاج إلى مرس وعصر.
فأما بول الجارية فيغسل وإن لم تأكل وهذا قول علي رضي الله عنه وبه قال عطاء والحسن والشافعي واسحاق.
وحكي عن الحسن أن بول الجارية ينضح(1/297)
ما لم تطعم كالصبي، قال القاضي رأيت لأبي إسحاق بن شاقلا كلاماً يدل على طهارة بول الغلام لأنه لو كان نجسا لوجب غسله كسائر النجاسات، وقال الثوري وأبو حنيفة يغسل بول الغلام كبول الجارية بالقياس عليه ولأنه حكم يتعلق بالنجاسة فاستوى فيه الذكر والأنثى كسائر أحكامها ولنا ما روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله.
متفق عليه، وعن لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه فقلت ألبس ثوباً آخر وأعطني إزارك حتى أغسله.
قال " إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر " رواه أبو داود، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بول الغلام ينضج وبول الجارية يغسل " قال قتادة هذا ما لم يطعما الطعام فإذا طعما غسل بولهما.
رواه الإمام أحمد وهذه نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فاتباعها أولى من القياس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على من خالفه (فصل) قال أحمد الصبي إذا طعم الطعام وأراده واشتهاه غسل بوله.
وليس إذا طعم لأنه قد يلعق العسل ساعة يولد والنبي صلى الله عليه وسلم حنك بالتمر فعلى هذا ما يسقاه الصبي أو يلعقه للتداوي لا يعد طعاماً يوجب الغسل وما يطعمه لغذائه وهو يريده ويشتهيه يوجب الغسل والله أعلم (مسألة) (وإذا تنجس أسفل الخف أو الحذاء وجب غسله، وعنه يجزئ دلكه بالأرض(1/298)
وعنه يغسل من البول والغائط ويدلك من غيرهما) وجملته أنه إذا تنجس أسفل الخف والحذاء ففيه
ثلاث روايات إحداهن يجب غسله قياساً على الثوب والرجل وغيرها وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن (والثانية) يجزئ دلكه بالأرض حتى تزول عين النجاسة وتباح الصلاة فيه وهذا قول الأوزاعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " وفي لفظ " إذا وطئ بنعله أحدكم الأذى فإن التراب له طهور " وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما " روى هذه الأحاديث أبو داود ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون في نعالهم والظاهر أن النعل لا تخلو من نجاسة تصيبها فلو لم يجز دلكها لم تصح الصلاة فيها (والثالثة) يغسل من البول والغائط لفحشهما وتغليظ نجاستهما ويدلك من غيرهما لما ذكرنا وهو قول إسحاق، والأولى أنه يجزئ فيه الدلك مطلقاً لما ذكرنا من الأحاديث، فإن قيل فقول النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه إن فيهما قذراً يدل على أنه لا يجزئ دلكهما ولم يزل القذر منهما.
قلنا لا دلالة في هذا لأنه لم ينقل أنه دلكهما والظاهر أنه لم يدلكهما لأنه لم يعلم بالقذر فيهما حتى أخبره جبريل عليه السلام (فصل) إذا ثبت أنه يجزئ الدلك فهل يحكم بطهارتها أو يحكم بطهارة محل الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد؟ فيه وجهان (أحدهما) يحكم بطهارته اختاره ابن حامد لظاهر الأخبار التي ذكرناها وهذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله لا بأس به لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في(1/299)
الروث والرمة أنهما لا يطهران مفهومة أن غيرهما يطهر ولأنه معنى يزيل حكم النجاسة فطهرها كالماء وقال أصحابنا المتأخرون لا يطهر المحل فلو قعد المستجمر في ماء يسير نجسه ولو عرق كان عرقه نجساً لأن المسح لا يزيل أجزاء النجاسة كلها فالباقي منها نجس لأنه عين النجاسة فأشبه مالو وجد في المحل وحده، وقال القاضي في الخفين إنما يجزئ دلكهما بعد جفاف نجاستهما لأنه لا يبقى لها أثر ولا يجزئ قبل الجفاف وبه قال أبو حنيفة في الروث والعذرة والدم والمني.
وقال في البول لا يجزئه حتى يغسل وإن يبس لأن رطوبة النجاسة باقية فلا يعفى عنها.
وظاهر الأخبار لا يفرق بين رطب ولا جاف ولأنه محل اجتزئ فيه بالمسح فجاز له مع رطوبة الممسوح كمحل الاستنجاء ولان رطوبة المحل معفو عنها إذا
جفت قبل الدلك فعفي عنها إذا جفت به كالاستجمار (مسألة) قال (ولا يعفى عن يسير شئ من النجاسات إلا الدم وما تولد منه من القيح والصديد وأثر الاستنجاء) أراد أثر الاستجمار ولا نعلم خلافاً في العفو عنه بعد الإنقاء واستيفاء العدد وقد ذكرنا الخلاف في طهارته (فصل) فأما الدم والقيح فأكثر أهل العلم يرون العفو عن يسيره وممن روي عنه ذلك ابن عباس وأبو هريرة وجابر وابن أبي أوفى وسعيد بن المسيب وابن جبير وطاوس ومجاهد وعروة والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عمر أنه كان ينصرف من قليله وكثيره ونحوه عن الحسن(1/300)
وسليمان التيمي لأنه نجس أشبه البول ولنا ماروي عن عائشة قالت قد يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها وفي رواية بلته بريقها ثم قصعته بظفرها.
رواه أبو داود، وهذا يدل على العفو عنه لأن الريق لا يطهره ويتنجس به ظفرها وهو أخبار عن داوام افعل ومثل هذا لا يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدر إلا عن أمره، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف وما روي عن ابن عمر فقد روي عنه خلافه فروى عنه الأثرم بإسناده أنه كان يسجد فيخرج يديه فيضعهما بالأرض وهما يقطران دماً من شقاق كان في يديه.
وعصر بثرة فخرج منها دم فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ.
وانصرافه عنه في بعض الحالات لا ينافي ما رويناه عنه فقد يتورع الإنسان عن بعض ما يرى جوازه ولأنه يشق التحرز منه فعفي عنه كأثر الاستجمار.
وحد اليسير المعفو عنه هو الذي لا ينقض الطهارة، وقد ذكرنا الخلاف فيه في نواقض الوضوء والله أعلم (فصل) والقيح والصديد مثله إلا أن أحمد قال هو أسهل من الدم لأنه روي عن ابن عمر والحسن أنهما لم يرياه كالدم.
قال أبو مجلز في الصديد إنما ذكر الله الدم المسفوح.
وقال أمي بن ربيعة رأيت طاوساً كأن إزاره نطع من قروح كانت برجليه ونحوه عن مجاهد، وقال إبراهيم في الذي يكون به الحبور يصلي ولا يغسله فإذا برأ غسله ونحوه قول عروة فعلى هذا يعفى منه عن أكثر مما يعفى عن
مثله من الدم لأن هذا لا نص فيه وإنما ثبتت نجاسته لإستحالته من الدم (فصل) ولا فرق بين كون الدم مجتمعاً أو متفرقاً فإذا جمع بلغ هذا القدر ولو كانت النجاسة في شئ صفيق قد نفذت من الجانبين فإتصلت فهي نجاسة واحدة وإن لم تتصل بل كان بينهما شئ لم يصبه الدم فهما نجاستان إذا بلغا لو جمعا قدراً لا يعفى عنه لم يعف عنهما كجاني الثوب (فصل) ودم الحيض في العفو عنه كغيره لحديث عائشة الذي ذكرناه وكذلك سائر دماء(1/301)
الحيوانات الطاهرات.
فأما دم الكلب والخنزير وما تولدمنهما أو من أحدهما فلا يعفى عن يسيره لأن رطوباته الطاهرة من غيره لا يعفى عن يسيرها فدمه أولى.
فأما دم البغل والحمار وسباع البهائم والطير ان قلنا بطهارتها عفي عن يسير دمائها كسائر الحيوانات الطاهرات وإن قلنا بنجاستها وقلنا لا يعفى عن يسير شئ من رطوباتها كالريق والعرق فأولى أن لا يعفى عن دمها كدم الكلب والخنزير.
ولأن دمها لابد أن يصيب جسمها فلم يعف عنه كالماء، وهكذا حكم كل دم أصاب نجاسة غير معفو عنها لم يعف عن شئ منه لذلك، وإن قلنا يعفى عن يسير ريقها وعرقها إحتمل أن يعفى عن يسير دمها قياساً عليه والله أعلم (فصل) ودم ما لا نفس له سائلة كالبق والبراغيث والذباب ونحوه طاهر في ظاهر المذهب.
وممن رخص في دم البراغيث عطاء وطاوس والحسن والشعبي والحكم وحماد والشافعي واسحاق لأنه لو كان نجساً لنجس الماء ليسير إذا مات فيه فإنه إذا مكث في الماء لا يسلم من خروج فضلة منه، ولأنه ليس بدم مسفوح.
وإنما حرم الله سبحانه الدم المسفوح، وروى عن أحمد أنه قال في دم البراغيث إني لا فزع منه إذا كثر.
وقال النخعي أغسل ما إستطعت، وقال مالك في دم البراغيث إذا كثر وانتشر فإني أرى أن يغسل والأول أظهر، وقول أحمد ليس فيه تصريح بنجاسته بل هو دليل التوقف ولأن المنسوب إلى دم البراغيث إنما هو بولها في الظاهر وبول هذه الحشرات ليس بنجس (فصل) فأما دم السمك فقال أبو الخطاب هو طاهر وهذا قول أبي الحسن لأن إباحته لا تقف على سفحه ولو كان نجسا لوقفت الإباحة على إراقته بالذبح كحيوان البر ولأنه إذا ترك استحال ماء
وقال أبو ثور هو نجس لأنه مسفوح فيدخل في عموم الآية والعلقة نجسة لأنها دم خارج من الفرج أشبه دم الحيض، وعنه أنها طاهرة لأنه بدء خلق آدمي أشبهت المني، قال شيخنا والصحيح نجاستها(1/302)
لأنها دم أشبهت سائر الدماء ولأن الشرع لم يرد فيها بطهارة فتدخل في عموم النص - وما يبقى في اللحم من الدم معفو عنه.
ولو علت حمرة الدم في القدر لم يكن نجساً لأنه لا يمكن التحرز منه وإذا أصاب الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة نجاسة يعفى عن يسيرها كالدم عفي عن كثيرها بالمسح (2) لأن الباقي بعد المسح يسير وإن كثر محله فعفي عنه كيسير غيره (فصل) (وإنما يعفى عن يسير الدم في غير المائعات) فلو وقعت قطرة من دم في مائع يسير تنجس وصار حكمه حكم الدم في العفو عن يسيره لأنه فرع عليه (مسألة) (وعنه في المذي والقئ وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير وعرقها وبول الخفاش والنبيذ والمني أنه كالدم.
وعنه في المذي أنه يجزي فيه النضح) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه في المذي أنه قال: يغسل ما أصاب الثوب منه إلا أن يكون يسيراً، وروى الخلال بإسناده قال: سئل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن المذي فكلهم قال أنه بمنزلة القرحة فما علمت منه فاغسله وما غلبك منه فدعه لأنه يخرج من الشاب كثيراً فيشق التحرز منه فعفي عن يسيره كالدم.
وعن أحمد أنه كالمني لأنه خارج بسبب الشهوة أشبه المني، وعنه أنه يجزئ فيه النضح لأن في حديث سهل بن حنيف قال: قلت يا رسول الله فكيف بما أصاب ثوبي منه قال " إنما يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه " قال الترمذي حديث صحيح (والرواية الأخرى) يجب غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر منه ولأنه نجاسة خارجة من الذكر أشبه البول يروي ذلك عن عمر وابن عباس وهو مذهب الشافعي وإسحاق وكثير من أهل العلم.
وكذلك المني إذا قلنا بنجاسته لما ذكرنا في المذي.
فأما الودي فهو نجس لا يعفى عنه في الصحيح لأنه خارج من مخرج البول فهو كالبول وعن أحمد أنه كالمذي.
وأما القئ فروي عن أحمد أنه قال هو عندي بمنزلة الدم لأنه خارج نجس من غير السبيل أشبه الدم.
وروى
عن أحمد في ريق البغل والحمار وعرقهما أنه يعفى عنه إذا كان يسيراً وهو الظاهر عن أحمد قال الخلال وعليه مذهب أبي عبد الله لأنه يشق التحرز منه، قال أحمد من يسلم من هذا ممن يركب الحمير إلا
__________
2) جملة: يعفى عن يسيرها صفه لقوله نجاسة - وقوله عفي عن كثير ها هو جواب الشرط(1/303)
أني أرجو أن يكون ما جف منه أسهل، قال القاضي وكذلك ما كان في معناهما من سباع البهائم سوى الكلب والخنزير وكذلك الحكم في أرواثها وكذلك الحكم في سباع الطير لأنها في معنى سباع البهائم وبول الخفاش، قال الشعبي والحكم وحماد وحبيب بن أبي ثابت لا بأس ببول الخفافيش.
وكذلك الخفاش والخطاف لأنه يشق التحرز منه فإنه في المساجد كثير فلو لم يعف عن يسيره لم يقر في المساجد وكذلك النبيذ لوقوع الخلاف في نجاسته وكذلك بول ما يؤكل لحمه إذا قلنا بنجاسته لأنه يشق التحرز منه لكثرته، وعن أحمد لا يعفى عن يسير شئ من ذلك لأن الأصل أن لا يعفي عن شئ من النجاسة خولف في الدم وما تولد منه فيبقى ما عداه على الأصل (فصل) ولا يعفى عن يسير شئ من النجاسات غير ما ذكرنا وممن قال لا يعفى عن يسير البول مالك والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة يعفى عن يسير جميع النجاسات لأنها يكتفي فيها بالمسح في محل الاستنجاء فلو لم يعف عن يسيرها لم يكف فيها المسح ولأنه يشق منه التحرز أشبه الدم ولنا عموم قوله تعالى (وثيابك فطهر) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " ولأنها نجاسة لا تشق إزالتها فوجبت كالكثير، وأما الدم فإنه يشق التحرز منه فإن الإنسان لا يكاد يخلو من بثرة أو حكة أو دمل ويخرج من أنفه وغيره فيشق التحرز من يسيره أكثر من كثيره ولهذا فرق في الوضوء بين قليله وكثيره (مسألة) (ولا ينجس الآدمي بالموت ولا مالا نفس له سائلة كالذباب وغيره) ظاهر المذهب أن الآدمي طاهر حياً وميتاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن لا ينجس " متفق عليه.
وعن أحمد أنه سئل عن بئر وقع فيها إنسان فمات فقال تنزح حتى تغلبهم وهو مذهب أبي حنيفة قال: ينجس ويطهر بالغسل لأنه حيوان له نفس سائلة فنجس بالموت كسائر الحيوانات، وللشافعي قولان كالروايتين، والصحيح الأول للخبر
ولأنه آدمي فلم ينجس بالموت كالشهيد ولأنه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل كالحيوانات التي تنجس بالموت(1/304)
(فصل) ولم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر لاستوائهما في حال الحياة، قال شيخنا ويحتمل أن ينجس الكافر بموته لأن الخبر إنما ورد في المسلم ولا يقاس الكافر عليه لأنه لا يصلى عليه ولا حرمة له كالمسلم (1) (فصل) وحكم أجزاء الآدمي وابعاضه حكم جملته سواء إنفصلت في حياته أو بعد موته لأنها أجزاء من جملة فكان حكمها كحكمها كسائر الحيوانات الطاهرة والنجسة، وذكر القاضي أنها نجسة رواية واحدة لأنها لا حرمة لها بدليل أنها لا يصلي عليها وما ذكروه ممنوع فإن لها حرمة فإن كسر عظم الميت ككسره وهو حي ولأنه يصلي عليها إذا وجدت من الميت ثم يبطل بشهيد المعركة فإنه لا يصلى عليه وهو طاهر.
(فصل) وما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت والمراد بالنفس الدم فإن العرب تسمي الدم نفساً قال الشاعر: نبئت أن بني سحيم أدخلوا * أبياتهم تامور نفس المنذر أي دمه ومنه قيل للمرأة نفساء لسيلان دمها عند الولادة ويقال نفست المرأة إذا حاضت فكل ما ليس له دم سائل من حيوان البر والبحر من العلق والديدان والسرطان ونحوها لا ينجس بالموت ولا ينجس الماء إذا مات فيه في قول عامة العلماء قال إبن المنذر لا أعلم في ذلك خلافاً إلا ما كان من أحد قولي الشافعي فإن عنده في تنجيس الماء إذا مات فيه قولان.
فأما الحيوان في نفسه فهو عنده نجس قولاً واحداً لأنه حيوان لا يؤكل لا لحرمته فنجس باملوت كالبغل والحمار ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه داء
__________
1) الاحتمال ضعيف لأن الكلام في النجاسة الحسية التي تدرك ببعض الحواس ولا فرق فيها بين مؤمن وكافر قطعا(1/305)
وفي الآخر شفاء " رواه البخاري وفي لفظ " فليغمسه كله ثم ليطرحه " وقال الشافعي مقله ليس يقتله قلنا اللفظ عام في كل شراب بارد أو حار أو دهن مما يموت بغمسه فيه فلو كان ينجس الشراب كان أمرا بافساده قود روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمان " يا سلمان أيما طعام أو شراب ماتت فيه دابة ليس
لها نفس سائلة فهو الحلال أكله وشربه ووضوؤه " وهذا صريح أخرجه الدارقطني قال الترمذي يرويه بقية وهو يدلس فإذا روى عن الثقاة جود ولأنه لا نفس له سائلة أشبه دود الخل إذا مات فيه فإنهم سلموا ان ذلك لا ينجس إلا أن يؤخذ ويطرح فيه أو يشق الإحتراز منه اشبه ما ذكرنا.
وإذا ثبت أنه لا ينجس الماء لزم أن لا يكون نجساً وإلا لنجس الماء كسائر النجاسات (فصل) فأما إن كان متولداً من النجاسات كدود الحش وصراصره فهو نجس حياً وميتاً لأنه متولد من النجاسة فكان نجساً كالمتولد من الكلب والخنزير قال المروذي قال أحمد صراصر الكنيف والبالوعة إذا وقع في الإناء صب وصراصر البئر ليس هي بقذرة لأنها لا تأكل العذرة (فصل) وماله نفس سائلة من الحيوان غير الآدمي ينقسم قسمين (أحدهما) ميتة طاهرة وهو السمك وسائر حيوان البحر الذي لا يعيش إلا في الماء فهو طاهر حياً وميتاً لأنه لو كان نجساً لم يبح أكله (القسم الثاني) مالا تباح ميتته غير الآدمي كحيوان البر المأكول وغيره وحيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والحية والتمساح ونحوه فكل ذلك ينجس بالموت وينجس الماء القليل إذا مات فيه والكثير إذا غيره وهذا قول ابن المبارك والشافعي وأبي يوسف، وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن في الضفدع لا تفسد الماء إذا ماتت فيه لأنها تعيش في الماء أشبهت السمك ولنا أنها تنجس غير الماء فنجست الماء كحيوان البر ولأنه حيوان له نفس سائلة لا تباح ميتته أشبه طير الماء وبهذا فارق السمك (فصل) وفي الوزغ وجهان (أحدهما) لا ينجس بالموت لأنه لا نفس له سائلة أشبه العقرب (والثاني) أنه نجس لأن علياً رضي الله عنه كان يقول: إن ماتت الوزغة أو الفأرة في الحب يصب ما فيه وإن ماتت في بئر فانتزحها تغلبك(1/306)
(فصل) إذا مات في الماء ما لا يعلم هل ينجس بالموت أم لا فالماء طاهر لأن الأصل طهارته والنجاسة مشكوك فيها وكذلك إن شرب منه حيوان يشك في نجاسة سؤره وطهارته لما ذكرناه (مسألة) (وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه طاهر وعنه أنه نجس)
اختلفت الرواية في بول ما يؤكل لحمه وروثه فروي عن أحمد أنه طاهر وهو ظاهر كلام الخرقي وهو قول عطاء والنخعي والثوري ومالك ورخص في أبوال الغنم الزهري ويحيى الأنصاري، قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه اشترط أن تكون سليمة من أبعارها وأبوالها، ورخص في ذرق الطائر الحكم وحماد وأبو حنيفة، وعن أحمد أن ذلك نجس وهو قول الشافعي وأبي ثور ونحوه عن الحسن لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " تنزهوا من البول " ولأنه رجيع فأشبه رجيع الآدمي ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل والنجس لا يباح شربه ولو أبيح للضرورة لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم وأمر بالصلاة فيها متفق عليه، وصلى أبو موسى في موضع فيه أبعار الغنم فقيل له: لو تقدم إلى ههنا؟ فقال هذا وذاك واحد ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يصلون عليه من الأوطئة والمصليات وإنما كانوا يصلون على الأرض ومرابض الغنم لا تخلو من أبعارها وأبوالها فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، ولأنه لو كان نجساً لتنجست الحبوب التي تدوسها البقر فإنها لا تسلم من أبوالها فيتنجس بعضها فيختلط النجس بالطاهر فيصير حكم الجميع حكم النجس وحكم قيئه ومنيه حكم بوله لأنه في معناه (فصل) في الخارج من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه وهو أربعة اقسام (أحدها) الآدمي فالخارج منه ثلاثة أنواع (أحدها) ريقه وعرقه ودمعه ومخاطه ونخامته فهو طاهر لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية أنه ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه، رواه البخاري وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فأقبل علي الناس فقال " ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع(1/307)
أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فان لم يجد فليقل هذا " ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه ببعض رواه مسلم.
ولو كانت نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه وهو في الصلاة ولا تحت قدمه وسواء في ذلك البلغم الخارج من الرأس والصدر ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال أبو الخطاب البلغم نجس لأنه إستحال في المعدة أشبه القئ ولنا عموم الخبرين ولأنه أحد نوعي النخامة أشبه الآخر ولأنه لو كان نجساً لنجس الفم ونقض
الوضوء ولم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم فيما علمنا شئ من ذلك مع عموم البلوى به، وقولهم إنه طعام إستحال في المعدة ممنوع إنما هو منعقد من الأبخرة فهو كالمخاط ولأنه يشق التحرز منه أشبه المخاط (النوع الثاني) قيؤه ودمه وما تولد منه من القيح والصديد فهو نجس وقد ذكرنا حكمه فيما مضى (النوع الثالث) الخارج من السبيلين من البول والغائط والمذي والودي والدم وغيره فلا نعلم في نجاسته خلافاً إلا ما ذكرنا في المذي وسيأتي حكم المني إن شاء الله تعالى (فصل) القسم الثاني البغل والحمار وسباع البهائم والطير فإن قلنا بطهارتها فحكمها حكم الآدمي على ما بينا إلا في منيها فإن حكمه حكم بولها وإن قلنا بنجاستها فجميع أجزائها وفضلاتها نجسه إلا السنور وما دونها في الخلقة وسيأتي بيان حكمها إن شاء الله تعالى (القسم الثالث) الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فهو نجس بجميع أجزائه وفضلاته وما ينفصل عنه (القسم الرابع) ما لان نفس له سائلة فهو طاهر بجميع أجزائه وفضلاته المتصلة والمنفصلة إلا أن يكون متولداً من النجاسة وقد ذكرناه (مسألة) (والمني طاهر وعنه أنه نجس ويجزئ فرك يابسه) اختلفت الرواية في المني عن أحمد رحمه الله فروي عنه أنه طاهر وهو ظاهر المذهب وروي عنه أنه كالدم نجس يعفى عن يسيره وروي عنه أنه كالبول ويجزئ فرك يابسه بكل حال لحديث عائشة والرواية الأولى المشهورة في المذهب وهو قول سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس ونحوه قول سعيد بن المسيب وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر.
وقال أصحاب الرأي هو نجس ويجزئ فرك يابسه وقال مالك غسل الإحتلام أمر واجب وهو مذهب الثوري والاوزاعي لما روت عائشة أنها كانت تغسل المني من ثوب(1/308)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح ولأنه خارج معتاد من السبيل أشبه البول ولنا ماروت عائشة قالت كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه متفق عليه وقال ابن عباس أمسحه عنك بأذخرة أو خرقه ولا تغسله إنما هو كالبزاق ورواه الدارقطني مرفوعاً ولأنه لا يجب غسله إذا جف فأشبه المخاط ولانه بدء خلق آدمي أشبه الطين وبهذا فارق البول (فصل) وإن خفي موضع المني فرك الثوب كله إن قلنا بنجاسته وإن قلنا بطهارته إستحب فركه
وإن صلى من غير فرك أجزأه وهو قول الشافعي ومن قال بالطهارة، وقال ابن عباس وعائشة وعطاء ينضح الثوب كله وقال ابن عمر وأبو هريرة والحسن يغسله كله ولنا أن فركه يجزئ إذا علم مكانه فكذلك إذا خفي وأما النضح فلا يفيد لأنه لا يطهره إذا علم مكانه فكذلك إذا خفي قال أحمد إنما يفرك مني الرجل خاصة لأن الذي للرجل ثخين والذي للمرأة رقيق والمعنى في هذا أن الفرك يراد للتخفيف والرقيق لا يبقى له جسم بعد جفافه فلا يفيد فيه الفرك فعلى هذا إن قلنا بنجاسته فلا بد من غسله رطباً كان أو يابساً كالبول وإن قلنا بطهارته إستحب غسله كما يستحب فرك مني الرجل فأما الطهارة والنجاسة فلا يفترقان فيه لأنه مني خارج من السبيل بدء خلق آدمي (فصل) ومن أمنى وعلى فرجه نجاسة نجس منيه لإصابته النجاسة.
وذكر القاضي في المني من الجماع أنه نجس لأنه لا يسلم من المذي وهذا فاسد فإن مني النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان من جماع لأن الأنبياء لا يحتلمون وهو الذي وردت الأخبار بفركه والطهارة لغيره فرع عليه والله أعلم(1/309)
(مسألة) (وفي رطوبة فرج المرأة روايتان) (إحداهما) نجاسته لأنه بلل في الفرج لا يخلق منه الولد أشبه المذي (والثانية) طهارته لأن المني طاهر لما بينا وإذا كان من جماع فلا بد أن يصيب رطوبة الفرج ولأننا لو حكمنا بنجاسته لحكمنا بنجاسة منيها لأنه يتنجس برطوبة فرجها لخروجه منه.
وقال القاضي ما أصاب منه في حال الجماع فهو نجس لأنه لا يسلم من المذي هذا ممنوع فإن الشهوة إذا إشتدت خرج المني دون المذي كحالة الإحتلام (مسألة) (وسباع البهائم والطير والبغل والحمار الأهلي نجسة وعنه أنها طاهرة) روي عن أحمد رحمه الله في سباع البهائم وجوارح الطير ما خلا الكلب والخنزير والسنور وما دونها في الخلقة روايتان (إحداهما) ان سؤرها وعرقها نجس وهو اختيار الخرقي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس " ولو كانت طاهرة لم يحد بالقلتين ولأنه حيوان حرم أكله لا لحرمته يمكن التحرز عنه غالباً أشبه الكلب ولأن الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فينبغي أن يقضي بنجاستها كالكلاب (والرواية الثانية) أنها طاهرة رواها عنه إسماعيل
ابن سعيد يروي ذلك عن الحسن وعطاء والزهري ومالك والشافعي وابن المنذر لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال " لها ما أخذت في أفواهها ولنا ما غبر طهور " رواه ابن ماجه.
ومر عمر وعمرو بن العاص بحوض فقال عمرو يا صاحب الحوض ترد على حوضك السباع؟ فقال عمر يا صاحب الحوض(1/310)
لا تخبرنا فإنا نرد عليها وترد علينا.
رواه مالك في الموطأ ولأنه حيوان يجوز بيعه فكان طاهراً كبهيمة الأنعام (فصل) وفي البغل والحمار ثلاث روايات (إحداها) أنها نجسة نروى كراهتها عن ابن عمر وهو قول الحسن وابن سيرين والشعبي والاوزاعي وإسحاق لما ذكرنا في السباع ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنها رجس " (والثانية) أنه مشكوك فيها لأن أحمد قال في البغل والحمار إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم منه وهو قول أبي حنيفة والثوري لأنه تردد بين أمارة تنجسه وأمارة تطهره، فأمارة تنجيسه أنه محرم أشبه الكلب وأمارة تطهيره أنه ذو حافر يجوز بيعه أشبه الفرس (والثالثة) أنه طاهر وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر وهذا اختيار شيخنا لما ذكرنا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبهما وتركب في زمنه.
ولو كان نجساً لبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فأشبها السنور، فأما قوله صلى الله عليه وسلم " أنها رجس " أراد به التحريم كقول الله تعالى في الأنصاب والأزلام (أنها رجس) ويحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدورهم فإنه نجس لأن ذبح مالا يباح أكله لا يطهره (فصل) وفي الجلالة روايتان (إحداهما) نجاستها لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب الجلالة وألبانها، رواه أبو داود ولأنها تنجست بالنجاسة والريق لا يطهر (والثانية أنها طاهرة لان الهر والضبع يأكلان النجاسة وهما طاهران وحكم أجزاء الحيوان من شعره وريشه وجلده ودمعه وعرقه(1/311)
حكم سؤره لأنه من أجزأئه فأشبه السنور في الطهارة والنجاسة لأنه في معناه والله أعلم (مسألة) (وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر) سؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر كابن عرس والفأرة ونحو ذلك من حشرات الأرض طاهر لا نعلم فيه خلافاً في المذهب أنه يجوز شربه والوضوء به
ولا يكره.
هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا أبا حنيفة فإنه كره الوضوء بسؤر الهر فإن فعل أجزأه، ورويت كراهته عن ابن عمر ويحيى الانصاري وابن أبي ليلى، وقال أبو هريرة يغسل مرة أو مرتين وهو قول ابن المسيب ونحوه قول الحسن وابن سيرين لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغت فيه الهر يغسل مرة " وقال طاوس يغسل سبعاً كالكلب ولنا ما روى عن كبشة بنت كعب بن مالك أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءاً قالت فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت.
قالت كبشة فرآني أنظر إليه قال: أتعجبين يا إبنة أخي؟ فقلت نعم.
فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما يطوف علينا.
وعن عائشة أنها قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم " وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها رواه أبو داود، وحديثهم ليس فيه تصريح بنجاستها مع صحة حديثنا واشتهاره (فصل) وإذا أكلت الهر نجاسة ثم شربت من مائع بعد الغيبة فهو طاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم(1/312)
وسلم نفى عنها النجاسة وتوضأ بفضلها مع علمه بأكلها النجاسات وإن شربت قبل الغيبة فقال القاضي وابن عقيل ينجس لأنه مائع وردت عليه نجاسة متيقنة، وقال أبو الحسن الآمدي ظاهر قول أصحابنا طهارته لأن الخبر دل على العفو عنها مطلقاً وعلل بعدم إمكان التحرز عنها ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة في مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يطهر فاها ولو إحتمل ذلك فهو شك لا يزيل يقين النجاسة فوجب إحالة الطهارة على العفو عنها وهو شامل لما قبل الغيبة (فصل) والخمر نجس لقوله تعالى (إنما الخمر والميسر - إلى قوله - رجس) ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر اشبه الدم وكذلك النبيذ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " رواه مسلم ولأنه شراب فيه شدة مطربة أشبه الخمر والله تعالى أعلم (باب الحيض) (مسألة) قال (وهو دم طبيعة وجبلة) الحيض دم يرخيه الرحم إذا بلغت المرأة في أوقات معتادة
وهو دم طبع الله النساء وجبلهن عليه وليس بدم فساد بل خلقه الله تعالى لحكمة تربية الولد فإذا حملت المرأة انصرف ذلك بإذن الله تعالى إلى غذائه ولذلك لا تحيض الحامل فإذا وضعت الولد قلبه الله(1/313)
بحكمته لبناً ولذلك قلما تحيض المرضع.
فإذا خلت المرأة من الحمل والرضاع بقي الدم لا مصرف له فيستقر في مكان ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة وقد يزيد على ذلك وتقل وتطول أشهر المرأة وتقصر على حسب ما ركبه الله تعالى في الطباع - وسمي حيضاً من قولهم حاض الوادي إذا سال وتقول العرب حاضت الشجرة إذا سال منها الصمغ الأحمر وهو من السيلان والأصل فيه قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) وقال أحمد رحمه الله الحيض يدور على ثلاثة أحاديث حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة، وفي رواية وحديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة وسنذكر هذه الأحاديث في مواضعها إن شاء الله (فصل) وإختلف الناس في الحيض فقال قوم المحيض والحيض واحد مصدران بدليل قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) والأذى إنما هو الدم وهو الحيض وكذلك قوله تعالى (واللائي يئسن من المحيض) وإنما يئسن من الحيض وقال ابن عقيل المحيض مكان الحيض كالمقيل والمبيت مكان القيلولة والبيتوتة وما جاء في القرآن يحمل على المجاز وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا المحيض إسم لمكان الحيض إختص التحريم به وإذا قلنا إسم للدم جاز أن ينصرف إلى ما عداه لأجله (مسألة) (ويمنع عشرة أشياء (أحدها) فعل الصلاة (والثاني) وجوبها) قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على إسقاط فرض الصلاة عن الحائض في أيام حيضها وعلى أن قضاء ما تركت من الصلاة في أيام حيضها غير واجب وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فاطمة بنت أبي حبيش " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة " متفق عليه، ولما روت معاذة قالت سألت عائشة ما بال الحائض(1/314)
تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت أحرورية أنت؟ فقلت لست بحرورية ولكني أسأل فقالت كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة
متفق عليه إنما قالت لها عائشة ذلك لأن الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة (الثالث) فعل الصيام ولا يسقط وجوبه لما ذكرنا من الحديث وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أليست إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ " قلن بلى رواه البخاري وحكى ابن المنذر إن الحائض عليها قضاء الصوم إجماعا (الرابع) قراة القرآن لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " رواه أبو داود والترمذي (والخامس) مس المصحف لقوله تعالى (لا يمسه إلا المطهرون) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزام " لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر " رواه الاثرم (والسادس) اللبث في المسجد لما ذكرنا في باب الغسل (والسابع) الطواف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة إذ حاضت " فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " متفق عليه (والثامن) الوطئ في الفرج لقوله تعالى (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) (التاسع) سنة الطلاق يعني أن طلاق الحائض محرم وهو طلاق بدعة لما نذكره في موضعه (العاشر) الاعتداد بالأشهر لقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فأوجب العدة بالقروء وقوله (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) شرط في العدة بالأشهر عدم الحيض ويمنع أيضاً صحة الطهارة لأن خروج الدم يوجب الحدث فمنع استمراره صحة الطهارة كالبول.
(مسألة) (ويوجب الغسل عند انقطاعه) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي " متفق عليه ويوجب البلوغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " ويوجب الاعتداد به لما ذكرنا وأكثر هذه الاحكام مجمع عليها (مسألة) (والنفاس مثله لا في الاعتداد) يعني أن حكم النفاس حكم الحيض فيما يجب به ويحرم وما يسقط عنها لا نعلم في هذا خلافا والخلاف في وجوب الكفارة بوطئها كالحائض وكذلك إباحة الاستمتاع فيما دون الفرج لأنه دم الحيض احتبس لأجل الحمل ثم خرج فثبت حكمه إلا في الاعتداد لأن الاعتداد بالقروء والنفاس ليس بقروء ولأن العدة تنقضي بالحمل - ويفارقه أيضاً في كونه لا يدل على البلوغ لأنه لا يتصور لحصوله بالحمل قبله (مسألة) (فإذا إنقطع الدم أبيح فعل الصيام والطلاق ولم يبح غيرهما حتى تغتسل) وجملة ذلك(1/315)
أنه متى إنقطع دم الحائض ولما تغتسل زال من الأحكام المتعلقة بالحيض أربعة أحكام (أحدها) سقوط فرض الصلاة لأن سقوطه بالحيض وقد زال (الثاني) منع صحة الطهارة لذلك (الثالث) تحريم الصيام لأن وجوب الغسل لا يمنع فعله كالجنابة (الرابع) إباحة الطلاق لأن تحريمه لتطويل العدة أو لأجل الحيض وقد زال ذلك وسائر المحرمات باقية لأنها تحرم على الجنب فههنا أولى (فصل) فأما الوطئ قبل الغسل فهو حرام في قول أكثر أهل العلم قال إبن المنذر هذا كالإجماع وقال أبو حنيفة إن انقطع الدم لأكثر الحيض حل وطؤها وإلا لم يبح حتى تغتسل أو تتيمم أو يمضي عليها وقت صلاة لأن وجوب الغسل لا يمنع الوطئ كالجنابة ولنا قوله تعالى (ولا تقربوهن حتى يتطهرن فإذا تطهرن فائتوهن) قال مجاهد حتى يغتسلن وقال ابن عباس فإذا إغتسلن ولأنه قال (فإذا تطهرن) والتطهر تفعل والتفعل إذا أضيف الى من يصح منه الفعل إقتضى إيجاد الفعل منه كما في النظائر وإنقطاع الدم غير منسوب إليها ولأن الله سبحانه وتعالى شرط لحل الوطئ شرطين - إنقطاع الدم والغسل فلا يباح بدونهما ولأنها ممنوعة من الصلاة لحديث الحيض فمنع وطئها كما لو إنقطع لأقل الحيض وبهذا ينتقض قياسهم وحدث الحيض آكد من حدث الجنابة فلا يصح الإلحاق.
(فصل) وانقطاع الدم الذي تتعلق به هذه الأحكام الإنقطاع الكثير الذي يوجب عليها الغسل والصلاة فأما الإنقطاع اليسير في أثناء الحيض فلا حكم له لأن العادة أن الدم ينقطع تارة ويجري أخرى وسنذكر ذلك إن شاء الله (مسألة) (ويجوز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج) الاستمتاع من الحائض بما فوق السرة وتحت الركبة جائز بالاجماع والنص والوطئ في الفرج محرم بهما والإختلاف في الاستمتاع بما بينهما مذهب إمامنا رحمه الله جوازه وهو قول عكرمة وعطاء والشعبي والثوري واسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يباح لأن عائشة رضي اله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض رواه البخاري ومسلم بمعناه.
وعن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال " ما فوق الإزار " رواه البيهقي ولنا قول الله تعالى (فاعتزلوا النساء في المحيض) وهو إسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت فتخصيصه موضع الدم بالمنع يدل على إباحته فيما عداه، فإن قيل بل المحيض الحيض بدليل قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) والأذى هو الحيض وقوله تعالى (واللائي يئسن من المحيض) وإنما يئسن من الحيض قلنا يمكن حمله على ما ذكرنا وهو أولى لوجهين (أحدهما) أنه لو أراد الحيض لكان أمراً باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية ولا قائل به (الثاني) أن سببب نزول الآية أن اليهود(1/316)
كانت إذا حاضت المرأة اعتزلوها فلم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجتمعوا معها في البيت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اصنعوا كل شئ غير النكاح " رواه مسلم.
وهذا تفسير لمراد الله تعالى لأنه لا تتحقق مخالفة اليهود بإرادة الحيض لأنه يكون موافقاً لهم ومن السنة هذا الحديث.
وعن عكرمة عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها خرقة، رواه أبو داود ولانه وطئ منع للأذى فاختص بمحله كالدبر وحديث عائشة ليس فيه دليل على تحريم ما تحت الإزار فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك بعض المباح تقذرا كتركه أكمل الضب والحديث الآخر يدل بالمفهوم والمطوق راجح عليه (مسألة) (فإن وطئها في الفرج فعليه نصف دينار كفارة وعنه ليس عليه إلا التوبة) اختلفت الرواية في وجوب الكفارة بوطئ الحائض في الفرج فروي عنه أن عليه الكفارة وهو المشهور في المذهب لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال " يتصدق بدينار أو نصف دينار " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي (والثانية) لا كفارة عليه وهو قول مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وللشافعي قولان كالمذهبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه ابن ماجه ولم يذكر كفارة إلا أن البخاري ضعف هذا الحديث حكاه الترمذي ولأنه وطئ نهي عنه لأجل الاذى أشبه الوطئ في الدبر وحديث الكفارة مداره على عبد الحميد بن زيد بن الخطاب وقد قيل
لاحمد في نفسك منه شئ؟ قال: نعم، قال لو صح ذلك الحديث كنا نرى عليه الكفارة (1) وقد روي عن أحمد أنه قال: إن كانت له مقدرة تصدق بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه هذا يدل على أن المعسر لا شئ عليه.
قال أبو عبد الله بن حامد: كفارة وطئ الحائض تسقط بالعجز عنها أو عن بعضها ككفارة الوطئ في رمضان.
(فصل) وظاهر المذهب في الكفارة أنها دينار أو نصف دينار على وجه التخيير يروي ذلك عن ابن عباس لظاهر الحديث قال أبو داود هكذا الرواية الصحيحة قال دينار أو نصف دينار ولأنه معنى تجب الكفارة بالوطئ فيه فاستوى الحال فيه بين إقباله وإدباره كالإحرام.
وعنه إن كان الدم أحمر فدينار وإن كان أصفر فنصف دينار وهو قول إسحاق لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن كان دماً أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار " رواه أبو داود والترمذي إلا أن أبا داود قال: هو وقوف من قول ابن عباس والأول أولى لما ذكرنا، فإن قيل فكيف يخير بين شئ ونصفه؟ قلنا كما خير المسافر بين القصر والإتمام.
(فصل) فإن وطئها بعد الطهر قبل الغسل فلا كفارة عليه وقال قتادة والاوزاعي: عليه نصف
__________
1) قال الحافظ في التلخيص ان رواية عبد الحميد كل رواتها في الصحيح الامقسم (هو التابعي الذي رواه عن ابن عباس) فانقرد به البخاري - ثم قال وقال الخلال عن أبي داود عن أحمد: ما احسن حديث عبد الحميد.
فقيل له تذهيب إليه.
قال نعم قال أبو داود وهى الرواية الصحيحة الخ.
ثم اعتمد الحافظ قول من صححوا الحديث الحديث خلافا للنوى وذكر دون حديث القلتين وحديث بئر بضاعة الذين صححوهما(1/317)
دينار لأنه حكم تعلق بالوطئ في الحيض فلم يزل إلا بالغسل كالتحريم ولنا أن وجوب الكفارة من الشرع ولم يرد بذلك إلا في الحائض وقياسهم يبطل بما لو حلف لا يطأ حائضاً فانه يحنث بالوطئ في الحيض ولا يحنث بالوطئ قبل الغسل (فصل) وهل تجب الكفارة على الجاهل والناسي؟ على وجهين (أحدهما) تجب لعموم الخبر وقياسا على الوطئ في الإحرام (والثاني) لا تجب لقوله عليه السلام " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان "
ولأنها وجبت لمحو الإثم فأشبهت كفارة اليمين، فان وطئ طاهراً فحاضت في أثناء وطئه لم تجب عليه الكفارة على الوجه الثاني وتجب على الأول وهو قول ابن حامد، وإن وطئ الصبي لزمته الكفارة عند ابن حامد لعموم الخبر وكالوطئ في الإحرام.
قال شيخنا: ويحتمل أن لا تلزمه لأنها من فروع التكليف وهو غير مكلف.
(فصل) وتجب الكفارة على المرأة في المنصوص لانه وطئ يوجب الكفارة فأوجبها على المرأة كالوطئ في الإحرام، وقال القاضي: فيه وجهان (أحدهما) لا تجب لأن الوجوب من الشرع ولم يرد فإن كانت مكرهة أو غير عالمة فلا كفارة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وحكم النفساء حكم الحائض في ذلك لأنها في معناها.
ويجزئ نصف دينار من أي ذهب كان إذا كان صافياً ويستوي التبر والمضروب لوقوع الإسم عليه، ويجزئ إخراج القيمة في أحد الوجهين لأن المقصود يحصل بها فجاز من أي مال كان كالخراج (والثاني) لا يجوز لأنه كفارة فاختص ببعض الأنواع كسائر الكفارات.
فعلى هذا الوجه هل يجوز إخراج الدراهم؟ ينبني على جوازه في الزكاة والصحيح جوازه لما ذكرنا واختاره شيخنا.
ومصرفها إلى المسكين كسائر الكفارات والله أعلم (مسألة) (وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين) هذه المسألة تشتمل على أمرين (أحدهما) أن الصغيرة إذا رأت دماً لدون تسع سنين فليس بحيض لا نعلم في ذلك خلافاً في المذهب لأن الصغيرة لا تحيض لقوله سبحانه (واللائي لم يحضن) ولأن المرجع فيه الى الوجود ولم يوجد من النساء من تحيض عادة فيما دون هذه السن ولأن الله سبحانه خلق دم الحيض لحكمة تربية الولد وهذه لا تصلح للحمل فلا توجد فيها حكمته فينتفي لانتفاء حكمته (الأمر الثاني) أنها إذا رأت دماً يصلح أن يكون حيضاً ولها تسع سنين حكم بكونه حيضاً وحكم ببلوغها وثبت في حقها أحكام الحيض كلها لأنه روي عن عائشة أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
وروي ذلك مرفوعا من رواية ابن عمر والمراد به حكمها حكم المرأة.
وذكر ابن عقيل أن نساء تهامة يحضن لتسع سنين وهذا قول الشافعي وقد حكي عنه أنه قال: رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة وهذا يدل على أنها حملت لدون عشر سنين وكذلك بنتها.
وحكي الميموني عن أحمد في بنت عشر رأت الدم قال: ليس بحيض
قال القاضي: فيجب على هذا أن يقال: أول زمن يصح فيه وجود الحيض ثنتا عشرة سنة لأنه الزمان(1/318)
الذي يصح فيه بلوغ الغلام والأول أصح (مسألة) قال (وأكثره خمسون سنة وعنه ستون في نساء العرب) اختلفت الرواية في حد السن الذي تيأس فيه المرأة من الحيض فروي عنه أنه خمسون سنة وهذا قول إسحاق ويكون حكمها فيما تراه من الدم بعد الخمسين حكم المستحاضة لأن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا بلغت خمسين سنة خرجت من حد الحيض وروي عنها أنها قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين.
وروي عنه أنها لا تيأس من الحيض يقيناً إلى ستين سنة وما تراه فيما بين الخمسين والستين حيض مشكوك فيه لا تترك الصلاة ولا الصوم لأن وجوبهما متيقن فلا يسقط بالشك وتقضي الصوم المفروض إحتياطاً لأنه واجب في ذمتها بيقين فلا يسقط بأمر مشكوك فيه هكذا رواه الخرقي.
وروي عنه أن نساء العجم تيأس في خمسين ونساء قريش وغيرهم من العرب إلى ستين - وهذا قول أهل المدينة - لأنهن أقوى جبلة.
وروى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال لا تلد لخمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية وقال: إن هنداً بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن ابي طالب ولها ستون قال أحمد في امرأة من العرب رأت الدم بعد الخمسين: إن عاودها مرتين أو ثلاثا فهو حيض وذلك لأن المرجع في ذلك إلى الوجود وقد وجد حيض من نساء ثقات أخبرن عن أنفسهن بعد الخمسين فأشبه ما قبل الخمسين لأن الكلام فيما إذا وجد من المرأة دم في زمن عادتها بعد الخمسين كما كانت تراه قبلها.
قال شيخنا والصحيح أنه لا فرق بين نساء العرب وغيرهن لأنهن سواء في سائر أحكام الحيض كذلك هذا.
وما ذكر عن عائشة لا حجة فيه لأن الحيض أمر حقيقي المرجع فيه الى الوجود وقد وجد بخلاف ما قالت على ما حكاه الزبير بن بكار.
وإن قيل هذا الدم ليس بحيض مع كونه على صفته وفي وقته وعادته بغير نص فهو تحكم فأما بعد الستين فلا خلاف في المذهب أنه ليس بحيض لأنه لم يوجد وقد علم أن للمرأة حالاً تيأس فيه من الحيض لقول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض) قال أحمد في المراة الكبيرة ترى الدم هو بمنزلة الجرح وقال عطاء " هي بمنزلة المستحاضة وذلك لأن هذا الدم إذا لم يكن حيضاً فهو دم فساد حكمه حكم دم الاستحاضة ومن به سلس البول وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
(مسألة) (والحامل لا تحيض فإن رأت دما فهو دم فساد) وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة والشعبي وحماد والثوري والاوزاعي وأبي حنيفة وابن المنذر وأبي عبيد وروي عن عائشة، والصحيح عنها أنها إذا رأت الدم لا تصلي.
وقال مالك والشافعي والليث: ما تراه من الدم حيض إذا أمكن.
وروي ذلك عن الزهري وقتادة واسحاق لأنه دم صادف العادة فكان حيضاً كغير الحامل ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " جعل وجود الحيض علماً(1/319)
على براءة الرحم فدل على أنه لا يجتمع معه، ولأن ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " مره فليراجعها ثم يطلقها طاهراً أو حاملاً " فجعل الحمل علماً على عدم الحيض كالطهر إحتج بذلك أحمد ولأنه زمن لا ترى الدم فيه غالباً فلم يكن ما تراه حيضاً كالآيسة، قال أحمد إنما يعرف النساء الحمل بإنقطاع الدم وقول عائشة يحمل على التي قاربت الوضع جمعاً بين قوليها (فصل) فإن رأته قبل ولادتها قريباً منها فهو نفاس تدع الصلاة والصوم، قال يعقوب بن بختان سألت أحمد عن المرأة إذا ضربها المخاض قبل الولادة بيوم أو يومين تعيد الصلاة؟ قال لا وهذا قول إسحاق، وقال الحسن إذا رأت الدم على الولد أمسكت عن الصلاة، وقال النخعي إذا ضربها المخاض فرأت الدم قال هو حيض، وهذا قول أهل المدينة والشافعي، وقال عطاء تصلي ولا تعده حيضاً ولا نفاساً ولنا أنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاساً كالخارج بعده (فصل) وإنما يعلم أنه بسبب الولادة إذا كان قريبا منها ويعلم ذلك برؤية أمارتها في وقته، فأما أن رأت الدم من غير علامة على قرب الوضع لم تترك له العبادة لأن الظاهر أنه دم فساد فإن تبين كونه قريباً مع الوضع لوضعها بعده بيوم أو يومين أعادت الصوم المفروض الذي صامته فيه، وإن رأته عند العلامة تركت العبادة، فإن تبين بعده عنها أعادت ما تركته من العبادات الواجبة لأنه تبين أنه ليس بحيض ولا نفاس والله أعلم (مسألة) (وأقل الحيض يوم وليلة وعنه يوم وأكثره خمسة عشر يوماً وعنه سبعة عشر) المشهور في المذهب أن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً هذا قول عطاء بن أبي رباح
وأبي ثور، وروى عن أحمد أن أقله يوم وأن أكثره سبعة عشر، قال ابن المنذر بلغني أن نساء آل الماجشون كن يحضن سبع عشرة، قال الخلال: مذهب أبي عبد الله لا اختلاف فيه أن أقل الحيض(1/320)
يوم وأكثره خمسة عشر ومذهب الشافعي نحو هذا في أقله وأكثره.
وقال الثوري والنعمان وصاحباه أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة لما روى واثلة بن الاسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة " وقال أنس قرء المرأة ثلاث أربع خمس ست سبع ثمان تسع عشرة ولا يقول ذلك الا توقيفا وقال مالك ليس لأقله حد ولو كان لأقله حد لكانت المراة لا تدع الصلاة حتى يمضي ذلك الحد ولنا إن ذكر الحيض ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد ولا حد له في اللغة فرجع فيه إلى العرف والعادة كالقبض والإحراز والتفرق وقد وجد حيض معتاد أقل من ثلاثة وأكثر من عشرة.
وقال عطاء رأيت من النساء من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر، وقال شريك: عندنا امرأة تحيض كل شهر خمسة عشر يوماً حيضاً مستقيماً، وقال أبو عبد الله الزبيري: كان في نسائنا من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر يوماً، وقال الشافعي رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوماً لا تزيد عليه، وأثبت لي عن نساء إنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام، وقولهن يجب الرجوع إليه لقوله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) فلولا أنه مقبول ما حرم عليهن الكتمان وجرى ذلك مجرى الشهادة ولم يوجد حيض معتاد أقل من ذلك في عصر من الأعصار فلا يكون حيضاً بحال وحديث واثلة بن الاسقع يرويه محمد بن أحمد الشامي وهو ضعيف عن حماد بن المنهال وهو مجهول وحديث أنس رواه الجلد بن أيوب وهو ضعيف قال ابن عيينة: هو محدث لا أصل له وقال يزيد بن زريع ذاك أبو حنيفة لم يحتج إلا بالجلد بن أيوب وحديث الجلد ولو صح فقد روي عن علي رضي الله عنه ما يعارضه فانه قال: ما زاد على خمسة عشر إستحاضة وأقل الحيض يوم وليلة (مسألة) (وغالبه ست أو سبع) لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة " تحيضي (1) في علم الله ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً أو ثلاثة وعشرين يوماً كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن " حديث حسن
__________
1) هو بفتح التاء والحاء وتشديد الياء - اي عدي نفسك حائضا(1/321)
(مسألة) (وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً) لأن كلام أحمد لا يختلف أن العدة يصح أن تنقضي في شهر إذا قامت به البينة، قال إسحاق توقيت هؤلاء بالخمسة عشر باطل وقال أبو بكر: أقل الطهر مبني على أكثر الحيض، فإن قلنا أكثره خمسة عشر فأقل الطهر خمسة عشر، وإن قلنا أكثره سبعة عشر فأقل الطهر ثلاثة عشر، وهذا بناه على أن شهر المرأة لا يزيد على ثلاثين يوماً يجتمع فيه حيض وطهر، وأما إذا زاد شهرها على ذلك فلا يلزم ما قال، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي أقله خمسة عشر،، وعن أحمد عشرة وعن أحمد نحو ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم تمكث " إحداكن شطر عمرها لا تصلي " ولنا ما روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته وقد طلقها زوجها فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض طهرت عند كل قرء وصلت.
فقال علي لشريح قل فيها، فقال شريح إن جاءت ببينة من بطانة أهلها مما يرضى دينه وأمانته فشهدت بذلك وإلا فهي كاذبة.
فقال علي: (قالون) يعني جيد بالرومية ولا يقول مثل هذا إلا توقيفاً ولأنه قول صحابي انتشر ولم يعلم خلافه ولا يتصور إلا على قولنا أقله ثلاثة عشر وأقل الحيض يوم وهذا في الطهر بين الحيضتين، فأما الطهر بين الحيضة فسيأتي حكمه وغالب الطهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنه " ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً أو ثلاثة وعشرين يوماً كما يحيض النساء وكما يطهرن " ولا حد لأكثره لأن التحديد من الشرع ولم يرد به ولا نعلم له دليلاً والله أعلم (مسألة) (والمبتدأة تجلس يوماً وليلة ثم تغتسل وتصلي فإن إنقطع دمها لأكثره فما دون اغتسلت عند إنقطاعه وتفعل ذلك ثلاثا فان كان في الثلاث على قدر واحد صار عادة وإنتقلت إليه وأعادت ما صامته من الفرض فيه، وعنه يصير عادة بمرتين) وجملة ذلك أن المبتدأة أول ما ترى الحيض ولم(1/322)
تكن حاضت قبله إذا كان في وقت يمكن حيضها - وهي التي لها تسع سنين فصاعداً - إذا إنقطع لأقل
من يوم وليلة فهو دم فساد، وإن كان يوماً وليلة فما زاد فإنها تدع الصوم والصلاة لأن دم الحيض جبلة وعادة ودم الاستحاضة لعارض الأصل عدمه.
وظاهر المذهب إنها تجلس يوماً وليلة ثم تغتسل وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي وتصوم.
فإذا إنقطع دمها لأكثر الحيض فما دون اغتسلت غسلاً ثانياً عند إنقطاعه ثم تفعل ذلك في الشهر الثاني والثالث، فان كان في الأشهر الثلاثة متساوياً صار ذلك عادة وعلمنا أنها كانت حيضاً فيجب عليها قضاء ما صامته من الفرض فيه لأننا تبينا أنها صامته في زمن الحيض وهذا اختيار الخرقي، قال القاضي المذهب عندي في هذا رواية واحدة وذلك لأن العبادة واجبة في ذمتها بيقين فلا تسقط بأمر مشكوك فيه أول مرة كالمعتدة لا نحكم ببراءة ذمتها من العدة بأول حيضة ولا يلزم عليه اليوم والليلة لأنها اليقين فلو لم نجلسها ذلك أدى الى أن لا نجلسها أصلاً وقد نقل عن أحمد فيها ثلاث روايات أخر (إحداها) أنها تجلس ستاً أو سبعاً نقلها عنه صالح على حديث حمنة لأنه أكثر ما يجلسه النساء (والثانية) تجلس عادة نسائها كأمها وأختها وعمتها وخالتها، وهذا قول عطاء والثوري والاوزاعي لأن الغالب أنها تشبههن في ذلك وهو قول إسحاق غير أنه قال فإن لم تعرف الأم والخالة أو العمة فإنها تجلس ستة أيام أو سبعة كما في حديث حمنة (والثالثة) أنها تجلس ما تراه من الدم ما لم يجاوز أكثر الحيض وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي اختاره شيخنا فإن إنقطع لأكثره فالجميع حيض لأننا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض مع جواز أن يكون إستحاضة فكذلك باقية.
ولأن دم الحيض دم جبلة والأستحاضة دم عارض والاصل فيها الصحة والسلامة(1/323)
(فصل) لا يختلف المذهب أن العادة لا تثبت بمرة، وظاهر مذهب الشافعي أنها تثبت بمرة لأن المرأة التي استفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الإستحاضة لأن ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه ولنا أن العادة مأخوذة من المعاودة ولا تحصل بمرة والحديث حجة لنا لأنه قال " لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها " و (كان) يخبر بها عن دوام الفعل وتكراره ولا يقال لمن فعل شيئاً مرة كان يفعل.
وإختلفت الرواية هل تثبت العادة بمرتين أو
ثلاث؟ فعنه أنها تثبت بمرتين لأنها مأخوذة من المعاودة وقد عاودتها في المرة الثانية، وعنه لا تثبت إلا بثلاث وهو المشهور في المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تدع الصلاة أيام اقرائها " والإقراء جمع وأقله ثلاثة ولأن العادة إنما تطلق على ما كثر ولأن ما اعتبر له التكرار اعتبر ثلاثا كخيار المصراة، فإن قلنا بهذه الرواية لم تنتقل عن اليقين في الشهر الثالث وإن قلنا بالرواية الأولى إنتقلت إليه في الشهر الثالث وعلى قولنا أنها تجلس أقل الحيض أو غالبه أو عادة نسائها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وكان في الأشهر الثلاثة على قدر واحد أو في شهرين على اختلاف الروايتين إنتقلت إليه وعملت عليه وأعادت ما صامته من الفرض فيه لأننا تبينا أنها صامته في حيضها (فصل) ومتى أجلسناها يوماً وليلة أو ستاً أو سبعاً أو عادة نسائها فرأت الدم أكثر من ذلك لم يحل لزوجها وطؤها حتى ينقطع أو يجاوز أكثر الحيض لأن الظاهر أنه حيض وإنما أمرناها بالعبادة فيه إحتياطاً لبراءة ذمتها فيجب ترك وطئها إحتياطاً أيضاً، وإن انقطع الدم وإغتسلت حل وطؤها ولم يكره لأنها رأت النقاء الخالص وعنه يكره لأنا لا نأمن معاودة الدم فكره وطؤها كالنفساء إذا أنقطع دمها لأقل من أربعين يوما (مسألة) (فإن جاوز أكثر الحيض فهي مستحاضة) لأن الدم لا يصلح أن يكون حيضاً (مسألة) (فإن كان دمها متميزاً بعضه أسود ثخين منتن وبعضه رقيق أحمر فحيضها زمن الدم الأسود وما عداه استحاضة) وجملة ذلك أن المبتدأة إذا جاوز دمها أكثر الحيض لم تخل من حالين(1/324)
(أحدهما) أن تكون مميزة وهي أن يكون بعض دمها أسود ثخينا منتنا وبعضه أحمر رقيقاً أو أصفر لا رائحة له ويكون الدم الأسود أو الثخين لا يزيد على أكثر الحيض ولا ينقص عن أقله فحكم هذه أن حيضها زمن الدم الأسود والثخين فإذا إنقطع فهي مستحاضة تغتسل للحيض وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، وبهذا قال مالك والشافعي لما روت عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي "
متفق عليه وللنسائي وأبي داود " إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق " وقال ابن عباس: أما ما رأت الدم البحراني فإنها تدع الصلاة إنها والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم.
ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل فرجع إلى صفته عند الاشتباه كالمني والمذي (فصل) وظاهر كلام شيخنا رحمه الله ههنا أن المميزة إذا عرفت التمييز جلسته من غير تكرار وهو ظاهر كلام احمد والخرقي واختيار ابن عقيل لأن معنى التمييز أن يتميز أحد الدمين عن الآخر في الصفة وهذا يوجد بأول مرة، وهذا قول الشافعي وقال القاضي وأبو الحسن الآمدي إنما تجلس(1/325)
المميزة من التمييز ما تكرر مرتين أو ثلاثة بناء على الروايتين فيما تثبت به العادة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " أمرها بتر لا الصلاة إذا أقبلت الحيضة من غير إعتبار أمر آخر ثم مده إلى حين إدباره لأن التمييز إمارة بمجرده فلم يحتج إلى ضم غيره إليه كالعادة.
وعند القاضي لا تجلس من التمييز إلا ما تكرر فعلى هذا إذا رأت في كل شهر خمسة أحمر ثم خمسة أسود ثم أحمر وإتصل وجلست زمان الأسود فكان حيضها والباقي إستحاضة، وهل تجلس الأسود في الشهر الثاني أو الثالث أو الرابع؟ يخرج ذلك على الروايات الثلاث وكذلك لو رأت عشرة أحمر ثم خمسة أسود ثم أحمر فإن إتصل الأسود وعبر أكثر الحيض فليس لها تمييز وتحيضها من الأسود لأنه أشبه بدم الحيض.
ولو رأت أقل من يوم وليلة أسود فلا تمييز لها لأنه لا يصلح حيضاً.
وإن رأت في الشهر الأول أحمر كله وفي الثاني والثالث والرابع خمسة أسود وفي الخامس كله أحمر فإنها تجلس في الأشهر الثلاثة اليقين على قولنا يعتبر التكرار في المميزة وفي الرابع أيام الدم الأسود في قول شيخنا وفي الخامس تجلس خمسة أيضاً، وقال القاضي لا تجلس من الرابع إلا اليقين إلا أن نقول تثبت العادة بمرتين، قال شيخنا وفيه نظر فإنه أكثر ما يقدر فيها أنها لا عادة لها ولا تمييز ولو كانت كذلك لجلست ستاً أو سبعاً في أصح الروايات فكذا ههنا (قلت) فينبغي على هذا ان لا تجلس بالتمييز وإنما تجلس غالب الحيض لما ذكره ومن لم يعتبر التكرار في التمييز(1/326)
فهذه مميزة، ومن قال إنها تجلس بالتمييز في الشهر الثاني قال إنها تجلس الدم الأسود في الشهر الثالث لأنها لا تعلم أنها مميزة قبله (الحال الثاني) أن لا يكون دمها متميزاً على ما مضى ففيها أربع روايات (إحداها) أنها تجلس غالب الحيض من كل شهر وذلك ستة أيام أو سبعة وهذا اختيار الخرقي لأنه غالب عادات النساء فيجب ردها إليه كردها في الوقت إلى حيضها في كل شهر (والرواية الثانية) أنها تجلس أقل الحيض لأنه اليقين وللشافعي قولان كهاتين الروايتين (والثالثة) أنها تجلس أكثر الحيض وهو قول أبي حنيفة لأنه زمان الحيض فإذا رأت الدم فيه جلسته كالمعتاد (والرابعة) أنها تجلس عادة نسائها كأمها وأختها وعمتها وخالتها وهو قول عطاء والثوري والاوزاعي لأن الظاهر أنها تشبههن في ذلك والأول أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة " تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً أو ثلاثة وعشرين كما يحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن " حديث حسن صحيح - ردها النبي(1/327)
صلى الله عليه وسلم الى ذلك ولم يردها إلى غيره مما ذكر ولأن هذه ترد إلى غالب عادات النساء في وقتها بمعنى أنها تجلس في كل شهر مرة فكذلك في عدد أيامها وبهذا يبطل ما ذكر لليقين ولعادة نسائها (فصل) وهل ترد إلى ذلك إذا استمر بها الدم في الشهر الرابع أو الثاني؟ المنصوص أنها لا ترد الى ست أو سبع إلا في الشهر الرابع لأنا لا نحيضها أكثر من ذلك إذا لم تكن مستحاضة فأولى أن نفعل ذلك إذا كانت مستحاضة.
وقال القاضي يحتمل أن تنتقل إليها في أيام الشهر الثاني بغير تكرار لأنا قد علمنا استحاضتها فلا معنى للتكرار في حقها وهو أصح إن شاء الله لظاهر حديث حمنة (مسألة) (وذكر أبو الخطاب في المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات الاربع) احداها تجلس(1/328)
أقل الحيض لأنه اليقين (والثانية) تجلس غالب الحيض لأنه الغالب (والثالثة) تجلس عادة نسائها لأن الظاهر شبهها بهن (والرابعة) تجلس ما تراه من الدم ما لم يجاوز أكثر الحيض قياساً على اليوم والليلة وقد ذكرنا ذلك
(مسألة) (وإن استحيضت المعتادة رجعت إلى عادتها وإن كانت مميزة، وعنه يقدم التمييز وهو اختيار الخرقي وإن نسيت العادة عملت بالتمييز فإن لم يكن لها تمييز جلست غالب الحيض من كل شهر.
وعنه أقله وقيل فيها الروايات الأربع) وجملة ذلك أن المعتادة إذا إستحيضت لم تخل من أربعة اقسام (أحدها) أن تكون معتادة ولا تمييز لها لكون دمها على صفة لا يختلف ولا يتميز بعضه من بعض أو بأن يكون الدم الذي يصلح للحيض ينقص عن أقل الحيض أو يزيد على أكثره فهذه تجلس أيام عادتها ثم تغتسل عند إنقضائها وتتوضأ بعد ذلك لوقت كل صلاة وتصلي وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك لا إعتبار بالعادة إنما الإعتبار بالتمييز فإن لم تكن مميزة إستطهرت بعد زمان عادتها بثلاثة أيام إن لم تجاوز خمسة عشر يوماً ثم هي بعد ذلك مستحاضة وإحتج بحديث فاطمة الذي ذكرناه ولنا ما روت ام سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل " رواه أبو داود والنسائي وقد روي في حديث فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها(1/329)
ثم اغتسلي وصلي " متفق عليه وروت أم حبيبة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي " رواه مسلم ولا حجة له في الحديث على ترك العادة في حق من لا تمييز لها (فصل) لا يختلف المذهب أن العادة لا تثبت بمرة لأنها مأخوذة من المعاودة.
وهل تثبت بمرتين أو بثلاث على روايتين.
وقد ذكرناه وتثبت العادة بالتمييز فإذا رأت دماً أسود خمسة أيام في ثلاثة أشهر أو شهرين على إحدى الروايتين ثم صار أحمر واتصل ثم صار في سائر الأشهر دماً مبهماً كانت على عادتها زمن الدم الأسود (فصل) والعادة على ضربين متفقة ومختلفة فالمتفقة أن تكون أياماً متساوية كخمسة في كل شهر فإذا استحيضت جلستها فقط، وأما المختلفة فإن كانت على ترتيب مثل أن ترى في شهر ثلاثة وفي
الثاني أربعة وفي الثالث خمسة ثم تعود إلى ثلاثة ثم إلى أربعة ثم إلى خمسة على ما كانت فهذه إذا إستحيضت في شهر فعرفت نوبته عملت عليه ثم على الذي بعده والذي بعده على العادة.
وإن نسيت نوبته حيضناها على اليقين وهو ثلاثة أيام ثم تغتسل وتصلي بقية الشهر وإن علمت أنه غير الأول وشكت هل هو الثاني أو الثالث جلست أربعة لأنها اليقين ثم تجلس من الشهرين الآخرين ثلاثة ثلاثة وتجلس في الرابع أربعة ثم تعود إلى الثلاثة كذلك أبدأ.
ويجزئها غسل واحد عند انقضاء المدة التي جلستها كالناسية إذا جلست أقل الحيض لأن ما زاد على اليقين مشكوك فيه فلا يجب عليها الغسل بالشك.
قال شيخنا ويحتمل وجوب الغسل عليها أيضاً عند مضي أكثر عادتها لأن يقين الحيض ثابت وحصول الطهارة بالغسل مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك ولأن هذه متيقنة وجوب الغسل عليها في أحد الأيام الثلاثة في اليوم الخامس.
وقد اشتبه عليها وصحة صلاتها تقف على الغسل فيجب عليها لتخرج عن العهدة بيقين وهذا الوجه أصح لذلك.
وتفارق هذه الناسية لأنها لا تعلم لها حيضا زائداً على ما جلسته وهذه تعلم لها حيضا زائدا تقف صحة صلاتها على غسلها منه فوجب(1/330)
ذلك، فعلى هذا يلزمها غسل ثان عقيب اليوم الخامس في كل شهر، وإن جلست في رمضان ثلاثة أيام قضت خمسة أيام لأن الصوم كان في ذمتها ولا تعلم أن اليومين الذين صامتهما أسقطا الفرض من ذمتها ويحتمل أنه يلزمها في كل شهر ثلاثة أغسال غسل عقيب اليوم الثالث والرابع والخامس لأن عليها عقيب الرابع غسلا في بعض الأشهر وكل شهر يحتمل أن يكون هو الشهر الذي يجب الغسل فيه بعد الرابع فيلزمها ذلك كما قلنا في الخامس (فصل) وإن كان الإختلاف على غير ترتيب مثل أن تحيض من شهر ثلاثة، ومن الثاني خمسة ومن الثالث أربعة وأشباه ذلك فإن أمكن ضبطه بحيث لا يختلف فهي كالتي قبلها، وإن لم يمكن ضبطه جلست الأقل من كل شهر وإغتسلت عقيبه، وذكر ابن عقيل في هذا الفصل إن قياس المذهب أن تجلس أكثر عادتها في كل شهر كالناسية للعدد تجلس أكثر الحيض في إحدى الروايات.
قال شيخنا:(1/331)
هذا لا يصح إذ فيه أمرها بترك الصلاة وإسقاطها عنها مع يقين وجوبها عليها فإننا متى أجلسناها خمساً من كل شهر ونحن نعلم وجوب الصلاة عليها يومين منها في شهر ويوماً في شهر آخر فقد أمرناها بترك الصلاة الواجبة يقيناً والاصل بقاء الحيض فتبقى عليه (فصل) ولا تكون المرأة معتادة حتى تعرف شهرها وتعرف وقت حيضها منه وطهرها - وشهر المرأة عبارة عن المدة التي لها فيها حيض وطهر وأقل ذلك أربعة عشر يوماً أو ستة عشر يوماً إن قلنا أقل الطهر خمسة عشر ولا حد لأكثره لأن أكثر الطهر لاحد له وغالبه الشهر المعروف بين الناس فإذا عرفت أن شهرها ثلاثون يوما وإن حيضها منه خمسة أيام وأن طهرها خمسة وعشرون وعرفت أوله فهي معتادة وإن عرفت أيام حيضها وأيام طهرها فقد عرفت شهرها.
وإن عرفت أيام حيضها ولم تعرف(1/332)
أيام طهرها أو بالعكس فليست معتادة لكنها متى جهلت شهرها رددناها إلى الغالب فحيضناها من كل شهر حيضة كما رددنا في عدد أيام الحيض إلى الغالب (فصل) القسم الثاني أن يكون لها عادة وتمييز فإن كان الدم الذي يصلح للحيض في زمن العادة فقد اتفقت العادة والتمييز في الدلالة فتعمل بهما وإن كان أكثر من العادة أو أقل ولم ينقص عن أقل الحيض ولا زاد على أكثره ففيه روايتان (إحداهما) يقدم التمييز وهو اختيار الخرقي وظاهر مذهب الشافعي لما ذكرناه من الأدلة ولأن صفة الدم أمارة قائمة به والعادة زمان منقض ولأنه خارج يوجب الغسل فرجع إلى صفته عند الاشتباه كالمني (والثانية) تقدم العادة وهو ظاهر كلام أحمد وقول أكثر الأصحاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد أم حبيبة والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة ولم يستفصل عن كونها مميزة أو غيرها.
وحديث فاطمة قد روي فيه ردها إلى العادة أيضاً فتعارضت روايتان وبقيت أحاديثنا خالية عن معارض، على أن حديث فاطمة قضية في عين يحتمل أنها أخبرته أن لا عادة لها أو علم ذلك من غيرها، وحديث عدي بن ثابت عام في كل مستاحضة فيكون أولى ولأن العادة أقوى لكونها لا تبطل دلالتها، واللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته فما لا تبطل دلالته أولى.
(فصل) ومن كان حيضها خمسة أيام من أول كل شهر فاستحيضت وصارت ترى ثلاثة دماً أسود
في أول كل شهر فمن قدم العادة قال تجلس في كل شهر خمسة كما كانت قبل الاستحاضة، ومن قدم التمييز جعل حيضها الثلاثة التي فيها الأسود إلا أنها إنما تجلس الثلاثة في الشهر الثاني لأنا لا نعلم أنها(1/333)
مستحاضة إلا بتجاوز الدم أكثر الحيض ولا نعلم ذلك في الشهر الأول.
فإن رأت في كل شهر عشرة دماً أسود ثم صار أحمر واتصل فمن قال إنها لا تلتفت إلى ما زاد على العادة حتى يتكرر لم يحيضها في الشهرين الأولين أو الثلاثة على اختلاف الروايتين إلا خمسة قدر عادتها، ومن قال إنها إذا زادت على العادة جلسته بأول مرة أجلسها في الشهر الأول خمسة عشر يوماً ثم تغتسل وتصلي، وفي الثاني تجلس أيام العادة وهي الخمسة الأولى من الشهر عند من يقدم العادة على التمييز، ومن قدم التمييز ولم يعتبر فيه التكرار أجلسها العشرة كلها فإذا تكرر ثلاثة أشهر على هذا الوصف قال القاضي: تجلس العشرة في الشهر الرابع على الروايتين جميعاً لأن الزيادة على العادة ثبتت بتكرار الأسود، قال شيخنا: ويحتمل أن لا تجلس زيادة على عادتها عند من يقدم العادة لأننا لو جعلنا الزائد على العادة من التمييز حيضاً بتكرره لجعلنا الناقص عنها إستحاضة بتكرره فكانت لا تجلس فيما إذا رأت ثلاثة أسود ثم صار أحمر أكثر من الثلاثة والأمر بخلاف ذلك (فصل) فإن كان حيضها خمساً من أول كل شهر فاستحيضت فصارت ترى خمسة أسود ثم يصير أحمر ويتصل فالأسود حيض بالإتفاق لموافقته زمن العادة والتمييز، وإن رأت مكان الأسود أحمر ثم صار أسود وعبر سقط حكم الأسود لعبوره أكثر الحيض وكان حيضها الأحمر لموافقته زمن العادة، وإن رأت مكان العادة أحمر ثم رأت خمسة أسود ثم صار أحمر وإتصل فمن قدم العادة أجلسها أيامها وإذا تكرر الأسود فقال القاضي: يصير حيضاً ومن قدم التمييز جعل الأسود وحده حيضاً (مسألة) قال (وإن نسيت العادة عملت بالتمييز) وهذا القسم (الثالث) من أقسام المستحاضة وهي التي لها تمييز وقد نسيت العادة، ومعنى التمييز أن يتميز بعض دمها عن بعض فيكون بعضه أسود ثخينا منتنا، وبعضه أحمر رقيقاً أو أصفر ولا رائحة له ويكون الأسود أو الثخين لا يزيد على أكثر الحيض ولا ينقص عن أقله فحكم هذه أن حيضها زمن الأسود الثخين أو المنتن فإذا إنقطع فهي
مستحاضة تغتسل للحيض وتتوضأ لوقت كل صلاة بعد ذلك وتصلي، وذكر أحمد المستحاضة فقال: لها سنن فذكر المعتادة ثم قال وسنة أخرى إذا جاءت فزعمت أنها تستحاض فلا تطهر قيل لها أنت الآن ليس لك أيام معلومة فتجلسيها ولكن أنظري إلى إقبال الدم وإدباره فإذا أقبلت الحيضة وإقبالها أن ترى دماً أسود يعرف فإذا تغير دمها وكان إلى الصفرة والرقة فذلك دم إستحاضة فاغتسلي وصلي(1/334)
وهذا مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا إعتبار بالتمييز إنما الأعتبار بالعادة خاصة لما روت ام سلمة أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لتنظر عدة الأيام والليالي التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل " رواه أبو داود وابن ماجة وهذا أحد الأحاديث الثلاثة التي قال الامام أحمد إن الحيض يدور عليها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش " فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " متفق عليه ولأبي داود والنسائي " إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق " وحديث أم سلمة يدل على اعتبار العادة ولا نزاع فيه وهذه لاعادة لها (فصل) وقد اختلفوا: هل يعتبر للتمييز التكرار أم لا.
فظاهر كلام شيخنا ههنا أنه لا يعتبر له التكرار بل متى عرفت التمييز جلسته وهذا ظاهر كلام أحمد والخرقي واختيار ابن عقيل وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي والآمدي يعتبر له التكرار مرتين أو ثلاثا على اختلاف الروايتين فيما تثبت به العادة وقد ذكرنا ذلك في المبتدأة (فصل) فإن لم يكن الأسود مختلفاً مثل أن ترى في كل شهر ثلاثة أسود ثم يصير أحمر ويعبر أكثر الحيض فالأسود حيض وحده.
وإن كان مختلفا مثل أن ترى في الشهر الأول خمسة أسود وفي الثاني أربعة وفي الثالث ثلاثة أو في الأول خمسة وفي الثاني ستة وفي الثالث سبعة أو غير ذلك من الإختلاف فعلى قول شيخنا الأسود حيض في كل حال.
وعلى قول القاضي الأسود حيض فيما تكرر
وهو ثلاث في الأولى وخمس في الثانية وما زاد عليه يكون حيضاً إذا تكرر وإلا فلا.
ولا تجلس عند القاضي في الشهر الأول والثاني إلا اليقين الذي تجلسه من لا تمييز لها.
وإن كانت مبتدأة لم تجلس إلا يوما وليلة.
وهل تجلس الذي يتكرر في الشهر الثالث أو الرابع؟ ينبني على الروايتين فيما تثبت به العادة ويكون حكمها حكم المبتدأة التي ترى دماً لا يعبر أكثر الحيض الأسود كالدم والأحمر كالطهر هناك فإن كانت ناسية وكان الأسود في أثناء الشهر وقلنا إن الناسية تجلس من أول الشهر جلست ههنا من أول الشهر ما تجلسه الناسية ولا تنتقل إلى الأسود حتى يتكرر فتنتقل إليه وتعلم أنه حيض فتقضي ما صامته من الفرض فيه كما ذكر في المبتدأة (فصل) فإن رأت أسود بين أحمرين أو أحمر بين أسودين وإنقطع لدون أكثر الحيض فالجميع حيض إذا تكرر لأن الأحمر أشبه بالحيض من الطهر، وإن عبر أكثر الحيض وكان الأسود بمفرده يصلح أن بكون حيضاً فهو حيض والأحمر كله استحاضة لأن الأحمر الأول أشبه بالأحمر الثاني الذي حكمنا(1/335)
بأنه إستحاضة وتلفق الأسود إلى الأسود فيكون حيضاً ولا فرق بين كون الأسود قليلاً أو كثيراً إذا كان بإنضمامه إلى بقية الأسود يبلغ أقل الحيض ولا يزيد على أكثره ولا يكون بين طرفيهما زمن يكون على أكثر الحيض وكذلك لا فرق بين أن يكون الاحمر قليلاً أو كثيراً إذا كان زمنه يصلح أن يكون طهراً فأما إن كان زمنه لا يصلح أن يكون طهرا مثل الشئ اليسير أو ما دون اليوم على إحدى الروايتين فإنه يلحق بالدمين الذين هو بينهما لأنه لو كان الدم منقطعاً لم نحكم بكونه طهراً فإذا كان الدم جارياً كان أولى فلو رأت يوماً دماً أسود ثم رأت الثاني أحمر ثم رأت الثالث أسود ثم صار أحمر وعبر لفقت الأسود إلى الأسود فصار حيضاً وباقي الدم إستحاضة وإن رأت نصف يوم أسود ثم صار أحمر ثم رأت الثاني كذلك ثم رأت الثالث كله أسود ثم صار أحمر وعبر فإن قلنا أن الطهر يكون أقل من يوم لفقت الأسود إلى الأسود فكان حيضها يومين وإن قلنا: لا يكون أقل من يوم فحيضها الأيام الثلاثة الاول والباقي إستحاضة، ولو رأت نصف يوم أسود ثم صار أحمر إلى العاشر ثم رأته كله أسود ثم صار أحمر وعبر فالأسود كله حيض الثاني والأول، ولو رأت بين الأسود
والأحمر نقاء يوماً أو أكثر لم يتغير الحكم الذي ذكرناه لأن الأحمر محكوم بأنه إستحاضة مع إتصاله بالأسود فمع إنفصاله عنه أولى (فصل) إذا رأت في شهر خمسة أسود ثم صار أحمر وإتصل وفي الثاني كذلك ثم صار الثالث كله أحمر ورأت في الرابع كالأول ثم رأت في الخامس خمسة أحمر ثم صار أسود وإتصل فحيضها الأسود من الأول والثاني والرابع واما الثالث والخامس فلا تمييز لها فيهما لأن حكم الأسود في الخامس سقط لعبوره فإن قلنا العادة تثبت بمرتين جلست ذلك من الثالث والرابع والخامس وإن قلنا لا تثبت إلا بثلاث جلسته من الخامس لأنها قد رأت ذلك في ثلاثة أشهر وتجلس في الثالث ما تجسله من لا عادة لها ولا تمييز وقبل لا تثبت لها عادة وتجلس ما تجلسه من الخامس من الدم الأسود لأنه أشبه بدم الحيض (مسألة) (فإن لم يكن لها تمييز جلست غالب الحيض من كل شهر وعنه أقله وقيل فيها الروايات الأربع) وهذا القسم الرابع من أقسام المستحاضة وهي من لاعادة لها ولا تمييز ولها ثلاثة أحوال(1/336)
(أحدها) أن تكون ناسية لوقتها وعددها وهذه تسمى المتحيرة وحكمها أنها تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة في ظاهر المذهب وهو اختيار الخرقي فإن كانت تعرف شهرها جلست ذلك منه لأنه عادتها فترد إليه كما ترد المعتادة إلى عادتها إلا أنه متى كان شهرها أقل من عشرين يوماً لم تجلس منه أكثرها من الفاضل عن ثلاثة عشر يوماً أو خمسة عشر لئلا ينقص الطهر عن أقله ولا سبيل إليه، وإن لم تعرف شهرها جلست من الشهر المعتاد لما روت حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفته فوجدته في بيت أختي فقلت يا رسول الله إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصيام والصلاة فقال " أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم " قلت هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ثم إغتسلي فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي كما يحيض النساء وكما يطهرن(1/337)
لميقات حيضهن وطهرهن " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال الشافعي في هذه لا حيض لها بيقين وجميع زمنها مشكوك فيه تغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها وله قول أنها تجلس اليقين.
وقال بعض أصحابه الأول أصح لأن هذه لها أيام معروفة ولا يمكن ردها إلى غيرها فجميع زمانها مشكوك فيه وقد روت عائشة أن أم حبيبة إستحيضت سبع سنين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " إنما ذلك عرق فاغتسلي ثم صلي " فكانت تغتسل عند كل صلاة.
متفق عليه، ولنا ما ذكرنا من حديث حمنة وهو بظاهره يثبت الحكم في حق الناسية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها هل هي مبتدأة أو ناسية ولو افترق الحال لاستفصل وإحتمال أن تكون ناسية أكثر فإن حمنة امرأة كبيرة، كذلك قال أحمد، ولم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن تمييزها لأنه قد جرى من كلامها من تكثير الدم وصفته ما أغنى عن السؤال عنه ولم يسألها هل لها عادة فيردها إليها لاستغنائه عن ذلك بعلمه اياه إذا كان مشتهراً وقد أمر به أختها أم حبيبة فلم يبق إلا أن تكون ناسية ولأنها لا عادة لها ولا تمييز أشبهت المبتدأة، قولهم: لها أيام معروفة، قلنا قد زالت المعرفة فصار وجودها كعدمها وأما أم حبيبة فكانت معتادة ردها إلى عادتها لأنه قد روي مسلم أن أم حبيبة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم فقال لها " أمكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم إغتسلي " فكانت تغتسل عند كل صلاة فيدل على أنها إنما كانت تغتسل لكل صلاة في غير وقت الحيض وأما وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة فسيذكر في المستحاضة إن شاء الله تعالى (فصل) قوله ستاً أو سبعاً الظاهر أنه ردها إلى إجتهادها فيما يغلب على ظنها انه عادتها أو ما(1/338)
يشبه أن يكون حيضاً ذكره القاضي وذكر في موضع آخر أنه على وجه التخيير بين الست والسبع كما خير واطئ الحيض في التكفير بدينار أو نصف لأن حرف " أو " للتخيير، قال شيخنا: والأول أصح لأننا لو خيرناها أفضى إلى أن نخيرها في اليوم السابع بين كون الصلاة عليها محرمة أو واجبة وليس لها في ذلك خيرة بحال، وأما التكفير ففعل إختياري، فأما أو فقد تكون للإجتهاد كقوله (فإما منا بعد وإما فداء) وإما كأوفي وضعها وليس للإمام إلا فعل ما يؤديه إليه اجتهاده أنه الأصلح والله أعلم.
(فصل) وهل تجلس أيام حيضها من أول كل شهرر أو بالتحري؟ فيه وجهان أوجههما ما يأتي وعنه إنها تجلس أقل الحيض وهو أحد قولي الشافعي لأنه اليقين وما زاد عليه مشكوك فيه فلا تدع العبادة لأجله وعنه رواية ثالثة أنها تجلس عادة نسائها لأن الظاهر أنها تشبههن وعنه تجلس أكثر الحيض لأنه يمكن أن يكون حيضاً أشبه ما قبله والأول أصح لحديث حمنة والله أعلم.
(مسألة) (وإن علمت عدد أيامها ونسيت موضعها جلستها من أول كل شهر في أحد الوجهين وفي الآخر تجلسها بالتحري) وهذا الحال الثاني من أحوال الناسية وهي تتنوع نوعين (النوع الأول) أن لا تعلم لها وقتاً أصلاً مثل أن تعلم أن حيضها خمسة أيام ففيه وجهان (أحدهما) تجلسه من أول كل شهر إذا كان يحتمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة " تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم إغتسلي وصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة وايامها وصومي " فقدم حيضها على(1/339)
الطهر ثم أمرها بالصلاة والصوم في بقية الشهر ولأن المبتدأة تجلس من أول الشهر مع أنها لا عادة لها فكذلك الناسية ولأن دم الحيض دم جبلة والإستحاضة عارضة فإذا رأت الدم وجب تغليب دم الحيض (الثاني) أنها تجلس بالتحري والإجتهاد اختاره أبو بكر وابن أبي موسى لأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى اجتهادها في القدر فكذلك في الوقت ولأن للتحري مدخلاً في الحيض لأن المميزة ترجع إلى صفة الدم فكذلك في زمنه فإن لم يغلب على ظنها شئ تعين إجلاسها من أول الشهر لعدم الدليل فيما سواه (مسألة) (وكذلك الحكم في موضع حيض من لا عادة لها ولا تمييز) يعني أن فيه الوجهين اللذين ذكرهما وجههما ما تقدم.
(مسألة) (وإن علمت أيامها في وقت من الشهر كنصفه الأول جلستها فيه إما من أوله أو بالتحري على اختلاف الوجهين) هذا النوع الثاني وهو ان تعلم أنها كانت تحيض أياماً معلومة من العشر الاول فانها تجلس عدد أيامها من ذلك الوقت دون غيره أما من أوله أو بالتحري فيه ثم لا يخلو عدد أيامها إما أن يكون زائداً على نصف ذلك الوقت أو لا فإن كان زائداً على نصفه مثل أن تعلم أن حيضها ستة أيام من العشر الأول أضعفنا الزائد فجعلناه حيضاً بيقين وتجلس بقية أيامها من(1/340)
أول العشر في أحد الوجهين وفي الآخر بالتحري، ففي هذا المسألة الزائد يوم وهو السادس فنضعفه ويكون الخامس والسادس حيضاً بيقين يبقى لها أربعة أيام، فإن جلستها من الأول كان حيضها من أول العشر إلى آخر السادس - منها يومان حيض بيقين والأربعة حيض مشكوك فيه والأربعة الباقية طهر مشكوك.
وإن جلستها بالتحري فأداها إجتهادها إلى أنها من أول العشر فهي كالتي قبلها وإن جلست الأربعة من آخر العشر فهي عكس التي قبلها وعلى هذا فقس.
وسائر الشهر طهر غير مشكوك، وحكم الحيض المشكوك فيه حكم المتيقن في ترك العبادات وحكم الطهر المشكوك فيه حكم الطهر المتيقن في وجوب العبادات.
وإن كان حيضها نصف الوقت فما دون فليس لها حيض بيقين لأنها متى كانت تحيض خمسة أيام من العشر احتمل ان تكون الخمسة الأولى واحتمل أن تكون الثانية واحتمل أن يكون بعضها من الأولى وبعضها من الثانية فتجلس بالتحري أو من أوله على اختلاف الوجهين ولا يعتبر التكرار في الناسية لأنها عرفت إستحاضتها في الشهر الأول فلا معنى للتكرار (مسألة) (وإن علمت موضع حيضها ونسيت عدده جلست فيه غالب الحيض أو أقله على اختلاف الروايتين) هذا الحال الثالث من أحوال الناسية وهي أن تعلم أن حيضها في العشر الأول ولا تعلم عددها (فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة) الصحيح أنها تجلس ستاً أو سبعاً ويخرج فيها الروايات الأربع إلا أنها تجلسها من العشر دون غيرها وهل تجلسها من أوله أو بالتحري؟ على الوجهين، وإن قالت أعلم أنني كنت أول الشهر حائضاً ولا أعلم آخره أو أنني كنت أخر الشهر حائضاً ولا أعلم أوله(1/341)
أولا أعلم هل كان ذلك أول حيضي أو آخره حيضناها الذي علمته وأتمت بقية حيضها مما بعده في الصورة الأولى، ومما قبله في الثانية وبالتحري في الثالثة أو مما يلي أول الشهر على اختلاف الوجهين (فصل) وإذا ذكرت الناسية عادتها بعد جلوسها في غيرها رجعت إلى عادتها لأن تركها لعارض نسيان وإذا زال العارض عادت إلى الاصل، وإن تبين أنها كانت تركت الصلاة في غير عادتها لزمها إعادتها وقضاء ما صامته من الفرض في عادتها، فلو كانت عادتها خمسة من آخر العشر الأول فجلست
سبعاً من أوله مدة ثم ذكرت لزمها قضاء ما تركت من الصلاة والصيام المفروض في الخمسة الاولى وقضاء ما صامت من الفرض في الثلاثة الأيام الأخيرة لأنها صامته في زمن حيضها (مسألة) (وإن تغيرت العادة بزيادة أو تقدم أو تأخر أو إنتقال فالمذهب أنها لا تلتفت إلى ما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثاً أو مرتين على الإختلاف) وجملة ذلك أن المرأة إذا كانت لها عادة مستقرة في الحيض فرأت الدم في غير عادتها لم تلتفت إليه حتى يتكرر فتنتقل إليه وتصير عادة لها وتترك العادة الأولى إلا أنها إذا رأته زائدا عن عادتها تغتسل غسلاً ثانياً عند انقطاعه لجواز أن يكون حيضاً كما قلنا في المبتدأة وكذلك ما تقدم عن العادة ويجب عليها قضاء ما صامته من الفرض في المرات التي أمرناها بالصيام فيها لأننا تبينا أنها صامته في حيض ولا تقضي الصلاة لأن الحائض لا تقضي الصلاة قال أبو عبد الله لا يعجبني أن يأتيها زوجها في الأيام التي تصلي فيها مع رؤية الدم قبل أن تنتقل إليها لاحتمال أن يكون حيضاً فيجب ترك وطئها إحتياطاً كما وجبت الصلاة إحتياطاً للعبادة، وفي قدر(1/342)
التكرار روايتان (أشهرهما) أنه ثلاث فعلى هذه الرواية لا تنتقل إليه إلا في الشهر الرابع (والثانية) أنه إثنتان فتنتقل في الشهر الثالث نقل الفضل بن زياد عنه هاتين الروايتين وقد ذكرنا وجههما في المبتدأة ونقل حنبل عنه في امرأة لها أيام معلومة فتقدمت الحيضة قبل أيامها لم تلتفت إليها تصوم وتصلي فإن عاودها مثل ذلك في الثانية فإنه دم حيض منتقل فيحتمل أنها تنتقل إليه في المرة الثانية وتحسبه من حيضها، والرواية الاولى أشهر، مثال ذلك امرأة لها عادة ثلاثة أيام من أول كل شهر فرأت خمسة في أول الشهر ورأت يومين من آخر الشهر الذي قبله ويوما من شهرها أو طهرت اليوم الاول ورأت الثلاثة بعده أو طهرت الثلاثة الأول ورأت ثلاثة بعدها أو أكثر وما أشبه ذلك فإنها لا تجلس في جميع ذلك إلا وقت الدم الذي تراه في الثلاثة الأول حتى يتكرر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك " رواه مسلم ولان لها عادة فردت إليها كالمستحاضة وقال أبو حنيفة إن رأته قبل العادة فليس بحيض حتى يتكرر مرتين.
وإن رأته بعدها فهو حيض، قال شيخنا رحمه الله وعندي أنها تصير إليه من غير تكرار وبه قال الشافعي لأن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الصفرة
والكدرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
معناه لا تعجلن بالغسل ولو لم تعد الزيادة حيضاً لزمها الغسل عند إنقضاء العادة وإن لم تر القصة ومعنى القصة أن تدخل القطنة في فرجها فتخرج بيضاء نقية ولأن الشارع علق على الحيض أحكاما ولم يحده فعلم أنه رد الناس فيه إلى عرفهم.
والعرف بين(1/343)
النساء أن المرأة متى رأت دماً يصلح أن يكون حيضاً أعتقدته حيضاً.
ولو كان عرفهن إعتبار العادة على الوجه المذكور لنقل ظاهراً ولذلك لما كان بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معه في الخميلة فجاءها الدم فانسلت من الخميلة فقال لها النببي صلى الله عليه وسلم " مالك أنفست؟ " قالت نعم فأمرها أن تأتزر ولم يسألها هل وافق العادة أو خالفها ولا هي سألت عن ذلك وإنما إستدلت على ذلك بخروج الدم فأقرها عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك حين حاضت عائشة في عمرتها في حجة الوداع إنما عرفت الحيضة برؤية الدم لا غير والظاهر أنه لم يأت في العادة لأنها أستنكرته وبكت حين رأته وقالت وددت إني لم أكن حججت العام ولو كانت لها عادة تعلم مجيئه فيها لما أنكرته ولا شق عليها ولأن العادة لو كانت معتبرة على المذكور في المذهب لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لامته ولما وسعه تأخير بيانه لأن حاجة النساء داعية إليه في كل وقت ولا يجوز تأخير البيان عن وقته.
والظاهر أنهن جرين على العرف في اعتقاد ما يرينه من الدم حيضاً ولم يأت من الشرع تغييره ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير تقدم عادة ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف والعرف إن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص ولم ينقل عنهن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة، وأما امرأة طاهر ترى الدم في وقت يمكن أن يكون حيضاً ثم ينقطع عنها فلم يذكر في حقها عادة أصلاً.
وفي إعتبار العادة على هذا الوجه إخلاء بعض المنتقلات عن الحيض بالكلية مع رؤيتهن الدم في زمن الحيض وصلاحيته له وهذا لا سبيل إليه كامرأة رأت الدم في غير أيام عادتها وطهرت أيام عادتها(1/344)
ثلاثة أشهر فإنها لا تدع الصلاة فإذا إنتقلت في الشهر الرابع إلى أيام أخر لم تحيضها أيضاً ثلاثة أشهر وكذلك أبداً فعلى هذا تجعل ما تراه من الدم قبل العادة وبعدها ما لم يجاوز أكثر الحيض فإن
جاوز أكثر الحيض علمنا استحاضتها فترج إلى عادتها وتقضي ما تركته من الصلاة والصيام فيما سوى العادة لأننا تبينا أنه إستحاضة (فصل) فإن كانت عادتها ثلاثة من كل شهر فرأت في شهر خمسة أيام ثم إستحيضت في الشهر الآخر فإنها لا تجلس مما بعده من الشهور إلا ثلاثة ثلاثة، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي تجلس خمساً من كل شهر وهذا مبني على أن العادة تثبت بمرة، وأن رأت خمسة في شهرين خرج على الروايتين فيما نثبت به العادة، وإن رأتها في ثلاثة أشهر ثم استحيضت إنتقلت إليها وجلست من كل شهر خمسة بغير خلاف بينهم والله أعلم (مسألة) (وإن طهرت في اثناء عادتها إغتسلت وصلت فإن عاودها الدم في العادة.
فهل تلتفت إليه؟ على روايتين) هذه المسألة تشتمل على فصلين (أحدهما) في حكم الطهر في زمن العادة (والثاني) في حكم الدم العائد بعده فمتى رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي وتصوم ولم يفرق أصحابنا بين قليل الطهر وكثيرة لقول ابن عباس.
أما ما رأت الطهر ساعة فلتغتسل فأما إن كان النقاء أقل من ساعة فالظاهر أنه ليس بطهر لأن الدم يجري تارة وينقطع أخرى وقد قالت عائشة لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، وقد روي عن أحمد أن النفساء إذا رأت النقاء دون يوم لا تثبت(1/345)
لها أحكام الطاهرات فيخرج ههنا مثله قال شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن العادة أن الدم يجري مرة وينقطع أخرى وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج منفي بقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ولأننا لو جعلنا إنقطاع الدم ساعة طهراً ولا تلتفت إلى الدم بعد أفضى إلى أن لا يستقر لها حيض فعلى هذا لا يكون إنقطاع الدم دون يوم طهراً إلا أن ترى ما يدل عليه مثل أن يكون إنقطاعه في آخر عادتها أو ترى القصة البيضاء وهو شئ يتبع الحيض أبيض يسمى الترية، روى ذلك عن إمامنا، وهو قول مالك روي عنه أن القصة البيضاء هي القطنة التي تحشوها المرأة إذا خرجت بيضاء كما دخلت لا تغير عليها حكي ذلك عن الزهري وقال أبو حنيفة ليس النقاء بين الدمين طهراً بل لو صامت فيه فرضاً لم يصح، ولا تجب عليها فيه صلاة ولا يأتيها زوجها
وهو أحد قولي الشافعي لأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى ولأنه لو لم يكن من الحيض لم يحتسب من مدته.
ولنا قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) وصف الحيض بكونه أذى فإذا ذهب الأذى وجب زوال الحيض وقال ابن عباس إذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل وقالت عائشة لا تعجلين حتى ترين القصة البيضاء ولأنها صامت وهي طاهر فلم يلزمها القضاء كما لو لم يعد الدم، فأما قولهم إن الدم يجري تارة وينقطع أخرى قلنا لا عبرة بالإنقطاع اليسير وإنما إذا وجد إنقطاع كثير تمكن فيه الصلاة والصيام(1/346)
وتتأدى العبادة فيه وجبت عليها لعدم المانع من وجوبها (الفصل الثاني) إذا عاودها الدم فإن عاودها في العادة ولم يتجاوزها ففيه روايتان (إحداهما) أنه من حيضها لأنه صادف زمن العادة فأشبه مالو لم ينقطع.
وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي (والثانية) ليس بحيض وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن أبي موسى لأنه عاد بعد طهر صحيح أشبه مالو عاد بعد العادة فعلى هذه الرواية يكون حكمه حكم مالو عاد بعد العادة على ما يأتي.
وقد روي عن أحمد رحمه الله أنها تصوم وتصلي وتقضي الصوم المفروض على سبيل الاحتياط كدم النفساء العائد في مدة النفاس (فصل) فإن رأته في العادة وتجاوز العادة فان عبر أكثر الحيض فليس بحيض لان بعضه ليس بحيض فيكون كله إستحاضة لإتصاله به وإنفصاله عن الحيض فكان إلحاقه بالإستحاضة أولى، وإن انقطع لأكثره فما دون فمن قال إن ما لم يعبر العادة ليس بحيض فههنا أولى ومن قال هو حيض ففي هذا على قوله ثلاثة أوجه (أحدها) إن جميعه حيض لما ذكرنا في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر أكثر الحيض (والثاني) ان ما وافق الحيض لموافقته العادة وما زاد عليها ليس بحيض لخروجه عنها (والثالث) أن الجميع ليس بحيض لإختلاطه بما ليس بحيض فإن تكرر فهو حيض على الروايتين جميعاً (فصل) فإن رأته بعد العادة ولم يمكن أن يكون حيضاً لعبوره أكثر الحيض وأنه ليس بينه(1/347)
وبين الدم الأول أقل الطهر فهو إستحاضة سواء تكرر أولاً لأنه لا يمكن جعل جميعه حيضاً فكان كله إستحاضة لأن إلحاق بعضه ببعت أولى من الحاقه بغيره (فصل) وإن أمكن كونه حيضاً وذلك يتصور في حالين (أحدهما) أن يكون بضمه إلى الدم الاول لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً.
فإذا تكرر جعلناهما حيضة واحدة وتلفق أحدهما إلى الآخر ويكون الطهر الذي بينهما طهراً في خلال الحيضة (الحال الثانية) أن يكون بينهما أقل من الطهر ويكون كل واحد من الدمين يصلح أن يكون حيضاً بمفرده بأن يكون يوماً وليلة فصاعداً فهذا إذا تكرر كان الدمان حيضتين.
وإن نقص أحدهما عن أقل الحيض فهو دم فساد إذا لم يمكن ضمه إلى ما بعده.
ومثال ذلك مالو كانت عادتها عشرة من أول الشهر فرأت خمسة منها دماً وطهرت خمسة ثم رأت خمسة دماً وتكرر ذلك فالخمسة الأولى والثانية حيضة واحدة تلفق الدم الثاني الى الأول، وإن رأت الثاني ستاً أو أكثر لم يمكن أن يكون الدمان حيضة لأن بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً ولا حيضتين لأنه ليس بينهما أقل الطهر، وإن رأت يوماً دماً وثلاثة عشر طهراً ثم رأت يوماً دماً وتكرر ذلك كانا حيضتين وصار شهرها أربعة عشر يوماً.
وكذلك إن رأت يومين دماً وثلاثة عشر طهراً ثم رأت يومين دماً وتكرر ويكون شهرها خمسة عشر وإن كان الطهر بينهما أحد عشر يوماً فما دون وتكرر فهما حيضة واحدة لأنه بين طرفيهما أكثر من خمسة ولا بينهما أقل الطهر وإن كان بينهما إثنا عشر يوماً لم يمكن كونهما جميعاً حيضة لزيادتهما بما بينهما من الطهر على خمسة عشر ولا يمكن جعلهما حيضتين لأنه ليس بينهما أقل الطهر.
فعلى هذا يكون حيضها منهما ما وافق العادة والآخر إستحاضة.
وعلى هذا كل ما يتفرع من المسائل إلا أنها لا تلتفت إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثا، فإن تكرر وأمكن جعله حيضاً فهو حيض وإلا فلا(1/348)
(مسألة) قال (والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض) متى رأت في أيام عادتها صفرة أو كدرة فهو حيض وإن رأته بعد أيام حيضها لم تعتد به نص عليه أحمد وهو مذهب الثوري ومالك والشافعي: وقال أبو يوسف وأبو ثور لا يكون حيضاً إلا أن يتقدمه دم
أسود لأن أم عطية قالت كنا لا نعد الصفرة بعد الغسل شيئاً رواه أبو داود ولنا قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) وهذا يتناول الصفرة والكدرة ولأن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الصفرة والكدرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة.
وحديث أم عطية إنما يتناول ما بعد الطهر والإغتسال ونحن نقول به ويدل عليه قول عائشة ما كنا نعد الكدرة والصفرة حيضاً مع قولها المتقدم (فصل) وحكمها حكم الدم العبيط في أنها في أيام الحيض حيض وتجلس منها المبتدأة كما تجلس من غيرها وإن رأتها بعد العادة متصلة بها فهو كما لو رأت غيرها، على مابينا وإن طهرت ثم رأت كدرة أو صفرة لم تلتفت إليها لحديث أم عطية وعائشة وقد روى النجاد بإسناده عن محمد بن إسحاق عن فاطمة عن(1/349)
أسماء قالت كنا في حجرها مع بنات بنتها فكانت تطهر ثم تصلي ثم تنكس بالصفرة اليسيرة فنسألها فتقول إعتزلن الصلاة حتى لا ترين إلا البياض خالصاً.
والأول أولى لما ذكرنا من حديث أو عطية وعائشة وهو أولى من قول أسماء.
وقال القاضي معنى هذا أنها لا تلتفت إليه قبل التكرار، وقول أسماء(1/350)
فيما إذا تكرر فجمع بين الأخبار والله أعلم (مسألة) (ومن كانت ترى يوماً دماً ويوماً طهراً فإنها تضم الدم إلى الدم فيكون حيضاً والباقي طهراً إلا أن يجاوز أكثر الحيض فتكون مستحاضة) قد ذكرنا أن الطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح فإذا رأت يوماً دماً ويوماً طهراً فإنها تضم الدم إلى الدم فيكون حيضاً وما بينهما من النقاء طهر على ما ذكرنا.
ولا فرق بين كون زمن الدم أكثر من زمن الطهر أو مثله أو أقل منه فإن جميع الدم حيض إذا تكرر ولم يجاوز أكثر الحيض، فإن كان الدم أقل من يوم مثل أن ترى نصف يوم دماً ونصفاً طهراً أو ساعة وساعة فقال أصحابنا: هو كالأيام تضم الدم إلى الدم فيكون حيضاً وما بينهما(1/351)
طهر إذا بلغ المجتمع منه أقل الحيض فإن لم يبلغ ذلك فهوم دم فساد، وفيه وج آخر لا يكون الدم حيضاً
إلا أن يتقدمه حيض صحيح متصل وهذا كله مذهب الشافعي وله قول أن النقاء بين الدمين حيض وقد ذكرناه وذكرنا أيضاً لنا وجهاً في أن النقاء إذا نقص عن يوم لم يكن طهراً، فعلى هذا متى نقص عنه كان كالدم وما بعده حيضاً كله (فصل) فإن جاوز أكثر الحيض مثل أن ترى يوماً دماً ويوماً طهراً إلى ثمانية عشر فهي مستحاضة ترد إلى عادتها إن كانت معتادة.
فإن كانت عادتها سبعة أيام من أول الشهر فإنها تجلس أول يوم ترى الدم فيه في العادة وتغتسل، وما بعده مبني على الروايتين في الدم الذي تراه بعد الطهر في أثناء الحيضة(1/352)
فإن قلنا ليس بحيض فحيضها اليوم الأول خاصة وما بعده إستحاضة.
وإن قلنا إنه حيض فحيضها اليوم الأول والثالث والخامس والسابع فيحصل لها من عادتها أربعة أيام والباقي إستحاضة وإن لم تر الدم إلا في اليوم الثاني جلسته والرابع والسادس فيحصل لها ثلاثة أيام، وفيه وجه آخر أنه تلفق لها السبعة من أيام الدم جميعها فتجلس التاسع والحادي عشر والرابع عشر، والصحيح الأول لأن هذه الأيام ليس من عادتها فلم تجلسها كغير الملفقة، وإن كانت ناسية فأجلسها سبعة أيام فكذلك.
وإن كانت مميزة جلست زمان الدم الأسود والباقي إستحاضة، وإن كانت مبتدأة جلست اليقين في ثلاثة أشهر وفي شهرين من أول دم تراه ثم تنتقل بعد ذلك إلى غالب الحيض وهل تلفق لها السبعة من(1/353)
خمسة عشر يوماً أو تجلس أربعة من سبعة؟ على الوجهين كالمعتادة، وقال القاضي في المعتادة كما ذكرنا وفي غيرها ما عبر الخمسة عشر إستحاضة وأيام الدم من الخمسة عشر كلها حيض إذا تكرر فإن كان يوماً ويوماً فلها ثمانية أيام حيضاً وإن كانت أنصافاً فلها سبعة ونصف حيضاً ومثابا طهراً لأن الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وما بعده لأنها فيما بعده في حكم الطاهرات تصوم وتصلي (فصل) قال (والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ما شاءت من الصلوات وكذلك من به سلس البول والمذي والريح والجريح الذي لا يرقأ دمه والرعاف الدائم) المستحاضة التي ترى دماً لا يصلح أن يكون حيضاً ولا نفاساً حكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات(1/354)
وفعلها لأنها نجاسة غير معتادة أشبه سلس البول، إذا ثبت ذلك فإن المستحاضة ومن في معناها ممن ذكرنا وهو من لا يمكنه حفظ طهارته لاستمرار الحدث يجب عليه غسل محل الحدث والتحرز من خروج الحدث بما أمكنه.
فالمستحاضة تحشوه بالقطن وما أشبهه فإن لم يرد الدم استثفرت بخرقة مشقوقة الطرفين تشدهما على جنبيها ووسطها على الفرج لأن في حديث أم سلمة " لتستثفر بثوب " قال لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم " أنعت لك الكرسف " يعني القطن تحشين به المكان قالت إنه أكثر من ذلك قال " تلجمي " فإذا فعلت ذلك وتوضأت ثم خرج الدم لرخاوة الشدة فعليها إعادة الشد والوضوء وإن كان لغلبة الخارج وقوته لم تبطل الطهارة لعدم إمكان التحرز منه قالت عائشة اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من ازواجه فكلت فترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي رواه البخاري وفي لفظ " صلي وأن قطر الدم على الحصير " والمبتلى بسلس البول وكثرة المذي يعصب رأس ذكره بخرقة ويحترس حسبما أمكنه وكذلك من به جرح أو ريح أو نحوه من الأحداث فإن كان مما لا يمكن عصبه كالجرح الذي لا يمكن شده أو من به باسور أو ناصور لا يمكن عصبه صلى على حسب حاله لأن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دماً (فصل) ويجب على كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن لا يخرج منه شئ وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك لا يجب الوضوء على المستحاضة وروي ذلك عن عكرمة وربيعة.
وأستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة إلا أن يؤذيه البرد فإن آذاه فارجو(1/355)
أن لا يكون عليه ضيق.
واحتجوا بأن في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش " فاغتسلي وصلي " فلم يأمرها بالوضوء ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى النصوص لأنه غير معتاد ولنا ما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده في المستحاضة " تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة رواه أبو داود والترمذي وعن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت
أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر خبرها ثم قال " وتوضئي لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وهذه زيادة يجب قبولها(1/356)
ولأنه حدث خارج من السبيل فنقض الوضوء كالمذي - إذا ثبت هذا فإن طهارة هؤلاء مقيدة بالوقت لقوله " تتوضأ عند كل صلاة " وقوله " ثم توضئي لكل صلاة " ولأنها طهارة عذر وضرورة فقيدت بالوقت كالتيمم.
فعلى هذا إذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه.
وكذلك إن خرج منه شئ لأن الحدث مبطل للطهارة وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة ولا حاجة قبل الوقت وإن توضأ بعد الوقت صح وضوؤه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه لما ذكرنا.
فإن صلى عقيب الطهارة أو أخرها لما يتعلق بمصلحة الصلاة كلبس الثياب وإنتظار الجماعة أو لم يعلم أنه خرج منه شئ جاز وإن أخرها لغير ذلك.
ففيه وجهان(1/357)
(أحدهما) الجواز قياساً على طهارة التيمم (والثاني) لا يجوز لأنه إنما أبيح له الصلاة بهذا الطهارة مع وجود الحدث للضرورة ولا ضرورة ههنا.
وإن خرج الوقت بعد أن خرج منها شئ أو أحدث حدثاً غير هذا الخارج بطلت الطهارة (فصل) ويجوز للمستحاضة ومن في معناها الجمع بين الصلاتين وقضاء الفوائت والتنفل إلى خروج الوقت قال أحمد في رواية ابن القاسم إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والصلاة الفائتة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى فتتوضأ أيضاً وهذا يقتضي إلحاقها بالتيمم، وقال الشافعي في المستحاضة لا تجمع بين فرضين بطهارة واحدة ولا تقضي به فوائت كقوله في(1/358)
التيمم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " توضئي لكل صلاة " ولنا أنه قد روي في بعض ألفاظ حديث فاطمة " توضئي لوقت كل صلاة " وحديثهم محمول على الوقت كقوله صلى الله عليه وسلم " أينما أدركتك الصلاة فصل " أي وقتها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
حمنة بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد وأمر به سهلة بنت سهيل ولم يأمرها بوضوء لأن الظاهر أنه لو مرها بالوضوء بينهما لنقل ولأن هذا مما يخفى ويحتاج إلى بيان فلا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة أو غير المستحاضة من أهل الأعذار مقيس عليها (فصل) إذا توضأت المستحاضة ثم إنقطع دمها فإن إتصل الإنقطاع بطل وضوؤها بإنقطاعه(1/359)
لأن الحدث الخارج منها مبطل للطهارة عفي عنه للعذر فإذا زال العذر ظهر حكم الحدث، وإن عاد الدم فظاهر كلام أحمد أنه لا عبرة بهذا الإنقطاع قال أحمد بن القاسم سألت أبا عبد الله فقلت إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير ويؤقتون بوقت يقولون إذا توضأت للصلاة وقد إنقطع الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة تعيد الوضوء ويقولون ادا تطهرت والدم سائل ثم إنقطع الدم قولاً آخر؟ قال لست أنظر في انقطاعه حين وضات سال أم لم يسل إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، وقال القاضي وابن عقيل أن تطهرت حال جريان الدم ثم إنقطع قبل دخولها في الصلاة ولم يكن لها عادة بإنقطاعه لم يكن لها الدخول في(1/360)
الصلاة حتى تتوضأ لأنها طهارة عفي عن الحدث فيها للضرورة فإذا زالت ظهر حكم الحدث كالمتيمم إذا وجد الماء.
فإن دخلت في الصلاة فإتصل الإنقطاع بحيث يتسع للوضوء والصلاة فالصلاة باطلة لأننا تبينا بطلان الطهارة بإنقطاعه وإلا فطهارتها صحيحة لأننا تبينا عدم الإنقطاع المبطل أشبه مالو ظن أنه أحدث ثم بان بخلافه.
وفي صحة الصلاة وجهان (أحدهما) تصح بناء على صحة الطهارة لبقاء الإستحاضة (والثاني) لا تصح لأنها صلت بطهارة لم يكن لها أن تصلي بها فلم تصح كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة وصلى.
ثم تبين أنه كان متطهراً وإن عاودها الدم قبل دخولها في الصلاة لمدة تتسع للطهارة والصلاة بطلت الطهارة، وإن كانت لا تتسع لم تبطل لما ذكرنا وإن كان انقطاعه في الصلاة(1/361)
واتصل إنبنى على المتيمم يجد الماء في الصلاة ذكره ابن حامد، وإن عاودها الدم فهو كما لو إنقطع
خارج الصلاة على ما مضى وإن توضأت وهو منقطع ثم عاد قبل الصلاة أو فيها وكانت مدة إنقطاعه تتسع للطهارة والصلاة بطلت طهارتها بعوده لأنها صارت بهذا الإنقطاع في حكم الطاهرات فصار عود الدم كسبق الحدث.
وإن لم يتسع لم يؤثر هذا الإنقطاع وهذا قول للشافعي، وقد ذكرنا أن ظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا عبرة بهذا الإنقطاع بل متى كانت مستحاضة أو من في معناها فتحرزت وتطهرت فطهارتها صحيحة ما لم تبرأ أو يخرج الوقت أو تحدث حدثاً آخر وهو أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة من غير تفصيل فالتفصيل يخالف مقتضى الخبر ولأن هذا(1/362)
لم يرد الشرع به ولا سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة التي إستفتته ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه هذا التفصيل وذلك يدل ظاهراً على عدم إعتباره ولأن إعتبار هذا يشق.
والعادة في المستحاضة ونحوها أن الخارج يجري وينقطع.
وإعتبار مدة الإنقطاع بما يمكن فيه فعل العبادة بشق وإيجاب الوضوء به حرج منفي بقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وكذلك فيما إذا كان لها عادة بإنقطاعه زمناً لا يتسع للطهارة والصلاة على ما مضى من الخلاف فيه (فصل) فإن كان للمستحاضة عادة بإنقطاع الدم زمناً لا يتسع للطهارة والصلاة فتوضأت ثم إنقطع(1/363)
لم نحكم ببطلان طهارتها ولا صلاتها ان كانت فيها لأن هذا الإنقطاع لا يحصل به المقصود وإن إتصل الانقطاع وبرأت وكان قد جرى منها دم بعد الوضوء بطلت الطهارة والصلاة لأنا تبينا أنها صارت في حكم الطاهرات بالإنقطاع وإن إتصل زمناً يتسع للطهارة والصلاة فالحكم فيه كالتي لم يجر لها عادة بإنقطاعه على ما ذكرنا، وإن كانت لها عادة بإنقطاعه زمناً يتسع للصلاة والطهارة لم تصل حال جريان الدم وتنتظر إنقطاعه إلا أن تخشى خروج الوقت فتتوضأ وتصلي فإن شرعت في الصلاة في آخر الوقت بهذه الطهارة فأمسك الدم عنها بطلت طهارتها لأنها أمكنتها الصلاة بطهارة صحيحة أشبهت غير المستحاضة، وإن كان زمن إمساكه يختلف فتارة يتسع وتارة لا يتسع فهي كالتي قبلها إلا أن تعلم أن هذا الإنقطاع لا يتسع.
قال شيخنا: ويحتمل أنها إذا شرعت في الصلاة ثم إنقطع(1/364)
الدم لم تبطل صلاتها لأنها شرعت فيها بطهارة متيقنة وإنقطاع الدم يحتمل أن يكون متسعاً فتبطل ويحتمل أن يكون ضيقاً فلا تبطل فلا تزول عن اليقين بالشك وإن إتصل الإنقطاع تبينا أنه كان مبطلاً فبطلت الصلاة.
(فصل) (ويستحب للمستحاضة أن تغتسل لكل صلاة) وذهب بعض العلماء إلى وجوبه روى ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وهو أحد قولي الشافعي في المتحيرة لأن أم حبيبة إستحيضت سبع سنين فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تغتسل عند كل صلاة وروى أبو داود أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل عند كل صلاة، وقال بعضهم تغتسل كل يوم غسلاً روى ذلك عن عائشة وابن عمر وأنس وقال بعضهم تجمع بين كل صلاتي جمع بغسل وتغتسل للصبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم(1/365)
قال لحمنة " فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين - الظهر والعصر حين تطهرين وتصلين الظهر والعصر جميعاً ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين وتغتسلين للصبح فافعلي وصومي إن قويت على ذلك " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وهو أعجب الأمرين إلي " وأمر به سهلة بنت سهيل وبه قال عطاء والنخعي وأكثر أهل العلم على أنها تغتسل عند إنقضاء الحيض ثم عليها الوضوء لكل صلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي وتوضئي لكل صلاة " وقد ذكرنا حديث عدي بن ثابت وهذا يدل على أن الغسل المأمور به أمر استحباب جمعاً بين الأحاديث والغسل لكل صلاة أفضل لأنه أحوط، وفيه خروج من الخلاف، ويليه في الفضل الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بغسل والغسل للصبح ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " وهو أعجب الأمرين إلي " ويليه الغسل(1/366)
كل يوم مرة ثم بعده الغسل عند إنقطاع الدم والوضوء لكل صلاة وذلك مجزئ إن شاء الله تعالى (مسألة) (وهل يباح وطئ المستحاضة في الفرج من غير خوف العنت على روايتين) (إحداهما)
لا يباح إلا أن يخاف على نفسه الوقوع في المحظور وهو مذهب ابن سيرين والشعبي لأن عائشة يروي عنها أنها قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها ولأن بها أذى فيحرم وطؤها كالحيض لأن الأذى علة لتحريم الوطئ لأن الشارع ذكره عقيبة بفاء التعقيب فكان علة له كقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) والأذى موجود في الإستحاضة فمنع وطؤها كالحائض (والثانية) يباح وطؤها مطلقاً وهو قول أكثر أهل العلم لما روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامها، وقال أن أم حبيبة كانت تستحاض وكان زوجها يغشاها، وقد كانت حمنة تحت طلحة وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف وقد سألتا النبي صلى الله عليه وسلم عن أحكام المستحاضة فلو كان حراماً لبينه لهما، فأما إن خاف على نفسه العنت أبيج على الروايتين لأن حكمه أخف من حكم الحيض ومدته(1/367)
تطول فإن وطئها لغير ذلك وقلنا بالتحريم لم يكن عليه فكفارة لأن الشرع لم يرد بها وقد فرقنا بينه وبين الحيض فإن إنقطع دمها أبيح وطؤها قبل الغسل لأنه غير واجب عليها أشبه سلس البول (فصل) قال أحمد لا بأس ان تشرب المرأة دواء يقطع عنها الحيض إذا كان دواء معروفاً والله أعلم (فصل) قال (وأكثر النفاس أربعون يوماً) هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وعثمان بن أبي العاص وعائذ بن عمر وأنس وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحسن البصري النفساء لا تكاد تجاوز الأربعين فإن جاوزت الخمسين فهي مستحاضة، وقال مالك والشافعي أكثره ستون وحكاه ابن عقيل رواية عن أحمد لأنه روي عن الأوزاعي أنه قال عندنا امرأة ترى النفاس شهرين، وروي نحو ذلك عن عطاء، والمرجع في ذلك إلى الوجود قال الشافعي وغالبه أربعون يوماً ولنا ما روى أبو داود والترمذي عن مسة الأزدية عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كانت النفساء(1/368)
تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً قال الترمذي لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث أبي سهل وهو ثقة.
قال الخطابي أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث ولأنه قل من
سميناه من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً.
قال الترمذي أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي.
قال أبو عبيد وعلى هذا جماعة الناس.
وما حكوه عن الاوزاعي يحنمل أن الزيادة كانت حيضاً أو إستحاضة كما لو زاد دمها على الستين، فعلى هذا إن زاد دم النفساء على أربعين وصادف عادة الحيض فهو حيض وإلا فهو إستحاضة نص عليه أحمد لأنه لا يخلو من أحدهما والله أعلم.
(مسألة) قال (ولا حد لأقله) وبه قال الثوري والشافعي، وقال أبو الخطاب أقله قطرة وقال(1/369)
محمد بن الحسن وأبو ثور أقله ساعة، وقال أبو عبيد أقله خمسة وعشرون يوماً، وقال يعقوب أدناه أحد عشر يوما ولنا أنه لم يرد في الشرع تحديده فيرجع فيه إلى الوجود وقد وجد قليلاً وكثيراً وقد روي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر دماً فسميت ذات الجفوف ولأن اليسير دم وجد عقيب سببه فكان نفاساً كالكثير (مسألة) (أي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي إذا كان الطهر أقل من ساعة فينبغي أن لا تلتفت إليه لما ذكرنا من قول ابن عباس في الحيض وإن كان أكثر من ذلك فظاهر قوله ههنا أنها تغتسل وتصلي لحديث ابن عباس وهذا قول أكثر أصحابنا لقول علي رضي الله عنه: لا يحل للنفساء(1/370)
إذا رأت الطهر ألا أن تصلي.
وقد روي عن أحمد أنها إذا رأت النقاء أقل من يومين لا يثبت لها أحكام الطاهرات رواه يعقوب عنه فعلى هذا لا يثبت لها حكم الطاهرات إلا أن ترى الطهر يوماً كاملاً لأن الدم يجري تارة وينقطع أخرى فلم يمكن اعتبار مجرد الانقطاع فلابد من ضابط للإنقطاع المعدود طهراً واليوم يصلح أن يكون ضابطاً فتعلق الحكم به والله أعلم (مسألة) (ويستحب أن لا يقربها في الفرج حتى تتم الأربعين) .
متى طهرت النفساء في مدة
الأربعين أكثر من يوم لزمها الصوم والصلاة بعد أن تغتسل، وإن كان أقل من يوم فقد ذكرنا الخلاف فيه، ويستحب لزوجها أن لا يطأها في الفرج وهي طاهرة حتى تتم الأربعين.
قال احمد ما يعجبني أن يأتيها زوجها على حديث عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين فقال لا تقربيني ولأنه لا يأمن عود الدم في زمن الوطئ فيكون واطئا في نفاس ولا يحرم وطؤها لأنها في حكم الطاهرات(1/371)
ولذلك تجب عليها العبادات، وذكر القاضي في تحريمه روايتين في المجرد والصحيح أنه لا يحرم لما ذكرنا (مسألة) (فإن إنقطع دمها في مدة الأربعين ثم عاد فيها فهو نفاس وعنه إنه مشكوك فيه تصوم وتقضي الصوم المفروض) متى إنقطع دمها في مدة الأربعين إنقطاعاً تجب عليها فيه العبادات ثم عاد في مدة الأربعين ففيه روايتان (إحداهما) هو نفاس تدع له الصوم والصلاة نقلها عنه أحمد بن القاسم وهذا قول عطاء والشعبي لأنه دم في مدة النفاس أشبه مالو إتصل (والثانية) هو مشكوك فيه وهي أشهر نقلها عنه الأثرم وغيره فعلى هذا تصوم وتصلي لأن سبب العبادة متيقن وسقوطها بهذا الدم(1/372)
مشكوك فيه.
ويجب عليها قضاء الصوم احتياطا لان الصوم واجب عليها بيقين وسقوطه بهذا الفعل مشكوك فيه.
ولا يقربها زوجها إحتياطاً بخلاف الناسية إذا جلست ستاً أو سبعاً فإنه لا يجب عليها قضاء الصوم الذي صامته مع الشك فيه، والفرق بينهما أن الغالب من عادات النساء ست أو سبع وما زاد عليه نادر بخلاف النفاس ولأن الحيض يتكرر فيشق ذلك فيه وكذلك الدم الزائد عن العادة في الحيض، وقال مالك إن رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة فهو نفاس وإن تباعد فهو حيض، ولاصحاب الشافعي فيما إذا رأت الدم يوما وليلة بعد طهر خمسة عشر هل هو حيض أو نفاس؟ قولان.
وقال القاضي: إن رأت الدم أقل من يوم وليلة بعد طهر خمسة عشر فهو دم فساد تصوم وتصلي ولا تقضي وهو قول أبي ثور، وإن كان الدم الثاني(1/373)
يوماً وليلة فهو مشكوك فيه ذكرنا حكمه، ولنا أنه دم صادف زمن النفاس فكان نفاساً كما لو استمر أو رأته قبل مضي يومين وينبغي أن لا يفرق بين قليله وكثيره لما ذكرنا، ومن قال هو حيض فهو نزاع في عبارة
لإستواء حكم الحيض والنفاس، فأما ما صامته في زمن الطهر فلا يجب قضاؤه لأنه صوم صحيح (فصل) إذا رأت المرأة الدم بعد وضع شئ يتبين فيه شئ من خلق الإنسان فهو نفاس نص عليه وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس، وإن كان جسماً لا يتبين فيه شئ من خلق الإنسان ففيه وجهان (أحدهما) هو نفاس لأنه بدء خلق آدمي أشبه مالو تبين (والثاني) ليس بنفاس لأنه لم يتبين أشبه النطفة والعلقة والله أعلم(1/374)
(مسألة) (وإن ولدت توأمين فأول النفاس من، الأول وآخره منه وعنه أنه من الأخير والأول أصح) ذكر أصحابنا عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة روايتين (إحداهما) إن أول النفاس وآخره من الأول وهذا قول مالك وأبي حنيفة، فعلى هذا متى انقضت مدة النفاس من حين وضع الأول لم يكن ما بعده نفاساً لأن ما بعد الأول دم بعد الولادة أشبه المنفرد، وإذا كان أوله منه كان آخره منه كالمنفرد (والرواية الثانية) اختلف فيها أصحابنا.
فقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب في رءوس المسائل هي أن أوله من الأول وآخره من الثاني.
وذكره القاضي في كتاب الروايتين لأن الثاني ولد فلا تنقضي مدة النفاس قبل إنتهائها منه كالمنفرد.
فعلى هذا تزيد مدة النفاس على أربعين في حق من ولدت توأمين، وقال القاضي أبو الحسين وأبو الخطاب في الهداية: هي أن أول النفاس وآخره من الثاني حسب.
وهو قول زفر لأن مدة النفاس تتعلق بالولادة فكان ابتداؤها وإنتهاؤها من الثاني كمدة المدة(1/375)
فعلى هذا ما تراه من الدم قبل ولادة الثاني لا يكون نفاساً، ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه كالأقوال الثلاثة وقال القاضي في المجرد النفاس عنهما رواية وإنما الروايتان في وقت الإبتداء هل هو عقيب إنفصال الأول أو الثاني قال شيخنا وهذا ظاهره إنكار لرواية من روى أن آخره من الأول والله أعلم (كتاب الصلاة) الصلاة في اللغة عبارة عن الدعاء قال الله تعالى (وصل عليهم) أي أدع لهم، وقال صلى الله عليه وسلم " إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم وإن كان صائماً فليصل " وفي الشرع عبارة عن
الأفعال المعلومة فإذا ورد في الشرع أمر بصلاة أو حكم معلق عليها إنصرف إلى الصلاة الشرعية في الظاهر (والأصل) في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء.
ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس: شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاء، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا " متفق عليه والأخبار في ذلك كثيرة وأجمع المسلمون على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة، وهي واجبة على كل مسلم بالغ عاقل إلا الحائض(1/376)
والنفساء لما ذكرنا ولقول الله تعالى (أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) فأما الحائض والنفساء فلا تجب عليهما الصلاة لما ذكرنا في باب الحيض (مسألة) قال (وتجب على النائم ومن زال عقله بسكر أو إغماء أو شرب دواء) لا نعلم خلافاً في وجوب الصلاة على النائم بمعنى أنه يجب عليه قضاؤها إذا استيقظ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " رواه مسلم بمعناه ولو لم تجب عليه في حال نومه لما وجب عليه قضاؤها كالمجنون وكذلك السكران ومن شرب محرماً يزيل عقله لأنه إذا وجب بالنوم المباح فبالمحرم بطريق الأولى وحكم المغمى عليه حكم النائم في وجوب قضاء العبادات عليه من الصلاة والصوم يروي ذلك عن عمار وعمران بن حصين وسمرة بن جندب.
وروي عن ابن عمر وطاوس والحسن والزهري قالوا: لا يقضي الصلاة، وقال مالك والشافعي لا يلزمه قضاء الصلاة إلا أن يفيق في جزء من وقتها لأنه يروى أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغمى عليه فيترك الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه فيفيق في وقتها فيصليها " وقال أصحاب الرأي إن اغمي عليه أكثر من خمس صلوات لم يقض شيئاً وإلا قضى الجميع لأن ذلك يدخل في التكرار فاسقط القضاء كالمجنون.
ولنا أن الإغماء لا يسقط فرض الصيام ولا يؤثر في ثوبت الولاية ولا تطول مدته غالباً أشبه(1/377)
النوم وحديثهم يرويه الحكم بن عبد الله بن سعد وقد نهى أحمد عن حديثه، وقال البخاري تركوه وقياسه على المجنون لا يصح لأنه تطول مدته غالباً وتثبت عليه الولاية ويسقط عنه الصوم ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام بخلاف الاغماء ولان مالا يؤثر في إسقاط الخمس لا يؤثر في إسقاط الزائد عليها كالنوم (فصل) فأما شرب الدواء المباح الذي يزيل العقل فإن كان لا يدوم كثيراً فهو كالإغماء وإن تطاول فهو كالمجنون، وأما ما فيه السموم من الأدوية فإن كان الغالب من إستعماله الهلاك أو الجنون لم يجز وإن كان الغالب منه السلامة ويرجى نفعه أبيح شربه في الظاهر لدفع ما هو أخطر منه كغيره من الأدوية ويحتمل أن يحرم لأن فيه تعرضاً للهلاك أشبه ما لو لم يرد به التداوي، والأول أصح فإن قلنا يحرم شربه فهو كالمحرمات من الخمر ونحوه وإن قلنا يباح فهو كالمباحات فيما ذكرنا والله أعلم (مسألة) (ولا تجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما) اختلف أهل العلم في خطاب الكفار بفروع الإسلام وعن أحمد رحمه الله فيه روايتان مع إجماعهم على أنها لا تصح منه في حال كفره ولا يجب عليه قضاؤها بعد إسلامه إذا كان أصلياً وقد قال تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولأنه قد أسلم خلق كثير في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فلم يأمر أحداً بقضاء ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيراً عن الإسلام فعفي عنه، وأما المرتد فذكر أبو إسحاق بن شاقلا في وجوب القضاء عليه روايتين (إحداهما) لا يلزمه وهو ظاهر كلام الخرقي فعلى هذا لا يلزمه قضاء ما ترك(1/378)
في حال كفره ولا في حال إسلامه قبل ردته وإن كان قد حج لزمه استئنافه لأن عمله قد حبط بكفره بدليل قوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) فصار كالكافر الأصلي في جميع أحكامه (والثانية) يلزمه قضاء ما ترك من العبادات في حال كفره وإسلامه قبل ردته ولا يجب عليه إعادة الحج لأن العمل إنما يحبط بالإشراك مع الموت لقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) وهذا مذهب الشافعي ولأن المرتد أقر بوجوب العبادات عليه واعتقد ذلك وقدر على التسبب إلى آدائها فلزمه كالمحدث، وذكر القاضي رواية ثالثة أنه لا قضاء عليه لما ترك في حال ردته وعليه قضاء ما ترك في إسلامه قبل الردة لأنه كان واجباً عليه قبل الردة فبقي الوجوب.
قال وهذا
المذهب هو اختيار ابن حامد وعلى هذا لا يلزمه استئناف الحج لأن ذمته برئت منه بفعله قبل الردة فلم تشتغل به بعد ذلك كالصلاة ولأن الردة لو أبطلت حجه أبطلت سائر عباداته المفعولة قبل ردته وهذا أولى إن شاء الله تعالى.
فأما المجنون فلا تصح منه الصلاة لأنه ليس من أهل التكليف أشبه الطفل ولا تجب عليه في حال جنونه ولا يلزمه قضاؤها إلا أن يفيق في وقت الصلاة لا نعلم في ذلك خلافا.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن لصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن(1/379)
(مسألة) (وإذا صلى الكافر حكم بإسلامه) لقوله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، فله مالنا وعليه ما علينا " وقال صلى الله عليه وسلم " بيننا وبينهم الصلاة " فجعل الصلاة حدا فمن أتى بها ينبغي أن يدخل في حد الإسلام ولأنها أحد مباني الإسلام المختصة به فإذا فعلها حكم بإسلامه كالشهادتين (مسألة) (ولا تجب على صبي وعنه أنها تجب على من بلغ عشراً) ظاهر المذهب أن الصلاة لا تجب على الصبي حتى يبلغ لما ذكرنا من الحديث، وفيه رواية أخرى أنها تجب على من بلغ عشراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " مروا الصبي بالصلاة لسبع واضربوه عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " رواه أبو داود - أمر بعقوبته ولا تشرع العقوبة إلا لترك الواجب ولأن حد الواجب ما عوقب على تركه، والأول أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ " ولأنه صبي فلم تجب عليه كالصغير ولأن الصبي ضعيف العقل والبنية ولا بد من ضابط يضبط الحد الذي تتكامل فيه بنيته وعقله فإنه يتزايد تزايداً خفي التدريج فلا يعلم بنفسه.
والبلوغ ضابط لذلك ولهذا تجب به الحدود ويتعلق به أكثر أحكام التكليف فكذلك الصلاة، فأما التأديب ههنا فهو كالتأديب على تعلم الخط والقرآن والصناعة ليعتادها ويتمرن عليها.
ولا فرق بين الذكر والأنثى فيما ذكرنا، ولا خلاف في أنها تصح من الصبي العاقل ويشترط لصحة صلاته من يشترط لصحة صلاة الكبير إلا في السترة فإن قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " يدل على
صحتها بدون الخمار(1/380)
(مسألة) (ويؤمر بها لسبع ويضرب على تركها لعشر) وهذا قول مكحول والاوزاعي وإسحاق وابن المنذر للخبر، وقال ابن عمر وابن سيرين إذا عرف يمينه من يساره لأنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال " إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة " رواه أبو داود وقال مالك والنخعي: يؤمر إذا ثغر، وقال عروة إذا عقل، قال القاضي يجب على ولي الصبي تعليمه الطهارة والصلاة وأمره بها إذا بلغ سبع سنين وتأديبه عليها إذا بلغ عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وظاهر الأمر الوجوب وهذا الأمر والتأديب في حق الصبي لتمرينه عليها كي يألفها ويعتادها فلا يتركها عند البلوغ (مسألة) (فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها لزمه إعادتها) وهذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي لا تلزمه في الموضعين لأنه أدى وظيفة الوقت فلم تلزمه إعادتها كالبالغ ولنا أنه صلاها قبل وجوبها وسببه فلم تجزه عما وجد سبب وجوبها كما لو صلى قبل الوقت ولأنها نافلة في حقه لم تجزه كما لو نواها نفلاً، ولأنه بلغ في وقت العبادة بعد فعلها فلزمه إعادتها كالحج (مسألة) (ولا يحل لمن وجبت عليه الصلاة تأخيرها عن وقتها إلا لمن ينوي الجمع أو لمشتغل بشرطها) وذلك لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أما أنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى " أخرجه مسلم فسماه تفريطا.
وعن سعد(1/381)
أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال " إضاعة الوقت " توعدهم على ذلك فدل على وجوبه هذا إذا كان ذاكراً لها قادراً على فعلها، فأما من نوى الجمع لعذر جاز له تأخير الأولى إلى وقت الثانية لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وكذلك المشتغل بشرطها لا يأثم لأن الصلاة لا تصح بدونه إذا قدر عليه فمتى كان شرطاً مقدوراً عليه وجب عليه الإشتغال بتحصيله ولم يأثم بالتأخير في مدة تحصيله كالمشتغل بالوضوء والغسل
(مسألة) (فمن جحد وجوبها كفر) متى جحد وجوب الصلاة نظرنا فإن كان جاهلاً به وهو ممن يجهل مثله ذلك كحديث الإسلام والناشئ ببادية عرف وجوبها لم يحكم بكفره لأنه معذور، وإن كان ممن لا يجهل ذلك كالناشئ بين المسلمين في الأمصار لم يقبل منه إدعاء الجهل وحكم بكفره لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة والمسلمون يفعلونها على الدوام فلا يخفى وجوبها عليه فلا يجحدها إلا تكذيباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة فهذا يصير مرتداً حكمه حكم سائر المرتدين عن الإسلام، قال شيخنا ولا أعلم في هذا خلافا، وإن تركها لمرض أو عجز عن أركانها أعلم أن ذلك لا يسقط الصلاة وإنه يجب عليه أن يصلي على حسب طاقته (مسألة) (وإن تركها تهاوناً لا جحوداً دعي إلى فعلها، فإن أبى حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله وعنه لا يجب حتى يترك ثلاثاً ويضيق وقت الرابعة) وجملته أن من ترك الصلاة تهاوناً وكسلا مع اعتقاد وجوبها دعي إلى فعلها وهدد فقيل له: صل وإلا قتلناك فإن لم يصل حتى تضايق وقت(1/382)
التي بعدها وجب قتله في إحدى الروايتين واختيار ابن عقيل وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه إذا ترك الأولى لم نعلم أنه عزم على تركها إلا بخروج الوقت فإذا خرج علمنا أنه تركها ولا يجب قتله بها لأنها فائتة فإذا ضاق وقت الثانية وجب قتله، وقال ابو إسحاق بن شاقلا إن كان الترك للصلاة إلى صلاة لا تجمع معها كالفجر إلى الظهر والعصر إلى المغرب وجب قتله، وإن كانت تجمع معها كالظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء فلا يقتل لأن وقتهما وقت واحد في حال العذر ولأن الوقتين كالوقت الواحد عند بعض العلماء، قال شيخنا وهذا قول حسن (والرواية الثانية) لا يقتل حتى يترك ثلاث صلوات ويضيق وقت الرابعة.
قال أحمد رحمه الله لئلا تكون شبهة لأنه قد يترك الصلاة والصلاتين والثلاث لشبهة فإذا رأيناه ترك الرابعة علمنا أنه عزم على تركها وانتفت الشبهة فيجب قتله، والصحيح الأول وقد نص أحمد فيمن ترك صلاة الفجر عامداً حتى وجبت عليه أخرى يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه لأنه قد وجد الترك وليس تقديرها بثلاث أولى من تقديرها بأربع وخمس وهو مذهب مالك والشافعي، وقال الزهري يسجن ويضرب، وقال أبو حنيفة لا يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم إلا
باحدى ثلاث كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق " ولم يوجد من هذا أحد الثلاثة وقال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها " متفق عليهما ولأنه أحد الفروع فلا يقتل بتركه كالحج ولأن الأصل تحريم الدم فلا تثبت الإباحة إلا بنص أو معناه والأصل عدمه(1/383)
ولنا قوله تعالى (اقتلوا المشركين - إلى قوله - فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فأباح قتلهم حتى يتوبوا من الكفر ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فمتى ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية فتبقى إباحة القتل وقال صلى الله عليه وسلم " من ترك الصلاة متعمداً برئت منه ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " رواه الإمام أحمد وهذا يدل على إباحة قتله وقال صلى الله عليه وسلم " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " رواه مسلم وقال " نهيت عن قتل المصلين " ولأنها ركن من أركان الإسلام لا تدخله النيابة فوجب أن يقتل تاركه كالشهادة وحديثهم حجة لنا لأن الخبر الذي رويناه يدل على أن تركها كفر والحديث الآخر إستثنى منه " إلا بحقها " والصلاة من حقها ثم أن أحاديثنا خاصة تخص عموم ما ذكروه وقياسهم على الحج لا يصح لإختلاف الناس في جواز تأخيره (مسألة) (ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل بالسيف) لا يقتل تارك الصلاة حتى يستتا ثلاثة أيام ويضيق عليه ويدعى في وقت كل صلاة إلى فعلها لأنه قتل لترك واجب فتقدمته الاستتابة كقتل المرتد ويقتل بالسيف لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة " الحديث (مسألة) (وهل يقتل حداً أو لكفره؟ على روايتين) إحداهما يقتل لكفره كالمرتد فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين اختارها أبو إسحاق بن شاقلا وابن عقيل وابن حامد وبه قال الحسن والنخعي والشعبي والاوزاعي وابن المبارك واسحاق ومحمد بن الحسن لقول رسول الله(1/384)
صلى الله عليه وسلم " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " رواه مسلم.
وعن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي
وقال حديث حسن صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم " أول ما مفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة " قال أحمد كل شئ ذهب آخره لم يبق منه شئ.
وقال عمر رضي الله عنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقال علي رضي الله عنه: من لم يصل فهو كافر، قال عبد الله بن شقيق لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
ولأنها عبادة يدخل بفعلها في الإسلام فيخرج بتركها منه كالشهادة (والرواية الثانية) يقتل حداً مع الحكم بإسلامه كالزاني المحصن وهذا اختيار أبي عبد الله بن بطة وأنكر قول من قال إنه يكفر وذكر أن المذهب على هذا لم يجد خلافاً فيه وهو قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي لقول البني صلى الله عليه وسلم " ان الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل " وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة " متفق عليهن.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل(1/385)
نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " رواه مسلم.
وعن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة.
ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " ولو كان كافراً لم يدخله في المشيئة، وروي عن حذيفة أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى معهم من الإسلام إلا قول لا إله إلا الله.
فقيل له وما ينفعهم؟ قال ينجيهم من النار لا أبا لك.
وقال صلى الله عليه وسلم " صلوا على من قال لا إله إلا الله " رواه الخلال ولأن ذلك إجماع المسلمين فاننا لا نعلم في عصر من الأعصار احدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه ولا منع ميراث موروثه ولا فرق بين الزوجين لترك الصلاة من أحدهما مع كثرة تاركي الصلاة ولو كفر لثبتت هذه الأحكام ولا نعلم خلافاً بين
المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها مع اختلافهم في المرتد، وأما الأحاديث المتقدمة فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة كقوله صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " وقوله " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " وقوله " من حلف بغير الله فقد أشرك " وقوله صلى الله عليه وسلم " كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق " وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد، (قال شيخنا) رحمه الله وهذا أصوب القولين والله أعلم (فصل) ومن ترك شرطاً مجمعاً عليه أو ركنا كالطهارة والركوع والسجود فهو كتاركها حكمه(1/386)
حكمه لأن الصلاة مع ذلك وجودها كعدمها فإما الأركان المختلف فيها كإزالة النجاسة وقراءة الفاتحة والإعتدال عن الركوع فإن تركه معتقداً جوازه فلا شئ عليه وإلا لزمته الإعادة ولا يقتل بحال لأنه مختلف فيه فلم يتعلق به حد كالمتزوج بغير ولي وسارق مال فيه شبهة وقال ابن عقيل لا بأس بوجوب قتله كما نحده بفعل ما يوجب الحد على مذهبه والله أعلم (باب الأذان والإقامة) أصل الأذان في اللغة الإعلام.
قال الله تعالى (وأذان من الله ورسوله) أي إعلام وقال الشاعر * آذنتنا ببينها أسماء * أي أعلمتنا والأذان للصلاة إعلام بوقتها والأذان الشرعي هو اللفظ المعلوم المشروع في أوقات الصلاة (فصل) وفيه فضل عظيم لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه " متفق عليه، وعن معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة " رواه مسلم وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أذن سبع سنين محتسباً كتب(1/387)
الله له براءة من النار رواه ابن ماجه وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة رجل أم قوماً وهم به راضون، ورجل يؤذن في كل يوم خمس صلوات وعبد أدى
حق الله وحق مواليه " رواه أحمد والترمذي، وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول المقدم والمؤذن يغفر له بمد صوته ويصدقه من سمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه " رواه الإمام أحمد والنسائي (فصل) قال القاضي الآذان أفضل من الامامة وهذاحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار ابن أبي موسى وجماعة من أصحابنا وهذا مذهب الشافعي لما ذكرنا من الأخبار في فضيلته ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة وأغفر للمؤذنين " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والأمانة أعلى من الضمان والمغفرة أعلى من الإرشاد (والرواية الثانية) الإمامة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولاها بنفسه وخلفاؤه من بعده ولا يختارون إلا الأفضل ولان الامامة يختار لها من هو أكمل حالاً وأفضل وإعتبار فضلته دليل على فضيلة منزلته ومن نصر الرواية الأولى قال إنما لم يتوله النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لضيق وقتهم عنه ولهذا قال عمرو: لولا الخليفاء لأذنت والله أعلم (مسألة) (وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها للرجال دون النساء) أجمعت الأمة على أن الأذان والإقامة مشروع للصلوات الخمس ولا يشرعان لغير الصلوات الخمس لأن المقصود منه الإعلام بوقت المفروضة على الأعيان وهذا لا يوجد في غيرها، والأصل في الآذان ما روي عن أنس(1/388)
ابن مالك رضي الله عنه قال: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا لوقت الصلاة بشئ يعرفونه فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، متفق عليه وعن عبد الله ابن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه قال ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به لجمع الناس للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت ندعوا به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت بلى قال فقال تقول: الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله أكبر، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله اكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم أستأخر عني غير بعيد ثم
قال ثم تقول إذا أقمت الصلاة، الله اكبر الله أكبر، أشهد ان لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي عى الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله اكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال " أنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلله الحمد " أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وهذا لفظه وابن ماجة وأخرج الترمذي بعضه وقال حديث حسن صحيح(1/389)
(فصل) وليس على النساء اذان ولا إقامة كذلك قال ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين والثوري ومالك وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم.
واختلفوا هل يسن لهن ذلك؟ فروي عن أحمد أن فعلن فلا بأس وإن لم يفعلن فجائز.
وقال القاضي هل تستحب لها الإقامة؟ على روايتين، وعن جابر أنها تقيم وبه قال عطاء ومجاهد والاوزاعي، وقال الشافعي إن أذن وأقمن فلا بأس، وعن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم وبه قال إسحاق وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأم ورقة أن يؤذن لها ويقام وتؤم نساء أهل دارها إلا أن هذا الحديث يرويه الوليد بن جميع وقد قال ابن حبان لا يحتج بحديثه ووثقه يحيى بن معين، وروي عنه لا يشرع لها ذلك لما روى النجاد بإسناده عن أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليس على النساء اذان ولا إقامة " ولأن الأذان يشرع له رفع الصوت ولا يشرع لها ولا تشرع لها الإقامة لأن من لا يشرع له الأذان لا تشرع له الإقامة كغير المصلي وكالمسبوق (مسألة) قال (وهما فرض على الكفاية إن اتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الإمام) كذلك ذكره أبو بكر بن عبد العزيز وهو قول أكثر الأصحاب وبعض أصحاب مالك وبه قال عطاء ومجاهد، قال إبن المنذر الأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به مالك بن الحويرث وصاحبه والأمر يقتضي الوجوب.
وداوم عليه هو وخلفاؤه وأصحابه(1/390)
ولأنه من شعائر الإسلام الظاهرة فكان فرضاً كالجهاد فعلى هذا إذا قام به من تحصل به الكفاية سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات وإن اتفقوا على تركه أثموا كلهم، ولأن بلالاً كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فيكتفي به، وإن اتفق أهل البلد على تركه قاتلهم الإمام عليه لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة فقوتلوا عليه كصلاة العيدين، وظاهر كلام الخرقي أن الأذان سنة غير واجب لأنه قال فإن صلى بلا اذان ولا إقامة كرهنا له ذلك فجعله مكروهاً وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه دعاء إلى الصلاة فأشبه قوله: الصلاة جامعة، وقال ابن أبي موسى الأذان سنة في إحدى الروايتين إلا أذان الجمعة حين يصعد الإمام فإنه واجب، وعلى كلا القولين إذا صلى بغير اذان ولا إقامة كره له ذلك لما ذكرنا وصحت صلاته لما روي عن علقمة والاسود أنهما قالا دخلنا علي عبد الله فصلى بنا بلا اذان ولا إقامة.
رواه الأثرم قال شيخنا ولا أعلم أحداً خالف في ذلك إلا عطاء قال من نسي الإقامة يعيد ونحوه عن الأوزاعي، والصحيح إن شاء الله قول الجمهور لما ذكرنا ولأن الإقامة أحد الأذانين فلم يفسد تركها كالأخر (فصل) ومن أوجب الأذان من أصحابنا إنما أوجبه على أهل المصر فأما غير أهل المصر من المسافرين فلا يجب عليهم كذلك ذكره القاضي، وقال مالك انما يجب النداء في مساجد الجماعة التي يجتمع فيها للصلاة، وذلك لأن الأذان إنما شرع في الأصل للإعلام بالوقت ليجتمع الناس إلى الصلاة(1/391)
ويدركوا الجماعة، ويحتمل أن يجب في السفر للجماعة وهو قول ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به بلالاً في السفر وقال لمالك بن الحويرث ولابن عم له " إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما " متفق عليه وهذا ظاهر في وجوبه، ويكفي مؤذن في المصر إذا كان يسمعهم ويجتزئ بقيتهم بالإقامة، قال أحمد في الذي يصلي في بيته يجزئه أذان المصر وهو قول أصحاب الرأي، وقال مالك والاوزاعي تكفيه الإقامة، وقال الحسن وابن سيرين إن شاء أقام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي علمه الصلاة " إذا أردت الصلاة فأحسن الوضوء ثم استقبل القبلة وكبر " وفي لفظ رواه النسائي
" فأقم ثم كبر " وقد ذكرنا حديث ابن مسعود (فصل) والأفضل لكل مصل أن يؤذن ويقيم إلا أنه إن كان يصلي قضاء أو في غير وقت الأذان لم يجهر به، وإن كان في الوقت في بادية أو نحوها إستحب له الجهر بالأذان لقول أبي سعيد: إذا كنت في غنمك أو بادينك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغير إذا طلع الفجر.
وكان إذا سمع أذاناً أمسك والا أغار فسمع رجلاً يقول: الله اكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " على الفطرة " فقال أشهد أن لا إله إلا الله أشهد ان لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرجت من النار " فنظر فإذا صاحب معز: رواه مسلم(1/392)
(فصل) ويستحب الآذان في السفر وللراعي وأشباهه في قول أكثر أهل العلم وكان ابن عمر يقيم لكل صلاة إقامة إلا الصبح فإنه يؤذن لها ويقيم وكان يقول إنما الأذان على الإمام والأمير الذي يجمع الناس (وعنه) أنه كان لا يقيم الصلاة في أرض تقام فيها الصلاة.
وعن علي رضي الله عنه أن شاء أذن وأقام وإن شاء أقام وبه قال الثوري، وقال الحسن تجزئه الإقامة وقال إبراهيم في المسافرين وإذا كانوا رفاقاً أذنوا وأقاموا وإن كان وحده أقام الصلاة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في الحضر والسفر وأمر به مالك بن الحويرث وصاحبه وما نقل عن السلف في هذا فالظاهر أنهم أرادوا وحده كما قال إبراهيم النخعي في كلامه والأذان مع ذلك أفضل لما ذكرنا من حديث أبي سعيد وحديث أنس وروى عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يعجب ربك من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل إنظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " رواه النسائي.
والصلاة في الأذان على أربعة أضرب ما يشرع لها الأذان والإقامة وهي الفرض المؤداة من الصلوات الخمس، وصلاة يقيم لها ولا يؤذن وهي الثانية من صلاتي الجمع وما بعد الأولى من الفوائت، وصلاة لا يؤذن لها ولا يقيم لكن ينادي لها: اللاة جامعة: وهي العيدان والكسوف والاستسقاء،
وصلاة لا يؤذن لها أصلاً وهي صلاة الجنازة(1/393)
(مسألة) (ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما في أظهر الروايتين) وهو قول ابن المنذر وكرهه القاسم ابن عبد الرحمن والاوزاعي وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص " وإتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجراً " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن ولأنه قربة لفاعله لا يصح إلا من مسلم فلم يجز أخذ الأجرة عليه كالإمامة وروى عن أحمد أنه يجوز أخذ الأجرة عليه ورخص فيه مالك وقال لا بأس به لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه أشبه سائر الأعمال (مسألة) (فإن لم يوجد متطوع بهما رزق الامام من بيت المال من يقوم بهما) لا نعلم خلافاً في جواز أخذ الرزق عليه وهو قول الأوزاعي والشافعي لأن بالمسلمين إليه حاجة وقد لا يوجد متطوع به فإذا لم يدفع الرزق فيه تعطل ويرزقه الإمام من الفئ لأنه المعد للمصالح فهو كأرزاق القضاة والغزاة وقال الشافعي لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم حكاه ابن المنذر فأما إن وجد متطوع به لم يرزق غيره لعدم الحاجة إليه والله أعلم (مسألة) (وينبغي أن يكون المؤذن صيتاً أميناً عالماً بالأوقات) وجملة ذلك أنه يستحب أن يكون المؤذن صيتاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد " ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك " واختار أبا محظورة للأذان لكونه صيتاً ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان (قال شيخنا) ويستحب أن يكون حسن الصوت لأنه أرق لسامعه وأن يكون عدلاً أميناً لأنه مؤتمن يرجع إليه(1/394)
في الصلاة والصيام فلا يؤمن أن يغرهم بأذانه إذا لم يكن كذلك.
وقد روي عن أبي محذورة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم المؤذنون " رواه البيهقي من رواية يحيى بن عبد الحميد وفيه كلام ولأنه يؤذن على موضع عال فلا يؤمن منه النظر إلى العورات، وأن يكون عالماً بالأوقات ليتحراها فيؤذن في أولها ولأنه إذا لم يكن عالماً لا يؤمن منه الغلط والخطأ.
ويستحب أن يكون بصيراً لأن الأعمى لا يعرف الوقت فربما غلط.
وكره أذان الأعمى ابن مسعود وابن الزبير وعن ابن عباس أنه كره إقامته وإن أذن صح أذانه لأن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى قال له أصبحت أصبحت رواه البخاري، ويستحب أن يكون معه بصير كما كان ابن أم مكتوم يؤذن بعد بلال، وإن أذن الجاهل أيضا صح لانه ذا صح أذان الأعمى فالجاهل أولى.
(مسألة) (فإن تشاح فيه نفسان قدم أفضلهما في ذلك، ثم أفضلهما في دينه وعقله) متى تشاح نفسان في الأذان قدم أفضلهما في الخصال المذكورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم بلالاً علي عبد الله ابن زيد لكونه أندى صوتاً منه وقدم أبا محذورة لصوته، وقسنا عليه سائر الخصال فإن إستويا في هذه الخصال قدم أفضلهما في دينه وعقله لما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم " رواه أبو داود وابن ماجة.
فإن استويا قدم من يختاره الجيران(1/395)
لأن الأذان لاعلامهم فكان لرضاهم أثر في التقديم ولأنهم أعلم بمن يبلغهم صوته ومن هو أعف عن النظر فإن تساويا من جميع الجهات أقرع بينهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لأستهموا " ولما تشاح الناس في الأذان يوم القادسية أقرع بينهم سعد (مسألة) (والأذان خمسة عشر كلمة لا ترجيع فيه) هذا اختيار أبي عبد الله رحمه الله كما جاء في حديث عبد الله بن زيد الذي رويناه، وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وإسحاق وابن المنذر وقال مالك والشافعي ومن تبعهما من أهل الحجاز: الأذان المسنون أذان أبي محذورة وهو كما وصفنا في حديث عبد الله بن زيد ويزيد فيه الترجيع وهو أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين يخفض بذلك ثم يعيدهما رافعاً بهما صوته إلا أن مالكا قال التكبير في أوله مرتان حسب، فيكون الأذان عنده سبعة عشر كلمة وعند الشافعي تسعة عشر كلمة واحتجوا بما روي أبو محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقنه الأذان وألقاه عليه فقال له " تقول أشهد ان لا إله الله، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد ان لا إله إلا
الله، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله " ثم ذكر سائر الأذان أخرجه مسلم، واحتج مالك قال: كان الأذان الذي يؤذن به أبو محذورة: الله اكبر الله أكبر، أشهد ان لا إله إلا الله.
رواه مسلم(1/396)
ولنا ما ذكرنا من حديث عبد الله بن زيد وهو أولى لأن بلالاً كان يؤذن به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً وأقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه بعد أذان أبي محذورة، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل إلى أي الأذان تذهب؟ قال إلى أذان بلال، قيل له أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زبد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة؟ فقال أليس قد رجع النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة فأقر بلالاً على أذان عبد الله بن زيد؟ ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر أبا محذورة بذكر الشهادتين سراً ليحصل له الإخلاص بهما فإنه في الإسرار أبلغ، وخص أبا محذورة بذلك لأنه لم يكن مقراً بهما حينئذ فإن الخبر أنه كان مستهزئاً يحكي أذان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فدعاه فأمره بالأذان قال ولا شئ عندي أبغض من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم نطقه بالشهادتين سراً ليسلم بذلك وهذا لا يوجد في غيره، ودليل هذا الإحتمال كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به بلالاً ولا غيره ممن هو ثابت الإسلام (مسألة) (والإقامة إحدى عشرة كلمة فإن رجع في الاذان أوثنى في الإقامة فلا بأس) وجملة ذلك أن الإقامة المختارة عند إمامنا رحمه الله إقامة بلال التي ذكرنا في حديث عبد الله بن(1/397)
زيد وهي الله اكبر، الله أكبر، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله اكبر الله أكبر لا إله إلا الله وبهذا قال الأوزاعي وأهل الشام ويحيى بن يحيى وأبو ثور وإسحاق والشافعي وأصحابه وأهل مكة، وقال الثوري وأصحاب الرأي: الإقامة مثل الأذان وتزيد " قد قامت الصلاة مرتين " لما روي عن عبد الله بن زيد قال كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة رواه الترمذي، وعن أبي محذورة أن النبي
صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال مالك الإقامة عشر كلمات يقول قد قامت الصلاة مرة واحدة لقول أنس أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة متفق عليه ولنا ما روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال انما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة إلا أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وفي حديث عبد الله بن زيد أنه وصف الإقامة كما ذكرنا والحديث الذي احتجوا به من حديث عبد الله بن زيد رواه عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد قال الترمذي عبد الرحمن لم يسمع من عبد الله بن زيد وقال الصحيح ما روينا.
والذي احتج به مالك حجة لنا لأنه ذكره مجملاً وقد فسره عبد الله بن عمر في حديثه وبينه فكان الأخذ به أولى، وخبر أبي محذورة متروك بالإجماع لأن الشافعي لا يعمل به في الإقامة وأبو حنيفة لا يعمل به في الأذان فكان الأخذ بحديث عبد الله بن زيد أولى ولأنا قد بينا ترجيحه في الأذان كذا في الإقامة والإختلاف ههنا(1/398)
في الأفضلية مع جواز كل واحد من الأمرين نص عليه الإمام أحمد، وبه قال إسحاق لكون كل واحد من الأمرين قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (مسألة) (ويقول في آذان الصبح الصلاة خير من النوم مرتين) وهذا مستحب في صلاة الصبح خاصة بعد قوله حي على الفلاح ويسمى هذا التثويب وبه قال ابن عمر والحسن ومالك والثوري واسحاق والشافعي في الصحيح عنه، وقال أبو حنيفة التثويب بين الأذان والإقامة في الفجر أن يقول " حي على الصلاة " مرتين " حي على الفلاح " مرتين ولنا ما روى النسائي وأبو داود عن أبي محذورة: فإن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله اكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
وما ذكروه قال إسحاق هذا شئ أحدثه الناس.
وقال الترمذي وهو التثويب الذي كرهه أهل العلم، ويكره التثويب في غير الفجر سواء ثوب في الأذان أو بعده لما روي عن بلال قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أثوب في الفجر
ونهاني أن أثوب في العشاء رواه الإمام أحمد وابن ماجة، ودخل ابن عمر مسجدا يصلي فيه فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له إلى أين؟ فقال أخرجتني البدعة ولان صلاة الفجر وقت ينام فيه عامة الناس فاختص بالتثويب لإختصاصه بالحاجة إليه (فصل) ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، قال الترمذي وعلى هذا العمل(1/399)
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، قال أبو الشعثاء كنا قعوداً مع أبي هريرة في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد بمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد.
فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق.
رواه ابن ماجه.
فأما إن خرج لعذر كفعل ابن عمر حين سمع التثويب فجائز وكذلك من نوى الرجعة لحديث عثمان والله أعلم (مسألة) (ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة) الترسل التمهل والتأني من قولهم جاء فلان على رسله - والحدر ضد ذلك وهو الإسراع وهو من آداب الأذان ومستحباته وهذا مذهب ابن عمر وبه قال الثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة وصاحباه وابن المنذر ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال " إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر " رواه الترمذي وقال في إسناده مجهول، وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه انه قال للمؤذن " إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فأحذم وأصل الحذم في المشي الإسراع ولأنه يحصل به الفرق بين الأذان والإقامة فاستحب كالإفراد ولأن الأذان إعلام الغائبين فالتثبت فيه أبلغ في الإعلام والإقامة إعلام الحاضرين فلا حاجة إليه فيها، وذكر أبو عبد الله بن بطة أنه في الأذان والإقامة لا يصل الكلام بعضه ببعض معزباً بل(1/400)
حزماً وحكاه ابن الأعرابي عن أهل اللغة، وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: شيئان مجزومان
كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة وهذا إشارة إلى جميعهم (مسألة) (ويؤذن قائماً متطهراً على موضع عال مستقبل القبلة) قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من السنة أن يؤذن المؤذن قائماً.
وروي في حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال " قم فأذن " وكان مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنون قياماً، فإن أذن قاعداً لعذر فلا بأس، قال الحسن العبدي رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن قاعداً وكانت رجله أصيبت في سبيل الله.
رواه الأثرم، وإن فعله لغير عذر فقد كرهه أهل العلم ويصح لأنه ليس آكد من الخطبة وتصح من القاعد (فصل) ويجوز الأذان على الراحلة.
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الأذان على الراحلة فسهل فيه، قال إبن المنذر ثبت أن ابن عمر كان يؤذن على البعير وينزل فيقيم، ولأنه إذا جاز التنفل على الراحلة فالأذان أولى به.
قاله سالم بن عبد الله وربعي بن خراش ومالك والاوزاعي والثوري وأصحاب الرأي إلا أن مالكاً قال لا يقيم وهو راكب (فصل) ويستحب أن يؤذن متطهراً من الحدثين الأصغر والأكبر لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤذن إلا متوضئ " رواه الترمذي، وروى موقوفاً على أبي هريرة والوقوف أصح فإن أذن محدثاً جاز لأنه لا يزيد على قراءة القرآن والطهارة لا تشترط لها وهو قول الشافعي والثوري وأبي(1/401)
حنيفة ويكره له ذلك رويت كراهته عن عطاء ومجاهد والاوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر ورخص فيه النخعي والحسن البصري وقتادة وحماد وقال مالك يؤذن على غير وضوء ولا يقيم إلا على وضوء (فصل) فإن أذن جنباً ففيه روايتان (إحداهما) لا يعتد به اختاره الخرقي وهو قول إسحاق لما ذكرنا من الحديث ولأنه ذكر مشروع للصلاة أشبه القراءة والخطبة (والثانية) يعتد به.
قال الآمدي وهو المنصوص عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم لأنه أحد الحدثين فلم يمنع صحته كالآخر ويستحب أن يؤذن على موضع عال لأنه أبلغ في الإعلام، وروي عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول البيوت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر فيأتي بسحر فيجلس
على البيت ينظر إلى الفجر فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم إني أستعينك وأستعديك على قريش أن يقيموا دينك قالت ثم يؤذن.
رواه أبو داود ويؤذن مستقبل القبلة ولا نعلم خلافاً في إستحبابه.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يستقبل القبلة بالأذان وذلك لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة، فإن أخل باستقبال القبلة كره له ذلك وصح.
وإن مشى في أذانه لم يبطل لأن الخطبة لا تبطل به وهي آكد منه ولأنه لا يخل بالإعلام المقصود من الأذان وسئل أحمد عن الرجل يؤذن وهو يمشي قال نعم أمر الأذان عندي سهل وسئل عن المؤذن يمشي وهو يقيم فقال يعجبني أن يفرغ(1/402)
ثم يمشي، وقال في رواية حرب في المسافر أحب إلي أن يؤذن ووجهه إلى القبلة وأرجو أن يجزئ (مسألة) (فإذا أبلغ الحيعلة ألتفت يميناً وشمالاً ولم يستدر) الحيعلة قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح.
ويستحب للمؤذن أن يلتفت يميناً إذا قال حي الصلاة، ويساراً إذا قال حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه.
وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول النخعي والثوري والاوزاعي وأبي حنيفة وصاحبيه والشافعي.
لما روى أبو جحيفة قال رأيت بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يميناً وشمالاً يقول حي على الصلاة، حي على الفلاح، متفق عليه.
وفي لفظ قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم فخرج بلال فأذن فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر، رواه أبو داود.
وذكر أصحابنا عن أحمد فيمن أذن في المنارة روايتين (إحداهما) لا يدور للخبر وكما لو كان على وجه الأرض (والثانية) يدور لأنه لا يحصل بدونه وتحصيل المقصود مع الإخلال بالآداب أولى من العكس وهذا قول إسحاق (فصل) ويستحب رفع الصوت بالأذان لأنه أبلغ في الإعلام وأعظم للأجر لما ذكرنا في خبر أبي سعيد ولا يجهد نفسه زيادة على طاقته كيلا يضر بنفسه وينقطع صوته، قال القاضي ويرفع نظره إلى السماء لأن فيه حقيقة التوحيد، ومتى أذن لعامة الناس جهر بجميع الأذان، ولا يجهر بالبعض ويخافت بالبعض لأنه يخل بمقصود الأذان، وإن أذن لنفسه أو لجماعة خاصة حاضرين فله أن يخافت ويجهر(1/403)
وأن يجهر بالبعض ويخافت بالبعض إلا أن يكون في غير وقت الأذان فلا يجهر بشئ منه لئلا يغر الناس (مسألة) (ويجعل أصبعيه في أذنيه) وذلك مستحب وهو المشهور عن أحمد وعليه العمل عند أهل العلم كذلك قال الترمذي لما روى أبو جحيفة أن بلالاً وضع أصبعيه في أذنيه رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن سعد القرظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل أصبعيه في أذنيه وقال أنه أرفع لصوتك، رواه ابن ماجه.
وقال الخرقي يجعل أصبعيه مضمومة على أذنيه رواه أبو طالب عن أحمد أنه قال أحب إلي أن يجعل بديه على أذنيه على حديث أبي محذورة واحتج لذلك القاضي بما روى أبو حفص بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا بعث مؤذناً يقول له: أضمم أصابعك مع كفيك واجعلها مضمومة على أذنيك، وبما روى الإمام أحمد عن أبي محذورة أنه كان يضم أصابعه والأول أصح لصحة الحديث وشهرته وعمل أهل العلم به وأيهما فعل فحسن وإن ترك الكل فلا بأس (مسألة) (ويتولاهما معاً) يستحب أن يتولى الإقامة من يتولى الأذان وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك لا فرق بينه وبين غيره لما روى أبو داود في حديث عبد الله بن زيد حين رأى الأذان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " القه على بلال فإنه أندى صوتاً منك " فألقاه عله فأذن بلال فقال عبد الله أنا رأيته وأنا كنت أريده قال له أقم أنت، ولأنه يحصل المقصود منه أشبه مالو تولاهما معاً ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زياد بن الحرث الصدائي " أن أخا صداء أذن ومن(1/404)
أذن فهو يقيم " ولأنهما ذكران يتقدمان الصلاة فسن أن يتولاهما واحد كالخطبتين وما ذكروه يدل على الجواز وهذا على الاستحباب (فصل) فإن سبق المؤذن بالأذان فأراد المؤذن أن يقيم.
فقال أحمد لو أعاد الأذان كما صنع أبو محذورة فروى عبد العزيز بن رفيع قال رأيت رجلاً أذن قبل أبي محذورة.
قال فجاء أبو محذورة فأذن ثم أقام أخرجه الأثرم.
فإن أقام بغير إعادة فلا بأس وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي
لما ذكرنا من حديث عبد الله بن زيد (مسألة) (ويستحب للمؤذن أن يقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه) يعني يقيم الصلاة في الموضع الذي يؤذن فيه كذلك روي عن أحمد قال أحب إلي أن يقيم في مكانه ولم يبلغني فيه شئ إلا حديث بلال: لا تسبقني بآمين.
يعني لو كان يقيم في المسجد لما خاف أن يسبقه بالتأمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبر بعد فراغ بلال من الإقامة.
ولأن الإقامة شرعت للإعلام بدليل قول ابن عمر كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة فينبغي أن تكون في موضع الأذان لكونه أبلغ في الإعلام، فأما إن شق عليه ذلك بحيث يؤذن في المنارة أو في مكان بعيد من المسجد فيقيم في غير موضعه لئلا يفوته بعض الصلاة(1/405)
(فصل) ولا يقيم إلا بإذن الإمام فإن بلالا كان يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث زياد بن الحارث الصدائي أنه قال فجعلت أقول للنبي صلى الله عليه وسلم أقيم أقيم؟ وروي أبو حفص باسناده عن علي قال: المؤذن أملك بالأذان والامام أملك بالإقامة ورواه البيهقي.
قال وقد روي عن أبي هريرة مرفوعاً وليس بمحفوظ (1) (مسألة) (ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً فإن نكسه أو فرق بينه بسكوت طويل أو كلام كثير أو محرم لم يعتد به) وجملة ذلك أن من شرط صحة الأذان أن يكون مرتباً متوالياً لأنه لا يعلم أنه أذان بدونهما ولأنه شرع في الأصل كذلك وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة مرتباً فإن نكسه لم يصح لما ذكرنا (فصل) ولا يستحب أن يتكلم في أثناء الأذان وكرهه طائفة من أهل العلم منهم النخعي وابن سيرين.
قال الأوزاعي لم نعلم أحداً يقتدى به فعل ذلك.
ورخص فيه الحسن وعطاء وعروة وسليمان ابن صرد.
فإن لم يطل الكلام جاز وإن طال الكلام بطل الأذان لإخلاله بالموالاة المشترطة فيه، وكذلك لو سكت سكوتاً طويلاً أو نام نوماً طويلاً أو أغمي عليه طويلاً أو أصابه جنون يقطع الموالاة بطل أذانه لما ذكرنا وإن كان يسيراً محرماً ففيه وجهان (أحدهما) لا يبطل لأنه لا يخل بالمقصود أشبه
المباح (والثاني) يبطل الأذان لأنه فعل محرماً أشبه الردة.
فان ارتد في أثناء الأذان بطل لقوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) وان ارتد بعده.
فقال القاضي يبطل قياساً على الطهارة (قال شيخنا)
__________
1) حديث أبي هريرة رواه ابن عدي في ترجمة شريك القاضي وضعفه به ولكن وثقه ابن معين واحمد والصواب ما حققه الحافظ ابن حجر من انه صدوق يخطئ كثيرا وقد تغير حفظه منذ ولي القضاء(1/406)
والصحيح أنه لا يبطل لأنها وجدت بعد فراغه وانقضاء حكمه فأشبه سائر العبادات.
فاما الطهارة فحكمها باق بدليل أنها تبطل بمبطلاتها فأما الإقامة فلا ينبغي أن يتكلم فيها لأنه يستحب حدرها، قال أبو داود قلت لاحمد الرجل يتكلم في أذانه؟ قال نعم فقيل له يتكلم في الإقامة قال لا، وقد روي عن الزهري أنه إذا تكلم في الإقامة أعادها، وأكثر أهل العلم على أنه يجزئه قياساً على الأذان وليس للرجل أن يبني على أذان غيره لأنها عبادة بدنية فلا تصح من شخصين كالصلاة.
فإما الكلام بين الأذان والإقامة فجائز وكذلك بعد الإقامة قبل الدخول في الصلاة لأنه روي عن عمر أنه كان يكلم الرجل بعد ما تقام الصلاة والله أعلم (مسألة) (ولا يصح إلا بعد دخول الوقت إلا الفجر فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل) أما الأذان لغير الفجر قبل الوقت فلا يجزئ بغير خلاف نعلمه.
قال ابن المندر: أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يؤذن للصلاة بعد دخول وقتها إلا الفجر ولأن الأذان شرع للإعلام بالوقت فلا يشرع قبل الوقت لعدم حصول المقصود (فصل) وأما الفجر فيشرع لها الأذان قبل الوقت، وهو قول مالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد لا يجوز لما روى ابن عمر أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يرجع فينادي إلا أن العبد نام فرجع فنادى: إلا أن العبد نام، وعن بلال أن(1/407)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا " ومد يديه عرضاً رواهما أبو داود
وقال طائفة من أهل الحديث إذا كان له مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعده فلا بأس وإلا فلا لأن الأذان قبل الفجر يفوت المقصود من الإعلام بالوقت فلم يجز كبقية الصلوات فأما إذا كان له مؤذنان يحصل إعلام الوقت بأحدهما كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم جاز ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " متفق عليه وهذا يدل على دوام ذلك منه وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولم ينهه فدل على جوازه وروى زياد بن الحارث الصدائي قال.
لما كان أذان الصبح أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت فجعلت أقول: أقيم أقيم يا رسول الله؟ فجعل ينظر إلى ناحية المشرق فيقول " لا " حتى إذا طلع الفجر نزل فبرز ثم انصرف إلى وقد تلاحق أصحابه فتوضأ فاراد بلال أن يقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم " قال فأقمت رواه أبو داود والترمذي (1) وهذا قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم لأذان قبل طلوع الفجر وهو حجة على من قال إنما يجوز ذلك إذا كان معه مؤذنان فإن زياداً أذن وحده في حديث ابن عمر الذي احتجوا به ولم يروه كذلك إلا حماد ابن زيد رواه أحمد بن زيد ولدراوردي فقالا كان مؤذن لعمر يقال له مسعود وقال هذا أصح.
وقال الترمذي في هذا الحديث أنه غير محفوظ وكذلك قال عمر بن المديني والحديث الآخر قال ابن عبد البر لا تقوم بمثله حجة لضعفه وإنقطاعه وإنما اختصت الفجر بذلك دون سائر الصلوات لأنه وقت النوم ليتأهب الناس للخروج إلى الصلاة وينتبهوا ولا يوجد ذلك في غيرها، وقد روي في بعض
__________
1) ضعفه الترمذي بعبد الرحمن بن زياد ابن انعم الافريقي ولكنه قال والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم(1/408)
الأحاديث " إن بلالا يؤذن بليل لينتبه نائمكم ويرجع قائمكم " رواه أبو داود ولا ينبغي أن يتقدم على الوقت كثيراً إذا كان المعنى فيه ما ذكرنا وقد روي أن بلالاً كان بين أذانه وأذان ابن أم مكتوم أن ينزل هذا ويصعد هذا.
وقال بعض أصحابنا ويجوز أن يؤذن لها بعد نصف الليل وهو مذهب الشافعي لأن بذلك يخرج وقت العشاء المختار ويدخل وقت الدفع من مزدلفة ورمي جمرة العقبة وطواف الزيارة وروى الأثرم قال كان مؤذن دمشق يؤذن لصلاة الصبح في السحر بقدر ما يسير
الراكب ستة أميال فلا ينكر ذلك مكحول ولا يقول شيئاً (فصل) ويستحب أن لا يؤذن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذن آخر يؤذن إذا أصبح كبلال وابن أم مكتوم ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يحصل الإعلام بالوقت المقصود بالأذان، وينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يجعل أذانه في وقت واحد في الليالي كلها ليعرف الناس ذلك من عادته فلا يغتروا بأذانه ولا يؤذن في الوقت تارة وقبله أخرى فيلتبس على الناس ويغترون به فربما صلى بعض من سمعه الصبح قبل وقتها ويمتنع من سحوره والمتنفل من تنفله إذا لم يعلم حاله ومن علم حاله لا يستفيد بأذانه لتردده بين الاحتمالين (فصل) ونص أحمد على أنه يكره الأذان للفجر في رمضان قبل وقتها لئلا يغتر الناس به فيتركوا سحورهم.
والصحيح أنه لا يكره في حق من عرفت عادته في الأذان بالليل لما ذكرنا من حديث بلال(1/409)
ولقوله صلى الله عليه وسلم " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال فإنه يؤذن بليل لينتبه نائمكم ويرجع قائمكم " رواه أبو داود، ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليتأهب الناس للصلاة وقد روى جابر بن سمرة قال: كان بلال لا يخرم الأذان عن الوقت وربما أخر الإقامة شيئاً رواه ابن ماجه وفي رواية كان بلال يؤذن إذا مالت الشمس لا يخرم (مسألة) (ويستحب أن يجلس بعد أذان المغرب جلسة خفيفة ثم يقيم) لما روى تمام في فوائده بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة " وحكي عن أبي حنيفة والشافعي أنه لا يسن ولنا ما ذكرنا من الحديث وقد روى عبد الله بن أحمد بإسناده عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بلال إجعل بين أذانك وإقامتك نفساً يفرغ الآكل من طعامه في مهل ويقضي المتوضئ (1) حاجته في مهل " لأن الأذان شرع للإعلام فليسن تأخير الإقامة ليدرك الناس الصلاة في المغرب كسائر الصلوات (فصل) ويستحب أن يفصل بنى الأذان والإقامة بقدر الوضوء وصلاة ركعتين لما ذكرنا من الحديث ولما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال " إجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الا كل من أكله، والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " رواه أبو داود والترمذي (2)
(فصل) قال اسحاق بن منصور رأيت أحمد خرج عند المغرب فحين إنتهى إلى موضع الصف
__________
1) رواه من حديث أبي الجوزاء وهو لم يسمع من ابي ابن كعب 2) في اسناده ضعيفان عبد المنعم بن نعيم ويحيى بن مسلم البكاء وله شاهدا ضعف منه(1/410)
أخذ المؤذن في الإقامة فجلس قال أحمد يقعد الرجل مقدار الركعتين إذا أذن المغرب.
قيل من أين؟ قال من حديث أنس وغيره كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن ابتدروا السواري وصلوا ركعتين، وروى الخلال عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وبلال في الإقامة فقعد (مسألة) (ومن جمع بين صلاتين أو قضى فوائت أذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها) متى جمع بين صلاتين أذن وأقام للاول ثم أقام للثانية سواء كان الجمع في وقت الأولى أو الثانية لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين رواه مسلم.
وعن ابن عمر قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء يجمع كل واحدة منهما بإقامة رواه البخاري.
إلا أنه إذا جمع في وقت الأولى كان الأذان لها آكد لأنها مفعولة في وقتها أشبه مالو لم يجمع، وإن كان في وقت الثانية فلم يؤذن أو جمع بينهما بإقامة واحدة فلا بأس لما روى ابن عمر قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة، رواه مسلم ولأن الأولى مفعولة في غير وقتها فهي كالفائتة.
والثانية مسبوقة بصلاة فلم يشرع لها الأذان كالثانية من الفوائت، وقال مالك يؤذن للأولى(1/411)
والثانية ويقيم لأن الثانية منهما صلاة يشرع لها الأذان لو لم تجمع فكذلك إذا جمعت وهو مخالف لما ذكرنا من الأحاديث الصحيحة (فصل) فأما قضاء الفوائت فإن كانت الفائتة واحدة أذن لها وأقام لما روى عمرو بن أمية الضمري قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فنام عن الصبح حتى طلعت الشمس فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تنحوا عن هذا المكان، قال ثم أمر بلالاً فأذن
ثم توضؤا وصلوا ركعتي الفجر ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى بهم صلاة الصبح رواه أبو داود، وإن كثرت الفوائت أذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها لما روى أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، وإن لم يؤذن فلا بأس وهذا في الجماعة، فإن كان وحده كان إستحباب ذلك أدنى في حقه لأن الأذان والإقامة للإعلام ولا حاجة الى الإعلام ههنا.
وقد روي عن أحمد فيمن فاتته صلوات فقضاها فأذن وأقام مرة واحدة فسهل في ذلك ورآه حسناً وروي ذلك عن الشافعي وله قولان آخران (أحدهما) أنه يقيم ولا يؤذن وهو قول مالك لما روى أبو سعيد قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام الظهر فصلاها ثم أمره فأقام العصر فصلاها، ولأن الأذان للإعلام بالوقت وقد فات(1/412)
والقول الثاني للشافعي: إن رجي اجتماع الناس أذن وإلا فلا لأنه لا حاجة إليه، وقال أبو حنيفة يؤذن لكل صلاة ويقيم لأن ما سن للصلاة في أدائها سن في قضائها كسائر المسنونات، والأول أولى لحديث ابن مسعود وهو متضمن للزيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، وما قال أبو حنيفة مخالف لحديث ابن ابن مسعود وأبي سعيد، ولأن الثانية من الفوائت صلاة قد أذن لما قبلها أشبهت الثانية من المجموعتين وقياسهم ينتقض بهذا والله أعلم (فصل) ومن دخل مسجداً قد صلى فيه فإن شاء أذن وأقام نص عليه لأنه روي عن أنس أنه دخل مسجداً قد صلوا فيه فأمر رجلاً فأذن وأقام فصلى بهم في جماعة رواه الأثرم، وإن شاء صلى من غير اذان ولا إقامة قال عروة إذا أنتهيت إلى مسجد وقد صلى فيه ناس أذنوا وأقاموا فإن أذانهم وإقامتهم تجزئ عمن جاء بعدهم.
وهذا قول الحسن والشعبي والنخعي إلا أن الحسن قال: كان أحب إليهم أن يقيم، وإن أذن أخفى ذلك لئلا يغر الناس(1/413)
(فصل) وإن أذن المؤذن وأقام لم يستحب لسائر الناس أن يؤذن كل إنسان في نفسه ويقيم بعد فراغ المؤذن لكن يقول كما يقول المؤذن لأن السنة إنما وردت بهذا (مسألة) (وهل يجزئ أذان المميز للبالغين؟ على روايتين) وجملة ذلك أن الأذان لا يصح إلا من مسلم عاقل ذكر.
فأما الكافر والمجنون والطفل فلا يصح أذانهم لأنهم ليسوا من أهل العبادات، ولا يعتد بأذان المرأة لأنه لا يشرع لها الأذان أشبهت المجنون ولأن رفع صوتها منهي عنه، وإذا كان كذلك خرج عن كونه قربه فلا يصح كالحكاية، ولا أذان الخنثى المشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا وهذا كله مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً، ويصح أذان العبد لأن إمامته تصح فأذانه أولى، وهل يصح أذان الصبي؟ فيه روايتان (أولاهما) صحة أذانه وهذا قول عطاء والشعبي والشافعي وابن المنذر، وذكر القاضي أن المراهق يصح أذانه رواية واحدة، وقد روى ابن المنذر باسناده عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس قال كان عمومتي يأمرونني أن أؤذن لهم وأنا غلام لم أحتلم وأنس بن مالك شاهد لم ينكر ذلك وهذا(1/414)
مما يظهر ولا يخفى ولم ينكر فكان اجماعا ولأنه ذكر تصح صلاته فصح أذانه كالبالغ (والثانية) لا يصح لأن الأذان شرع للإعلام ولا يحصل الإعلام بقوله لأنه لا يقبل خبره ولا روايته (مسألة) (وهل يصح أذان الفاسق، والأذان الملحن؟ على وجهين) ذكر أصحابنا في صحة أذان الفاسق وجهين (أحدهما) لا يصح لما ذكرنا في الصبي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بالأمانة والفاسق غير أمين (والثاني) يصح لأنه ذكر تصح صلاته فصح أذانه كالعدل.
وهذا قول الشافعي وهذا الخلاف فيمن هو ظاهر الفسق.
فأما مستور الحال فيصح أذانه بغير خلاف علمناه، وفي الأذان الملحن وجهان (أحدهما) لا يصح لما روى ابن عباس قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الأذان سمح سهل فإن كان أذانك سمحاً سهلاً وإلا فلا تؤذن " رواه الدارقطني (والثاني) يصح وهو أصح لأن المقصود يحصل به فهو كغير الملحن والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (فصل) ويكره اللحن في الأذان فإنه ربما غير المعنى فإن من نصب لام رسول أخرجه عن كونه
خبراً، ولا يمد لفظه (أكبر) لأنه يجعل فيها ألفاً فيصير جمع (كبر) وهو الطبل ولا يسقط الهاء من إسم الله وإسم الصلاة، والحاء من الفلاح لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤذن لكم من يدغم الهاء - قلنا وكيف يقول؟ قال - يقول أشهد أن لا إله إلا اللا أشهد أن محمداً رسول اللا " أخرجه(1/415)
الدارقطني في الأفراد.
فأما إن كان ألثغ لثغة فاحشة كره أذانه وإن كانت لا تتفاحش فلا بأس فقد روي أن بلالاً كان يجعل الشين سينا.
والفصيح أحسن وأكمل والله أعلم (مسألة) (ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذا مستحب لا نعلم في استحبابه خلافا لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال المؤذن: الله اكبر الله أكبر، فقال أحدكم الله اكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله قال أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: الله اكبر الله أكبر.
قال الله اكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله الا الله - من قلبه دخل الجنة " رواه مسلم قال الاثرم هذا من الأحاديث الجياد.
وعن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع النداء قال مثل ما يقول المؤذن فإذا بلغ حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله رواه الأثرم، ويستحب لمن سمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول ويقول عند كلمة الإقامة(1/416)
أقامها الله وأدامها لما روى أبو داود بإسناده عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " أقامها الله وأدامها " قال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان (فصل) روى سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قال حين يسمغ النداء وأنا أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا (1) وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً - غفر له ذنبه " رواه مسلم، وعن أم سلمة قالت علمني النبي صلى الله عليه وسلم إن أقول
عند أذان المغرب " اللهم إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعائك فاغفر لي " رواه أبو داود (مسألة) (ثم يقول عند فراغه اللهم رب هذا الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد) لما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وأبعثه مقاماً محموداً الذي وعدته - حلت له شفاعتي " رواه البخاري (فصل) ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لما روى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وأرض عنه رضا لاسخط بعده، استجاب الله له دعوته " رواه الإمام أحمد، وروى أنس قال: قال
__________
1) لفظ مسلم بمحمد رسولا وبالاسلام دينا(1/417)
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، وعن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة " رواه مسلم (فصل) فإن سمع الأذان وهو يقرأ قطع القراءة ليقول مثله لأنه يفوت والقراءة لا تفوت، فإن سمعه وهو يصلي لم يقل كقوله لئلا يشتغل عن الصلاة بما ليس منها، وإن قالها ما عدا الحيعلة لم تبطل الصلاة لأنه ذكر، وإن قال الدعاء فيها بطلت لأنه خطاب لآدمي (فصل) وروى عن أحمد أنه كان إذا أذن فقال كلمة من الأذان قال مثلها سراً فظاهره أنه رأى ذلك مستحبا ليكون ما يظهره أذاناً وما يسره ذكرا لله تعالى فيكون بمنزلة من سمع الأذان وقد رواه القاضي عن أحمد أنه قال استحب للمؤذن أيضاً أن يقول مثل ما يقول في خفية (فصل) قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يقوم حين يسمع المؤذن مبادراً يركع (1)
فقال يستحب أن يكون ركوعه بعد ما يفرغ المؤذن أو يقرب من الفراغ لأنه يقال أن الشيطان ينفر
__________
1) أي يصلي متنفلا(1/418)
حين يسمع الأذان فلا ينبغي أن يبادر للقيام، وإن دخل المسجد فسمع المؤذن إستحب له إنتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول ليجمع بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وإفتتح الصلاة فلا بأس نص عليه أحمد.
(فصل) ولا تستحب الزيادة على مؤذنين كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له بلال وابن أم مكتوم إلا أن تدعو الحاجة فيجوز فإنه قد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه اتخذ أربعة مؤذنين وإذا كانوا أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد كما روي عن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب الحاجة إما أن يؤذن كل واحد في ناحية أو دفعة واحدة في موضع واحد (فصل) ولا يؤذن قبل المؤذن الراتب إلا أن يتأخر أو يخاف فوات وقت التأذين فيؤذن غيره كما روي ان زياد بن الحارث أذن للنبي صلى الله عليه وسلم حين غاب بلالا فأما مع حضوره فلا.
فإن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غيرهم يسبقهم بالأذان (فصل) وإذا أذن في الوقت كره له أن يخرج من المسجد إلا لحاجة ثم يعود لأنه ربما أحتيج إلى الإقامة فلا يوجد وإن أذن قبل الوقت للفجر فلا بأس بذهابه لأنه لا يحتاج إلى حضوره قبل الوقت قال أحمد في الرجل يؤذن في الليل على غير وضوء فيدخل المنزل ويدع المسجد أرجو أن يكون موسعاً عليه ولكن إذا أذن وهو متوضئ في وقت الصلاة فلا أرى له أن يخرج من المسجد حتى يصلي إلا أن يكون لحاجة.(1/419)
(فصل) إذا أذن في بيته وكان قريباً من المسجد فلا بأس وإن كان بعيداً كره له ذلك لأن القريب من المسجد يسمع أذانه عند المسجد فيأتون إلى المسجد والبعيد قد يسمعه من لا يعرف المسجد فيغتر
به ويقصده فيضيع عن المسجد فإنه قد روي عن أحمد في الذي يؤذن في بيته وبينه وبين المسجد طريق يسمع الناس أرجو أن لا يكون به بأس وقال في رواية إبراهيم الحربي فيمن يؤذن في بيته على سطح معاذ الله ما سمعنا أن أحداً يفعل هذا فحمل الأول على القريب والثاني على البعيد وقد روي أن بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة من الإنصار والله أعلم فصول في المساجد (فصل في فضل المساجد وبنائها وغير ذلك) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من بنى مسجداً - قال بكير حسبت أنه قال - يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة " متفق عليه وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة " رواه ابن ماجه وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أحب البلاد إلي الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها " رواه مسلم ويستحب إتخاذ المساجد في الدور وتنظيفها وتطبيبها لما روت عائشة قالت أمر رسول الله صلى الله(1/420)
عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب رواه الإمام أحمد.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد " رواه أبو داود، وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتا في الجنة " (فصل) يستحب تخليق المسجد وأن يسرج فيه لما روي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فغضب حتى أحمر وجهه فجاءته امرأة من الإنصار فحكمتها وجعلت مكانها خلوقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أحسن هذا " رواه النسائي وابن ماجه.
وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ فقال " ائتوه فصلوا فيه " وكانت البلاد إذ ذاك حرباً قال " فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة.
وفي رواية الإمام أحمد " ائتوه فصلوا
فيه فإن صلاة فيه كالف صلاة - قالت أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه قال - فليهد إليه زيتاً يسرج فيه فإن من أهدى له كان كمن صلى فيه "(1/421)
(فصل فيما يباح في المسجد) يباح النوم فيه لما روي عبد الله بن عمر أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه.
وكان أهل الصفة ينامون في المسجد ويباح للمريض أن يكون في المسجد وإن تكون فيه خيمة، قالت عائشة أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب، متفق عليه ويباح دخول البعير المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن متفق عليه.
ولا بأس بالإجتماع في المسجد والأكل فيه والاستلقاء فيه لما روى أبو واقد الليثي قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ اقبل ثلاثة نفر فأقبل إثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة فجلس وأما الآخر فجلس خلفهم فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا أخبركم عن الثلاثة أما أحدهم فآوى إلى الله فأواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فاعرض الله عنه " متفق عليه.
عن عبد الله بن الحارث قال كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخبز واللحم رواه ابن ماجه وعن عباد بن(1/422)
تميم عن عمه عبد الله بن زيد أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى متفق عليه.
ويجوز السؤال في المسجد لما روى عبد الرحمن بن أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً " وذكر الحديث رواه أبو داود ويجوز إنشاد الشعر واللعان في المسجد لما روي عن ابي هريرة أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال؟ قد كنت أنشد فيه وفيه خير منك.
ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ قال نعم متفق عليه، وعن جابر بن سمرة قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم رواه
الإمام أحمد، وفي حديث سهل بن سعد ذكر حديث اللعان قال فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد متفق عليه(1/423)
فصل فيما يكره في المسجد يكره إنشاد الضالة المسجد لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليه إن المساجد لم تبن لهذا " راوه مسلم.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والإبتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد.
رواه الإمام أحمد وابو داود والنسائي والترمذي.
وقال حديث حسن، ويكره تجصيص المساجد وزخرفتها لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم " رواه ابن ماجه، وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أمرت بتشييد المساجد " قال ابن عباس ليزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى رواه أبو داود، وعن واثلة بن الاسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أجنبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم وشراكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع " رواه ابن ماجه من رواية الحارث بن نبهان(1/424)
قال فيه يحيى بن معين لا يكتب حديثه ليس بشئ.
ويكره أن يكتب على حيطان المسجد قرآناً أو غيره لأنه يلهي المصلي ويشغله وهو يشبه الزخرفة وقد نهي عنها، والبصاق في المسجد خطيئة ويستحب تخليقها لما ذكرنا من الحديث، وهل يكره الوضوء في المسجد؟ على روايتين ذكرهما ابن عقيل إلا أن ابن عقيل قال إن قلنا بنجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث حرم ذلك في المسجد والله أعلم (باب شروط الصلاة) (مسألة) قال (وهي ما يجب لها قبلها وهي ست أولها دخول الوقت والثاني الطهارة من الحدث) أما الطهارة من الحدث فقد مضى ذكرها وهي شرط لصحة الصلاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " متفق عليه، وعن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول(1/425)
الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقبل الله صلاة أحدكم بغير طهور ولا صدقة من غلول " رواه مسلم (مسألة) قال (والصلوات المفروضات خمس) أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس في اليوم والليلة مفروضات لا خلاف بين المسلمين في ذلك وإن غيرها لا يجب إلا لعارض من نذر أو نحوه إلا أنهم اختلفوا في وجوب الوتر وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والأصل في ذلك ما روى عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم(1/426)
يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " وروي أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ماذا فرض علي من الصلاة؟ قال " خمس صلوات " قال فهل علي غيرها؟ قال " لا إلا أن تطوع شيئاً " فقال الرجل والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفلح الرجل إن صدق " متفق عليه، وأجمعوا على ان الصلوات الخمس مؤقتات بمواقيت معلومة محدودة وقد ورد ذلك في أحاديث صحاح يأتي أكثرها إن شاء الله تعالى (مسألة) قال (الظهر وهي ألأولى ووقتها من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شئ مثله بعد الذي زالت عليه الشمس) أجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس(1/427)
حكاه ابن المنذر وابن عبد البر.
وتسمى الهجير والأولى والظهر لأن في حديث أبي برزة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس.
متفق عليه، وإنما بدأ بذكرها لأن جبرائيل بدأ بها حين أم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وجابر وبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم حين علم أصحابه مواقيت الصلاة في حديث بريدة وغيره، فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمني جبرائيل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين كان الفئ مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثله(1/428)
ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس، وأفطر الصائم.
ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم.
وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شئ مثله لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثله ثم صلى المغرب لوقته الأول ثم صلى العشاء الاخيرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت جبريل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وروى جابر نحوه ولم يذكر فيه " لوقت العصر بالأمس " قال البخاري: أصح حديث في المواقيت حديث جابر، وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة فقال: " صل معنا هذين اليومين " فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية لم يخالطها صفرة، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر فأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب حين غاب الشفق وصلى العشاء حين ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال " أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل أنا يا رسول الله فقال " وقت صلاتكم بين ما رأيتم " رواه مسلم، ومعنى زوال الشمس ميلها عن وسط السماء وإنما يعرف ذلك بطول الظل بعد تناهي قصره لأن الشمس حين تطلع يكون الظل طويلاً وكلما ارتفعت قصر فإذا مالت عن كبد السماء شرع في الطول فذلك زوال الشمس فمن أراد معرفة ذلك فليقدر ظل شئ ثم يصبر قليلاً ثم يقدره ثانياً فإن نقص لم يتحقق الزوال وإن زاد فقد زالت، وكذلك إن لم ينقص لأن الظل لا يقف فيكون قد نقص ثم زاد، وأما معرفة قدر ما تزول عليه الشمس بالأقدام فيختلف بإختلاف الشهور والبلدان كلما طال النهار قصر الظل وإذا قصر طال(1/429)
الظل.
وقد ذكر أبو العباس الشيحي رحمه الله ذلك تقريباً قال: إن الشمس تزول في نصف حزيران على قدم وثلث وهو أقل ما تزول عليه الشمس، وفي نصف تموز وأيار على قدم ونصف وثلث، وفي نصف آب
ونيسان على ثلاثة أقدام، وفي نصف آذار وايلول على أربعة أقدام ونصف، وفي نصف شباط وتشرين الأول على ستة أقدام، وفي نصف كانون الثاني وتشرين الثاني على تسعة أقدام، وفي نصف كانون الأول على عشرة أقدام وسدس وهو أكثر ما تزول عليه، وفي إقليم الشام والعراق وما سامتهما فإذا أردت معرفة ذلك فقف على مستو من الأرض وعلم الموضع الذي إنتهى إليه ظلك ثم ضع قدمك اليمنى بين يدي قدمك اليسرى والصق عقبك بإبهامك فإذا بلغت مساحته هذا القدر بعد إنتهاء النقض فهو وقت زوال الشمس وتجب به الظهر والله أعلم (فصل) وتجب الصلاة بدخول أول وقتها في حق من هو من أهل الوجوب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة تجب بآخر وقتها إذا بقي منه ما لا يتسع لأكثر منها لأنه في أول الوقت يتخير بين فعلها وتركها فلم تكن واجبة كالنافلة ولنا أنه مأمور بها في أول وقتها بقوله تعالى (أقم الصلاة لدلوك الشمس) والأمر للوجوب على الفور ولأن دخول الوقت سبب للوجود فترتب عليه حكمه عند وجوده ولأنها تشترط لها نية الفرض ولو كانت نفلاً لأجزأت بنية النفل كالنافلة.
وتفارق النافلة من حيث إن النافلة يجوز تركها لا إلى بدل وهذه إنما يجوز تركها مع العزم على فعلها كما تؤخر صلاة المغرب ليلة المزدلفة عن وقتها وكما تؤخر سائر الصلوات عن وقتها لمن هو مشتغل بشرطها (فصل) وآخر وقتها إذا زاد على القدر الذي زالت عليه الشمس قدر طول الشخص، قال الأثرم قيل لأبي عبد الله وأي شئ آخر وقت الظهر؟ قال: أن يصير الظل مثله.
قيل له فمتى يكون الظل مثله؟ قال إذا زالت الشمس فكان الظل بعد الزوال مثله ومعرفة ذلك أن يضبط مازالت عليه الشمس ثم(1/430)
ينظر الزيادة عليه فإن بلغت قدر الشخص فقد إنتهى وقت الظهر وقدر شخص الإنسان ستة أقدام ونصف وسسدس بقدمه تقريباً.
فإذا أردت إعتبار الزيادة بقدمك مسحتها على ما ذكرناه في الزوال ثم أسقطت منه القدر الذي زالت عليه الشمس فإذا بلغ الباقي ستة أقدام وثلثين فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر.
فيكون ظل الإنسان في نصف حزيران على ما ذكرنا في آخر وقت الظهر، وأول وقت
العصر ثمانية أقدام بقدمه وفي بقية الشهور كما بينا وهذا مذهب مالك والثوري والشافعي والاوزاعي ونحوه قول أبي يوسف ومحمد وغيرهم، وقال عطاء لا تفريط للظهر حتى تدخل الشمس صفرة، وقال طاوس وقت الظهر والعصر إلى الليل، وحكي عن مالك وقت الاختيار إلى أن يضير ظل كل شئ مثليه ووقت الأداء الى أن يبقى من غروب الشمس قدر ما يؤدي فيه العصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في الحضر، وقال أبو حنيفة أخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شئ مثليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء؟ قال هل نقصتم من حقكم؟ قالوا لا فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء " أخرجه البخاري وهذا يدل على أن ما بين الظهر والعصر أكثر من العصر إلى المغرب ولنا حديث بريدة وابن عباس وفيه قول جبريل فيه " الوقت ما بين هذين، وحديث مالك محمول على العذر بمطر أو مرض وما احتج به أبو حنيفة فليس فيه حجة لأنه قال إلى صلاة العصر وفعلها يكون بعد دخول الوقت وتكامل الشروط، على أن الآخذ بأحاديثنا أولى لأنه قصد بها بيان الوقت وخبرهم قصد به ضرب المثل فكانت أحاديثنا أولى قال ابن عبد البر خالف أبو حنيفة في هذه الآثار والناس وخالفه أصحابه(1/431)
(مسألة) (وتعجيلها أفضل إلا في شدة الحر والغيم لمن يصلي الجماعة) وجملة ذلك أن تعجيل الظهر في غير الحر والغيم مستحب بغير خلاف علمناه قال الترمذي وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم لما روى أبوبرزة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس وقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة متفق عليهما.
وروى الأموي في المغازي بإسناده عن معاذ بن جبل قال لما بعثني
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال " أظهر كبير الإسلام وصغيره وليكن من الكبرها الصلاة فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين فإذا كان الشتاء فصل الفجر في أول الفجر ثم أطل القراءة على قدر ما تطيق ولا تملهم وتكره إليهم أمر الله ثم عجل الصلاة الأولى بعد أن تميل الشمس.
وصل العصر والمغرب في الشتاء والصيف على ميقات واحد، العصر والشمس بيضاء مرتفعة والمغرب حين تغيب الشمس وتوارى بالحجاب وصل العشاء فأعتم بها فإن الليل طويل فإذا كان في الصيف فأسفر بالصبح فإن الليل قصير وإن الناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوها وصل الظهر بعد أن ينقص الظل وتحرك الريح فإن الناس يقيلون فأمهلهم حتى يدركوها وصل العتمة فلا تعتم بها ولا تصلها حتى يغيب الشفق " وقالت عائشة ما رأيت أحداً أشد تعجيلاً للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر ولا من عمر حديث حسن.
فأما في شدة الحر فيستحب تأخيرها مطلقاً في ظاهر كلام أحمد والخرقي حكاه عنه الأثرم، وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اشتد الحر فابردوا بالظهر فإن شدة؟؟ لحر من فيح جهنم " متفق عليه، وظاهر كلام شيخنا ههنا أنه إنما يستحب تأخيرها لمن يصلي جماعة(1/432)
قال القاضي في المجرد إنما يستحب الإبراد بها بثلاثة شرائط - شدة الحر، وأن يكون في البلدان الحارة ومساجد الجماعات، فأما من صلاها في بيته أو في مسجد بفناء بيته فالأفضل تعجيلها وهذا مذهب الشافعي لأن التأخير إنما استحب لينكسر الحر ويتسع فئ الحيطان فيكثر السعي إلى الجماعات ومن لا يصلي في جماعة لا حاجة به إلى التأخير.
وقال في الجامع لا فرق بين البلدان الحارة وغيرها ولا بين كون المسجد ينتابه أو لا لأن أحمد كان يؤخرها بمسجده ولم يكن بهذه الصفة ويؤخرها حتى يتسع فئ الحيطان فإن في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤذن " أبرد " حتى رأينا فئ التلول.
ولا يؤخرها إلى آخر وقتها بل يصليها في وقت يكون إذا فرغ بينه وبين آخر الوقت فصل.
فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال لأن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس متفق عليه.
ولم ينقل أنه أخرها بل كان يعجلها حتى قال سهل بن سعد ما كنا نقيل
ولا نتغدى إلى بعد الجمعة أخرجه البخاري ولأن التبكير إليها سنة فيتأذى الناس بتأخيرها، ويستحب تأخيرها في الغيم أيضاً لمن يصلي جماعة ذكره القاضي فقال يستحب تأخير الظهر والمغرب في الغيم وتعجيل العصر والعشاء قال ونص عليه أحمد في رواية المروذي وجماعة.
وعلل القاضي ذلك بأنه وقت يخاف منه العوارض من المطر والريح والبرد فيشق الخروج لكل صلاة فيؤخر الأولى من صلاتي الجمع ويعجل الثانية ويخرج إليهما خروجاً واحداً فيحصل له الرفق بذلك كما يحصل بالجمع وبه قال أبو حنيفة والاوزاعي وروي عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في الظهر والعصر، وعن ابن مسعود يعجل الظهر والعصر ويؤخر المغرب.
وقال الحسن يؤخر الظهر وظاهر كلام الخرقي أنه يسن تعجيل الظهر في غير الحر اذا غلب على ظنه دخول الوقت وهو مذهب الشافعي لما ذكرناه من الاحاديث وما(1/433)
روي عن أحمد فيحمل على أنه أراد بالتأخير ليتيقن دخول الوقت ولا يصلي مع الشك فقد نقل أبو طالب عنه ما يدل على هذا أنه قال يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت ويعجل العصر، والمغرب يؤخرها حتى يعلم أنه سواد الليل ويعجل العشاء (مسألة) قال (ثم العصر وهي الوسطى ووقتها من خروج وقت الظهر إلى إصفرار الشمس وعنه إلى أن يصير ظل كل شئ مثليه ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس) الصلاة الوسطى صلاة العصر في قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم منهم علي وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو أيوب وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وهو قول عبيدة السلماني والحسن والضحاك وأبو حنيفة وأصحابه وابن المنذر.
وروي عن ابن عمر وزيد وعائشة وعبد الله بن شداد أنها صلاة الظهر لما روي عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) رواه أبو داود، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) رواه أبو داود والترمذي وقال صحيح، وقال طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد والشافعي هي الصبح وروي أيضاً عن ابن عمر وابن عباس لقوله تعالى (والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) والقنوت طول
القيام وهو مختص بالصبح ولأنها من أثقل الصلاة على المنافقين فلذلك إختصت بالوصية بالمحافظة عليها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا " متفق عليه، وقال قوم هي المغرب لأن الأولى الظهر فتكون المغرب الوسطى لأنها الثالثة من الخمس ولأنها الوسطى في عدد الركعات وخصت من بين الصلوات بأنها وتر والله وتر يحب الوتر ولأنها تصلي في أول وقتها في جميع الامصار والأعصار(1/434)
ويكره تأخيرها عنه ولذلك صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم " وهذا كله يدل على تأكدها وفضيلتها، وقيل هي العشاء لما ذكرنا في الصبح ولما روى ابن عمر قال مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فقال إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن أشق على أمتي لصليت بهم هذه الساعة " متفق عليه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر " متفق عليه، وعن ابن مسعود وسمرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الوسطى صلاة العصر " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وهذا نص لا يجوز خلافه وما روته عائشة فيجوز أن تكون الواو فيه زائدة كقوله (وليكون من المؤمنين) وقوله (وخاتم النبيين) وقوله (وقوموا لله قانتين) فقد قيل قانتين أي مطيعين وقيل القنوت السكوت، ولذلك قال زيد بن أرقم كنا نتكلم حتى نزل قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (فصل) وأول وقت العصر من خروج وقت الظهر وهو إذا صار ظل كل شئ مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس فبخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر ليس بينهما فصل وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة أول وقتها إذا زاد على المثلين لما تقدم من الحديث الذي ذكرناه لابي حنيفة في بيان آخر وقت الظهر ولقول الله تعالى (أقم الصلاة طرفي النهار) وعلى قولكم تكون وسط النهار، وحكي عن ربيعة أن وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس، وقال إسحاق آخر وقت الظهر أول وقت(1/435)
العصر يشتركان في قدر الصلاة فلو أن رجلين صليا معاً أحدهما يصلي الظهر والآخر يصلي العصر حين صار ظل كل شئ مثله لكانا مصليين الصلاتين في وقتهما، وحكي عن ابن المبارك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وصلى في المرة الثانية الظهر لوقت العصر بالأمس ولنا ما تقدم من حديث جبريل فأما قوله تعالى (أقم الصلاة طرفي النهار) فإن الطرف ما تراخى عن الوسط فلا ينفي ما قلنا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لوقت العصر بالأمس " أراد مقاربه الوقت يعني أن ابتداء صلاة العصر متصل بآخر صلاة الظهر في اليوم الثاني وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر " ووقت الظهر ما لم تحضر العصر " رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن للصلاة أولاً وآخراً وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر " رواه الترمذي، وآخر وقتها اخلفت الرواية فيه فروي عن أحمد أن آخر وقت الإختيار إذا صار ظل كل شئ مثليه وهو قول مالك والثوري والشافعي لقوله في حديث ابن عباس " الوقت ما بين هذين " وروي عنه أن آخره ما لم تصفر الشمس وهي أصح حكاها عنه جماعة منهم الأثرم وهذا قول أبي يوسف ومحمد، ونحوه عن الأوزاعي لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " وقت العصر ما لم تصفر الشمس " رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس " قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم إستحباب ولعلهما متقاربان بوجد أحدهما قريباً من الآخر (فصل) والأوقات ثلاثة أضرب: وقت فضيلة ووقت إختيار ووقت ضرورة، وقد ذكرنا وقت الفضيلة، ومعنى وقت الإختيار هو الذي يجوز تأخير الصلاة إلى أخره من غير عذر ووقت الضرورة إنما يباح تأخير الصلاة إليه مع العذر، فإن أخرها لغير عذر أثم، ومتى فعلها فيه فهو مدرك لها أداء(1/436)
في وقتها سواء كان لعذر أو غيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " متفق عليه ولا نعلم فيه خلافا وكذلك حكم سائر الصلوات إذا أدرك من
وقتها ركعة، وإن أدرك أقل من ذلك فسيأتي بيانه إن شاء الله، ومتى أخر العصر عن وقت الإختيار على ما فيه من الخلاف أثم إذا كان لغير عذر لما تقدم من الأخبار ولما روى أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق: يجلس أحدهم حتى إذا أصفرت الشمس فكانت بين قرني شيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً " رواه مسلم ولو أبيح تأخيرها لما ذمه عليها وجعله علامة النفاق (مسألة) (وتعجيلها أفضل بكل حال) وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وعائشة وأنس وابن المبارك وأهل المدينة والاوزاعي والشافعي وإسحاق.
وروي عن أبي هريرة وابن مسعود أنهما كانا يؤخران العصر.
وروي عن أبي قلابة وابن شبرمة إنهما قالا إنما سميت العصر لتعصر.
وقال أصحاب الرأي الأفضل فعلها في آخر وقتها المختار لما روى رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير العصر.
وعن علي بن شيبان قال قدمنا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر العصر ما دامت بيضاء نقية ولأنها آخر صلاتي جمع فاستحب تأخيرها كالعشاء ولناما روى أبو برزة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية.
متفق عليه.
وقال رافع بن خديج كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ثم ننحر الجزور فيقسم عشرة أجزاء ثم نطبخ فنأكل لحماً نضيجاً قبل غروب الشمس متفق عليه.
وعن أبي أمامة بن سهل قال صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر فقلنا يا أبا حمزة ما هذه الصلاة التي صليت؟(1/437)
قال العصر وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصليها معه.
متفق عليه وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله " وحديث رافع لا يصح قاله الترمذي وقال الدارقطني يرويه عن عبد الواحد بن نافع وليس بالقوي ولا يصح عن رافع ولا عن غيره من الصحابة، والصحيح عنهم تعجيل صلاة العصر والتبكير بها قال إبن المنذر الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن أفضل الأمرين تعجيل العصر في أول وقتها
(مسألة) (ثم المغرب وهي الوتر ووقتها من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر) لا خلاف بين أهل العلم في دخول وقت المغرب بغروب الشمس والأحاديث تدل عليه.
وآخره إذا غاب الشفق وهو قول الثوري وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي، وقال مالك والاوزاعي والشافعي في أحد قوليه ليس لها إلا وقت واحد لأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد في بيان مواقيت الصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم " وعن طاوس لا تفوت المغرب والعشاء حتى الفجر وعن عطاء لا تفوت المغرب والعشاء حتى النهار ولنا حديث بريدة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق وروى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر المغرب في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق رواهما مسلم وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وقت المغرب ما لم يغب الشفق " رواه مسلم وهذه نصوص صحيحة لا يجوز مخالفتها بشئ محتمل ولأن ما قبل مغيب الشفق وقت لاستدامتها فكان وقتا لا بتدائها كأول وقتها وأحاديثهم محمولة على الاستحباب والإختيار وتأكيد فعلها في أول وقتها جمعاً بينها وبين أحاديثنا ولو تعارضت وجب حمل أحاديثهم على أنها منسوخة لأنها في أول فرض الصلاة بمكة وأحاديثنا بعدها بالمدينة فتكون ناسخة لما قبلها مما يخالفها والله أعلم(1/438)
(فصل) والشفق الحمرة هذا قول ابن عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والزهري ومالك والثوري والشافعي واسحاق ويعقوب ومحمد، وعن أنس وأبي هريرة ما يدل على أن الشفق البياض.
وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والاوزاعي وأبي حنيفة وهو اختيار ابن المنذر، وروي عن ابن عباس أيضاً لأن بخروج وقتها يدخل وقت عشاء الآخرة وأول وقت العشاء إذا غاب البياض لأن النعمان بن بشير قال أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة.
رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروي عن أبي مسعود قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها حين يسود الأفق
ولنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق " رواه أبو داود.
وروي ثور الشفق - وفور الشفق فورانه وسطوعه وثوره ثوران حمرته، وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت العشاء " رواه الدارقطني، وما رووه ليس فيه بيان أنه أول الوقت فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الصلاة عن أول الوقت قليلاً ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لبلال " إجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والمتوضئ من وضوئه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " (مسألة) (وتعجيلها أفضل إلا ليلة جمع لمن قصدها) لا نعلم خلافاً في إستحباب تعجيل المغرب في غير حال العذر إلا ما ذكرنا من إختلافهم في الغيم وهو قول أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم قاله الترمذي.
وذلك لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت.
وعن رافع بن خديج قال: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله متفق عليهما، وعن سلمة بن الاكوع قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها رواه أبو داود واللفظ له ورواه الترمذي وقال حسن صحيح، وفعل جبريل عليه السلام لها في اليومين في وقت واحد دليل على تأكد إستحبابها ولأن فيه خروجاً من الخلاف فكان أولى.
فأما ليلة جمع وهي ليلة المزدلفة فيستحب(1/439)
تأخيرها ليصليها مع العشاء الآخرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك والإجماع منعقد على ذلك والله أعلم.
(مسألة) (ثم العشاء ووقتها مغيب الشفق الأحمر إلى ثلث الليل الأول وعنه إلى نصفه) لا خلاف بين الناس في دخول وقت العشاء الآخرة بغيبوبة الشفق وإنما اختلفوا في الشفق وقد ذكرناه فمتى غاب الشفق الأحمر دخل وقت العشاء إن كان في مكان يظهر له الأفق.
وإن كان في مكان يستتر عنه الأفق بالجبال أو نحوها إستظهر حتى يغيب البياض فيستدل به على غيبوبة الحمرة لا لنفسه (فصل) واختلفت الرواية في آخر وقت الإختيار فروي عنه أنه ثلث الليل نص عليه في رواية
الجماعة اختارها الخرقي وهو قول عمر وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز والشافعي في أحد قوليه لأن في حديث جبريل إنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية ثلث الليل وقال " الوقت ما بين هذين " وفي حديث بريدة أنه صلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل رواه مسلم، وقال النخعي آخر وقتها إلى ربع الليل، وروي عن ابن عباس أنه قال آخر وقتها إلى طلوع الفجر، وروى عن أحمد أن آخر وقتها إلى نصف الليل وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي لما روى أنس قال أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: " صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما إنتظرتموها " متفق عليه، وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ووقت العشاء إلى نصف الليل " رواه مسلم وأبو داود.
والأولى ان لا تؤخر عن ثلث لليل لأن ثلث الليل يجمع الروايات.
والزيادات تعارضت فيها الأخبار وإن أخرها جاز لما ذكرنا (مسألة) (ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني وهو البياض(1/440)
المعترض في المشرق ولا ظلمة بعده وتأخيرها أفضل ما لم يشق.
متى ذهب نصف الليل أو ثلثه على الخلاف فيه خرج وقت الإختيار وما بعده وقت ضرورة إلى طلوع الفجر الثاني والحكم فيه حكم الضرورة في وقت العصر على ما بينا، وتأخيرها أفضل إلى آخر وقتها إذا لم يشق وهو إختيار أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين كذلك قال الترمذي، وحكي عن الشافعي أن الأفضل تقديمها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الوقت الأول رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله " رواه الترمذي عن القاسم بن غنام عن أمهاته عن أم فروة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله رجل عن أفضل الأعمال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة لأول وقتها " رواه أبو داود ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤخرها وإنما أخرها ليلة واحدة ولنا قول أبي برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه " رواه الترمذي وقال حديث صحيح، وعن جابر بن سمرة قال كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يؤخر عشاء الآخرة رواه مسلم وأحاديثهم ضعيفة، أما خبر " أول الوقت رضوان الله " فيرويه عبيد الله العمري وهو ضعيف وحديث أم فروة رواته مجاهيل، وقال فيه الترمذي أيضاً لا يروى إلا من حديث العمري وليس بالقوي في الحديث.
قال أحمد لا أعرف ثبت في أوقات الصلاة أولها كذا وأوسطها كذا وآخرها كذا ولو ثبت كان الأخذ بأحاديثنا أولى لأنها خاصة وأخبارهم عامة وإنما يستحب تأخيرها للمنفرد ولجماعة راضين بالتأخير.
فأما مع المشقة بالمأمومين أو بعضهم فلا يستحب نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال قلت لأبي عبد الله كم قدر تأخير العشاء؟ قال يؤخرها بعد أن لا يشق على المأمومين وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بتأخيرها كراهية المشقة، وروي عنه " من شق على أمتي شق الله عليه " وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء(1/441)
أحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤا أخر.
وهذا يدل على مراعاة حال المأمومين وقد روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها لسقوط القمر لثالثة.
وعن أبي مسعود قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هذه الصلاة حين يسود الأفق فيستحب الأقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في إحدى هاتين الحالتين ولا يشق على المأمومين فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالتخفيف رفقاً بالمأمومين والله أعلم.
(فصل) ولا يستحب تسمية هذه الصلاة العتمة وكان ابن عمر إذا سمع رجلاً يقول العتمة صاح وغضب وقال إنما هي العشاء، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلبنكم الاعراب على إسم صلاتكم إلا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل " رواه مسلم وإن سماها جاز لقول معاذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة رواه أبو داود، وفي المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا " (مسألة) (ثم الفجر ووقتها من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس) وجملة ذلك أن وقت الفجر يدخل بطلوع الفجر الثاني إجماعاً وقد دلت عليه الأخبار التي ذكرناها وهو البياض المعترض في المشرق المستطير في الأفق.
ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح.
والصبح ما جمع بياضاً
وحمرة ولا ظلمة بعده، فأما الفجر الأول فهو البياض المستدق المستطيل صعداً من غير إعتراض فلا يتعلق به حكم، وآخر وقتها طلوع الشمس لما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وقت الفجر ما لم تطلع الشمس " رواه مسلم (مسألة) (وتعجيلها أفضل وعنه أن أسفر المأمومون فالأفضل الأسفار) التغليس بالفجر أفضل يروى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي موسى وأبي الزبير وعمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك(1/442)
وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، قال ابن عبد البر صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون ومحال أن يتركوا الأفضل وهم النهاية في إتيان الفضائل.
وروى عن أحمد ان الاعتبار بحال المأمومين فإن أسفروا فالأفضل الأسفار لأن جابراً روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في العشاء فينبغي أن يكون كذلك في الفجر، وقال الثوري وأصحاب الرأي الأفضل الأسفار لما روى رافع بن خديج قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " رواه الترمذي وقال حسن صحيح ولنا ما روى جابر قال: والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس متفق عليه، وفي حديث أبي برزة وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه يصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس متفق عليهما، وعن أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الأسفار حتى قبضه الله.
رواه أبو داود، فأما الأسفار في حديثهم فالمراد به أن يتبين ضوء الصبح ويكثر من قولهم أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته (فصل) ولا يأثم بتعجيل الصلاة المستحب تأخيرها ولا بتأخير ما يستحب تعجيله إذا أخره عازماً على فعله ما لم يضق الوقت عن فعل جميع العبادة لأن جبرائيل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في آخر الوقت وأوله، وصلاها النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أيضاً وقال " الوقت ما بين هذين " ولأن الوجوب موسع فهو كالتكفير موسع في الاعيان، فان أخرها غير عازم على الفعل أو أخرها بحيث
يضيق الوقت عن فعل جيمعها فيه أثم لأن الركعة الأخيرة من الصلاة فلم يجز تأخيرها عن الوقت(1/443)
كالأولى ومتى أخر الصلاة عن أول وقتها عازماً على الفعل فمات قبل فعلها لم يمت عاصياً لأنه فعل ما يجوز له وليس الموت من فعله فلم يأثم به والله أعلم (مسألة) (ومن أدرك تكبيرة الإحرام من صلاة في وقتها فقد أدركها) وجملة ذلك أن من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها فقد أدرك الصلاة سواء أخرها لعذر كحائض تطهر أو مجنون يفيق أو لغير عذر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق عليه، وفي رواية " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " وجميع الصلوات في ذلك سواء.
وقال أصحاب الرأي فيمن طلعت الشمس وقد صلى ركعة تفسد صلاته لأنه قد صار في وقت نهي عن الصلاة فيه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " وفي رواية " من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " متفق عليه.
ولأنه أدرك ركعة من الصلاة في وقتها فكان مدركاً لها كبقية الصلوات وإنما نهى عن النافلة، فأما الفرائض فتصلى في كل وقت بدليل ما قبل طلوع الشمس فإنه وقت نهي ولا يمنع من فعل الفرض فيه والله أعلم (فصل) وهل يدرك الصلاة بإدراك ما دون الركعة فيه روايتان (إحداهما) لا يدركها وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك لظاهر الخبر الذي رويناه فإن تخصيصه بركعة يدل على أن الإدراك لا يحصل(1/444)
بدونها ولانه إدراك للصلاة فلا يحصل بأقل من ركعة كإدراك الجمعة (والثانية) يدركها بادراك جزء منها أي جزء كان قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد واختيار أبي الخطاب فيمن أدرك تكبيرة الإحرام وهذا قول أبي حنيفة، وللشافعي قولان كالمذهبين لأن أبا هريرة روي أن النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته " متفق عليه " وإذا أدرك سجدة من
صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " متفق عليه وللنسائي " فقد أدركها " ولأن الإدراك إذا تعلق به حكم في الصلاة إستوى فيه الركعة وما دونها كإدراك الجماعة وإدراك المسافر صلاة المقيم، والقياس يبطل بإدراك الركعة دون تشهدها والله أعلم (مسألة) (ومن شك في الوقت لم يصل حتى يغلب على ظنه دخوله) متى شك في دخول وقت الصلاة لم يصل حتى يتيقن دخوله أو يغلب على ظنه ذلك مثل من له صنعة جرت عادته بعمل شئ مقدر إلى وقت الصلاة، أو قارئ جرت عادته بقراءة شئ فقرأه وأشباه هذا فمتى فعل ذلك وغلب على ظنه دخول الوقت أبيح له الصلاة، والأولى تأخيرها قليلا إحتياطاً إلا أن يخشى خروج الوقت أو تكون صلاة العصر في وقت الغيم فإنها يستحب التبكير بها.
لما روى بريدة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال " بكروا بصلاة العصر في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله " رواه البخاري.
قال شيخنا ومعناه والله أعلم التبكير بها إذا حل فعلها بيقين أو غلبة ظن وذلك لأن فعلها في وقتها المختار في زمن الشتاء ضيق فيخشى خروجه (مسألة) (فإن أخبره بذلك مخبر عن يقين قبل قوله وإن كان عن ظن لم يقبله) متى أخبره بدخول الوقت ثقة عن علم لزمه قبول خبره لأنه خبر ديني فقبل فيه قول الواحد كالرواية، فأما إن(1/445)
أخبره عن ظن لم يقلده واجتهد لنفسه لأنه يقدر على الصلاة بإجتهاد نفسه فلم يجز له تقليد غيره كحالة إشتباه القبلة.
والبصير والأعمى والمطمور القادر على التوصل إلى الاستدلال سواء لإستوائهم في إمكان التقدير بمرور الزمان كما بينا (فصل) وإذا سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت فله تقليده لأن الظاهر أنه لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت فجرى مجرى خبره.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " المؤذن مؤتمن " ولولا أنه يقلد ويرجع إليه ما كان مؤتمناً وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين صلاتهم وصيامهم " رواه ابن ماجه.
ولأن الأذان شرع للإعلام بالوقت فلو لم يجز تقليد المؤذن لم تحصل الحكمة التي شرع الأذان لها ولم يزل الناس يجتمعون للصلاة في مساجدهم فإذا سمعوا الأذان قاموا إلى الصلاة وبنوا على قول
المؤذن من غير مشاهدة للوقت، ولا إجتهاد فيه من غير نكير فكان إجماعاً (فصل) ومن صلى قبل الوقت لم تجزه صلاته في قول أكثر أهل العلم سواء فعل ذلك خطأ أو عمداً كل الصلاة أو بعضها وبه قال الزهري والاوزاعي وأصحاب الرأي والشافعي.
وروي عن ابن عمر وأبي موسى أنهما أعادا الفجر لأنهما صليا قبل الوقت.
وروي عن ابن عباس في مسافر صلى الظهر قبل الزوال يجزئه ونحوه قول الحسن والشعبي وعن مالك كقولنا.
وعنه فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق جاهلاً أو ناسياً يعيد ما كان في الوقت فإذا ذهب الوقت قبل علمه أو ذكره فلا شئ عليه ولنا أن الخطاب بالصلاة يتوجه إلى المكلف عند دخول وقتها وما وجد بعد ذلك ما يزيله ويبرئ الذمة منه فيبقى بحاله (مسألة) (ومتى اجتهد وصلى فبان أنه وافق الوقت أو ما بعده أجزأه) لأنه أدى ما خوطب بأدائه وفرض عليه (وإن وافق قبله لم يجزه) لأن المخاطبة بالصلاة وسبب الوجوب وجدا بعد فعله فلم يسقط حكمه بما وجد قبله (فصل) وإن صلى من غير دليل مع الشك لم تجزه صلاته سواء أصاب أو أخطأ لأنه صلى مع الشك في شرط الصلاة من غير دليل فلا تصح كمن إشتبهت عليه القبلة فصلى من غير إجتهاد(1/446)
(مسألة) (ومن أدرك من الوقت قدر تكبيرة ثم جن أو حاضت المراة لزمهم القضاء) لأن الصلاة تحب بأول الوقت وقد ذكرناه ويستقر وجوبها بذلك فمتى أدرك جزءاً من أول الوقت ثم جن أو حاضت المراة لزمهم القضاء كما ذكر إذا أمكنهما.
وقال الشافعي وإسحاق لا يستقر إلا بمضي زمن يمكن فعلها فيه فلا يجب القضاء بما دونه، وإختاره أبو عبد الله بن بطة لأنه لم يدرك من الوقت ما يمكنه الصلاة فيه أشبه مالو لم يدرك شيئاً ولنا أنها صلاة وجبت عليه فوجب قضاؤها إذا فاتته كالتي أمكن أداؤها، فأما التي لم يدرك شيئاً من وقتها فإنها لم تجب وقياس الواجب على ما لم يجب لا يصح والله أعلم (مسألة) وإن بلغ صبي أو أسلم كافر أو أفاق مجنون أو طهرت حائض قبل طلوع الشمس بقدر
تكبيرة لزمهم الصبح، وإن كان قبل غروب الشمس لزمهم الظهر والعصر، وإن كان قبل طلوع الفجر لزمهم المغرب والعشاء) وجملة ذلك أنه متى أدرك أحد هؤلاء جزءاً من آخر وقت الصلاة لزمه قضاؤها لأنها وجبت عليه فلزمه القضاء كما لو أدرك وقتاً يتسع لها، وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً.
قال شيخنا: وأقل ذلك تكبيرة الأحرام لأنها أقل ما يتلبس بالصلاة بها وقد أطلق أصحابنا القول فيه وقال القاضي إن أدرك ركعة كان مدركاً لها وإن أدرك أقل من ركعة كان مدركاً لها في ظاهر كلامه فإن أدرك جزءاً من آخر وقت العصر قبل غروب الشمس أو جزءاً من آخر الليل قبل طلوع الفجر لزمته الظهر والعصر في الأولى والمغرب والعشاء في الآخرة.
روي هذا في الحائض عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والزهري ومالك والشافعي وإسحاق، قال الامام أحمد عامة التابعين إلا الحسن وحده قال: لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأن وقت الأولى خرج في حال العذر أشبه مالو لم يدرك شيئاً من وقت الثانية(1/447)
وحكي عن مالك أنه إن أدرك قدر خمس ركعات من وقت الثانية وجبت الأولى لأن قدر الركعة الأولى من الخمس وقت للصلاة الأولى في حال العذر فوجبت بإدراكه كما لو أدرك ذلك من وقتها المختار بخلاف مالو أدرك دون ذلك ولنا ما روى الاثرم وابن المنذر وغيرهما بالإسناد عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: تصلي المغرب والعشاء فإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر جميعاً.
ولأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية والقدر الذي يتعلق به الوجوب قدر تكبيرة الإحرام في ظاهر كلام أحمد، وقال الشافعي قدر ركعة لأنه الذي روي عن عبد الرحمن وابن عباس في الحائض ولأنه إدراك تعلق به إدراك الصلاة فلم يحصل بأقل من ركعة كإدراك الجمعة وقد ذكرنا قول مالك ولنا أن ما دون الركعة تجب به الثانية فوجبت به الأولى كالركعة والخمس عند مالك ولأنه إدراك فاستوى فيه القليل والكثير كإدراك المسافر صلاة المقيم.
فأما الجمعة فإنما اعتبرت الركعة فيها بكمالها
لأن الجماعة شرط لصحتها فاعتبر إدراك ركعة لئلا يفوته الشرط في معظمها بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن أدرك من وقت الأولى من صلاتي الجمع قدراً تجب به ثم طرأ عليه العذر ثم زال العذر بعد خروج وقتهما وجبت الأولى، وهل يجب قضاء الثانية على روايتين (إحداهما) يجب ويلزم قضاؤها لأنها إحدى صلاتي الجمع فوجبت بإدراك جزء من وقت الأخرى كالأولى (والثانية) لا يجب اختارها ابن حامد لأنه لم يدرك جزءاً من وقتها ولا من وقت تبعها فلم يجب كما لو لم يدرك من وقت الأولى شيئاً وفارق مدرك وقت الثانية، فإنه أدرك وقت تبع الأولى لأن الأولى تفعل في وقت الثانية(1/448)
متبوعة مقصودة ولأن من لا يجوز الجمع في وقت الأولى ليس وقت الأولى عنده وقتاً للثانية بحال ومن جوز الجمع في وقت الأولى فإنه يجوز تقديم الثانية رخصة ويحتاج إلى نية التقديم، وترك التفريق بخلاف الأولى إذا أخرها إلى الثانية فلا يصح قياس الثانية على الأولى.
والأصل ان لا تجب صلاة إلا بإدراك وقتها، فإما أن أدرك وقت الفجر لم تجب عليه العشاء ولا تجب العصر بإدراك وقت المغرب لأنه لم يدرك وقتها ولا تجمع معها في حال ولا نعلم في ذلك خلافاً (مسألة) (ومن فاتته صلاة لزمه قضاؤها على الفور مرتباً قلت أو كثرت) وجملة ذلك أن من فاتته صلاة لزمه قضاؤها على الفور لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " متفق عليه، وإن فاتته صلوات لزمه قضاؤهن مرتبات نص عليه أحمد في مواضع.
وروي عن ابن عمر ما يدل على وجوب الترتيب ونحوه عن الزهري والنخعي ومالك وأبي حنيفة واسحاق، وقال الشافعي لا يجب لأنه قضاء لفريضة فاتته فلا يجب فيه الترتيب كالقيام ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات فقضاهن مرتبات، رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وعن أبي جمعة حبيب بن سباع وله صحبة قال أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب فلما فرغ قال " هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ " قالوا لا يا رسول الله ما صليتها فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب، رواه الإمام أحمد، ولأنهما صلاتان مؤقتتان فوجب الترتيب بينهما كالمجموعتين، إذا ثبت هذا فإنه يجب الترتيب فيها وإن
كثرت، وقال مالك وابو حنيفة لا يجب الترتيب في أكثر من صلاة يوم وليلة لأن إعتباره فيما زاد يشق ويفضي إلى الدخول في التكرار فسقط كالترتيب في قضاء رمضان(1/449)
ولنا أنها صلوات واجبات تفعل في وقت يتسع لها فوجب فيها التريب كالخمس وافضاؤه إلى التكرار لا يمنع وجوبه كترتيب الركوع على السجود (فصل) وهذا الترتيب شرط لصحة الصلاة فلو أخل به لم تصح صلاته لما ذكرنا من الحديثين والمعنى ولأنه ترتيب في الصلاة فكان شرطاً كالركوع والسجود (فصل) فإن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى والوقت متسع أتمها وقضى الفائتة ثم أعاد الصلاة التي كان فيها إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً وهذا ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر، وهو قول ابن عمر ومالك والليث واسحاق في المأموم وهو الذي نقله الجماعة عن أحمد في المأموم.
ونقل عنه في الإمام أنه يقطع الصلاة ونقل عنه في المنفرد روايتان (إحداهما) يقطع الصلاة ويقضي الفائتة وهو قول النخعي والزهري ويحى الأنصاري (والثانية) أنه يتم الصلاة.
وإن كان إماماً فقال القاضي يقطع الصلاة إذا كان الوقت واسعاً ويستأنف المأمومون، نقلها عنه حرب ولم يذكر القاضي غير هذه الرواية فصار في الجميع روايتان (إحداهما) يقطعها ويقضي الفائتة ويعيد التي كان فيها.
والدليل على وجوب الإعادة ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من نسي الصلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام " رواه أبو يعلى الموصلي بإسناد حسن.
ولحديث أبي جمعة الذي ذكرناه.
قال شيخنا والأولى أنه لا يقطع الصلاة لقول الله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) ولحديث ابن عمر قال أبو بكر لا يختلف كلام(1/450)
أحمد في المأموم أنه يمضي واختلف قوله في المنفرد والذي أقول أنه يمضي (فصل) فإن مضى الإمام في صلاته بعد ذكره فهل تصح صلاة المأمومين؟ ينبني على ائتمام المفترض بالمتنفل، وإن انصرف المنصوص أنهم يستأنفون الصلاة.
قال شيخنا ويتخرج أن يبنوا كما لو سبقه الحدث
وكل موضع قلنا يمضي في صلاته فإنه مستحب غير واجب لأنها صلاة لا يعتد بها فلم يلزمه إمامها كالتطوع.
(مسألة) (فإن خشي فوات الحاضرة أو نسي الترتيب سقط وجوبه) متى خشي فوات الحاضرة سقط وجوب الترتيب مثل أن يشرع في صلاة حاضرة فيذكر فائتة والوقت ضيق أو لم يكن في صلاة لكن لم يبق من وقت الحاضرة ما يتسع لهما جميعاً فإنه يقدم الحاضرة ويسقط الترتيب في الصحيح من المذهب وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن والثوري واسحاق وأصحاب الرأي، وعن أحمد أن الترتيب واجب بكل حال، إختارها الخلال، وهي مذهب عطاء والزهري والليث ومالك، ولا فرق بين كون الحاضرة جمعة أو غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " ولأنه ترتيب فلم يسقط بضيق الوقت كترتيب الركوع والسجود ولأنه قد روى " لا صلاة لمن عليه صلاة " والرواية الأولى هي المشهورة.
قال القاضي: عندي أن المسألة رواية واحدة إن الترتيب يسقط.
قال ابو حفص عن الرواية الثانية: هذه الرواية تخالف ما نقله الجماعة فإما أن تكون غلطاً أو قولاً قديماً لأبي عبد الله ووجهها أن الحاضرة صلاة ضاق وقتها عن أكد منها فلم يجز تأخيرها كما لو لم يكن عليه فائتة ولأن الصلاة ركن من أركان الإسلام فلم يجز تقديم فائتة على حاضرة عند خوف فوتها كالصيام، يحققه أنه لو أخر الحاضر صار فائتاً وربما كثرت الفوائت فيفضي إلى أن(1/451)
لا يصلى صلاة في وقتها ولا تلزمه عقوبة بتركها ولا يصلي جماعة أصلاً وهذا لا يرد الشرع به.
وتعلقهم بالأمر بالقضاء معارض بالأمر بفعل الحاضرة والحاضرة آكد بدليل أنه يقتل بتركها ويحرم عليه تأخيرها بخلاف الفائتة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر أخرها شيئاً وأمرهم فاقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي.
والحديث الذي ذكروه قال أحمد: ليس هذا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذه الرواية يبدأ فيقضي الفوائت على الترتيب حتى إذا خاف فوات الحاضرة صلاها ثم عاد إلى الفوائت نص عليه أحمد: فإن حضرت جماعة في صلاة الحاضرة فقال أحمد: في رواية أبي داود فيمن عليه صلاة فائتة فأدركته الظهر ولم يفرغ من الصلاة يصلي مع الإمام الظهر ويحسبهما من الفوائت ويصلي الظهر في آخر الوقت.
وفيه رواية ثالثة إذا كثرت الفوائت بحيث لا
يتسع لها وقت الحاضرة أن يصلي الحاضرة في أول وقتها نقلها عنه ابن منصور وهذا اختيار أبي حفص لأن الوقت لا يتسع لقضاء ما في الذمة وفعل الحاضرة فسقط الترتيب كما لو فاتته صلاة وقد بقي من وقت الأخرى قدر خمس ركعات ولأنه إذا لم يكن بد من الإخلال بالترتيب ففعلها في أول الوقت ليحصل فضيلة الوقت والجماعة أولى ولأن فيه مشقة فإنه يتعذر معرفة آخر الوقت في حق أكثر الناس وذكر ابن عقيل فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين (إحداهما) يسقط الترتيب لأنه إجتمع واجبان لابد من(1/452)
تفويت أحدهما فكان مخيراً فيهما (والثانية) لا يسقط لما ذكرنا.
قال شيخنا وهذه الرواية أحسن وأصح إن شاء الله تعالى والله أعلم (فصل) إذا ترك ظهراً وعصراً من يومين لا يدري أيتهما الأولى ففيه روايتان (إحداهما) انه يتحرى أيتهما نسي أو لا فيقضيها ثم يقضي الأخرى نقلها عنه الأثرم وهذا قول أبي يوسف ومحمد لأن الترتيب مما تبيح الضرورة تركه فيما إذا ضاق وقت الحاضرة أو نسي الترتيب فيدخله التحري كالقبلة (والثانية) أنه يصلي الظهر ثم العصر من غير تحر نقلها مهنا لأن التحري فيما فيه أمارة وهذا لا أمارة فيه يرجع إليها فرجع إلى ترتيب الشرع.
قال شيخنا والقياس أنه يلزمه ثلاث صلوات - ظهر ثم عصر ثم ظهر أو بالعكس لأنه أمكنه إداء فرضه بيقين أشبه ما إذا نسي صلاة لا يعلم عينها، وقد نقل أبو داود عن أحمد ما يدل على هذا، وهذا مذهب أبي حنيفة (فصل) ولا يعذر في ترك الترتيب بالجهل بوجوبه، وقال زفر يعذر كالناسي.
ولنا أنه ترتيب واجب في الصلاة فلم يسقط بالجهل كالمجموعتين، ولأن الجهل بأحكام الشرع مع التمكن من العلم لا يسقطها كالجهل بتحريم الأكل في الصوم (فصل) ويجب عليه قضاء الفوائت على الفور وإن كثرت ما لم يلحقه مشقة في بدنه بضعف أو خوف مرض أو نصب أو إعياء - أو ماله بفوات شئ منه أو ضرر فيه أو قطع عن معيشته، نص أحمد على نحو هذا، فإن جهل الفوائت فلم يعلم قدرها قضى حتى يتيقن براءة ذمته، ويقتصر على الفرائض ولا يتنفل بينها ولا يصلي سنتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى الصلوات الفائتة يوم الخندق لم ينقل أنه صلى
بينها سنة.
ولأن الفرض أهم فالاشتغال به أولى، فإن كانت صلاة أو نحوها فلا بأس بقضاء سنتها لأن(1/453)
النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته الفجر صلى سنتها قبلها وهذا قول الشافعي، وقال مالك يبدأ بالمكتوبة والأول أولى لما ذكرنا من الحديث وهو اختيار ابن المنذر (فصل) ومن فاتته صلاة من يوم لا يعلم عينها أعاد صلاة اليوم جميعه ينوي بكل واحدة أنها الفائتة نص عليه وهو قول أكثر أهل العلم لأن التعيين شرط في صحة الصلاة المكتوبة ولا يتوصل إليه إلا بذلك فلزمه.
وقال الثوري يصلي الفجر ثم المغرب ثم يصلي أربعاً ينوي إن كان الظهر أو العصر أو العشاء، وقال الأوزاعي يصلي أربعاً بإقامة (فصل) إذا نام في منزل في السفر فاستيقظ بعد خروج وقت الصلاة استحب له أن ينتقل عن ذلك المنزل فيصلي في غيره، نص عليه لما روى أبو هريرة قال: عرسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليأخذ كل رجل منكم براس راحلته فإن هذا منزل حضر فيه الشيطان " قال ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة.
متفق عليه، ويستحب أن يصلي الفائتة جماعة إذا أمكن لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الصلوات الفائتة يوم الخندق في جماعة ولا يلزم القضاء أكثر من مرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض أكثر من مرة، وقد روى عمران بن حصين حين ناموا عن صلاة الفجر قال فقلنا يا رسول الله ألا نصلي هذه الصلاة لوقتها؟ قال " لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم " رواه الأثرم واحتج به أحمد (فصل) إذا أخر الصلاة لنوم أو غيره حتى خشي خروج الوقت إن تشاغل بالسنة بدأ بالفرض نص عليه لأن الحاضرة إذا قدمت على الفائتة الواجبة مراعاة للوقت فعلى السنة أولى وهكذا(1/454)
إذا استيقظ وشك في طلوع الشمس بدأ بالفريضة نص عليه لأن الأصل بقاء الوقت (فصل) ومن أسلم في دار الحرب فترك صلوات أو صياماً لا يعلم وجوبه لزمه قضاؤه وبهذا قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه ولنا أنها عبادة تلزمه مع العلم فلزمته مع الجهل كما لو كان في دار الإسلام (مسالة) (وإن نسي الترتيب سقط وجوبه) حتى لو صلى الحاضرة ناسياً للفائتة ولم يذكرها حتى فرغ فليس عليه إعادة نص عليه أحمد في رواية الجماعة، وقال مالك يجب الترتيب مع النسيان كالمجموعتين والركوع والسجود ولحديث أبي جمعة ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " ولأن المنسية ليس عليها أمارة فجاز أن يؤثر فيها النسيان كالصيام، فأما حديث أبي جمعة فمن رواية ابن لهيعة وهو ضعيف ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها وهو في الصلاة جمعاً بينه وبين ما ذكرنا من الدليل وإنما لم يعذر في المجموعتين بالنسيان لأنه لا يتحقق إذ لابد فيهما من نية الجمع بينهما ولا يمكن ذلك مع نسيان إحداهما ولأن إجتماع الجماعة يمنع النسيان إذ لا يكادون كلهم ينسون الأولى ولا فرق بين أن يكون سبق منه ذكر الفائتة ثم نسيها أو لم يسبق نص عليه لما ذكرنا والله أعلم.
* (باب ستر العورة) * (وهو الشرط الثالث) ستر العورة شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم، قال ابن عبد البر: أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً وهو قول الشافعي(1/455)
وأصحاب الرأي، وقال إسحاق وبعض أصحاب مالك: هو شرط مع الذكر وقال بعضهم هو واجب وليس بشرط لأن وجوبه غير مختص بالصلاة فلم يكن شرطاً فيها كقضاء الدين ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " وعن سلمة بن الاكوع قال: قلت يا رسول الله إني أكون في الصيد فأصلي في القميص الواحد؟ قال " نعم وازرره ولو بشركة " رواهما ابن ماجة والترمذي وقال فيهما حسن (مسألة) (وسترها عن النظر بما لا يصف البشرة واجب) لأن الستر إنما يحصل بذلك فإن كان خفيفاً يصف لون البشرة فيبين من ورائه بياض الجلد وحمرته لم تجز الصلاة فيه، وإن كان يستر
اللون ويصف الخلقة جازت الصلاة فيه لأن البشرة مستورة وهذا لا يمكن التحرز منه وإن كان الساتر صفيقاً (مسألة) (وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة وعنه أنها الفرجان) عورة الرجل ما بين السرة والركبة في ظاهر المذهب نص عليه في رواية الجماعة وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وروي عنه أنها الفرجان نقله عنه مهنا وهو قول ابن ابي ذئب لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الأزار عن فخذه رواه البخاري ومسلم.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظر إلى شئ من عورته فإن ما تحت السرة إلى ركبته عورة " يريد الأمة رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كاشفاً عن فخذيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على ذلك ثم استأذن عمر فأذن له وهو على ذلك رواه الإمام أحمد.
ولأنه ليس بمخرج فلم يكن عورة كالساق، ووجه الأولى ما روى جرهد الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " غط فخذك فإن الفخذ من العورة " رواه(1/456)
الامام احمد وابو داود والترمذي وقال حديث حسن وعن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " رواه أبو داود، وعن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال: " غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته " رواه الإمام أحمد: قال البخاري حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط (فصل) والسرة والركبتان ليست من العورة، وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة الركبة من العورة لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الركبة من العورة " ولنا ما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة " رواه أبو بكر، وحديث عمرو بن شعيب، ولأن الركبة حد العورة فلم تكن منها كالسرة والعبد والحر في ذلك سواء لعموم الأخبار فيهما وحديثهم يرويه أبو الجنوب ولا يثبته أهل النقل (فصل) وأما الأمة، قال ابن حامد عورتها كعورة الرجل ما بين السرة والركبة، حكاه القاضي في المجرد وابن عقيل قال القاضي وقد لوح إليه أحمد وهو ظاهر مذهب الشافعي لحديث عمرو بن
شعيب والمراد به الأمة فإن الأجير والعبد لا تختلف حاله بالتزويج وعدمه، وقال القاضي في الجامع عورة الأمة ما عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، وهو قول بعض الشافعية لأن هذا يظهر عادة عند التقليب والخدمة فهو كالرأس وما سواه لا يظهر غالباً ولا تدعو الحاجة إلى كشفه أشبه ما بين السرة والركبة والأول أولى لما ذكرنا ولأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل وقال الحسن في الأمة إذا تزوجت أو إتخذها الرجل لنفسه يجب عليها الخمار ولنا أن عمر كان ينهى الإماء عن التقنع وقال إنما القناع للحرائر واشتهر ذلك ولم ينكر فكان(1/457)
إجماعاً ولأنها أمة أشبهت التي لم تتزوج، وفيه رواية ثالثة أن عورتها الفرجان كالرجل ذكرها أبو الخطاب وشيخنا في الكتاب المشروح والصحيح خلافها إن شاء الله تعالى.
والمكاتبة والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالأمة القن فيما ذكرنا لأنهن إماء يجوز بيعهن وعتقهن أشبهن القن.
وقال ابن البنا هن كأم الولد (مسألة) (والحرة كلها عورة إلا الوجه وفي الكفين روايتان) أما وجه الحرة فإنه يجوز للمرأة كشفه في الصلاة بغير خلاف نعلمه واختلفت الرواية في الكفين فروي عنه جواز كشفهما وهو قول مالك والشافعي لأنه روي عن ابن عباس وعائشة في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال الوجه والكفين، ولأنه يحرم على المحرمة سترهما بالقفازين كما يحرم ستر الوجه بالنقاب ويظهران غالباً وتدعو الحاجة الى كشفهما للبيع والشراء فأشبها الوجه.
وروي عنه إنهما من العورة وهذا اختيار الخرقي.
قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " المرأة عورة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح: وهذا عام في جميعها ترك في الوجه للحاجة فيبقى فيما عداه.
وقول ابن عباس وعائشة قد خالفهما ابن مسعود فقال الثياب ولأن الحاجة لا تدعو إلى كشفهما وظهورهما كالحاجة إلى كشف الوجه فلا يصح القياس ثم يبطل قياسهم بالقدمين فإنهما يظهران عادة وسترهما واجب وهما بالرجلين أشبه من الوجه فقياسهما عليهما أولى (فصل) وما سوى الوجه والكفين فيجب ستره في الصلاة رواية واحدة وهو قول مالك والشافعي والاوزاعي.
وقال أبو حنيفة القدمان ليسا من العورة لأنهما يظهران عادة ويغسلان في
الوضوء أشبها الوجه والكفين ولنا قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) وما روت ام سلمة أنها سألت النبي صلى(1/458)
الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار؟ قال " نعم إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها " رواه أبو داود، والخبر الذي رويناه في أن المرأة عورة خرج منه الوجه فيبقى فيما عداه على قضية الدليل وأما ما عدا الوجه والكفين والقدمين فهو عورة بالإجماع لا نعلم فيه خلافاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " حديث صحيح (مسألة) (وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة وعنه كالحرة) نقل عن أحمد رحمه الله في المعتق بعضها روايتان (إحداهما) أنها كالحرة لأن فيها حرية تقتضي الستر فوجب كما يجب على الخنثى المشكل ستر فرجيه معاً لوجوب ستر أحدهما (والثانية) هي كالأمة القن لأن المقتضى للستر بالإجماع الحرية الكاملة ولم توجد فتبقى على الأصل وهذا قول ابن المنذر (فصل) وحكم أم الولد حكم الأمة في صلاتها وسترتها وهو قول النخعي والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد أنها كالحرة تغطي شعرها وقدميها نقلها عنه الأثرم لأنها لا تباع ولا ينقل الملك فيها أشبهت الحرة وهو قول الحسن وابن سيرين في تغطية الرأس حكاه ابن المنذر.
ووجه الأولى أنها أمة حكمها حكم الإماء وكونها لا ينتقل الملك فيها لا يخرجها عن حكم الأمة كالموقوفة، وانعقاد سبب الحرية فيها لا يؤثر أيضاً بدليل المكاتبة والمدبرة، لكن يستحب لها ستر رأسها لتخرج من الخلاف وتأخذ بالإحتياط (فصل) وعورة الخنثى المشكل كعورة الرجل لأنه اليقين والأنوثة مشكوك فيها فلا نوجب عليه ستر محل مشكوك في وجوبه كما لو نوجب نقض الوضوء بمس أحد فرجيه ولا الغسل بإيلاجه لكن يجب عليه ستر فرجيه إذا قلنا العورة الفرجان لأن أحدهما فرج حقيقي ولا يتحقق ستره إلا بسترهما فوجب عليه كستر ما قرب من العورة لأجل سترها، وعنه حكمه حكم المرأة ذكره في المستوعب لأنه يحتمل أن يكون امرأة فوجب ذلك إحتياطاً (فصل) فإن عتقت الأمة في أثناء صلاتها وهي مكشوفة الرأس ووجدت سترة فهي كالعريان يجد
السترة في أثناء صلاته وسيأتي إن شاء الله، وإن لم تعلم بالعتق حتى أتمت صلاتها أو علمت به ولم تعلم(1/459)
بوجوب الستر فصلاتها باطلة لأن شروط الصلاة لا يعذر فيها بالجهل فأما إن عتقت ولم تقدر على سترة أتمت صلاتها ولا إعادة عليها لأنها عاجزة عن السترة فهي كالحرة الأصلية إذا عجزت (مسألة) (ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين) لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال قال عمر " إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب واحد فليتزر به " رواه أبو داود، وعن عمر أنه قال إذا أوسع الله فأوسعوا - جمع رجل عليه ثيابه - صلى رجل في إزار ورداء - في إزار وقميص - في إزار وقباء - في سراويل ورداء - في سراويل وقميص - في سراويل وقباء، في تبان وقميص، قال القاضي وذلك في الإمام آكد لأنه بين يدي المأمومين وتتعلق صلاتهم بصلاته فإن لم يكن إلا ثوب واحد فالقميص أولى لأنه أبلغ في الستر ثم الرداء ثم المئزر أو السراويل (مسألة) (فان اقتصر على ستر العورة أجزأه إذا كان على عاتقه شئ من اللباس) وجملة ذلك أن الرجل متى ستر عورته في الصلاة صحت صلاته إذا كان على عاتقه شئ من اللباس سواء كان من الثوب الذي ستر عورته أو من غيره إذا كان قادراً على ذلك لما روى عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقه.
وعن أبي هريرة أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد قال " أو لكلكم ثوبان؟ " متفق عليهما.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان الثوب واسعاً فالتحف به وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك - وفي لفظ - فاتزر به " رواه البخاري (فصل) ولا يجزئ من ذلك إلا ما ستر العورة عن غيره ونفسه فلو كان القميص واسع الجيب يرى عورته إذا ركع أو سجد أو كانت بحيث يراها لم تصح صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع " وازرره ولو بشوكة " فإن كان ذا لحية كبيرة تغطي الجيب فتستر عورته صحت صلاته نص عليه لأن عورته مستورة وهذا مذهب الشافعي (فصل) ويجب عليه أن يضع على عاتقه شيئاً من اللباس مع القدرة، اختاره ابن المنذر وأكثر العلماء على خلافه لأنهما ليسا من العورة أشبها بقية البدن(1/460)
ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ " رواه مسلم، وعن بريدة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف ولا يتوشح به وأن يصلي في سراويل ليس عليه رداء.
رواه أبو داود وهو شرط لصحة الصلاة في ظاهر المذهب واختاره ابن المنذر لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأن ستره واجب في الصلاة فإلاخلال به يفسدها كالعورة، وذكر القاضي وابن عقيل أنه نقل عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرط فإنه قال في رواية مثنى بن جامع فيمن صلى وثوبه على إحدى عاتقية والأخرى مكشوفة يكره قيل له يؤمر أن يعيد؟ فلم ير عليه إعادة.
قال شيخنا وليس هذا رواية أخرى إنما يدل على أنه لا يجب ستر المنكبين جميعاً لأن الخبر لا يقتضي سترهما فعلى هذا لا يجب سترهما جميعاً بل يجزئه وضع ثوب على أحد عاتقيه وإن كان يصف البشرة لأن وجوب ذلك بالخبر ولفظه " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ " وهذا يقع على ما يعم المنكبين ومالا يعم، وقال القاضي وابو الخطاب وابن عقيل يجب ستر المنكبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه " صحيح (فصل) فإن طرح على كتفيه ما يستر البشرة ومالا يستر - حبلاً أو نحوه - لم يجزه في اختيار الخرقي والقاضي، وقال بعض أصحابنا يجزئه قالوا لان هذا شئ فيتناوله الخبر.
قال بعضهم وقد روي عن جابر أنه صلى في ثوب واحد متوشحاً به كأني أنظر إليه كان على عاتقه ذنب فأرة، وعن إبراهيم قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوباً ألقى على عاتقه عقالاً وصلى وقال شيخنا والصحيح أنه لا يجزئ لأن ذلك لا يسمى سترة ولا لباساً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه " صحيح رواه أبو داود والأمر بوضعه على العاتقين للستر ولا يحصل ذلك بوضع خيط ولاحبل، وما روي عن جابر لا يصح، وما روى(1/461)
الصحابة إن صح فلعدم ما سواه لقوله " إذا لم يجد " وفي هذا دليل على أنه لا يجزي مع وجود الثوب والله أعلم
(فصل) (وقال القاضي يجزئه ستر العورة في النفل دون الفرض) يعني إذا اقتصر على ستر العورة دون المنكبين أجزأه في النفل دون الفرض، نص عليه أحمد في رواية حنبل قال: يجزئه أن يأتزر بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ في التطوع لأن مبناه على التخفيف ولذلك يسامح فيه بترك القيام والاستقبال في حال سيره مع القدرة فسومح فيه بهذا القدر واستدل أبو بكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان الثوب ضيقاً فاشدده على حقوك " قال هذا في التطوع.
وحديث أبي هريرة في الفرض وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما لأن ما إشترط للفرض اشترط للنفل كالطهارة ولأن الخبر عام فيهما وهذا ظاهر كلام شيخنا رحمه الله والله أعلم.
(مسألة) (ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة فإن إقتصرت على ستر العورة أجزأها) روي نحو ذلك عن عمر وابنه وعائشة وهو قول الشافعي وذلك أنه أستر وأحسن فإنه إذا كان عليها جلباب تجافى عنها راكعة وساجدة فلا يصفها ولا تبين عجيزتها ومواضع العورة المغلظة.
وروي عن ابن عمر وابن سيرين ونافع قالوا تصلي المرأة في أربعة أثواب لذلك وهذا على وجه الاستحباب فإن إقتصرت على ستر عورتها أجزأها، قال أحمد: قد إتفق عامتهم على الدرع والخمار وما زاد فهو خير وأستر.
وقد دل عليه حديث أم سلمة حين قالت: يا رسول الله أتصلي المرأة في درع وخمار؟ قال: " نعم إذا كان سابقا يغطي ظهور قدميها " وروي عن عاشة وميمونة وأم سلمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنهن كن يرين الصلاة في درع وخمار، حكاه ابن المنذر ولأنها سترت ما يجب عليها ستره أشبهت الرجل (فصل) ويكره للمرأة النقاب وهي تصلي، قال ابن عبد البر: اجمعوا على ان على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام ولأن ذلك يخل بمباشرة المصلي بالجبهة والأنف ويغطي الفم.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عنه(1/462)
(مسألة) (وإذا إنكشف من العورة يسير لم يفحش في النظر لم تبطل صلاته) نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة.
وقال الشافعي تبطل لأنه حكم يتعلق بالعورة فاستوى قليله وكثيره كالنظر ولنا ما روى عن عمرو بن سلمة الجرمي قال: إنطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من
قومه فعلمهم الصلاة وقال " يؤمكم أقرؤكم " فكنت أقرأهم فقدموني فكنت أؤمهم وعلي بردة صفراء صغيرة فكنت إذا سجدت إنكشفت عني فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم.
فاشتروا لي قميصاً عمانيا فما فرحت بعد الإسلام فرحي به.
وفي لفظ فكنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق فكنت إذا سجدت فيها خرجت أستى.
رواه أبو داود والنسائي وهذا ينتشر ولم ينكر ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره ولا أحد من أصحابه ولأن ما صحت الصلاة مع كثيره حال العذر فرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر كالمشي، ولأن اليسير يشق الإحتراز منه فعفي عنه كيسير الدم وحد اليسير مالا يفحش في النظر عادة ولا فرق في ذلك بين الفرجين وغيرهما إلا أن العورة المغلظة يفحش منها ما لا يفحش من غيرها فيعتبر ذلك وسواء في ذلك الرجل والمرأة.
وقال أبو حنيفة إن إنكشف من المغلظة قدر الدرهم أو من غيرها أقل من ربعها لم تبطل الصلاة وإن كان أكثر بطلت ولنا أن هذا تقدير لم يرد الشرع به فلا يجوز المصير إليه وما لم يرد الشرع فيه بالتقدير يرد إلى العرف كالكثير من العمل في الصلاة والتفرق والاحتراز فإن إنكشفت عورته من غير عمد فسترها في الحال لم تبطل لأنه يسير في الزمن أشبه اليسير في القدر.
وقال التميمي إن بدت عورته وقتاً واستترت وقتاً لم يعد لحديث عمرو بن سلمة فلم يشترط اليسير.
قال شيخنا ولابد من اشتراطه لأنه يفحش ويمكن التحرز منه أشبه الكثير في القدر (مسألة) (وإن فحش بطلت) يعني ما فحش في النظر عادة وعرفاً لما ذكرنا لأن التحرز منه ممكن من غير مشقة أشبه سائر العورة.
قال إبن المنذر اجمعوا على ان المرأة الحرة إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة ولأن الأصل وجوب ستر جميع العورة عفي عنه في اليسير لمشقة التحرز(1/463)
منه يبقى فيما عداه على قضية الدليل (مسألة) (ومن صلى في ثوب حرير أو مغصوب لم تصح صلاته وعنه تصح مع التحريم) لبس المغصوب والصلاة فيه حرام على الرجال والنساء وجهاً واحدا فإن صلى فيه فهل تصح صلاته على روايتين أظهرهما لا تصح إذا كان هو الساتر للعورة لأنه استعمل المحرم في شرط الصلاة فلم تصح كما لو كان نجسا
ولأن الصلاة قربة وطاعة وقيام هذا وقعوده في هذا الثوب منهي عنه فكيف يكون متقرباً بما هو عاص به مأموراً بما هو منهي عنه.
وقال ابن عمر من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة مادام عليه.
ثم أدخل أصبعيه في أذنيه وقال: صمتاً إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقوله.
رواه الإمام أحمد وفي إسناده رجل غير معروف (والثانية) تصح وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
لأن النهي لا يعود إلى الصلاة ولا يختص التحريم بها فهو كما لو صلى في عمامة مغصوبة أو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب.
فإن ترك الثوب المغصوب في كمه أو صلى في عمامة مغصوبة أو في يده خاتم مغصوب صحت صلاته لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة فلم يؤثر فيها كما لو كان في جيبه درهم مغصوب.
والفرض والنفل في ذلك سواء لأن ما كان شرطاً للفرض فهو شرط للنفل (فصل) فإن صلى وعليه سترتان إحداهما مغصوبة ففيه الروايتان سواء كان الفوقاني أو التحتاني لأن الستر لا يتعين بإحداهما والمغصوب من جنس ما يستتر به بمثابة ما زاد على المشروط من اللفائف في حق الميت فإنه يجري مجراه في وجوب القطع فإن صلى في قميص بعضه حلال وبعضه حرام لم تصح صلاته على الرواية الأولى سواء كان المغصوب هو الذي ستر العورة أو بالعكس لأن القميص يتبع بعضه بعضاً فلا يتميز بدليل دخوله في مطلق البيع، ذكر هذا الفصل ابن عقيل (فصل) وإن صلى الرجل في ثوب حرير لم يجز له والحكم في صحة الصلاة فيه كالحكم في الثوب(1/464)
المغصوب على ما بينا لأنه في معناه وتصح صلاة المرأة فيه لأنه مباح لها وكذلك صلاة الرجل فيه في حال العذر إذا قلنا بإباحته له (مسألة) (ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه) وذلك لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة لتعلق حق الآدمي به في ستر عورته ووجوبه في الصلاة وغيرها فكان تقديمه أولى وهذا قول مالك، وقال الشافعي يصلي عرياناً ولا يعيد، وقال أبو حنيفة في النجاسة كلها يخير في الفعلين لأنه لابد من ترك واجب في كلا الفعلين، وقد ذكرنا أو الستر آكد فوجب تقديمه ولأنه قدر على ستر عورته فلزمه كما لو وجد ثوباً طاهراً
(مسألة) (وتلزمه الإعادة على المنصوص) لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة عليه أشبه ما لوصلى محدثاً.
ويتخرج أن لا يعيد بناء على من صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه فإنه قال: لا إعادة عليه.
وهذا اختيار شيخنا لأن الشرع منعه نزعه أشبه ما إذا لم يمكنه وهو مذهب مالك والاوزاعي ولأن التحرز من النجاسة شرط عجز عنه فسقط كالعجز عن السترة، فان لم يجد إلا ثوب حرير صلى فيه ولا إعادة عليه لأن تحريم لبسه يزول بالحاجة إليه، وذكر ابن عقيل أنه يخرج على الروايتين في السترة النجسة فان لم يجد إلا ثوباً مغصوباً صلى عرياناً لأن تحريمه لحق آدمي أشبه من لم يجد إلا ماء مغصوباً وذكر ابن عقيل في وجوب الإعادة على من صلى في الثوب النجس روايتين (إحداهما) يعيد لما ذكرنا (والثانية) لا يعد لأنه أتى بما أمر به أشبه مالو لم تكن عليه نجاسة (مسألة) (فإن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها) إذا لم يجد إلا ما يستر عورته حسب - بدأ بها وترك منكبيه لأن ستر العورة متفق على وجوبه وستر المنكبين مختلف فيه ولأن ستر العورة واجب في غير الصلاة ففيها أولى وقد روي حنبل عن أحمد فيمن معه ثوب واحد لطيف أن ستر عورته إنكشف منكباه فقال يصلي جالساً ويرسله من ورائه على منكبيه وعجيزته واحتج لذلك بأن ستر(1/465)
المنكبين الحديث فيه أصح من ستر الفخذين والقيام يسقط في حق العريان وله بدل فإذا صلى جالساً حصل ستر العجيزة والمنكبين بالثوب وستر العورة بالجلوس.
والصحيح الأول إختاره شيخنا لما ذكرنا ولما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا كان الثوب واسعاً فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك " رواه أبو داود وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان له ثوبان فليأتزر وليرتد ومن لم يكن له ثوبان فليأتزر ثم ليصل " رواه الإمام أحمد ولأن القيام متفق على وجوبه فلا يترك لأمر مختلف فيه والله أعلم (مسألة) (فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين) لأنهما أفحش وهما عورة بغير خلاف (مسألة) (فإن لم يكفهما جميعاً ستر أيهما شاء) لاستوائهما والأولى ستر الدبر على ظاهر كلامه لأنه أفحش وينفرج في الركوع والسجود وقيل القبل أولى لأن به يستقبل القبلة والدبر مستور بالأليتين
(مسألة) (وإن بذلت له سترة لزمه قبولها إذا كانت عارية) لأن المنة لا تكثر في العارية فيكون قادراً على ستر عورته بما لا ضرر فيه.
وإن كانت هبة لا يلزمه قبولها لأن المنة تكثر فيها.
قال شيخنا ويحتمل أن يلزمه لأن العار في كشف عورته أكثر من الضرر فيما يلحقه من المنة.
وإن وجد من يبيعه سترة أو يؤجره بثمن المثل أو زيادة يسيرة وقدر على العوض لزمه وإن كانت كثيرة لا تجحف بماله فهو كما لو قدر على شراء الماء بذلك وفيه وجهان مضى توجيههما (مسألة) (فإن عدم بكل حال صلى جالساً يومئ إيماء وإن صلى قائماً جاز، وعنه أنه يصلي قائماً ويسجد بالأرض) لا تسقط الصلاة عن العريان بغير خلاف علمناه لأنه شرط عجز عنه فلم تسقط الصلاة بعجزه عنه كالإستقبال ويصلي جالسا يومئ بالركوع والسجود وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي وابن المنذر يصلي قائماً كغير العريان لقوله صلى الله عليه وسلم " صلى قائماً فإن لم تستطع فقاعداً " رواه البخاري ولأنه قادر على القيام من غير ضرر فلم يجز له تركه كالقادر على الستر ولنا ما روى عن ابن عمر أن قوماً إنكسرت بهم مركبهم فخرجوا عراة قال يصلون جلوساً(1/466)
يومئون إيماء برؤوسهم ولم ينقل خلافه ولأن الستر آكد من القيام لأمرين (أحدهما) أنه لا يسقط مع القدرة بحال والقيام يسقط في النافلة (والثاني) أن الستر لا يختص الصلاة بخلاف القيام فإذا لم يكن بد من أحدهما فترك الأخف أولى، فإن قيل فلا يحصل الستر كله مع فوات أركان ثلاثة القيام والركوع والسجود.
فالجواب أنا إذا قلنا العورة الفرجان فقد حصل سترهما وإن قلنا هما بعض العورة فهما آكدها وجوباً وأفحشها في النظر فكان سترهما أولى ولا تجب عليه إعادة لأنه صلى كما أمر أشبه ما لو صلى إلى غير القبلة عند العجز فإن صلى قائماً جاز لما ذكرنا.
وقد روي عنه أنه يصلي جالساً ويسجد بالأرض لأن السجود آكد من القيام لكونه مقصوداً في نفسه ولا يسقط فيما يسقط فيه القيام وهو النفل.
والأولى الإيماء بالسجود لأن القيام سقط عنهم لحفظ العورة وهي في حال السجود أفحش فكان سقوطه أولى وإن صلى قائماً وركع وسجد بالأرض جاز في ظاهر كلام أحمد وقول أصحاب الرأي لأنه لابد من ترك أحد الواجبين فأيهما ترك فقد أتى بالآخر وعلى أي حال صلى فإنه يتضام ولا يتجافى،
قيل لأبي عبد الله يتضامون أم يتربعون؟ قال بل يتضامون، وقد قيل أنهم يتربعون في حال القيام كصلاة النافلة قاعداً والأول أولى.
(فصل) فإذا وجد العريان جلداً طاهراً أو ورقاً يمكن خصفه عليه أو حشيشاً يمكن ربطه عليه فيستتر لزمه لأنه قادر على ستر عورته بطاهر لا يضره فقد ستر النبي صلى الله عليه وسلم رجلي مصعب بن عمير بالأذخر لما لم يجد سترة.
وإن وجد طيناً يطلي به جسده لم يلزمه لأنه يتناثر إذا جف وفيه مشقة ولا يغيب الخلقة، وقال ابن عقيل يلزمه لأنه يستر وما تناثر سقط حكمه واستتر بما بقي وهو قول بعض الشافعية وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وإن كان كدراً لأن عليه فيه مشقة وضرراً لا يحتمل.
وإن وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأنها لا تلصق بجسده فهي كالجدار وإن وجد سترة تضر به كبارية ونحوها لم يلزمه الإستتار بها لما فيها من الضرر والمنع من إكمال الركوع والسجود(1/467)
(مسألة) (وإن وجد السترة قريبة منه في أثناء الصلاة ستر وبنى وإن كانت بعيدة ستر وابتدأ) وجملة ذلك أن العريان متى قدر على السترة في أثناء الصلاة وأمكنه من غير زمن طويل ولا عمل كثير ستر وبنى على ما مضى من الصلاة كأهل قباء لما علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتموا صلاتهم.
وإن لم يمكن الستر إلا بعمل كثير أو زمن طويل بطلت الصلاة لأنه لا يمكنه المضي فيها إلا بما ينافيها من العمل الكثير أو فعلها بدون شرطها والمرجع في ذلك إلى العرف لأنه لا تقدير فيه توقيفاً وذكر القاضي فيمن وجدت السترة إحتمالاً أن صلاتها لا تبطل بانتظارها وإن طال لأنه إنتظار واجب ولا يصح ذلك لأنها صلت في زمن طويل عارية مع إمكان الستر فلا تصح كالصلاة كلها وما ذكروه يبطل بما لو أتمت صلاتها في حال إنتظارها وانتظرت من يأتي فيناولها وقياس الكثير على اليسير فاسد لما ثبت في الشرع من العفو عن اليسير دون الكثير في مواضع كثيرة (فصل) فإن صلى عرياناً ثم بأن معه ستارة أنسبها أعاد لأنه مفرط كما قلنا في الماء (مسألة) (ويصلي العراة جماعة وأمامهم في وسطهم) الجماعة تشرع للعراة كغيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الرجل في الجميع تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة " وهذا قول
قتادة، وقال مالك والاوزاعي وأصحاب الرأي يصلون فرادى، قال مالك ويتباعد بعضهم من بعض وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم إمامهم وبه قال الشافعي في القديم، وقال في موضع الجماعة والأفراد سواء لأن في الجماعة الإخلال بسنة الموقف وفي الإنفراد الإخلال بفضيلة الجماعة ووافقنا أن أمامهم يقوم وسطهم وعلى مشروعية الجماعة للنساء العراة لأن أمامتهن تقوم في وسطهن فلا يحصل الإخلال في حقهن بفضيلة الموقف: ولنا الحديث الذي ذكرنا ولأنهم قدروا على الجماعة من غير عذر أشبهوا المستترين ولا تسقط الجماعة لفوات السنة في الموقف كما لو كانوا في ضيق لا يمكن تقديم أحدهم، وإذا شرعت الجماعة حال الخوف مع تعذر الإقتداء بالإمام في بعض الصلاة والحاجة إلى مفارقته وفعل ما يبطل الصلاة في غير(1/468)
تلك الحال فأولى أن تشرع ههنا.
إذا ثبت هذا فإن إمامهم يكون في وسطهم ويصلون صفاً واحداً لأنه أستر لهم فإن لم يسعهم صف واحد وقفوا صفوفاً وغضوا أبصارهم وإن صلى كل صف جماعة فهو أحسن (مسألة) (وإن كانوا رجالاً ونساء صلى كل نوع لأنفسهم) لئلا يرى بعضهم عوراة بعض وإن كانوا في ضيق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهم الرجال لئلا ينظر بعضهم إلى بعض (فصل) (فإن كان مع العراة واحد له سترة لزمه الصلاة فيها) فإن أعارها وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، وإذا صلى فيه إستحب أن يعيره لقول الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولا يجب ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن حاجته ووجد مضطراً فإنه يلزمه إعطاؤه.
وإذا بذله لهم صلى فيه واحد بعد واحد ولم يجز لهم الصلاة عراة لقدرتهم على الستر، إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيصلون عراة جماعة لأنهم لو كانوا في سفينة لا يمكن جميعهم الصلاة قياماً صلى واحد بعد واحد إلا أن يخافوا فوت الوقت فيصلي واحد قائماً والباقون قعوداً كذلك هذا ولأن هذا يحصل به إدراك الوقت والجماعة وذاك إنما يحصل به الستر خاصة.
ويحتمل أن ينتظروا الثوب وإن فات الوقت لأنه قدر على شرط الصلاة فلم تصح صلاته بدونه كواجد الماء لا يتيمم وإن خاف فوت الوقت.
قال شيخنا: وهذا أقيس عندي، فإن إمتنع صاحب الثوب من إعارته فالمستحب أن يؤمهم ويقف بين
أيديهم، فإن كان أمياً وهم قراء صلى العراة جماعة وصاحب الثوب وحده لأنه لا يجوزه أن يؤمهم لكونه أمياً ولا يأتم بهم لكونهم عراة وهو مستتر، وإن صلى وبقي وقت صلاة واحدة إستحب أن يعيره لمن يصلح لامامتهم وإن عاره لغيره جاز وصار حكمه حكم صاحب الثوب، فإن استووا ولم يكن الثوب لواحد منهم أقرع بينهم فيكون من تقع له القرعة أحق به وإلا قدم من تستحب البداية بعاريته وإن كانوا رجالاً ونساء فالنساء أحق لأن عورتهن أفحشن وسترها آكد وإذا صلين فيه أخذه الرجال (مسألة) (ويكره في الصلاة السدل) وهو أن يطرح على كتفيه ثوباً ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الآخر، وهذا قول ابن مسعود والثوري والشافعي لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، رواه أبو داود.
فإن فعل فلا إعادة عليه، وقال ابن أبي موسى: يعيد الصلاة في إحدى الروايتين للنهي عنه.
فأما إن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى أو ضم طرفيه بيديه لم يكره لزوال السدل.
وقد روي عن جابر وابن عمر الرخصة في السدل، قال إبن المنذر: لا أعلم فيه حديثاً يثبت، وحكاه الترمذي عن أحمد (مسألة) (ويكره إشتمال الصماء وهو أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره) لما روى أبو هريرة(1/469)
وأبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبستين إشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين فرجيه وبين السماء شئ أخرجه الخباري، ومعنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر كلبسة المحرم وهذا هو إشتمال الصماء ذكره بعض أصحابنا وجاء مفسراً في حديث أبي سعيد بذلك من رواية إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أظن عن عطاء ابن يزيد عن أبي سعيد.
وإنما كره لأنه إذا فعل ذلك وليس عليه ثوب غيره بدت عورته كذلك رواه حنبل عن أحمد، أما إذا كان عليه غيره فتلك لبسة المحرم وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا ينبغي أن يكون إشتمال الصماء محرماً لإفضائه إلى كشف العورة، وروى أبو بكر باسناده عن ابن مسعود قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجل ثوباً واحداً يأخذ بجوانبه على منكبيه فتدعى تلك الصماء وقال بعض أصحاب الشافعي إشتمال الصماء أن يلتحف بالثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره فتبدو
عورته وهو في معنى تفسير أصحابنا.
وقال أبو عبيد إشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوب يخلل به جسده كله ولا يرفع منه جانباً يخرج منه يده كأنه يذهب به إلى أنه لعله يصيبه شئ يريد الإحتراس منه فلا يقدر عليه.
قال شيخنا والفقهاء أعلم بالتأويل (وعنه يكره وأن كان عليه غيره) روي عن أحمد رحمه الله كراهة ذلك مطلقاً لعموم النهي ولأن كل ما نهي عنه من اللباس في الصلاة لم يفرق بين أن يكون عليه ثوب غيره أو لم يكن كالسدل والإسبال (مسألة) (ويكره تغطية الوجه والتلثم على الفم والأنف) لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه رواه أبو داود، ففي هذا تنبيه على كراهية تغطية الوجه لإشتماله على تغطية الفم ويكره تغطية الأنف قياساً على الفم، روى ذلك عن ابن عمر وفيه رواية أخرى لا يكره لأن تخصيص الفم بالنهي يدل على إباحة غيره.
(مسألة) (ويكره لف الكم) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوبا " متفق عليه (مسألة) (ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار) لما فيه من التشبه بأهل الكتاب وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم فقال " لا تشتملوا إشتمال اليهود " رواه أبو داود، فإما شد الوسط بمئزر أو حبل أو نحوهما مما لا يشبه شد الزنار فلا يكره.
قال أحمد لا بأس به أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم " وقال أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يصلي وعليه القميص يأتزر بالمنديل فوقه؟ قال نعم فعل ذلك ابن عمر.
وعن الشعبي قال كان يقال: شد(1/470)
حقوك في الصلاة ولو بعقال رواه الخلال، وعن يزيد بن الأصم مثله (مسألة) (ويكره إسبال شئ من ثيابه خيلاء) يكره إسبال القميص والإزار مطلقاً وكذلك السراويل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برفع الإزار فإن فعله خيلاء فهو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه " متفق عليه، وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام " رواه أبو داود
(فصل) ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين.
اختاره أبو الخطاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة " متفق عليه (والثاني) لا يحرم قاله ابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الخبر " إلا رقما في ثوب " متفق عليه، ولأنه يباح إذا كان مفروشاً أو يتكأ عليه فكذلك إذا كان يلبس، ويكره التصليب في الثوب لقول عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلا قضبه.
رواه أبو داود (مسألة) (ولا يجوز للرجل لبس ثياب الحرير ولا ما غالبه الحرير ولا إفتراشه إلا من ضرورة) يحرم على الرجل لبس ثياب الحرير في الصلاة وغيرها في غير حال العذر إجماعا حكاه ابن عبد البر لما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " متفق عليه والإفتراش كاللبس لما روى حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم إن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وأن نلبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه.
رواه البخاري، فأما المنسوج من الحرير وغيره فإن كان الأغلب الحرير حرم لعموم الخبر، وإن كان الأغلب غيره حل لأن الحكم للأغلب والقليل مستهلك فيه أشبه الضبة من الفضة والعلم في الثوب.
وقال ابن عبد البر مذهب ابن عباس وجماعة من أهل العلم أن المحرم الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره.
قال ابن عباس إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير أما العلم وسدى الثوب فليس به بأس.
رواه أبو داود والاثرم (مسألة) فإن أستوى هو وما نسج معه فعلى وجهين (أحدهما) يباح لحديث ابن عباس ولأن الحرير ليس بأغلب أشبه الأقل (والثاني) يحرم.
قال ابن عقيل: هو الأشبه لعموم الخبر(1/471)
(مسألة) ويحرم لبس المنسوج بالذهب والمموه به لما ذكرنا من حديث أبي موسى، فإن استحال لونه فعلى وجهين (أحدهما) يحرم للحديث (والثاني) يباح لزوال علة التحريم من السرف
والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (مسألة) (وإن لبس الحرير لمرض أو حكة أو في الحرب أو ألبسه الصبي فعلى روايتين) متى احتاج إلى لبس الحرير لمرض أو حكة أو من أجل القمل جاز في ظاهر المذهب، لأن أنساً روي أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما.
وفي رواية شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير ورأيته عليهما.
متفق عليه، وما يثبت في حق صحابي يثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل فثبت بالحديث في القمل وقسنا عليه غيره مما ينفع فيه لبس الحرير.
وعن أحمد رواية أخرى لا يباح وهو قول مالك لعموم الخبر المحرم والرخصة يحتمل أن تكون خاصة لهما (فصل) وفي لبسه في الحرب لغير حاجة روايتان (إحداهما) الإباحة وهو ظاهر كلامه أحمد قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن لبس الحرير في الحرب؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس وهو قول عروة وعطاء، وكان لعروة يملق من ديباج بطانته من سندس محشو قزاً يلبسه في الحرب ولأن المنع من لبسه لما فيه من الخيلاء وذلك غير مذموم في الحرب، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بعض أصحابه يمشي بين الصفين قال " إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن " (والثانية) يحرم لعموم الخبر، فأما إن إحتاج إليه مثل أن يكون بطانة لبيضة أو درع أو نحوه أبيح.
قال بعض أصحابنا يجوز مثل ذلك من الذهب كدرع مموه من الذهب لا يستغني عن لبسه وهو محتاج إليه (فصل) وهل يجوز لولي الصبي أن يلبسه الحرير؟ على روايتين (إحداهما) تحريمه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " حرام على ذكور أمتي " وعن جابر قال: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري رواه أبو داود وقدم حذيفة من سفر فوجد على صبيانه قمصاً من حرير فمزقها عن الصباين وتركها على الجواري رواه الأثرم، وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود (والثانية) يباح لأنهم غير مكلفين أشبهوا البهائم ولأنهم محل للزينة أشبهوا النساء.
والأول أولى لظاهر الخبر وفعل الصحابة، ويتعلق التحريم بالمكلفين بتمكينهم من الحرام كتمكينهم من شرب الخمر وغيره من المحرمات وكونهم محل الزينة مع تحريم الاستمتاع أبلغ في التحريم ولذلك حرم على النساء التبرج بالزينة للأجانب(1/472)
(مسألة) (ويباح حشو الجباب والفرش به ويحتمل أن يحرم) ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه لا خيلاء فيه، ويحتمل أن يحرم لعموم الخبر ولأن فيه سرفا أشبه مالو جعل البطانة حريراً (فصل) (ولا بأس بلبس الخز) ص عليه وقد روي عن عمران بن حصين والحسن بن علي وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم لبسوا الخز وعن عبد الله ابن سعد عن أبيه سعد قال: رأيت رجلاً ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، وقال ابن عقيل في الخز: إن كان فيه وبر وكان الوبر أكثر من القز صحت الصلاة فيه.
وإن كان أكثره القز لم تصح الصلاة فيه في الصحيح.
وإن إستويا إحتمل وجهين فجعله كغيره من الثياب المنسوجة من الحرير وغيره (مسألة) (ويباح العلم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون) لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع، رواه مسلم وقال أبو بكر في التنبيه: يباح وإن كان مذهباً لأنه يسير أشبه الحرير ويسير الفضة وكذلك الرقاع ولبنة الجيب وسجف الفراء لدخوله فيما استثناه في الحديث (مسألة) (ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر) لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر متفق عليه، وعن علي قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر، رواه مسلم ولا بأس بلبسه للنساء لأن تخصيص النهي بالرجل دليل على إباحته للنساء (فصل) فأما لبس الأحمر غير المزعفر فقال أصحابنا: يكره وهو مذهب ابن عمر فروي عنه أنه اشترى ثوباً فرأى فيه خيطاً أحمر فرده، وروي عن عبد الله بن عمرو قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وعن رافع بن خديج قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم " فقمنا سراعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر بعض إبلنا وأخذنا الأكسية فنزعناها عنها رواهما أبو داود، والصحيح أنه لا بأس بها لما روى أبو جحيفة قال:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء الحديث، وقال البراء: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفق عليهما (1) وعن هلال بن عامر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة وعليه برد أحمر رواه أبو داود، وقال أنس: كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة،
__________
1) لا نعلمه بهذا اللفظ في الصحيحين فيراجع(1/473)
متفق عليه وهي التي فيها حمرة وبياض.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو يخطب إذ رأى الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهما ولم ينكر ذلك ولأنها لون أشبهت سائر الألوان فأما أحاديثهم فحديث رافع في إسناده رجل مجهول ويحتمل أنها كانت معصفرة فلذلك كرهها ولو قدر التعارض كانت أحاديث الإباحة أصح وأثبت فهي أولى.
(فصل) فأما غير الحمرة من الألوان فلا يكره فقد قال صلى الله عليه وسلم " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم " وعن ابن عمر أنه قيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، رواهما أبو داود وعن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عليه بردين أخضرين ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، متفق عليهما والله أعلم.
(باب إجتناب النجاسات) (وهو الشرط الرابع) - فمتى لاقى بثوبه أو بدنه نجاسة غير معفو عنها أو حملها لم تصح صلاته) وجملة ذلك أن الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس على ثوب جنابة ونحوه عن أبي مجلز وسعيد بن جبير والنخعي وقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى: ليس في ثوب إعادة.
وسئل سعيد بن جبير عن الرجل يرى في ثوبه الأذى وقد صلى قال: إقرأ علي الآية التي فيها غسل الثياب ولنا قول الله تعالى (وثيابك فطهر) قال ابن سيرين هو الغسل بالماء.
وعن أسماء بنت أبي بكر
الصديق قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب قال " أقرصيه وصلي فيه " وفي لفظ قالت سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع احدانا(1/474)
بثوبها إذا رأت الطهر أتصلي فيه؟ قال " تنظر فيه فإن رأت فيه دما فلتقزحه بشئ من الماء ولتنضح ما لم تر ولتصل فيه " رواه أبو داود وحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بالقبرين فقال " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول " متفق عليه وفي رواية - لا يستنزه من بوله - ولأنها إحدى الطهارتين فكانت شرطاً للصلاة كطهارة الحدث (فصل) ويشترط طهارة موضع الصلاة أيضاً وهو الموضع الذي تقع عليه ثيابه وأعضاؤه التي عليه قياسا على طهارة البدن والثياب، فإن كان على رأسه طرف عمامته وطرفها الآخر وقع على نجاسة لم تصع صلاته كما لو وقع عليها شئ من بدنه، وذكر ابن عقيل إحتمالاً فيما يقع عليه ثيابه خاصة أنه لا تشترط طهارته لأنه يباشرها بما هو منفصل عن ذاته أشبه مالو كان بجانبه إنسان نجس الثوب فالتصق به ثوبه.
والمذهب الأول لأن سترته تابعة له فهي كأعضاء سجوده، فأما إذا كان ثوبه يمس شيئاً نجساً كثوب من يصلي وبجانبه حائط لا يستند إليه قال ابن عقيل لا تفسد صلاته بذلك لأنه ليس بمحل لبدنه ولا سترته.
ويحتمل أن تفسد لأن سترته ملاقية لنجاسة أشبه ما لو وقعت عليها، وإن كانت النجاسة محاذية لجسمه في حال سجوده بحيث لا يلتصق بها شئ من بدنه ولا ثيابه لم تبطل الصلاة لأنه لم يباشر النجاسة أشبه مالو خرجت عن محاذاته وذكر ابن عقيل وجهاً إنها تبطل كما لو باشر بها أعضاءه وهو قول الشافعي وأبي ثور (فصل) وإن حمل النجاسة في الصلاة لم تصح صلاته كما لو كانت على بدنه أو ثوبه فإن حمل حيواناً طاهراً أو صبياً لم تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص متفق عليه ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدنها فهي كالنجاسة في جوف المصلي، ولو حمل قارورة مسدودة فيها نجاسة لم تصح صلاته.
وقال بعض أصحاب الشافعي تصح لأن النجاسة لا تخرج عنها فهي كالحيوان وليس بصحيح لأنه حامل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها أشبه حملها في كمه (مسألة) (وإن طين الأرض النجسة أو بسط عليها شيئاً طاهراً صحت صلاته عليها مع الكراهة)
هذا ظاهر كلام أحمد وهو قول مالك والاوزاعي والشافعي واسحاق، وذكر أصحابنا رواية أخرى أنه لا يصح لأنه مدفن للنجاسة أشبه المقبرة ولأنه معتمد على النجاسة أشبه ملاقاتها.
والأول أولى لأن الطهارة إنما تشترط في بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته وقد وجد ذلك كله والعلة في الأصل غير مسلمة بدليل عدم صحة الصلاة بين القبور وليس مدفناً للنجاسة، وقال ابن أبي موسى إن كانت النجاسة المبسوط عليها رطبة لم تصح الصلاة وإلا صحت(1/475)
(فصل) ويكره تطيين المسجد بطين نجس وبناؤه بلبن نجس أو تطبيقه بطوابيق نجسة فإن فعل وباشر النجاسة لم تصح صلاته، فأما الآجر المعجون بالنجاسة فهو نجس لأن النار لا تطهر لكن إذا غسل طهر ظاهر.
لأن النار أكلت أجزاء النجاسة الظاهرة وبقي الأثر فطهر بالغسل كالارض النجسة ويبقى الباطن نجساً لأن الماء لا يصل إليه فإن صلى عليه بعد الغسل فهي كالمسألة قبلها.
وكذلك الحكم في البساط الذي باطنه نجس وظاهره طاهر ومتى إنكسر من الأجر النجس قطعة فظهر بعض باطنه فهو نجس لا تصح الصلاة عليه (فصل) ولا بأس بالصلاة على الحصير والبسط من الصوف والشعر والوبر والثياب من القطن والكتان وسائر الطاهرات في قول عوام أهل العلم.
فروي عن ابن عمر أنه صلى على عبقري وابن عباس على طنفسة وزيد بن ثابت على حصير وابن عباس وعلي وابن مسعود وأنس على المسوح، وروي عن جابر أنه كره الصلاة على كل شئ من الحيوان واستحب الصلاة على كل شئ من نبات الأرض ونحوه عن مالك إلا أنه قال في بساط الصوف والشعر إذا كان سجوده على الأرض لم أر بالقيام عليه بأساً - والصحيح قول الجمهور فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حصير في بيت أنس وعتبان بن مالك متفق عليه وروى عنه المغيرة بن شعبة أنه كان يصلي على الحصر والفرو المدبوغة، وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ملتفاً بكساء يضع يديه عليه إذا سجد، ولأن ما لم تكره الصلاة فيه لم تكره الصلاة عليه كالكتان والخوص، وتصح الصلاة على ظهر الحيوان إذا أمكنه أستيفاء الأركان عليه والنافلة في السفر، وإن كان الحيوان نجساً وعليه بساط طاهر كالحمار صحت الصلاة عليه في أصح الروايتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار (والثانية) لا تصح كالأرض النجسة إذا بسط عليها شيئاً طاهراً، وتصح على
العجلة إذا أمكنه ذلك لأنه محل تستقر عليه أعضاؤه فهي كغيرها، وقال ابن عقيل: لا تصح لأن ذلك ليس بمستقر عليه فهي كالصلاة في الأرجوحة (فصل) ولا تصح صلاة المعلق في الهواء إلا أن يكون مضطراً كالمصلوب وكذلك الارجوحة لانه ليس بمستقر القدمين على الأرض فلم تصح صلاته كما لو سجد على بعض أعضاء السجود وترك الباقي معلقاً، ذكره ابن عقبل (مسألة) (وإن صلى على مكان طاهر من بساط طرفه نجس صحت صلاته إلا أن يكون متعلقاً به بحيث ينجر معه إذا مشى فلا يصح) متى صلى على منديل طرفه نجس أو كان تحت قدمه حبل مشدود في نجاسة وما يصلي عليه طاهر فصلاته صحيحة سواء تحرك النجس بحركته أو لم يتحرك(1/476)
لأنه ليس بحامل للنجاسة ولا مصل عليها وإنما إتصل مصلاه بها أشبه إذا صلى على أرض طاهرة متصلة بأرض نجسة، وقال بعض أصحابنا إذا كان النجس يتحرك بحركته لم تصح صلاته، قال شيخنا: والصحيح ما ذكرنا فأما إن كان الحبل أو المنديل متعلقاً به ينجر معه إذا مشى لم تصح لأنه مستتبع لها فهو كحاملها ولو كان في يده أو وسطه حبل مشدود في نجاسة أو حيوان نجس أو سفينة صغيرة فيها نجاسة تنجر معه إذا مشى لم تصح صلاته لأنه مستتبع لها وإن كانت السفينة أو الحيوان كبيراً لا يقدر على جره إذا استعصى عليه صحت لأنه ليس بمستتبع لها.
قال القاضي: هذا إذا كان الشد في موضع طاهر فان كان في موضع نجس فسدت صلاته لأنه حامل لما هو ملاق للنجاسة والأول أولى لأنه لا يقدر على استتباع الملاقي للنجاسة أشبه مالو أمسك غصناً من شجرة عليها نجاسة أو سفينة عظيمة فيها نجاسة.
(مسألة) (ومتى وجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت في الصلاة أو لا فصلاته صحيحة لأن لأصل عدمها في الصلاة وإن علم أنها كانت في الصلاة لكنه جهلها أو نسيها فعلى روايتين) متى صلى وعليه نجاسة لا يعلم بها حتى فرغ من صلاته ففيه روايتان (إحداهما) لا تفسد صلاته إختارها شيخنا، وهذا قول ابن عمر وعطاء وسعيد ابن المسيب ومجاهد وإسحاق وابن المنذر (والثانية) يعيد وهو قول أبي
قلابة والشافعي لأنها طهارة مشترطة للصلاة فلم تسقط بالجهل كطهارة الحدث، وقال ربيعة ومالك: يعيد ما دام في الوقت، ووجه الأولى ما روى أبو سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال " ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ " قالوا: انا رأيناك ألقيت نعالك فألقينا نعالنا قال " إن جبريل أتاني فأخبرني إن فيهما قذرا " رواه أبو داود، ولو كانت الطهارة شرطاً مع عدم العلم بها لزمه استئناف الصلاة ويفارق طهارة الحدث لأنها آكد لكونها لا يعفى عن يسيرها.
فأما إن كان قد علم بالنجاسة ثم أنسيها فقال القاضي: حكي أصحابنا في المسئلتين روايتين، وذكر هو في مسألة النسيان أن الصلاة باطلة لأنه منسوب إلى التفريط بخلاف الجاهل، وقال الآمدي يعيد إذا كان قد توانى رواية واحدة، قال شيخنا: والصحيح التسوية بينهما لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه النسيان بل النسيان أولى لورود النص بالعفو عنه (فصل) فإن علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فإن قلنا لا يعذر بالجهل والنسيان فصلاته باطلة، وإن قلنا يعذر فهي صحيحة، ثم إن أمكنه إزالة النجاسة من غير زمن طويل ولا عمل كثير أزالها وبنى(1/477)
كما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه، وإن احتاج الى أحد هذين بطلت صلاته لإفضائه إلى أحد أمرين إما استصحاب النجاسة في الصلاة زمناً طويلاً أو أن يعمل فيها عملاً كثيراً فصار كالعريان يجد السترة بعيدة منه.
(فصل) وإذا سقطت عليه نجاسة ثم زالت عنه أو أزالها في الحال لم تبطل صلاته لما ذكرنا من حديث أبي سعيد، ولأن النجاسة يعفى عن يسيرها فعفي عن يسير زمنها ككشف العورة وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (وإذا جبر ساقه بعظم نجس فجبر لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر) وتصح صلاته لأنه يباح له ترك الطهارة من الحدث بذلك وهي آكد وإن لم يخف لزمه قلعة فإن صلى معه لم تصح صلاته لأنه صلى مع النجاسة وهو قادر على إزالتها من غير ضرر، ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف لأنه غير خائف للتلف أشبه إذا لم يخف الضرر، والأول أولى وإن سقطت سنة فأعادها بحرارتها فثبتت
فهي طاهرة ولأن حكم أبعاض الآدمي حكم جملته سواء إنفصلت في حياته أو بعد موته لأنها أجزاء من جملة فكان حكمها كسائر الحيوانات الطاهرة والنجسة، وعنه أنها نجسة إختاره القاضي لأنها لا حرمة لها بدليل أنه لا يصلي عليها، فعلى هذا يكون حكمها حكم العظم النجس على ما بنيا (مسألة) (ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام والحش وأعطان الابل وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها والموضع المغصوب، وعنه تصح مع التحريم) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في الصلاة في هذه المواضع.
فروي عنه أن الصلاة لا تصح فيها بحال - رويت كراهة الصلاة في المقبرة عن علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي وابن المنذر، وممن قال لا يصلي في مبارك الإبل ابن عمر وجابر بن سمرة والحسن ومالك واسحاق وأبو ثور.
وعن أحمد أن الصلاة في هذه صحيحة ما لم تكن نجسة وهو مذهب الشافعي وابي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وفي لفظ " فحيثما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد " متفق عليه، ولأنه موضع طاهر فصحت الصلاة فيه كالصحراء، والأولى ظاهر المذهب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة " رواه أبو داود، وعن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصلي في مرابض الغنم؟ قال " نعم " قال أتصلي في مبارك الإبل؟ قال " لا " رواه مسلم وهذه الأحاديث خاصة مقدمة على عموم أحاديثهم (فصل) فأما الحش فثبت الحكم فيه بالتنبيه لأنه إذا منع من الصلاة في هذه المواضع لكونها(1/478)
مظان النجاسة فالحش أولى لكونه معداً للنجاسة ومقصوداً لها ولأنه قد منع من ذكر الله تعالى والكلام فيه فمنع الصلاة فيه أولى.
قال شيخنا ولا أعلم فيه نصاً.
وقال بعض أصحابنا أن كان المصلي عالماً بالنهي لم تصح صلاته فيها لأنه عاص بالصلاة فيها والمعصية لا تكون قربة ولا طاعة وإن كان جاهلاً ففيه روايتان (إحداهما) لا تصح لأنها لا تصح مع العلم فلم تصح مع الجهل كالصلاة في محل نجس (والثانية) تصح لأنه معذور (فصل) ذكر القاضي أن المنع من الصلاة في هذه المواضع تعبد فعلى هذا يتناول النهي كل ما يقع عليه الاسم فلا فرق في المقبرة بين الحديثة والقديمة وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب، فأما إن كان فيها
قبر أو قبران لم يمنع من الصلاة فيها لأنه لا يتناولها الإسم، وإن نقلت القبور منها جازت الصلاة فيها لزوال الإسم ولإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فنبشت متفق عليه.
ولا فرق في الحمام بين مكان الغسل والمسلخ والأتون وكل ما يغلق عليه باب الحمام لتناول الإسم له.
وأعطان الإبل هي التي تقيم فيها وتأوي إليها، وقيل هي المواضع التي تناخ فيها إذا وردت، والأول أجود لأنه جعله في مقابلة مراح الغنم، والحش الذي يتخذ للغائط والبول فيمنع من الصلاة فيما هو داخل بابه، قال شخينا: ويحتمل أن المنع من الصلاة في هذه المواضع معلل بكونها مظان للنجاسات فإن المقبرة تنبش ويظهر التراب الذي فيه دماء الموتى وصديدهم، ومعاطن الإبل يبال فيها فإن البعير البارك كالجدار يستتر به ويبول، كما روي عن ابن عمر ولا يتحقق هذا في غيرها والحمام موضع الأوساخ والبول.
فنهي عن الصلاة فيها لذلك وإن كانت طاهرة لأن المظنة يتعلق الحكم بها وإن خفيت الحكمة ومتى أمكن تعليل الحكم كان أولى من قهر التعبد، ويدل على هذا تعدية الحكم إلى الحش المسكوت عنه بالتنبيه ولابد في التنبيه من وجود معنى المنطوق وإلا لم يكن تنبيهاً، فعلى هذا يمكن قصر الحكم على ما هو مظنة منها فلا يثبت الحكم في موضع المسلخ من الحمام ولا في سطحه لعدم المظنة فيه وكذلك ما أشبهه والله أعلم (فصل) ولا تصح الصلاة في الموضع المغصوب في أظهر الروايتين، وأحد قولي الشافعي.
والرواية الثانية يصح، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي لأن النهي لا يعود إلى الصلاة فلم يمنع صحتها كما لو صلى وهو يرى غريقا يمكنه إنقاذه فلم ينقذه أو مطل غريمه الذي يمكن إيفاؤه وصلى ووجه الأولى أن الصلاة عبادة أتي بها على الوجه المنهي عنه فلم تصح كصلاة الحائض فإن حركاته من القيام والركوع والسجود أفعال إختيارية هو منهي عنها عاص بها فكيف يكون مطيعاً بما(1/479)
هو عاص به.
فأما من رأى الغريق فليس بمنهي عن الصلاة إنما هو مأمور بالصلاة وإنقاذ الغريق وأحدهما آكد من الآخر، أما في مسئلتنا فإن أفعال الصلاة في نفسها منهي عنها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين غصبه لرقبة الأرض ودعواه ملكيتها وبين غصبه منافعها بأن يدعي اجارتها ظالماً أو يضع
يده عليها مدة أو يخرج ساباطاً في موضع لا يحل له أو يغصب راحلة ويصلي عليها أو سفينة ويصلي فيها أو لوحاً فيجعله سفينة ويصلي عليه كل ذلك حكمه في الصلاة حكم الدار المغصوبة على ما بيناه (فصل) قال أحمد يصلي الجمعة في موضع الغصب يعني إذا كان الجامع أو بعضه مغصوباً صحت الصلاة فيه لأن الجمعة تختص ببقعة فإذا صلاها الإمام في الموضع المغصوب فامتنع الناس من الصلاة فيه فاتتهم الجمعة وكذلك من امتنع فاتته ولذلك أبيحت خلف الخوارج والمبتدعة وصحت في الطرق لدعاء الحاجة إليها وكذلك الأعياد والجنازة (فصل) ويكره في موضع الخسف قاله أحمد لأنه موضع مسخوط عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم مر بالحجر " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم " ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة روى ذلك عن عمر وأبي موسى وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز والشعبي والاوزاعي.
وكره ابن عباس ومالك الكنائس لأجل الصور، وقال ابن عقيل: تكره الصلاة فيها لأنه كالتعظيم والتبجيل لها وقيل لأنه يضر بهم ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور ثم قد دخلت في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " فأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد " متفق عليه (مسألة) (وقال بعض أصحابنا حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق واسطحتها كذلك) لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سبع مواطن لا يجوز فيها الصلاة: ظهر بيت الله، والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق " رواه ابن ماجه، وقال الحكم في هذه المواضع الثلاثة كالحكم في الأربعة ولأن هذه المواضع مظان للنجاسات فعلق الحكم عليها وإن لم توجد الحقيقة كما إنتقضت الطهارة بالنوم ووجب الغسل بالتقاء الختانين.
قال شيخنا والصحيح جواز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم ويحتمله اختيار الخرقي لأنه لم يذكرها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجداً " متفق عليه.
واستثنى منه المقبرة والحمام ومعاطن الإبل بأحاديث صحيحة ففيما عدا ذلك يبقى على العموم، وحديث ابن عمر يرويه العمري وزيد بن جبيرة وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما فلا يترك به الحديث الصحيح.
وأكثر أصحابنا على القول الأول ومعنى(1/480)
محجة الطريق الجادة المسلوكة في السفر وقارعة الطريق التي تقرعها الأقدام مثل الأسواق والمشارع ولا بأس بالصلاة فيما علا منها يمنة ويسرة وكذلك الصلاة في الطريق التي يقل سالكها كطريق الأبيات اليسيرة فإن بني مسجد في طريق وكان الطريق ضيقاً بحيث يستضر المارة ببنائه لم يجز بناؤه ولا الصلاة فيه، وإن كان واسعاً لا يضر بالمارة جاز وهل يشترط إذن الإمام؟ على روايتين ذكره القاضي.
والمجزرة التي يذبح فيها الناس المعدة لذلك ولا فرق في هذه المواضع بين الطاهر والنجس ولا في المعاطن بين أن يكون فيها إبل في ذاك الوقت أو لا، فأما المواضع التي تبيت فيها الإبل في سيرها أو تناخ فيها لعلفها أو ورودها فلا تمنع الصلاة فيها.
قال الأثرم سئل أبو عبد الله عن الصلاة في موضع فيه أبعار الابل فرخص فيه ثم قال إذا لم يكن من معاطن الإبل الذي نهى عن الصلاة فيها التي تأوي إليها (فصل) فأما أسطحه هذه المواضع فقال القاضي وابن عقيل حكمها حكم السفل لأن الهواء تابع للقرار ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث والصحيح إن شاء الله قصر النهي على ما تناوله النص وإن الحكم لا يعدى إلى غيره ذكره شيخنا لأن الحكم إن كان تعبداً لم يقس عليه وإن علل فإنما يعلل بمظنة النجاسة ولا يتخيل هذا في أسطحتها، أما إن بنى على طريق ساباطا أو جناحاً وكان ذلك مباحاً له مثل أن يكون في درب غير نافذ باذن أهله أو مستحقا له فلا بأس بالصلاة عليه وإن كان على طريق نافذ فالمصلي فيه كالمصلي في الموضع المغصوب.
وإن كان الساباط على نهر تجري فيه السفن فهو كالساباط على الطريق وهذا فيما إذا كان السطح حادثاً على موضع النهي فإن كان المسجد سابقاً فحدث تحته طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو حدثت المقبرة حوله لم تمنع الصلاة فيه بغير خلاف لأنه يتبع ما حدث بعده.
وذكر القاضي فميا إذا حدث تحت المسجد طريق وجهاً في الصلاة فيه والأول أولى، فأما إن بني مسجد في مقبرة بين القبور فحكمه حكمها لأنه لا يخرج بذلك عن أن يكون في المقبرة، وقد روى قتادة أن أنساً مر على مقبرة وهم يبنون فيها مسجداً فقال كان يكره أن يبني مسجداً في وسط القبور (مسألة) (وتصح الصلاة إليها إلا المقبرة والحش في قول ابن حامد) كره الصلاة إلى هذه المواضع فإن فعل صحت صلاته نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، وقال أبو بكر يتوجه في الإعادة قولان (أحدهما)
يعيد لموضع النهي وبه أقول (والثاني) يصح لعدم تناول النهي له، وقال ابن حامد إن صلى إلى المقبرة والحش فهو كالمصلي فيها إذا لم يكن بينه وبينها حائل كما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " متفق عليه، قال القاضي وفي هذا تنبه على(1/481)
المواضع التي نهي عن الصلاة فيها وذكر القاضي في المجرد قال: إن صلى إلى العطن فصلاته صحيحة بخلاف ما قلناه في الصلاة إلى المقبرة والحش.
قال شيخنا والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شئ من هذه المواضع إلا المقبرة لورود النهي فيها وذلك لعموم قوله عليه السلام " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فإنه يتناول الذي يصلي فيه إلى هذه المواضع وقياس ذلك على المقبرة لا يصح أن كان النهي عن الصلاة إليها تعبداً وكذلك إن كان لمعنى اختص بها وهو إتخاذ القبور مسجداً تشبهاً بمن يعظمها وكذلك قال عليه السلام " لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه والله أعلم (مسألة) ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها، وقال الشافعي وابو حنيفة تصح لأنه مسجد ولأنه محل لصلاة النفل فكان محلاً للفرض كخارجها ولنا قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) والمصلي فيها أو على سطحها غير مستقبل لجهتها فأما النافلة فمبناها على التخفيف والمسامحة بدليل صحتها قاعداً وإلى غير القبلة في السفر على الراحلة (مسألة) (وتصح النافلة إذا كان بين يديه شئ منها) لا نعلم في ذلك خلافاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين إلا أنه إن توجه إلى الباب أو على ظهرها أو كان بين يديه شئ من الكعبة متصل بها صحت صلاته وإن لم يكن بين يديه شئ شاخص منها أو كان بين يديه أجر معبى وغير مبني أو خشب غير مسمر فقال أصحابنا لا تصح صلاته لأنه غير مستقبل لشئ منها.
قال شيخنا والأولى أنه لا يشترط كون شئ منها بين يديه لأن الواجب إستقبال موضعها وهوائها دون حيطانها بدليل مالو إنهدمت، وكذلك لو صلى على جبل عال يخرج عن مسامه البنيان صحت صلاته إلى هوائها كذلك ههنا (باب استقبال القبلة) (وهو الشرط الخامس) لصحة الصلاة لقول الله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
أي نحوه، وقال علي رضي الله عنه شطره قبله، وروي عن البراء قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم أنه وجه إلى الكعبة فمر رجل صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار فقال أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا إلى الكعبة.
أخرجه النسائي (مسألة) قال (إلا في حال العجز عنه.
والنافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير) وجملة ذلك أن الإستقبال يسقط في ثلاثة مواضع (أحدها) في حال العجز عنه لكونه مربوطاً إلى غير القبلة ونحوه فيصلي على حسب حاله لأنه شرط لصحة الصلاة عجز عنه أشبه القيام (الثاني) إذا إشتد الخوف(1/482)
كحال التحام الحرب وسنذكره في موضعه إن شاء الله (الثالث) في النافلة على الراحلة ولا نعلم في إباحة التطوع على الراحلة إلى غير القبلة في السفر الطويل خلافا بين أهل العلم.
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه جائز لكل من سافر سفراً تقصر فيه الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت به يومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، وهل السفر القصير حكم الطويل في ذلك؟ وهو قول الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا يباح لأنه رخصة سفر فاختص بالطويل لا القصير ولنا قول الله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجه يومئ برأسه متفق عليه، وللبخاري إلا الفرائض، ولم يفرق بين قصير السفر وطويله ولأن إباحة التطوع على الراحلة تخفيف كيلا يؤدي الى تقليله وقطعه وهذا يستوي فيه الطويل والقصير.
والفطر والقصر تراعى فيه المشقة وإنما توجد غالباً في الطويل.
قال القاضي: الأحكام التي يستوي فيها السفر الطويل والقصير ثلاث: التيمم وأكل الميتة في المخمصة والتطوع على الراحلة وبقية الرخص تختص الطويل وهي القصر والجمع والمسح ثلاثاً (فصل) ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.
قال جابر بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع.
رواه أبو داود، ويصلي على البعير والحمار وغيرهما، قال ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى
خيبر، رواه أبو داود والنسائي، لكن إذا قلنا بنجاسة الحمار فلابد أن يكون تحته سترة طاهرة، فإن كان على الراحلة في مكان واسع كالمنفرد في العمارية يدور فيها كيف شاء ويتمكن من الصلاة إلى القبلة والركوع والسجود بالأرض لزمه ذلك كراكب السفينة وان قدر على الإستقبال دون الركوع والسجود لزمه الإستقبال وأومأ بهما نص عليه.
وقال أبو الحسن الآمدي: يحتمل أن لا يلزمه شئ من ذلك كغيره لأن الرخصة العامة يسوى فيها من وجدت فيه المشقة وغيره كالقصر والجمع، وإن عجز عن ذلك سقط بغير خلاف (فصل) وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته فإن عدل عنها إلى جهة الكعبة جاز لأنها الأصل وإنما سقط للعذر، وإن عدل إلى غيرها عمداً فسدت صلاته لأنه ترك قبلته عمداً، وإن كان مغلوباً أو نائماً أو ظناً منه أنها جهة سيره فهو على صلاته ويرجع إلى جهة سيره إذا أمكنه فإن تمادى به ذلك(1/483)
بعد زوال عذره فسدت صلاته لتركه الإستقبال عمداً.
ولا فرق بين جميع التطوعات في هذه النوافل المطلقة والسنن الرواتب والوتر وسجود التلاوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على بعيره متفق عليه (مسألة) (وهل يجوز ذلك للماشي؟) على روايتين (إحداهما) لا يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب أبي حنيفة لعموم قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) والنص إنما ورد في الراكب فلا يصح قياس الماشي عليه لأنه يحتاج إلى عمل كثير ومشي متتابع ينافي الصلاة فلم يصح الإلحاق (والثانية) يجوز ذلك للماشي نقلها عنه المثنى بن جامع واختاره القاضي، فعلى هذا يستقبل القبلة لإفتتاح الصلاة ثم ينحرف إلى جهة سيره ويقرأ وهو ماش ويركع ثم يسجد بالأرض، وهذا قول عطاء والشافعي لأن الركوع والسجود ممكن من غير إنقطاعه عن جهة سيره فلزمه كالواقف.
وقال الآمدي: يومئ بالركوع والسجود كالراكب قياساً عليه.
ووجه هذه الرواية إن الصلاة أبيحت للراكب كيلا ينقطع عن القافلة في السفر وهو موجود في الماشي ولأنها إحدى حالتي السفر أشبه الراكب (فصل) وإذا دخل المصلي بلداً ناوياً للإقامة فيه لم يصل بعد دخوله إليه إلا صلاة المقيم.
وإن كان مجتازاً غير ناو للإقامة أو نوى الإقامة مدة لا يلزمه فيها إتمام الصلاة إستدام الصلاة مادام سائراً فإذا
نزل فيه صلى إلى القبلة وبنى على ما مضى من صلاته كالخائف إذا أمن في أثناء صلاته.
ولو ابتدأها وهو نازل إلى القبلة ثم أراد الركوب أتم صلاته ثم يركب وقيل يركب في الصلاة ويتمها إلى جهة سيره، كالآمن إذا خاف في صلاته والأولى أولى، والفرق بينهما أن حالة الخوف حالة ضرورة أبيح فيها ما يحتاج إليه من العمل وهذه رخصة من غير ضرورة فلا يباح فيها غير ما نقل ولم يرد بإباحة الركوب الذي يحتاج الى عمل وتوجه إلى غير جهة القبلة ولا جهة سيره سنة فيبقى على الأصل والله سبحانه وتعالى أعلم (مسألة) (فإن أمكنه إفتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين) متى عجز عن إستقبال القبلة في إبتداء صلاته كراكب راحلة لا تطيعه أو جمل مقطور لم يلزمه لأنه عاجز عنه أشبه الخائف إذا عجز عن ذلك، وقال القاضي يحتمل أن يلزمه، وإن أمكنه ذلك كراكب راحلة منفردة تطيعه فهل يلزمه إفتتاح الصلاة إلى القبلة؟ على روايتين (إحداهما) يلزمه لما روي أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجهة ركابه، رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولأنه أمكنه إبتداء الصلاة إلى القبلة فلزمه كالصلاة كلها وهذا اختيار الخرقي (والثانية) لا يلزمه لحديث ابن عمر اختاره أبو بكر ولأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه بقية أجزائها ولأن ذلك لا يخلو من مشقة فسقط، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على(1/484)
الفضيلة والندب والله أعلم.
(مسألة) (والفرض في القبلة أصابة العين لمن قرب منها وأصابة الجهة لمن بعد عنها) الناس في القبلة على ضربين (أحدهما) يلزمه إصابة عين الكعبة وهو من كان معايناً لها ومن كان يمكنه من أهلها أو نشأ فيها أو أكثر مقامه فيها أو كان قريباً منها من وراء حائل يحدث كالحيطان والبيوت ففرضه التوجه إلى عين الكعبة وهكذا إن كان بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه متيقن صحة قبلته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ، وقد روى أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل القبلة وقال " هذه القبلة " كذلك ذكره أصحابنا، وفي ذلك نظر لأن صلاة الصف المستطيل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة مع خروج بعضهم عن إستقبال عين الكعبة لكن الصف
أطول منها.
وقولهم أنه عليه السلام لا يقر على الخطأ صحيح لكن إنما الواجب عليه استقبال الجهة وقد فعله وهذا الجواب عن الخبر المذكور، وإن كان أعمى من أهل مكة أو كان غريباً وهو غائب عن الكعبة ففرضه الخبر عن يقين أو مشاهدة مثل أن يكون من وراء حائل وعلى الحائل من يخبره أو أخبره أهل الدار أنه متوجه إلى عين الكعبة فلزمه الرجوع إلى قولهم وليس له الإجتهاد كالحاكم إذا وجد النص، قال ابن عقيل: لو خرج ببعض بدنه عن مسامته الكعبة لم تصح صلاته (الثاني) من فرضه إصابة الجهة وهو البعيد عن الكعبة فليس عليه إصابة العين، قال احمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة فإن إنحرف عن القبلة قليلاً لم يعد ولكن يتحرى الوسط وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر: تلزمه إصابة العين لقول الله (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) وقياساً على القريب وقد روى ذلك عن أحمد وهو اختيار أبي الخطاب ولنا قوله عليه السلام " ما بين المشرق والمغرب قبلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنا أجمعنا على صحة صلاة الإثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة وعلى صحة صلاة الصف الطويل على خط مستو لا يمكن أن يصيب عين الكعبة إلا من كان بقدرها فإن قيل مع البعد يتسع المحاذي قلنا إنما يتسع مع التقوس وأما مع عدمه فلا (1) والله أعلم (مسألة) (فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به وإن وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو لا لم يلتفت إليها) متى أخبره ثقة عن يقين لزمه قبول خبره لما ذكرنا، وإن كان في مصر أو قرية من قرى المسلمين ففرضه التوجه إلى محاريبهم لأن هذه القبلة ينصبها أهل الخبرة والمعرفة فجرى ذلك مجرى الخبر فأغنى عن الإجتهاد، وإن أخبره مخبر من
__________
1) قال هذا تبعا للمغني وفي اطلاقه والحق القول بالاتساع والتقوس في حال البعد هو الذي يقتضي الخروج عن المحاذاة(1/485)
أهل المعرفة بالقبلة من أهل البلد أو من غيره صار إلى خبره وليس له الإجتهاد كالحاكم يقبل النص من الثقة ولا يجتهد.
ويحتمل أنه إنما يلزمه الرجوع إلى الخبر وإلى المحاريب في حق القريب الذي يخبر
عن التوجه إلى عين الكعبة، أما في حق من يلزمه قصد الجهة فإن كان أعمى أو من فرضه التقليد لزمه الرجوع إلى ذلك وإن كان مجتهداً جاز له الرجوع لما ذكرنا كما يجوز له الرجوع في الوقت إلى قول المؤذن ولا يلزمه ذلك بل يجوز له الإجتهاد إن شاء إذا كانت الأدلة على القبلة ظاهرة لأن المخبر والذي نصب المحاريب إنما يبني على الأدلة وقد ذكر ابن الزاغوني في كتاب الإقناع قال: إذا دخل رجل إلى مسجد قديم مشهور في بلد معروف كبغداد فهل يلزمه الإجتهاد أم يجزئه التوجه إلى القبلة؟ فيه روايتان عن أحمد (إحداهما) يلزمه الإجتهاد لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد في مسائل الفقه (والثانية) لا يلزمه لأن إتفاقهم عليها مع تكرر الإعصار إجماع عليها ولا يجوز مخالفتها بإجتهاده.
فإذا قلنا يجب الإجتهاد في سائر البلاد ففي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم روايتان (إحداهما) يتوجه إليها بلا إجتهاد لأنه عليه الصلاة والسلام لا يداوم عليها إلا وهي مقطوع بصحتها فهو كما لو كان مشاهداً للبيت (والثانية) هي كسائر البلاد يلزمه الإجتهاد فيها لأنها نازحة عن مكة فهي كغيرها (فصل) ولا يجوز الإستدلال بمحاريب الكفار لأن قولهم لا يجوز الرجوع إليه فمحاريهم أولى إلا أن تعلم قبلتهم كالنصارى فإذا رأى محاريبهم في كنائسهم على أنها مستقبلة المشرق فإن وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو الكفار لم يجز الاستدلالل بها لكونها لا دلالة فيها، وكذلك لو رأى على المحراب آثار الإسلام لجواز أن يكون الباني مشركاً عمله ليغر به المسلمين إلا أن يكون مما لا يتطرق إليه هذا الإحتمال ويحصل له العلم أنه محاريب المسلمين فيستقبله.
(فصل) وإذا صلى على موضع عال يخرج عن مسامته الكعبة أو في مكان ينزل عن مسامتتها صحت صلاته لأن الواجب إستقبالها وما حاذاها من فوقها وتحتها لانها زالت صحت الصلاة إلى موضع جدارها والله أعلم (مسألة) (وإن إشتبهت عليه في السفر إجتهد في طلبها بالدلائل وأثبتها بالقطب إذا جعله وراء ظهره كان مستقبلاً الكعبة) (1) متى اشتبهت القبلة في السفر وكان مجتهداً وجب عليه الإجتهاد في طلبها بالأدلة لأن ما وجب عليه إتباعه عند وجوده وجب الإستدلال عليه عند خفائه كالحكم في الحادثة.
والمجتهد هو العالم بأدلة القبلة وإن جهل أحكام الشرع لأن كل من علم أدلة شئ كان مجتهداً فيه لأنه
__________
1) أي في المدينة المنورة وسورية وامثالهما من البلاد الشمالية كما سيأتي(1/486)
يتمكن من إستقبالها بدليله والجاهل الذي لا يعرف أدلة القبلة وإن كان فقيهاً وكذلك الأعمى فهذان فرضهما التقليد، وأوثق أدلتها النجوم قال الله تعالى (وبالنجم هم يهتدون) وقال (لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) وآكدها القطب وهو نجم خفي شمالي حوله أنجم دائرة في أحد طرفيها الجدي وفي الآخر الفرقدان وبين ذلك ثلاثة أنجم من فوق وثلاثة من أسفل تدور هذه الفراشة حول القطب كدوران الرحا حول سفودها في كل يوم وليلة دورة وقريب منها بنات نعش مما يلي الفرقدين تدور حولها والقطب لا يتغير من مكانه في جميع الأزمان وقيل أنه يتغير تغيراً يسيراً لا يؤثر وهو خفي يظهر لحديد النظر في غير ليالي القمر متى استدبرته في الأرض الشامية كنت مستقبلاً للكعبة، وقيل أنه ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلاً وكلما قرب إلى المغرب كان إنحرافه أكثر.
وإن كان بحران أو قريباً منها جعل القطب خلف ظهره معتدلاً، وإن كان بالعراق جعل القطب حذاء أذنه اليمنى (1) على علوها ومتى استدبر الفرقدين والجدي في حال علو أحدهما ونزول الآخر على الإعتدال فهو كاستدبار القطب وإن استدبره في غير هذه الحال كان مستقبلاً للجهة فإن استدبر الغربي كان منحرفاً إلى الشرق وبالعكس وإن استدبر بنات نعش فكذلك إلا أن انحرافه أكثر (فصل) والشمس والقمر ومنازلهما وهي ثمانية وعشرون منزلاً، الشرطان، والبطين، والثريا والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصدفة، والعواء والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، وبطن الحوت، منها أربعة عشر شامية تطلع من وسط المشرق مائلة إلى الشمال قليلاً أولها الشرطان وآخرها السماك، والباقي يمانية تطلع من المشرق مائلة إلى التيامن، أولها الغفر وآخرها بطن الحوت، وينزل القمر كل ليلة بمنزل أو قريبا منه، ثم ينتقل الليلة الثانية الى الذي يليه.
والشمس تنزل بكل منزل منها ثلاثة عشر يوماً فيكون عودها إلى المنزل الذي نزلت به عند تمام سنة شمسية.
وهذه المنازل يكون منها فيما بين طلوع الشمس وغروبها أربعة عشر منزلاً ومثلها من غروبها إلى طلوع وقت الفجر، منها منزلان
وقت المغرب منزل وهو نصف سدس سواد الليل، وكلها تطلع من المشرق عن يسرة المصلي وتغرب
__________
1) وفي مصر بالعكس(1/487)
عن يمينه في المغرب إلا أن أوائل الشامية وأواخر اليمانية وأول اليمانية وآخر الشامية تطلع من وسط المشرق أو قريبا منه بحيث إذا جعل الطالع منها محاذياً لكتفه الأيسر كان مستقبلاً للكعبة.
والمتوسط من الشامية وهو الذراع وما يليه من الجانبين مطلعه إلى ناحية الشمال، والمتوسط من اليمانية كالبلدة وما هو من جانبها يميل مطلعه إلى التيامن، فاليماني منها يجعله أمام كتفه اليسرى، والشامي يجعله خلف كتفه، وكذلك الغارب عند الكتف الأيمن، وإن عرف المتوسط منها بأن يرى بينه وبين أفق السماء سبعة من الجانبين.
ولكل نجم من هذه المنازل نجوم تقاربه وتقارنه حكمها حكمه ويستدل بها عليه كالنسرين والشعريين والسماك الرامح وغير ذلك، وسهيل نجم كبير يطلع نحواً من مهب الجنوب ثم يسير حتى يصير في قبلة المصلي ويتجاوزها ثم يغرب قريباً من مهب الدبور، والناقة تطلع في المحرم من مهب الصبا وتغيب في مهب الشمال (فصل) والشمس تختلف مطالعها ومغاربها على حسب إختلاف منازلها، تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، والقمر يبدأ أول ليلة في المغرب ثم يتأخر كل ليلة منزلاً حتى يكون في السابع وقت المغرب في قبلة المصلي مائلاً عنها قليلاً إلى الغرب.
ثم يطلع ليلة الرابعة عشرة من المشرق وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي أو قريباً منها وقت الفجر وتختلف مطالعه بإختلاف منازله (مسألة) والرياح الجنوب تهب مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمينه من الزاوية التي بين القبلة والمشرق والشمال مقابلتها تهب إلى مهب الجنوب، والدبور تهب من الزاوية التي بين القبلة والمغرب مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن.
والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها، فهذه الرياح التي يستدل بها وتعرف بصفاتها وخصائصها وربما هبت هذه الرياح بين الحيطان والجبال فتدور فلا إعتبار بها، وبين كل ريحين منها ريح تسمى النكباء لتنكبها طريق الرياح المعروفة، فهذا أصح ما يستدل به على القبلة، وقد يهتدي أهل كل بلد على القبلة بأدلة تختص بها من جبالها وأنهارها وغير
ذلك، وذكر أصحابنا الاستدلال بالانهار الكبار وقالوا: كلها تجري عن يمنة المصلي إلى يسرته على إنحراف قليل كدجلة والفرات والنهروان، ولا إعتبار بالأنهار الصغار ولا المحدثة لأنها بحسب الحاجات ما خلا نهرين (أحدهما) العاصي بالشام (والآخر) سيحون بالمشرق، قال شيخنا: وهذا لا ينضبط(1/488)
فإن الأردن بالشام نحو القبلة وكثير منها يجري نحو البحر يصب فيه والله أعلم (فصل) فإن خفيت الأدلة على المجتهد لغيم أو ظلمة تحرى وصلى وصحت صلاته لأنه بذل وسعه في معرفة الحق مع علمه بأدلته، أشبه الحاكم إذا خفيت عليه النصوص.
وقد روى عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل (فأينما تولوا فثم وجه الله) رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن إلا أنه من حديث أشعث السمان وفيه ضعف (مسألة) (وإذا إختلف إجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه ويتبع الجاهل والأعمى أوثقهما في نفسه) متى إختلف مجتهدان ففرض كل واحد منهما الصلاة إلى الجهة التي يؤديه إليها إجتهاده فلا يسعه تركها ولا تقليد صاحبه وإن كان أعلم منه كالعالمين يختلفان في الحادثة فإن اجتهد أحدهما دون الآخر لم يجز له تقليد من إجتهد حتى يجتهد بنفسه وإن ضاق الوقت كالحاكم لا يسعه تقليد غيره وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد في المجتهد انه يسعه تقليد غيره إذا ضاق الوقت عن إجتهاده قال لأن أحمد قال فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة في بيت يعيد لأن عليه أن يسأل.
قال شيخنا: وما استدل به لا دليل فيه وكلام أحمد إنما دل على أنه ليس لمن في المصر الإجتهاد لأنه يمكنه التوصل إلى معرفة القبلة بالخبر وكذلك لم يفرق بين ضيق الوقت وسعته مع الاتفاق على أنه لا يجوز التقليد مع سعة الوقت (فصل) ومتى إختلف إجتهادهما لم يجز لأحدهما أن يؤم صاحبه لأن كل واحد منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز له الإئتمام به كما لو خرجت من أحدهما ربح واعتقد كل واحد منهما أنها من الآخر.
قال شيخنا: وقياس المذهب جواز ذلك، وهو مذهب أبي ثور، لأن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة
الآخر وإن فرضه التوجه إلى ما توجه اليه فلم يمنع الإقتداء به إختلاف الجهة كالمصلين حول الكعبة وقد نص أحمد على صحة الصلاة خلف المصلي في جلود الثعالب إذا كان يعتقد صحة الصلاة فيها وفارق ما إذا إعتقد كل واحد منهما حدث صاحبه لأنه يعتقد بطلان صلاته بحيث لو بان له يقيناً حدث نفسه أعاد الصلاة بخلاف هذا، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
فأما إن مال أحدهما يميناً والآخر شمالاً مع إتفاقهما في الجهة فلا يختلف المذهب في صحة ائتمام أحدهما بالآخر لاتفاقهما في(1/489)
الجهة الواجب استقبالها (فصل) (ويتبع الجاهل والاعمى أو ثقهما في نفسه) متى إختلف مجتهدان وكان معهما أعمى أو جاهل لا يقدر على تعلم الأدلة قبل خروج الوقت ففرضه تقليد أوثقهما في نفسه وأعلمهما وأكثرهما تحرياً لأن الصواب إليه أقرب.
فإن قلد المفضول فظاهر كلامه ههنا أنه لا تصح صلاته لأنه ترك ما يغلب على ظنه أنه الصواب فلم يجز له ذلك كالمجتهد يترك إجتهاده.
والأولى صحتها وهو مذهب الشافعي لأنه أخذ بدليل له الأخذ به لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره كما لو استويا ولا عبرة بظنه فإنه لو غلب على ظنه إصابة المفضول لم يمنع ذلك تقليد الأفضل، فإن استويا قلد من شاء منهما كالعامي مع العلماء في بقية الأحكام (فصل) والمقلد من لا تمكنه الضلاة باجتهاد نفسه، إما لعدم بصره أو بصيرته بحيث لا يمكنه التعلم قبل خروج وقت الصلاة فإن أمكنه التعلم قبل خروج الوقت لزمه، فإن صلى قبل ذلك لم تصح لأنه قدر على الصلاة باجتهاده فلم يجز له التقليد كالمجتهد، ولا يلزم هذا على العامي حيث لم يلزمه تعلم الفقه لوجهين (أحدهما) أن الفقه ليس شرطاً لصحة الصلاة (الثاني) أنه يشق ومدته تطول فإن أخر هذا التعلم والصلاة حتى ضاق الوقت عن التعلم والإجتهاد أو عن أحدهما أحدهما صحت صلاته بالتقليد كالذي يقدر على تعلم الفاتحة فيضيق الوقت عن تعلمها.
وإن كان بالمجتهد ما يمنعه رؤية الأدلة كالرمد والمحبوس في مكان لا يرى فيه الأدلة ولا يجد مخبراً إلا مجتهداً فهو كالأعمى في جواز تقليده (فصل) فإذا شرع في الصلاة بتقليد مجتهد فقال له قائل قد أخطأت القبلة وكان يخبر عن يقين
كمن يقول قد رأيت الشمس ونحوها وتيقنت خطأك لزمه الرجوع إلى قوله لأنه لو أخبر بذلك المجتهد الذي قلده الأعمى لزمه قبول خبره فالأعمى أولى.
وإن أخبره عن إجتهاده أو لم يبين له ولم يكن في نفسه أوثق من الأول مضى على ما هو عليه لأنه شرع في الصلاة بدليل يقيني فلا يزول عنه بالشك وإن كان أوثق من الأول في نفسه وقلنا لا يلزمه تقليد الأفضل فكذلك والارجع إلى قوله كالمجتهد إذا(1/490)
تغير اجتهاده في أثناء صلاته.
(فصل) ولو شرع مجتهد في الصلاة بإجتهاده فعمي فيها بنى على ما مضى من صلاته لأنه يمكنه البناء على إجتهاد غيره فاجتهاد نفسه أولى فإن استدار عن تلك الجهة بطلت صلاته وإن أخبره مخبر يخطئه عن يقين رجع إليه وإن كان عن إجتهاده لم يرجع إليه لما ذكرنا، وإن شرع فيها وهو أعمى فأبصر في أثنائها فشاهد ما يستدل به على صواب نفسه من العلامات مضى عليه لأن الاجتهادين قد إتفقا وإن بان له خطؤه استدار إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها وبنى كالمجتهد إذا تغير اجتهاده في أثناء الصلاة وإن لم يتبين له صواب ولا خطأ بطلت صلاته واجتهد لأن فرضه الإجتهاد فلم يجز له أداء فرضه بالتقليد كما لو كان بصيراً في ابتدائها وإن كان مقلداً مضى في صلاته لأنه ليس في وسعه إلا الدليل الذي بدأ به فيها (مسألة) (وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ أو صلى الأعمى بلا دليل أعاد) متى صلى البصير في الحضر ثم بان له الخطأ أعاد سواء صلى باجتهاده أو غيره لأن الحضر ليس بمحل للإجتهاد لقدرة من فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها ولأنه يجد من يخبره عن يقين غالباً فلم يكن له الإجتهاد كواجد النص في سائر الأحكام، وإن صلى من غير دليل أخطأ لتفريطه وإن أخبره مخبر فأخطأ فقد تبين أن خبره ليس بدليل، فإن كان محبوساً لا يجد من يخبره فقال أبو الحسن التميمي يصلي بالتحري ولا يعيد لأنه عاجز عن الاستدلال بالخبر والمحاريب أشبه المسافر، وأما الأعمى فهو في الحضر كالبصير لقدرته على الاستدلال بالخبر والمحاريب فإنه يعرف باللمس وكذلك يعلم أن باب المسجد إلى الشمال أو غيرها فيمكنه الاستدلال به فمتى أخطأ أعاد وكذلك حكم المقلد في هذا (مسألة) (فإن لم يجد الأعمى من يقلده صلى وفي الإعادة روايتان) وقال ابن حامد أن أخطأ
أعاد وإن أصاب فعلى وجهين وإذا كان الأعمى والمقلد في السفر ولم يجد مخبراً ولا مجتهداً يقلده فقال(1/491)
أبو بكر يصلي على حسب حاله وفي الإعادة روايتان (إحداهما) يعيد بكل حال وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه صلى بغير دليل فلزمته الإعادة وإن أصاب كالمجتهد إذا صلى بغير إجتهاد (والثانية) الإعادة عليه لأنه أتى بما أمر به أشبه المجتهد ولأنه عاجز عن غير ما أتى به فسقط عنه كسائر العاجزين عن الإستقبال ولأنه عادم للدليل أشبه المجتهد في الغيم، وقال ابن حامد أن أخطأ أعاد لفوات الشرط وإن أصاب فعلى وجهين وجههما كما ذكرنا.
وقد ذكرنا أن هذا حكم المقلد فأما إن وجد من يخبره أو يقلده فلم يفعل أو خالف المخبر أو المجتهد وصلى بطلت صلاته بكل حال وكذلك المجتهد إذا صلى من غير إجتهاد وأداه إجتهاده إلى جهة فخالفها لأنه ترك ما أمر به أشبه التارك التوجه إلى الكعبة مع علمه بها (مسألة) (ومن صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم علم أنه أخطأ القبلة فلا إعادة عليه) وكذلك حكم المقلد الذي صلى بتقليده، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر تلزمه الإعادة لأنه أخطأ في شرط من شروط الصلاة فلزمته الإعادة كما لو صلى ثم بان أنه أخطأ في الوقت أو بغير طهارة ولنا حديث عامر بن ربيعة الذي ذكرناه ولأنه أتى بما أمر فخرج عن العهدة كالمصيب ولأنه صلى إلى غير الكعبة للعذر أشبه الخائف ولأنه شرط عجز عنه أشبه سائر الشروط، وأما المصلي قبل الوقت فإنه لم يأت بما أمره به إنما أمر بالصلاة في الوقت بخلاف مسئلتنا فإنه مأمور بالصلاة بغير شك ولم يؤمر إلا بهذه الصلاة لأن غيرها محرمة عليه إجماعاً وسائر الشروط إذا عجز عنها سقطت كذاههنا، ولا فرق بين كون الأدلة ظاهرة فاشتبهت عليه أو مستورة بغيم أو ما يسترها عنه لما ذكرنا من الحديث فإن الأدلة استترت عنهم بالغيم ولأنه أتى بما أمر في الحالين وعجز عن إستقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الإعادة (فصل) وإن بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة استدار إلى جهة الكعبة وبنى على ما مضى من(1/492)
صلاته لأن ما مضى منها كان صحيحاً فجاز البناء عليه كما لو لم يبن له الخطأ.
وإن كانوا جماعة قد قدموا أحدهم ثم بان
لهم الخطأ في حال واحدة استداروا إلى الجهة التي بان لهم فيها الصواب لأن أهل قباء بان لهم تحويل القبلة وهم في الصلاة واستداروا إلى جهة الكعبة وأتموا صلاتهم، وإن بان للإمام وحده أو للمأمومين أو لبعضهم استدار من بان له الصواب ونوى بعضهم مفارقة بعض إلا على الوجه الذي قلنا أن لبعضهم الائتمام ببعض مع إختلاف الجهة، وإن كان فيهم مقلد تبع من قلده وانحرف بإنحرافه وإن قلد الجميع لم ينحرف إلا بإنحراف الجميع لأنه شرع بدليل يقيني فلا ينحرف بالشك إلا من يلزمه تقليد الأوثق فإنه ينحرف بإنحرافه (مسالة) (فإن أراد صلاة أخرى اجتهد لها فإن تغير إجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول) وجملته أن المجتهد متى صلى بالاجتهاد إلى جهة صلاة ثم أراد صلاة أخرى اجتهد لها كالحاكم إذا إجتهد في حادثة ثم حدث مثلها وهذا مذهب الشافعي، فإن تغير إجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول كالحاكم لو تغير اجتهاده في الحادثة الثانية عمل به ولم ينقض حكمه الأول وهذا لا نعلم فيه خلافاً، فإن تغير اجتهاده في الصلاة استدار وبنى على ما مضى.
نص عليه أحمد، وقال ابن أبي موسى والآمدي لا ينتقل لئلا ينقض الإجتهاد بالإجتهاد ولنا أنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة فلم تجز له الصلاة إلى غيرها كما لو أراد صلاة أخرى وليس هذا نقضاً للإجتهاد إنما عمل به في المستقبل كما في الصلاة الأخرى.
وإنما يكون نقضاً للإجتهاد إذا ألزمناه اعادة ما مضى من صلاته، فإن لم يبق إجتهاده وظنه إلى الجهة الأولى ولم يؤده إجتهاده إلى جهة أخرى بنى على ما مضى لأنه لم يظهر له جهة أخرى يتوجه إليها.
وإن شك في إجتهاده لم يزل على جهته لأن الإجتهاد ظاهر فلا يزول عنه بالشك، وإن بان له الخطأ ولم يعرف جهة القبلة كمن كان يصلي إلى جهة فرأى بعض منازل القمر في قبلته ولم يدر أهو في الشرق أم في الغرب واحتاج إلى الإجتهاد بطلت صلاته لأنه لا يمكنه استدامتها إلى غير القبلة وليست له جهة يتوجه إليها فبطلت لتعذر إتمامها والله أعلم (باب النية) (وهي الشرط السادس للصلاة على كل حال) النية هي القصد يقال نواك الله بخير أي قصدك ومحلها القلب فإن لفظ بما نواه كان تأكيداً وإن سبق لسانه إلى غير ما نواه لم تفسد صلاته وإن لم ينطق بلسانه أجزأ وهي واجبة لا نعلم فيه خلافاً ولا تنعقد الصلاة إلا بها ولا تسقط بحال لقول الله(1/493)
تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخصلين له الدين) والإخلاص عمل القلب وهو أن يقصد بعمله الله تعالى وحده غيره، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لأمرئ ما نوى " متفق عليه (مسألة) (ويجب أن ينوي الصلاة بعينها إن كانت معينة وإلا أجزأته نية الصلاة) متى كانت الصلاة معينة لزمه شيئان: نية الفعل، والتعيين، فإن كان فرضاً ظهراً أو عصراً أو غيرهما لزمه تعيينها، وكذلك إن كانت نفلاً معينة كالوتر وصلاة الكسوف والاستسقاء والسنن الرواتب لزمه التعيين أيضا لعوم الحديث، وإن كانت نافلة مطلقة كصلاة الليل أجزأته نية مطلق الصلاة لا غير لعدم التعيين فيها (مسألة) (وهل تشترط نية القضاء في الفائتة ونية الفرضية في الفرض؟ على وجهين) اختلف أصحابنا في نية الفرضية في الفرض فقال بعضهم: لا يجب لأن التعيين يغني عنها لكون الظهر لا تكون من المكلف إلا ظهراً فرضاً، وقال ابن حامد لابد منها لأن المعينة قد تكون نفلاً كظهر الصبي والمعادة فعلى هذا يحتاج إلى نية الفعل والتعيين والفرضية (فصل) وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وهل يجب ذلك؟ على وجهين (أحدهما) يجب لقوله " وإنما لأمرئ، ما نوى " (والثاني) لا يجب وهو أولى لأنه لا يختلف المذهب أنه لو صلى ينويها أداء فبان أن وقتها قد خرج أن صلاته صحيحة ويقع قضاء وكذلك لو نواها قضاء ظناً أن الوقت قد خرج فبان فعلها في وقتها وقعت أداء من غير نيته كالأسير إذا تحرى وصام فبان أنه وافق الشهر أو ما بعده أجزأه، فأما إن ظن أن عليه ظهراً فائتة فقضاها في وقت ظهر اليوم ثم بان أنه لا قضاء عليه أجزأته في أحد الوجهين لأن الصلاة معينة وإنما أخطأ في نية الوقت فلم يؤثر كما إذا اعتقد أن الوقت قد خرج فبان إنه لم يخرج أو كما لو نوى ظهر أمس وعليه ظهر يوم قبله (والثاني) لا يجزئه لأنه لم ينو عين الصلاة أشبه ما لو نوى قضاء عصر فإنها لا تجزئه عن الظهر، ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة لم يجزئه عنها ويتخرج فيها كالتي قبلها، فأما إن كانت عليه فوائت فنوى صلاة غير معينة لم تجزئه عن واحدة منها لعدم التعيين (مسألة) (ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام) لأنه أول الصلاة لتكون الينة مقارنة للعبادة
(مسألة) (فإن تقدمت قبل ذلك بزمن يسير جاز) ذكره أصحابنا ما لم يفسخها، واشترط الخرقي أن يكون بعد دخول الوقت، فإن قطع النية أو طال الفصل لم يجزئه وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال(1/494)
الشافعي وابن المنذر: تشترط مقارنة النية للتكبير لقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) فقوله مخلصين حال لهم في وقت العبادة، أي مخلصين حال العبادة، والإخلاص هو النية ولأن النية شرط فلم يجز أن تخلو العبادة عنها كسائر شروطها ولنا أنها عبادة فجاز تقديم نيتها عليها كالصوم وتقدم النية على الفعل لا يخرجه عن كونه منوياً ولا يخرج الفاعل عن كونه مخلصاً كالصوم ولأنه جزء من الصلاة أشبه سائر أجزائها (مسألة) (ويجب أن يستصحب حكمها إلى آخر الصلاة) معنى استصحاب حكمها أن لا يقطعها فلو ذهل عنها أو عزبت عنه في أثناء الصلاة لم يبطلها لأن التحرز من هذا غير ممكن وقياساً على الصوم وغيره، وقد روى مالك في الموضأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان وله حصاص فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول أذكر كذا أذكر كذا حتى يضل أحدكم أن يدري كم صلى " وروي ان عمر صلى صلاة لم يقرأ فيها، فقيل له إنك لم تقرأ؟ فقال، أني جهزت جيشاً للمسلمين حتى بلغت بهم وادي القرى، وإن أمكنه إستصحاب ذكرها فهو أفضل لأنه أبلغ في الإخلاص (2) (مسألة) (فإن قطعها في أثنائها بطلت الصلاة وإن تردد في قطعها فعلى وجهين) وجملة ذلك أنه يشترط أن يدخل في الصلاة بنية جازمة فإن دخل بنية مترددة بين إتمامها وقطعها لم تصح لأن النية عزم جازم ولا يحصل ذلك مع التردد فإن تلبس بها بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت، وهذا قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا تبطل بذلك لأنها عبادة دخلها بنية صحيحة فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج ولنا أنه قطع حكم النية قبل إتمام صلاته ففسدت كما لو سلم ينوي الخروج منها ولأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها ففسدت لذهاب شرطها، وفارق الحج فإنه لا يخرج منه بمحظوراته بخلاف الصلاة.
فأما إن تردد في قطعها فقال ابن حامد: لا تبطل لأنه دخل فيها بنية متيقة فلا يزول بالشك
والتردد كسائر العبادات، وقال القاضي يحتمل أن تبطل وهو مذهب الشافعي لأن استدامة النية شرط ومع التردد لا يبقى مستديماً لها أشبه إذا نوى قطعها (فصل) فإن شك في أثناء الصلاة في النية أو في تكبيرة الإحرام أستأنفها لأن الأصل عدمها فإن ذكر أنه كان قد نوى أو كبر قبل قطعها أو شرع في عمل فله البناء لأنه لم يوجد مبطل لها وإن
__________
2) فيه أن تذكر المنوي وهو شكل الصلاة يشغل عن تدبر الذكر والقراءة وان الاخلاص إذا كان هو الباعث علي العبادة لا ينقطع إلا بطرو الرياء وحب السمعة على القلب وحينئذ يجب دفعه بتذكر احباطه للعمل وكون الناس لا يغنون عنه إذا حمدوا عبادته وهي مردودة عند الله تعالى وفيما عدا هذا يكون الاخلاص الذي بعث على العمل مصاحبا له فلا يحتاج إلى استصحاب بذكره كتبه محمد رشيد رضا(1/495)
عمل فيها عملاً مع الشك بطلت، ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن هذا العمل عري عن النية وحكمها لأن استصحاب حكمها مع الشك لا يوجد، وقال ابن حامد لا تبطل ويبني لأن الشك لا يزيل حكم النية فجاز له البناء كما لو لم يحدث عملاً لأنه لو أزال حكم النية لبطلت كما لو نوى قطعها، وإن شك هل نوى فرضاً أو نفلاً أتمها نفلاً إلا أن يذكر أنه نوى الفرض قبل أن يحدث عملاً فيتمها فرضاً، وإن كان ذكره بعد أن أحدث عملاً خرج فيه الوجهان، فإن شك هل أحرم بظهر أو عصر فحكمه حكم مالو شك في النية لأن التعيين شرط.
ويحتمل أن يتمها نفلاً كما لو احرم بفرض فبان قبل وقته (مسألة) (وإن أحرم بفرض فبان قبل وقته إنقلب نفلاً) لأن نية الفرض تشتمل على نية النفل فإذا بطلت نية الفرضية بقيت نية مطلق الصلاة (مسألة) (وإن أحرم به في وقته ثم قلبه نفلاً جاز، ويحتمل أن لا يجوز إلا لعذر مثل أن يحرم منفرداً يريد الصلاة في جماعة) متى أحرم بفرض في وقته ثم قلبه نفلاً فإن كان لغير غرض كره وصح لأن النفل يدخل في نية الفرض، أشبه مالو أحرم بفرض فبان قبل وقته وكما لو قلبها لغرض، ذكره أبو الخطاب ويكره ذلك لأنه أبطل عمله.
وقال القاضي في موضع لا يصح رواية واحدة، كما لو إنتقل من فرض إلى فرض، وقال في الجامع يخرج على روايتين (إحداهما) يصح لما ذكرنا (والثانية) لا يصح
لأنه أبطل عمله لغير سبب ولا فائدة، وللشافعي قولان كالوجهين.
وإن كان لغرض صحيح مثل من أحرم منفرداً فحضرت جماعة فقلبها نفلاً ليحصل فضيلة الجماعة صح من غير كراهة لما ذكرنا، وقال القاضي: فيه روايتان (إحداهما) لا تصح لما ذكرنا (والثانية) تصح لتحصل له مضاعفة الثواب (مسألة) (وإن انتقل من فرض إلى فرض بطلت الصلاتان) تبطل الأولى لأنه قطع نيتها ولا تصح الثانية لأنه لم ينوها من أولها (مسألة) (ومن شرط الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما) يشترط أن ينوي الإمام أنه إمام والمأموم أنه مأموم لأن الجماعة يتعلق بها أحكام وجوب الإتباع وسقوط السهو عن المأموم وفساد صلاته بفساد صلاة إمامه وإنما يتميز الإمام عن المأموم بالنية فكانت شرطاً، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم يصح ولأن الجماعة إنما تنعقد بالنية فاعتبرت منهما قياساً لأحدهما على الآخر فإن صلى رجلان ينوي كل واحد منهما أنه إمام صاحبه أو مأموم له فصلاتهما فاسدة نص عليهما لأنه إئتم بمن ليس بإمام في الصورة الثانية وأم من لم يأتم به في الأولى، ولو رأى رجلين يصليان فنوى الإئتمام(1/496)
بالمأموم لم يصح لأنه إئتم بمن ليس بإمام وإن نوى الإئتمام بأحدهما لا بعينه لم يصح حتى يعين الإمام لأن تعيينه شرط.
وإن نوى الإئتمام بهما معاً لم يصح لأنه إئتم بمن ليس بإمام ولأنه لا يجوز الإئتمام بأكثر من واحد.
ولو نوى الإئتمام بإمامين لم يجز لأنه لا يمكن إتباعهما معاً (مسألة) (فإن أحرم منفرداً ثم نوى الإئتمام لم يصح في أصح الروايتين) متى أحرم منفرداً ثم نوى جعل نفسه مأموماً بأن تحضر جماعة فينوي الدخول معهم في صلاتهم ففيه روايتان (إحداهما) يجوز سواء كان أول صلاته أو في أثنائها لأنه نقل نفسه إلى الجماعة فجاز كما لو نوى الإمامة (والثانية) لا يجوز وهي أصح لأنه نقل نفسه مؤتماً فلم يجز كالإمام، وفارق نقله إلى الإمامة لأن الحاجة تدعو إليه قال أحمد في رجل دخل المسجد فصلى ركعتين أو ثلاثاً ينوي الظهر ثم جاء المؤذن فأقام الصلاة: سلم من هذه وتصير له تطوعاً ويدخل معهم.
قيل له فإن دخل مع القوم في الصلاة واحتسب به؟ قال لا يجزئه بها حتى ينوي بها الصلاة مع الإمام في إبتداء الفرض
(مسألة) (وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصح في الفرض ويحتمل أن يصح وهو أصح عندي) إذا أحرم منفرداً ثم إنتقل إلى نية الإمامة في النفل صح نص عليها أحمد لما روى ابن عباس قال بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متطوعاً من الليل فقام إلى القربة فتوضأ فصلى فقام - فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر فأخذ بيدي (1) من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن متفق عليه واللفظ لمسلم، وروت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام الناس يصلون بصلاته (فصل) فأما في الفريضة فان كان ينتظر أحداً كإمام المسجد يحرم وحده وينتظر من يأتي ويصلي معه جاز ذلك نص عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم وحده فجاء جابر وجبار فصلى بهما رواه أبو داود.
والظاهر أنها كانت مفروضة لأنهم كانوا مسافرين وإن لم يكن كذلك لم يصح وهو قول الثوري واسحاق وأصحاب الرأي في الفرض والنفل جميعاً لأنه لم ينو الإمامة في إبتداء الصلاة أشبه مالو أئتم بمأموم.
ويحتمل أن يصلي وقد روي عن أحمد ما يدل عليه وهو مذهب الشافعي، قال شيخنا: وهو الصحيح إن شاء الله لأنه قد ثبت في النفل بحديث ابن عباس وعائشة والأصل(1/497)
مساواة الفرض للنفل في النية ومما يقوي ذلك حديث جابر وجبار في الفرض ولأن الحاجة تدعو إليه فصح كحالة الاستخلاف.
وبيانها أن المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا معه فإن قطع الصلاة وأخبرهم بحاله قبح لما فيه من إبطال العمل وإن أتم الصلاة ثم أخبرهم بفساد صلاتهم فهو أقبح وأشق وقياسهم ينتقض بحالة الاستخلاف والله أعلم (مسألة) (وإن أحرم مأموماً ثم نوى الإنفراد لعذر جاز) لما روى جابر قال صلى معاذ بقومه فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلى وحده فقيل له نافقت قال ما نافقت ولكن لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال " أفتان أنت يا معاذ؟ " مرتين متفق عليه ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بالإعادة، والأعذار التي يخرج لأجلها مثل
هذا والمرض وخشية غلبة النعاس أو شئ يفسد صلاته أو خوف فوات مال أو تلفه أو فوت رفقته أو من يخرج من الصف ولا يجد من يقف معه ونحو ذلك (مسألة) (وإن كان لغير عذر لم يجز في إحدى الروايتين) لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر أشبه مالو تركها من غير نية المفارقة (والثانية) يصح كما إذا نوى المنفرد الإمامة بل ههنا أولى فان المأموم قد يصير منفرداً بغير نية وهو المسبوق إذا سلم إمامه والمنفرد لا يصير مأموماً بغير نية بحال (مسألة) (وإن نوى الإمامة لإستخلاف الإمام له إذا سبقه الحدث صح في ظاهر المذهب) وجملة ذلك أنه إذا سبق الإمام الحدث فله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة روى ذلك عن عمر وعلي وهو قول الثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن صلاة المأمومين تبطل، وقال أبو بكر تبطل صلاتهم رواية واحدة لأنه فقد شرط صحة الصلاة في حق الإمام فبطلت صلاة المأموم كما لو تعمد الحدث ولنا أن عمر رضي الله عنه لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً.
فإن لم يستخلف الإمام فقدم المأمومون رجلاً فأتم بهم جاز وإن صلوا وحداناً جاز قال الزهري في امام ينو به الدم أو يرعف: ينصرف وليقل أتموا صلاتكم وإن قدمت كل طائفة من المأمومين إماماً فصلى بهم فقياس المذهب جوازه، وقال أصحاب الرأي تفسد صلاتهم، ولنا أن لهم أن يصلوا وحداناً فجاز لهم أن يقدموا رجلاً كحالة ابتداء الصلاة وإن قدم بعضهم رجلاً وصلى الباقون وحداناً جاز.
(فصل) فأما إن فعل ما يبطل صلاته عامداً فسدت صلاة الجميع فإن كان عن غير عمد لم تفسد صلاة المأمومين نص عليه أحد في الضحك وروى عن أحمد فيمن سبقه الحدث الروايتان وقد ذكرناه(1/498)
(فصل) فأما الإمام الذي سبقه الحدث فتبطل صلاته ويلزمه استئنافها قال أحمد يعجبني أن يتوضأ ويستأنف وهذا قول الحسن وعطاء والنخعي لما روى علي بن طلق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف فليتوضأ وليعد صلاته " رواه أبو داود ولأنه فقد شرط الصلاة في أثنائها على وجه لا يعود إلا بعد زمن طويل وعمل كثير ففسدت صلاته كما لو تنجس نجاسة يحتاج في إزالتها إلى مثل ذلك، وفيه رواية ثانية أنه يتوضأ ويبني روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف فليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته " وعنه رواية ثالثة إن كان الحدث من السبيلين ابتدأ وإن كان من غيرهما بنى لأن حكم نجاسة السبيل أغلظ والأثر إنما ورد في غيرها والأولى أولى وحديثهم ضعيف (فصل) قال أصحابنا يجوز إستخلاف من سبق ببعض الصلاة ولمن جاء بعد حدث الإمام فيبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءة أو ركعة أو سجدة، وإذا استخلف من جاء بعد حدث الإمام فينبغي أن تجب عليه قراءة الفاتحة ولا يبنى على قراءة الإمام لأن الإمام لم يتحمل عنه القراءة ههنا ويقضي بعد فراغ صلاة المأمومين.
وحكي هذا القول عن عمر وعلي وأكثر من قال بالإستخلاف، وقيه رواية أخرى أنه مخير بين أن يبني أو يبتدئ.
قال مالك يصلي لنفسه صلاة تامة فإذا فرغوا من صلاتهم قعدوا وانتظروه حتى يتم ويسلم بهم لأن إتباع المأمومين للإمام أولى من إتباعه لهم وكذلك على الرواية الأولى ينتظرونه حتى يقضي ما فاته ويسلم بهم لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف فانتظارهم له أولى وإن سلموا ولم ينتظروه جاز.
وقال ابن عقيل يستخلف من يسلم بهم والأولى إنتظاره وإنهم أن سلموا لم يحتاجوا إلى خليفة لأنه لم يبق من الصلاة إلا السلام فلا حاجة الى الإستخلاف فيه.
قال شيخنا ويقوى عندي أنه لا يصح الإستخلاف في هذه الصورة لأنه أن بنى جلس في غير موضع جلوسه وصار تابعاً للمأمومين وإن ابتدأ جلس المأمومون في غير موضع جلوسهم ولم يرد الشرع بهذا وإنما ثبت الإستخلاف في موضع الإجماع حيث لم يحتج إلى شئ من هذا فلا يلحق به ما ليس في معناه (فصل) فإن سبق المأموم الحدث في فساد صلاته الروايات الثلاث فإن كان مع الإمام من تنعقد به صلاة غيره وإلا فحكمه كحكم الإمام معه فيما فصلناه في قياس المذهب وإن فعله عمداً بطلت صلاته وصلاة الإمام لان ارتباط الإمام بالمأموم كإرتباط صلاة المأموم بالإمام فما فسد ثم فسد ههنا وما صح ثم صح ههنا (مسألة) (وإن سبق إثنان ببعض الصلاة فأتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما فعلى وجهين)(1/499)
(أحدهما) يصح لأنه انتقال من جماعة إلى جماعة لعذر فجاز كالإستخلاف ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء
وأبو بكر في الصلاة فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتم بهم الصلاة (والثاني) لا يصح بناء على عدم جواز الإستخلاف (مسألة) (وإن كان لغير عذر لم يصح) يعني إذا إنتقل عن إمامه إلى إمام آخر فأتم به أو صار المأموم إماماً لغيره من غير عذر لم يصح لأنه إنما ثبت جواز ذلك في محل العذر بقضية عمر رضي الله عنه وغير حال العذر لا يقاس عليه (مسألة) (وإن أحرم إماماً لغيبة إمام الحي ثم حضر إمام الحي في أثناء الصلاة فأحرم بهم وبني على صلاة خليفته وصار الإمام مأموماً فهل يصح على وجهين) روي عن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات (أحدها) يصح لما روى سهل بن سعد قال ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فصلى أبو بكر فجاء رسول الله والناس في الصلاة فخلص حتى وقف في الصف فإستأخر أبو بكر حتى إستوى في الصف وتقدم النبي فصلى ثم انصرف متفق عليه.
وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان جائزاً لأمته ما لم يقم دليل الإختصاص (والرواية الثانية) أن ذلك يجوز للخليفة دون بقية الإئمة نص عليه في رواية المروذي لأن رتبة الخلافة تفضل رتبة سائر الأئمة فلا يلحق بها غيرها (والثالثة) لا يصح لأنه لا حاجة إليه وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون خاصاً به لأن أحداً لا يساويه في الفضل ولا ينبغي أن يتقدم عليه بخلاف غيره ولهذا قال أبو بكر ما كان لا بن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصول في أدب المشي إلى الصلاة) يستحب للرجل إذا أقبل إلى الصلاة أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وعليه السكينة ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته فإن كل خطوة يكتب له بها حسنة، لما روى زيد بن ثابت قال: أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه فقارب في الخطا ثم قال " أتدري لم فعلت هذا؟ لتكثر خطانا في طلب الصلاة " ويكره أن يشبك بين أصابعه لما روى كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة " رواه أبو داود
(فصل) ويستحب أن يقول ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة(1/500)
وهو يقول " اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نورا، واجعل في سمعي نوراً، وإجعل في بصري نوراً، وإجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، وإجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً وأعطني نوراً " أخرجه مسلم.
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وإبتغاء مرضاتك، فأسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله إليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك " رواه الإمام أحمد وابن ماجة (فصل) فإن سمع الإقامة لم يسع إليها لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا " وعن أبي قتادة قال بينا نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال " ما شأنكم " قالوا استعجلنا إلى الصلاة فقال " لا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكنية فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا " متفق عليهما.
قال الامام أحمد فإن طمع أن يدرك التكبيرة فلا بأس أن يسرع شيئاً ما لم تكن عجلة تقبح.
جاء الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعجلون شيئاً إذا تخوفوا فوات التكبيرة الأولى (فصل) فإذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى وإذا خرج قدم اليسرى.
ويقول ما روى مسلم بإسناده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم إفتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل اللهم إني أسلك من فضلك " وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وقال " رب أغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " وإذا خرج صلي على محمد وقال " رب اغفر لي وافتح لي أبواب فضلك " فإذا دخل لم يجلس حتى يركع ركعتين، لما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " متفق عليه.
ثم يجلس مستقبل القبلة فإنه قد روي خير المنازل ما استقبل به القبلة، ويشتغل بذكر الله تعالى أو قراءة
القرآن أو يسكت ولا يشبك أصابعه لما روى أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما كان في المسجد حتى يخرج منه " رواه الإمام أحمد في المسند(1/501)
(باب صفة الصلاة) روى محمد بن عمر وابن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فاعرض قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلا، ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يرفع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصوب رأسه ولا يقنعه، ثم يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلا، ثم يقول الله أكبر ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ويسجد، ثم يقول الله أكبر ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا أقام من الركعة فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يفعل ذلك في بقية صلاته حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر.
قالوا صدقت هكذا كان يصلي صلى الله عليه وسلم رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي لفظ رواه البخاري قال فإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى قائما حتى يعود كل فقار إلى مكانه فإذا سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة فإذا جلس في الركعتين(1/502)
جلس على اليسرى ونصب الأخرى فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وجلس متوركا على شقه الأيسر وقعد على مقعدته
(مسألة) (يستحب أن يقوم إلى الصلاة إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة) قال ابن عبد البر: على هذا أهل الحرمين.
وقال الشافعي يقوم إذا فرغ المؤذن من الإقامة وكان عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب وسالم والزهري يقومون في أول بدوة من الإقامة.
وقال أبو حنيفة يقوم إذا قال حي على الصلاة فإذا قال قد قامت الصلاة كبر وكان أصحاب عبد الله يكبرون كذلك وبه قال النخعي واحتجوا بقول بلال: لا تسبقني بآمين.
فدل على أنه كان يكبر قبل فراغه.
وعندنا لا يستحب أن يكبر إلا بعد فراغه من الإقامة وهو قول الحسن وأبي يوسف والشافعي واسحاق وعليه جل الأئمة في الأمصار، وإنما قلنا يقوم عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة لأن هذا خبر بمعنى الأمر ومقصوده الإعلام ليقوموا فيستحب المبادرة إلى القيام امتثالا للأمر وإنما قلنا إنه لا يكبر حتى يفرغ المؤذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبر بعد فراغه يدل عليه ما روى عنه أنه كان يعدل الصفوف بعد اقامة الصلاة فروى أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال " سووا صفوفكم وتراصوا فإني(1/503)
أراكم من وراء ظهري " رواه البخاري.
ويقول في الإقامة مثل قول المؤذن فروى أبو داود عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " أقامها الله وأدامها " وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان، فأما حديثهم فإن بلالا كان يقيم في موضع أذانه وإلا فليس بين لفظ الإقامة والفراغ منها ما يفوت بلالا " آمين " مع النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا ثبت هذا فإنما يقوم المأمومون إذا كان الإمام في المسجد أو قريبا منه.
قال أحمد ينبغي أن تقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام لما روى أبو هريرة قال كانت الصلاة تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه.
رواه مسلم، فأما إن أقيمت الصلاة والإمام في غير المسجد ولم يعلموا قربه لم يقوموا لما روى أبو قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت " رواه مسلم (مسألة) (ثم يسوي الإمام الصفوف) وذلك مستحب، يلتفت عن يمينه فيقول: استووا رحمكم الله وعن يساره كذلك لما
ذكرنا من الحديث ولما روى محمد بن مسلم قال: صليت إلى جنب أنس بن مالك يوماً فقال: هل تدري لم صنغ هذا العود؟ قلت: لا والله، فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمنه فقال " اعتدلوا وسووا صفوفكم " ثم أخذه بيساره وقال(1/504)
" اعتدلوا وسووا صفوفكم " رواه أبو داود، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة " متفق عليه (فصل) قيل لاحمد قبل التكبير تقول شيئاً؟ قال لا، يعني ليس قبله دعاء مسنون إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولأن الدعاء يكون بعد العبادة لقوله تعالى " فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) (مسألة) (ويقول الله أكبر لا يجزئه غيرها) لا تنعقد الصلاة إلا بقول الله أكبر: وهو قول مالك وكان ابن مسعود والثوري والشافعي يقولون افتتاح الصلاة التكبير، وعليه عوام أهل الحديث قديما وحديثا إلا أن الشافعي قال: تنعقد بقوله الله الأكبر لأن الألف واللام لم تغيره عن بنيته ومعناه وإنما أفادت التعريف، وقال أبو حنيفة تنعقد بكل اسم لله تعالى على وجه التعظيم كقوله الله عظيم أو كبير أو جليل وسبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله ونحوه قول الحاكم لأنه ذكر لله على وجه التعظيم أشبه قوله الله أكبر ولأن الخطبة لا يتعين في أولها لفظ كذلك هذا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " تحريمها التكبير " رواه أبو داود، وقوله للمسئ في صلاته " إذا قمت إلى الصلاة فكبر " متفق عليه، وفي حديث رفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقبل الله صلاة امرئ.
حتى يضع الطهور مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر " رواه أبو داود، وكان(1/505)
النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بقوله " الله أكبر " لم ينقل عنه عدول عن ذلك حتى فارق الدنيا وقياسهم يبطل بقوله اللهم اغفر لي، ولا يصح القياس على الخطبة لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها لفظ بعينه في جميع الخطبة ولا أمر به ولأنه يجوز فيها الكلام بخلاف الصلاة، وما قاله
الشافعي عدول عن المنصوص، فأشبه ما لو قال الله العظيم، وقولهم لم يغير بنيته ولا معناه ممنوع لأن التنكير متضمن لإضمار أو تقدير بخلاف التعريف فإن معنى قوله " الله أكبر " أي من كل شئ ولأن ذلك لم يرد في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله ولا في المتعارف في كلام الفصحاء إلا كما ذكرنا فإطلاق لفظ التكبير ينصرف إليها دون غيرها كما أن إطلاق لفظ التسمية إنما ينصرف إلى قوله بسم الله دون غيره، وهذا يدل على أن غيرها لا يساويها (فصل) والتكبير ركن لا تنعقد الصلاة إلا به لا يسقط في عمد ولا سهو وهو قول مالك والشافعي وقال سعيد بن المسيب والحسن والزهري والاوزاعي: من نسي تكبيرة الافتتاح أجزأته تكبيرة الركوع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " تحريمها التكبير " فدل على أنه لا يدخل الصلاة بدونه (فصل) ولا يصح إلا مرتبا فإن نكسه لم يصح لأنه لا يكون تكبيرا، ويجب على المصلي أن يسمعه نفسه إماماً كان أو غيره إلا أن يكون به عارض من طرش أو ما يمنع السماع فيأتي به بحيث لو كان سميعا أو لا عارض به سمعه لأنه ذكر محله اللسان فلا يكون كاملا بدون الصوت.
والصوت(1/506)
ما يتأتى سماعه وأقرب السامعين إليه نفسه فمتى لم يسمعه لم يعلم أنه أتى بالقول والرجل والمرأة سواء فيما ذكرنا (فصل) ويبين التكبير ولا يمد في غير موضع المد فإن فعل بحيث لم يغير المعنى مثل أن يمد الهمزة الأولى في اسم الله تعالى فيقول آلله فيصير استفهاما أو يمد أكبر فيصير ألفا فيبقى جمع كبر وهو الطبل لم يجز لتغير المعنى، وإن قال الله أكبر وأعظم ونحوه لم يستحب، نص عليه وانعقدت به الصلاة (مسألة) (فإن لم يحسنها لزمه تعلمها فإن خشي فوات الوقت كبر بلغته) وجملة ذلك أنه لا يجزئه التكبير بغير العربية مع قدرته عليها، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة يجزئه لقول الله تعالى (وذكر اسم ربه فصلى) وهذا قد ذكر اسم ربه ولنا ما تقدم من النصوص وهي تخص ما ذكروه فإن لم يحسن العربية لزمه تعلم التكبير بها لأنه ذكر واجب في الصلاة لا تصح بدونه فلزمه تعلمه كالقراءة فإن خشي فوات الوقت كبر بلغته في أظهر الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنه ذكر عجز عنه بالعربية فلزمه الإتيان به بغيرها كالفظ النكاح، ولأن ذكر الله
تعالى يحصل بكل لسان (والثاني) لا يصح ذكره القاضي في الجامع ويكون حكمه حكم الأخرس لأنه ذكر تنعقد به الصلاة فلم يجز التعبير عنه بغير العربية كالقراءة فإن عجز عن بعض اللفظ أو بعض الحروف أتى بما يمكنه كمن عجز عن بعض الفاتحة (فصل) فإن كان أخرس لو عاجزا عن التكبير بكل لسان سقط عنه وعليه تحريك لسانه ذكره(1/507)
القاضي في المجرد لأن الصحيح يلزمه النطق بتحريك لسانه فإذا عجز عن أحدهما لزمه الآخر.
قال شيخنا: وهذا غير صحيح لأنه قول عجز عنه فلم يلزمه تحريك لسانه في موضعه كالقراءة وإنما لزمه تحريك لسانه مع التكبير ضرورة توقف التكبير عليه فإذا سقط التكبير سقط ما هو من ضرورته كمن سقط عنه القيام سقط عنه النهوض إليه وإن قدر عليه، ولأن تحريك لسانه بغير النطق مجرد عبث فلم يرد الشرع به كالعبث بسائر جوارحه (مسألة) ويجهر الإمام بالتكبير كله ليسمع المأمومون فيكبروا بتكبيره فان لم يمكنه إسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم أو يسمع من لا يسمعه الإمام لما روى جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا متفق عليه (مسألة) (ويسر غيره به وبالقراءة بقدر ما يسمع نفسه) لا يستحب لغير الإمام الجهر بالتكبير لأنه لا حاجة إليه وربما ليس على المأمومين إلا أن يحتاج إلى الجهر بالتكبير ليسمع المأمومين كما ذكرنا ويجب عليه أن يكبر بحيث يسمع نفسه وكذلك القراءة لأنه لا يسمى كلاما بدون ذلك وقد ذكرناه قبل هذا (فصل) وعليه أن يأتي بالتكبير قائما فإن انحنى إلى الركوع بحيث يصير راكعا قبل إنهاء التكبير لم تنعقد صلاته إن كانت فرضاً لأن القيام فيها واجب ولم يأت به، وإن كانت نافلة فظاهر قول القاضي أنها تنعقد فإنه قال إن كبر في الفريضة في حال انحنائه إلى الركوع انعقدت نفلا لسقوط القيام فيه فإذا تعذر الفرض وقعت نفلا كمن أحرم بفريضة فبان قبل وقتها.
قال شيخنا: ويحتمل أن لا تنعقد النافلة إلا أن يكبر في حال قيامه أيضا لأن صفة الركوع غير صفة القعود ولم يأت بالتكبير قائما ولا قاعدا(1/508)
ولأن عليه الإتيان بالتكبير قبل وجود الركوع منه (فصل) ولا يكبر المأموم حتى يفرغ إمامه من التكبير.
وقال أبو حنيفة يكبر معه كما يركع معه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا " متفق عليه والركوع مثل ذلك، إلا أنه لا تفسد صلاته بالركوع معه لأنه قد دخل في الصلاة، وههنا بخلافه فإن كبر قبل إمامه لم تنعقد صلاته وعليه إعادة التكبير بعد تكبير الإمام (فصل) والتكبير من الصلاة خلافا لأصحاب أبي حنيفة في قولهم ليس منها لأنه أضافه إليها في قوله " تحريمها التكبير " ولا يضاف الشئ الى نفسه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة " إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " رواه مسلم.
وما ذكروه فلا يصح، فإن أجزاء الشئ تضاف إليه كيد الإنسان وسائر أطرافه(1/509)
(مسألة) (ثم يرفع يديه مع ابتداء التكبير ممدودة الأصابع مضموما بعضها إلى بعض إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه) رفع اليدين عند افتتاح الصلاة مستحب بغير خلاف نعلمه، قال إبن المنذر: لا يختلف أهل العلم في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، فروى(1/511)
ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين متفق عليه.
وهو مخير في رفعهما إلى حذو منكبيه أو فروع أذنيه؟ يعني أنه يبلغ بأطراف أصابعه ذلك الموضع لأن كلا الأمرين قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالرفع إلى المنكبين قد روي في حديث ابن عمر، ورواه علي وابو هريرة وهو قول الشافعي وإسحاق، والرفع إلى حذو الأذنين رواه واثل بن حجر ومالك بن الحويرث من رواية مسلم وقال به ناس من أهل العلم إلا أن ميل أبي عبد الله إلى الأول لكثرة رواته وقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
وجوز الآخر لصحة روايته فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا، ويستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع ويضم بعضها إلى بعض لما روى أبو هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا، وقال الشافعي: السنة أن يفرق أصابعه، وقد روى ذلك عن أحمد لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشر أصابعه للتكبير ولنا ما رويناه وحديثهم خطأ قاله الترمذي، ثم لو صح كان معناه المد، قال أحمد: أهل العربية قالوا هذا الضم - وضم أصابعه - وهذا النشر - ومد أصابعه - وهذا التفريق - وفرق أصابعه - ولأن النشر لا يقتضي التفريق كنشر الثوب(1/512)
(فصل) ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه فإذا انقضى التكبير حط يديه لأن الرفع للتكبير فكان معه.
فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير لم يرفعهما لأنه سنة فات محلها وإن ذكره في أثناء التكبير رفعهما لبقاء محله، فان لم يمكنه رفع اليدين إلى المنكبين رفعهما قدر الإمكان، وإن أمكنه رفع إحداهما حسب رفعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " فان لم يمكنه رفعهما إلا بالزيادة على المسنون رفعهما لأنه يأتي بالسنة وزيادة مغلوب عليها وهذا كله قول الشافعي.
وإن كانت يداه في ثوبه رفعهما بحيث يمكن لما روى وائل بن حجر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء فرأيت أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم في الصلاة، وفي رواية قال ثم جئت في زمان فيه برد شديد فرأيت الناس عليهم جل الثياب تتحرك أيديهم تحت الثياب رواهما أبو داود وفيه فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم ولا فرق في ذلك بين النافلة والفريضة والإمام والمأموم والمنفرد لعموم الأخبار والله أعلم (مسألة) (ثم يضع كف يده اليمنى على كوع اليسرى ويجعلهما تحت سرته) وضع اليمنى على اليسرى(1/513)
في الصلاة مسنون روي عن علي وأبي هريرة والنخعي وسعيد بن جبير والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وحكاه ابن المنذر عن مالك والذي عليه أصحابه إرسال اليدين روى ذلك عن ابن الزبير والحسن ولنا ما روى قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه، رواه الترمذي وقال حديث حسن وعليه العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن
بعدهم، وعن غطيف قال: ما نسيت من الأشياء فلم أنس أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا يمنه على شماله في الصلاة من المسند.
ويضعهما على كوعه أو قريبا منه لما روى وائل بن حجر أنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في وصفه ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى - والرسغ والساعد (فصل) ويجعلهما تحت سرته، روى ذلك عن علي وأبي هريرة والثوري واسحاق قال علي رضي الله عنه من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة، رواه الإمام أحمد وأبو داود، وعن أحمد أنه يضعهما على صدره فوق السرة، وهو قول سعيد بن جبير والشافعي لما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فوضع يديه على صدره إحداهما إلى الأخرى، وعنه رواية ثالثة أنه مخبر في ذلك لأن الجميع مروي والأمر في ذلك واسع (مسألة) وينظر إلى موضع سجوده وذلك مستحب لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.
قال محمد بن سيرين وغيره في قوله تعالى (والذين هم في صلاتهم خاشعون) هو أن لا يرفع بصره عن موضع سجوده.
قال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل(1/514)
(الذين هم في صلاتهم خاشعون) رموا بأبصارهم إلى موضع السجود (مسألة) (ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) الاستفتاح من سنن الصلاة في قول أكثر أهل العلم، وكان مالك لا يراه بل يكبر ويقرأ لما روى أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين متفق عليه.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسفتح بما سنذكره وعمل به الصحابة رضي الله عنهم فكان عمر يستفتح به صلاته يجهر به ليسمعه الناس، وعبد الله بن مسعود.
وحديث أنس أراد به القراءة كما روى أبو هريرة يقول الله تعالى " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " وفسره بالفاتحة مثل قول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ويتعين حمله على هذا لما ذكرنا من فعل عمر وهو ممكن روى عنه أنس (1) (فصل) ومذهب أحمد رحمه الله الاستفتاح الذي ذكرنا وقال: لو أن رجلا استفتح ببعض
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسنا، والذي ذهب إليه أحمد قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود والثوري واسحاق وأصحاب الرأي، قال الترمذي.
وعليه العمل عند أهل العلم من التابعين وغيرهم.
وذهب الشافعي وابن المنذر إلى الاستفتاح بما روي عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لاحسن الاخلاق لا يهدي لاحسنها
__________
1) كذا في نسختنا وهو غير ظاهر وتراجع العبارة في السطر الخامس من الصفحة التالية(1/515)
إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت ربنا وتعاليت، أستغفرك وأتوب اليك " راه مسلم وأبو داود.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر سكت إسكاتة حسنة، قال هنيهة بين التكبير والقراءة.
فقلت يا رسول الله؟ أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد " متفق عليه.
وإنما اختار أحمد رحمه الله الاستفتاح الأول لما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي.
وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله من رواية النسائي والترمذي ورواه أنس أيضا وعمل به عمر بين يدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك اختاره أحمد وجوز الاستفتاح بغيره لكونه قد صح، الا أنه قد قال في حديثهم بعضهم يقول في صلاة الليل ولأن العمل به متروك، فإنا لا نعلم أحداً يستفتح به كله، وإنما يستفتحون بأوله قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح وعليه عامة أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر به وإنما جهر به عمر ليعلم الناس، فإن نسيه أو تركه عمدا حتى شرع في
الاستعاذة لم يعد إليه لأنه سنة فات محلها، وكذلك إن نسي التعوذ حتى شرع في القراءة لم يعد إليه لذلك (مسألة) (ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة سنة في قول الحسن وابن سيرين والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول " أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه "(1/516)
قال الترمذي هذا أشهر حديث في هذا الباب.
وقال مالك لا يتسعيذ لحديث أنس وقد مضى جوابه وصفتها كما ذكرنا وهذا قول أبي حنيفة والشافعي للآية.
وقال ابن المنذر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وعن أحمد أنه يقول " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم " لحديث أبي سعيد فإنه متضمن للزيادة، ونقل حنبل عنه أنه يزيد بعد ذلك " أن الله هو السميع العليم " وهذا كله واسع وكيفما استعاذ فحسن (مسألة) (ثم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) قراءة بسم الله الرحمن الرحيم مشروعة في الصلاة في أول الفاتحة وأول كل سورة في قول أكثر أهل العلم، وقال مالك والاوزاعي لا يقرؤها في أول الفاتحة لحديث أنس، وعن ابن عبد الله بن المغفل قال سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني محدث، إياك والحدث، قال ولم أر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام - يعني منه - فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها فإذا صليت فقل (الحمد لله رب العالمن) رواه الترمذي وقال حديث حسن ولنا ما روى عن نعيم المجمر أنه قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن وقال والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي، وروى ابن المنذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية والحمد لله رب العالمين آيتين.
فأما حديث أنس فقد سبق جوابه ثم يحمل على ان الذي كان يسمع منهم الحمد لله رب العالمين وقد جاء مصرحاً به فروى شعبة وشيبان عن قتادة قال سمعت أنس بن
مالك قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي لفظ كلهم يخفي بسم الله الرحمن الرحيم، وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر بسم الله الرحمن(1/517)
الرحيم وأبا بكر وعمر، رواه ابن شاهين، وحديث عبد الله بن المغفل محمول على هذا أيضاً جمعاً بين الأخبار، ولأن مالكا قد سلم أنه يستفتح بها في غير الفاتحة والفاتحة أولى لأنها أول القرآن وفاتحته (مسألة) (وليست من الفاتحة وعنه أنها منها ولا يجهر بشىء من ذلك) قد مضى ذكر الاستفتاح ولا نعلم خلافاً في أنه لا يجهر بالاستعاذة، فأما بسم الله الرحمن الرحيم فالجهر بها غير مسنون عند أحمد رحمه الله لا اختلاف عنه فيه، قال الترمذي وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذكره ابن المنذر عن ابن مسعود وعمار وابن الزبير وهو قول الحكم وحماد والاوزاعي والثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، ويروى الجهر بها عن عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة أنه قرأ بها في الصلاة وقد قال ما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفي علينا أخفينا عنكم متفق عليه، وعن أنس أنه صلى وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وقال أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما تقدم من حديث أم سلمة ولأنها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر كسائر آياتها ولنا ما ذكرنا من حديث أنس وعبد الله بن المغفل، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، متفق عليه وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم يدل على أنه لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم، وأما حديث أبي هريرة الذي احتجوا به فليس فيه أنه جهر بها ولا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلى الله عليه وسلم مع إسراره بهما فقد روي انه كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر من رواية أبي قتادة(1/518)
متفق عليه، وكذلك حديث أم سلمة ليس فيه ذكر الجهر وباقي أخبار الجهر ضعيفة لأن رواتها هم
رواة الإخفاء بإسناد صحيح ثابت لا يختلف فيه فدل على ضعف ما يخالفه، وقد بلغنا أن الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث (فصل) وليست من الفاتحة في إحدى الروايتين عن أحمد وهي المنصورة عند أصحابنا، وهو قول أبي حنيفة ومالك والاوزاعي، ثم اختلف عن أحمد فيها فقيل هي آية منفردة كانت تنزل بين كل سورتين فصلا بين السور (1) وقيل عنه إنها هي بعض آية من سورة النمل (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) (والرواية الثانية) أنها آية من الفاتحة خاصة تجب قراءتها في الصلاة أولا اختارها أبو عبد الله بن بطة وأبو حفص وهو قول ابن المبارك والشافعي واسحاق وأبي عبيد، قال عبد الله بن المبارك: من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية، وكذلك قال الشافعي لحديث أم سلمة.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قرأتم (الحمد لله رب العالمين) فاقرءوا (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها أم الكتاب وإنها السبع المثاني " وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها في المصاحف ولم يثبتوا بين الدفتين سوى القرآن، ووجه الرواية الأولى ما روى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال الله حمدني عبدي فإذا قال (الرحمن الرحيم) قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال (مالك يوم الدين) قال الله مجدني عبدي فإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال الله هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " رواه مسلم فلو كانت بسم الله الرحمن الرحيم آية لعدها وبدأ بها ولم
__________
1) هذا القول لا يصدق علي بسملة الفاتحة فانها الاولي باجماع الصحابة كما سيأتي 1) فيه ان البسملة لله تعالى وحده فان القارئ يعنى به أنه يقرأ أو يصلى باسم الله على أن هذا منه بدأ واليه يعود وله يتلي ويصلي (قل إن صلاتي ونسكي ومحيائي ومماتي لله رب العالمين)(1/519)
يتحقق التنصيف، فإن قيل فقد روى عبد الله بن زياد بن سمعان " يقول عبدي إذا افتتح الصلاة بسم
الله الرحمن الرحيم فيذكرني عبدي " قلنا ابن سمعان متروك الحديث لا يحتج به قاله الدارقطني وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سورة هي ثلاثون آية شفعت لقارئها ألا وهي تبارك الذي بيده الملك " وهي ثلاثون آية سوى بسم الله الرحمن الرحيم ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر ولا تواتر في هذا.
فأما حديث أم سلمة فلعله من رأيها أو نقول هي آية مفردة للفصل بين السور وحديث أبي هريرة موقوف عليه فان راويه أبو بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال قال أبو بكر: راجعت فيه نوحا فوقفه، وإما إثباتها بين السور فللفصل بينها ولذلك كتبت سطرا على حدتها والله أعلم.(1/520)
(مسألة) (ثم يقرأ الفاتحة وفيها إحدى عشرة تشديدة) قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا به في المشهور عن أحمد وهو قول مالك والثوري والشافعي واسحاق.
وروي عن عمر وعثمان ابن أبي العاص وخوات بن جبير رضي الله عنهم أنهم قالوا لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب.
وروى عن أحمد أنها لا تتعين ويجزئ قراءة آية من القرآن أي آية كانت وهو قول أبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وقول الله تعالى (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) ولأن الفاتحة وسائر القرآن سواء في سائر الأحكام كذلك في الصلاة(1/521)
ولنا ما روى عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " متفق عليه.
ولأن القراءة ركن في الصلاة فكانت معينة كالركوع والسجود.
فأما خبرهم فقد روى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي " ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء(1/522)
الله أن تقرأ " ثم يحمل على الفاتحة وما تيسر معها ويحتمل أنه إن لم يكن يحسن الفاتحة وكذلك نقول في الآية يجوز أن يكون أراد الفاتحة وما تيسر ويحتمل أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، والمعنى الذي ذكروه أجمعنا على خلافه فإن من ترك الفاتحة كان مسيئا بخلاف بقية السور وتشديدات الفاتحة إحدى عشرة(1/523)
بغير خلاف أولها اللام في لله والباء في رب والراء في الرحمن وفي الرحيم والدال في الدين وفي إياك وإياك تشديدتان وفي الصراط على الصاد وعلى اللام في الذين وفي الضالين تشديدتان في الضاد واللام وإذا قلنا البسملة منها صار فيها أربع عشرة تشديدة (فصل) وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة في حق الإمام والمنفرد في الصحيح من المذهب(1/524)
وهو قول مالك والاوزاعي والشافعي، وعن أحمد أنها لا تجب في ركعتين من الصلاة.
ونحوه يروى عن النخعي والثوري وأبي حنيفة، وروي نحوه عن الأوزاعي أيضا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال اقرأ في الأوليين وسبح في الآخريين ولأن القراءة لو وجبت في بقية الركعان لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين، وعن الحسن أنه أن قرأ في ركعة واحدة أجزأه.
وقالت طائفة إن ترك قراءة القرآن في ركعة واحدة سجد للسهو لا في الصبح فإنه يعيد روي هذا عن مالك، وروي عن إسحاق أنه قال: إذا قرأ في ثلاث ركعات إماما أو منفردا فصلاته جائزة وذلك لقول الله تعالى (فاقرؤا ما تيسر منه) ولنا ما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين ويطول الأولى ويقصر الثانية، ويسمع الآية أحيانا، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " متفق عليهما، ورى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب " وعنه وعن عبادة بن الصامت قالا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، رواهما اسماعيل بن سعيد الشالنجي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسئ في صلاته كيف يصلي الركعة الأولى ثم قال " وافعل ذلك في صلاتك كلها " فيتناول الأمر بالقراءة، وحديث علي يرويه الحارث الأعور، قال الشعبي: كان كذابا ولو صح فقد خالفه عمر وجابر والإسرار بها لا ينفي وجوبها كالأوليين في الظهر (فصل) وأقل ما يجزئ قراءة مسموعة يسمعها نفسه أو يكون بحيث يسمعها لو كان سمعيا إلا(1/525)
أن يكون ثم ما يمنع السماع كقولنا في التكبير فإن ما دون ذلك ليس بقراءة، والمستحب أن يأتي بها مرتبة معربة يقف فيها عند كل آية ويمكن حروف المد واللين ما لم يخرجه ذلك إلى التمطيط لقول الله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) وروي عن أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان يقطع قراءته آية آية (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) من المسند.
وعن أنس قال: كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدا مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد باسم ويمد الرحمن ويمد الرحيم، أخرجه البخاري.
فإن أخرجه ذلك إلى التمطيط والتلحين كان مكروها لأنه ربما جعل الحركات حروفا، قال أحمد: يعجبني من قراءة القرآن السهلة وقال قوله " زينوا القرآن بأصواتكم " قال: يحسنه بصوته من غير تكلف، وقد روي في خبر " أحسن الناس قراءة من إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله " وروي " أن هذا القرآن نزل بحزن فاقرءوه بحزن " (مسألة) (فإن ترك ترتيبها أو تشديدة منها أو قطعها بذكر كثير أو سكوت طويل لزمه استئنافها) وجملة ذلك أنه يلزمه أن يأتي بقراءة الفاتحة مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحنا يحيل المعنى مثل أن يكسر كاف إياك أو يضم تاء أنعمت أو يفتح ألف الوصل في اهدنا فإن أخل بالترتيب أو لحن فيها لحنا(1/526)
يحيل المعنى لم يعتد بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها مرتبة وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " إلا أن يعجز عن غير هذا، وكذلك إن أخل بتشديدة منها، ذكر القاضي نحو هذا في المجرد وهو قول الشافعي، وذكر في الجامع لا تبطل بترك شدة لأنها غير ثابتة في خط المصحف وإنما هي صفة للحرف ويسمى تاركها قارئا، والصحيح الأول لأن الحرف المشدد أقيم مقام حرفين بدليل أن شدة راء الرحمن أقيمت مقام اللام وكذلك شدة دال الدين.
فإذا أخل بها أخل بالحرف وغير المعنى إلا أن يريد أنه أظهر المدغم مثل أن يظهر لام الرحمن فهذا يصح لأنه إنما ترك الإدغام وهو لحن لا يحيل المعنى، قال القاضي: ولا يختلف المذهب أنه إذا لينها ولم يخففها على الكمال أنه لا يعيد الصلاة لأن ذلك لا يحيل المعنى ويختلف باختلاف الناس ولعله أراد في الجامع هذا فيكون قوله متفقا، ولا تستحب المبالغة في التشديد بحيث يزيد على حرف ساكن لأنها أقيمت مقامه فإذا زادها عن ذلك زادها عما أقيمت مقامه فيكره
(فصل) فإن قطع قراءة الفاتحة بذكر أو دعاء أو قراءة أو سكوت وكان يسيرا أو فرغ الإمام من الفاتحة في أثناء قراءة المأموم فقال آمين لم تنقطع قراءته لقول أحمد إذا مرت به آية رحمة سأل، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ لأنه يسير فعفي عنه، وإن كثر ذلك استأنف قراءتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها متوالية، فإن كان السكوت مأمورا به كالمأموم شرع في قراءة الفاتحة ثم سمع قراءة الإمام فينصت له فإذا سكت الإمام أتم قراءته وأجزأه.
أومى إليه أحمد وكذلك إن سكت نسيانا أو(1/527)
نوما أو لانتقاله إلى غيرها غلطا ومتى ما ذكر أتى بما بقي منها فإن تمادى فيما هو فيه بعد ذكره لزمه استئنافها كما لو ابتدأ بذلك، فإن نوى قطع قراءتها من غير أن يقطعها لم تنقطع لأن الاعتبار بالفعل لا بالنية.
وكذا إن سكت مع النية سكوتا يسيرا لما ذكرنا أن النية لا عبرة بها ذكره القاضي في المجرد وذكر في الجامع أنه متى سكت مع النية أبطلها وأنه متى عدل إلى قراءة غيرها عمدا أو دعاء غير مأمور به بطلت قراءته ولم يفرق بين قليل وكثير.
وإن قدم آية منها في غير موضعها عمدا أبطلها وإن كان غلطا رجع فأتمها قال شيخنا: والأولى إن شاء الله ما ذكرناه لأن المعتبر في القراءة وجودها لا نيتها فمتى قرأها متواصلة تواصلا قريبا صحت كما لو كان ذلك عن غلط والله أعلم (مسألة) (فإذا قال ولا الضالين قال آمين) التأمين عند الفراغ من قراءة الفاتحة سنة للإمام والمأموم، روى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وهو قول الثوري وعطاء والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي.
وقال أصحاب مالك: لا يسن التأمين للإمام لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له " رواه مالك، وهذا دليل على أنه لا يقولها ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من(1/528)
وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له " متفق عليه.
وعن وائل ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال " ولا الضالين " قال " آمين " ورفع بها صوته، رواه أبو داود، وحديثهم لا حجة لهم
فيه وإنما قصد به تعريفهم موضع تأمينهم وهو موضع تأمين الإمام ليكون تأمين الإمام والمأمومين موافقا تأمين الملائكة وقد جاء هذا مصرحا به، فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين والإمام يقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وقوله في اللفظ الآخر " إذا أمن الإمام " يعني إذا شرع في التأمين (مسألة) (يجهر بها الإمام والمأموم في صلاة الجهر) الجهر بآمين للإمام والمأموم سنة، وقال أبو حنيفة ومالك في إحدى الروايتين: يسن إخفاؤها لأنه دعاء أشبه دعاء التشهد.
ولنا حديث وائل بن حجر الذي ذكرناه، وقال عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمجسد للجة، رواه الشافعي في مسنده.
وما ذكروه يبطل بآخر الفاتحة فان دعاء ويسن الجهر به وفي آمين لغتان قصر الألف ومدهامع التخفيف فيها، قال الشاعر تباعد مني فطحل إذ دعوته + + + أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وأنشد في المد يا رب لا تسلبني حبها أبدا + + + ويرحم الله عبدا قال آمينا ومعناها اللهم استجب.
قاله الحسن، وقيل هو اسم من أسماء الله عزوجل، ولا يشدد الميم لأنه يخل بالمعنى فيصير بمعنى قاصدين (فصل) فإن نسي الإمام التأمين أمن المأموم ورفع بها صوته ليذكر الإمام لأنه من سنن الأقوال(1/529)
فإذا تركها الإمام أتى بها المأموم كالاستعاذة، وإن أخفاها الإمام جهر بها المأموم لما ذكرنا فإن ترك التأمين حتى شرع في قراءة السورة لم يعد إليه لأنه سنة فات محلها (مسألة) (فإن لم يحسن الفاتحة وضاق الوقت عن تعلمها قرأ قدرها في عدد الحروف وقيل في عدد الآيات من غيرها فان لم يحسن إلا آية كررها بقدرها) وجملة ذلك أن من لم يحسن الفاتحة يلزمه تعلمها لأنه واجب في الصلاة فلزمه تحصيله إذا أمكنه كشروطها فان لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته، فإن لم يقدر أو خشي فوات الوقت سقط، فان
كان يحسن منها آية أو أكثر كررها بقدرها لا يجزئه غير ذلك، ذكره القاضي لأن ذلك أقرب إليها من غيرها وقال ابن أبي موسى: لا يكررها وكذلك إن لم يحسن من القرآن إلا آية.
ويحتمل أن يأتي ببقية الآي من غيرها كمن وجد بعض الماء فإنه يغسل به ويعدل إلى التيمم، ذكر القاضي هذا الاحتمال في الجامع ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين.
فأما إن عرف بعض آية لم يكررها وعدل إلى غيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي لا يحسن الفاتحة أن يقول الحمد لله وغيرها وهي بعض آية ولم يأمره بتكرارها، فإن لم يحسن شيئا منها وأحسن غيرها من القرآن قرأ منه بقدرها إن قدر عليه لا يجزئه غير ذلك لما روى أبو داود عن رفاعة ابن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أقيمت الصلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وهلله وكبره " ويجب أن يقرأ بعدد آياتها، وهل يعتبر أن يكون بعدد حروفها؟ فيه وجهان أظهرهما اعتبار ذلك اختاره القاضي وابن عقيل لأن الحرف مقصود بدليل تقدير الحسنات به فاعتبر كالآي (والثاني) تعتبر الآيات ولا يعتبر عدد الحروف بدليل أنه لا يكفي عدد الحروف دونها فأشبه من فاته صوم يوم طويل لا يعتبر في القضاء صوم يوم طويل مثله (وفيه وجه ثالث) أنه يكفيه أن يقرأ بعدد الحروف ولا يعتبر عدد الآيات وهو ظاهر كلام شيخنا ههنا لأن الثواب مقدر بالحروف فكفى اعتبارها، فإن لم يحسن إلا آية كررها بقدرها فكان بمثابة من قرأها لأنها من جنس الواجب (مسألة) (فإن لم يحسن شيئا من القرآن لم يجز أن يترجم عنه بلغة أخرى ولزمه أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله) لا يجوز له القراءة بغير العربية سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن وهو قول الشافعي وقول(1/530)
أبي يوسف ومحمد إذا كان لا يحسن وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك لقوله تعالى (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) وإنما ينذر كل قوم بلسانهم ولنا قول الله تعالى (قرآنا عربيا) وقوله (بلسان عربي مبين) ولأن القرآن لفظه ومعناه معجزة فإذا غير خرج عن نظمه ولم يكن قرآنا ولامثله وإنما يكون تفسيرا له ولو كان تفسيره مثله لما عجزوا عنه إذا تحداهم بالإتيان بسورة من مثله، أما الإنذار فإذا فسره لهم حصل بالمفسر لا بالتفسير،
إذا ثبت هذا فإنه يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى أبو داود قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن أخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه فقال تقول " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله " قال هذا لله فما لي؟ قال تقول " اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني وعافني " ولا تلزمه الزيادة على الخمس الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر عليها وإنما زاده عليها حين طلب الزيادة.
وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه يزيد على الخمس كلمتين حتى يكون مقام سبع آيات فقال ابن عقيل يكون ما أتى به على قدر حروف الفاتحة كما قلنا فيما إذا قرأ من غيرها، والحديث يدل على أن الخمس المذكورة مجزئة ولا يلزم عليه القراءة من غير الفاتحة حيث لزم أن يكون بعدد آياتها لأن هذا بدل من غير الجنس أشبه التيمم (مسألة) (فإن لم يحسن إلا بعض ذلك كرره بقدرها) كما قلنا فمين يحسن بعض الفاتحة.
قال شيخنا ويحتمل أن يجزئه الحمد والتهليل والتكبير لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وهلله وكبره " رواه أبو داود (مسألة) (فإن لم يحسن شيئا من الذكر وقف بقدر القراءة) لأن الوقوف كان واجبا مع القراءة فإذا عجز عن أحد الواجبين بقي الآخر على وجوبه ولأن القيام ركن فلم يسقط بالعجز عن غيره كسائر الأركان(1/531)
(فصل) ويستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة سكتة يستريح فيها ويقرأ فيها من خلفه الفاتحة كيلا ينازع فيها وهذا قول الشافعي واسحاق، وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولنا ما روى أبو داود وابن ماجة أن سمرة حدث أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين؟ سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فأنكر عليه عمران فكتبا في ذلك إلى أبي بن كعب فكان في كتابه إليهما أن سمرة قد حفظ (مسألة) (ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه) قراءة السورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة مستحب لا نعلم
فيه خلافاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة وفي حديث أبي برزة واشتهر ذلك في صلاة الجهر ونقل نقلا متواترا وأمر به معاذا فقال: اقرأ " بالشمس وضحاها " الحديث متفق عليه.
ويسن أن يفتتح السورة ببسم الله الرحمن الرحيم، وقد وافق مالك على ذلك ويسر بها في السورة كما يسر بها في أول الفاتحة والخلاف ههنا كالخلاف ثم (فصل) ويستحب أن تكون القراءة على الصفة التي ذكر لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد ونحوها، وكانت صلاته بعد إلى التخفيف، رواه مسلم وعن عمرو بن حريث قال: كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) رواه ابن ماجه.
وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق) وشبههما أخرجه أبو داود، وعنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك، أخرجه مسلم.
وروى البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون في السفر متفق عليه.
وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد أخرجه ابن ماجة وروي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ " أفتان أنت يا معاذ يكفيك أن تقرأ بالشمس وضحاها، والضحى والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى " وكتب عمر إلى أبي موسى أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل، واقرأ في الظهر بأوساط المفصل، واقرأ في المغرب بقصار المفصل، رواه أبو حفص بإسناده(1/532)
(فصل) وإن قرأ على خلاف ذلك فلا بأس فإن الأمر في ذلك واسع، فقد روي انه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة متفق عليه.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر بالروم، أخرجه النسائي.
وعن عبد الله بن السائب قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بالمؤمنين، فلما أتى على ذكر عيسى أصابته شرقة فركع، رواه ابن ماجه.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالمرسلات.
وعن جبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور متفق عليه، وروى زيد بن ثابت أنه قرأ فيها الاعراف، وعن رجل من
جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم فعل ذلك عمدا، رواهما أبو داود، وعنه أنه قرأ في الصبح بالمعوذتين وكان صلى الله عليه وسلم يطيل تارة ويقصر بالأخرى على حسب الأحوال، وقال الخرقي يقرأ في الظهر في الأولى بنحو ثلاثين آية وفي الثانية بأيسر من ذلك، وفي العصر على النصف من ذلك لما روى أبو سعيد قال: اجتمع ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعالوا حتى نقيس قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لم يجهر فيه من الصلاة فما اختلف رجلان فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر قدر ثلاثين آية، وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك وقاسوا ذلك في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الآخريين من الظهر، رواه ابن ماجه (فصل) ولا بأس بقراءة السورة في الركعتين قال أحمد في رواية أبي طالب واسحاق بن إبراهيم لما روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما رواه سعيد، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم البقرة في الركعتين، رواه ابن ماجه، وسئل أحمد عن الرجل يقرأ بسورة ثم يقوم فيقرأ بها الركعة الأخرى فقال: وما بأس بذلك لما ذكرنا من حديث الجهني رواه أبو داود قال حرب: قلت لاحمد الرجل يقرأ على التأليف في الصلاة اليوم السورة وغدا التي تليها؟ قال ليس في هذا شئ إلا أنه روي عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصل وحده.
وقال منها: سألت أحمد عن الرجل يقرأ في الصلاة حيث ينتهي جزؤه قال لا بأس به في الفرائض.
(مسألة) (ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء) الجهر في هذه المواضع مجمع على استحبابه ولم يختلف المسلمون في مواضعه، والأصل فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف، فإن جهر في موضع الأسرار وأسر في موضع الجهر ترك السنة(1/533)
وأجزأه.
وقال القاضي: إن فعل ذلك عامداً صحت صلاته في ظاهر كلامه، ومن أصحابنا من قال تبطل وإن فعله ناسيا لم تبطل إلا أنه إذا جهر في موضع الإسرار ناسيا ثم ذكر في أثناء قراءته بنى على قراءته وإن نسي فأسر في موضع الجهر ففيه روايتان (إحداهما) يمضي في قراءته كالتي قبلها (والثانية) يستأنف القراءة جهرا على سبيل الاختيار لا الوجوب والفرق بينهما أن الجهر زياة قد حصل بها المقصود وزيادة فلا حاجة الى إعادته.
والإسرار نقص فاتت به سنة تتضمن مقصودا وهو سماع
المأمومين القراءة وقد أمكنه الإتيان بها فينبغي أن يأتي بها (فصل) ولا يشرع الجهر للمأموم بغير خلاف لأنه مأمور بالاستماع للإمام والإنصات له ولا يقصد منه إسماع أحد، فأما المنفرد مخير في ظاهر كلامه، وكذلك من فاته بعض الصلاة مع الإمام فقام ليقضيه فروي ذلك عن الأثرم قال إن شاء جهر وإن شاء خافت إنما الجهر للجماعة، وكذلك قال طاوس والاوزاعي فيمن فاته بعض الصلاة ولا فرق بين القضاء والأداء وقال الشافعي يسن للمنفرد لأنه غير مأمور بالإنصات أشبه الإمام ولنا أنه لا يراد منه اسماع غيره أشبه المأموم في سكتات الإمام بخلاف الإمام فإنه يقصد إسماع المأمومين فقد توسط المنفرد بين الإمام والمأموم ولذلك كان مخيرا في الحالين (فصل) فإن قضى الصلاة في جماعة وكانت صلاة نهار أسر سواء قضاها ليلاً أو نهاراً لا نعلم فيه خلافا لأنها صلاة نهار وإن كانت صلاة ليل فقضاها ليلا جهر في ظاهر كلامه لأنها صلاة ليل فعلها ليلا فجهر فيها كالمؤداة وإن قضاها نهارا احتمل أن لا يجهر وهو مذهب الشافعي والاوزاعي لأنها مفعولة في النهار وصلاة النهار عجماء، وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالبعر " رواه أبو حفص بإسناده واحتمل أن يجهر فيها وهو قول أبي حنيفة وابن المنذر وأبي ثور ليكون القضاء كالأداء ولا فرق عند هؤلاء بين الامام والمنفرد ظاهر كلام أحمد أنه غير بين الأمرين (مسألة) (وإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان لم تصح صلاته وعنه تصح) لا يستحب له أن يقرأ بغير ما في مصحف عثمان ونقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل بن جعفر فإن لم يكن فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش وأثنى على قراءة أبي عمر ولم يكره قراءة(1/534)
أحد من العشرة إلا قراءة حمزة والكسائي لما فيها من الكسر والإدغام والتكلف وزيادة المد، وقد روي عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نزل القرآن بالتفخيم " وعن ابن عباس قال: نزل القرآن بالتفخيم والتثقيل نحو الجمعة وأشباه ذلك ولأنها تتضمن الإدغام الفاحش وفيه إذهاب
حروف كثيرة من كتاب الله تعالى ينقص بإدغام كل حرف عشر حسنات، ورويت كراهتها والتشديد فيها عن جماعة من السلف منهم الثوري وابن مهدي ويزيد بن هارون وسفيان بن عيينة فروي عنه أنه قال لو صليت خلف إنسان يقرأ قراءة حمزة لأعدت صلاتي، وقال أبو بكر بن عياش قراءة حمزة بدعة، وقال ابن إدريس ما أستخير أن أقول يقرأ بقراءة حمزة أنه صاحب سنة، قال بشر بن الحارث: يعيد إذا صلى خلف إمام يقرأ بها.
وروى عن أحمد التسهيل في ذلك، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله إمام يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه؟ قال لا تبلغ بهذا كله ولكنها لا تعجبني (فصل) فإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان كقراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وغيرها كره له ذلك لأن القرآن يثبت بطريق التواتر ولا تواتر فيها ولا يثبت كونها قرآنا وهل تصح صلاته إذا كان مما صحت به الرواية واتصل إسنادها؟ على روايتين (إحداهما) لا تصح صلاته لذلك(1/535)
(والثانية) تصح لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون بقراءتهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وكانت صلاتهم صحيحة.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد " وكان الصحابة رضي الله عنهم يصلون بقراآت لم يثبتها عثمان في المصحف لا يرى أحد منهم تحريم ذلك ولا بطلان صلاتهم به (فصل) فإذا فرغ من القراءة ثبت قائما وسكت حتى يرجع إليه نفسه قبل أن يركع ولا يصل قراءته(1/536)
بتكبير الركوع قاله أحمد لأن في حديث سمرة في بعض رواياته فإذا فرغ من القراءة سكت، رواه أبو داود(1/537)
(مسألة) (ثم يرفع يديه ويركع مكبرا فيضع يديه على ركبتيه ويمد ظهره مستويا ويجعل رأسه حيال ظهره لا يرفعه ولا يخفضه) الكلام في هذه المسألة في ثلاثة أمور (أحدها) في رفع اليدين، ورفعهما في تكبيرة الركوع مستحب: ويرفعهما إلى فروع أذنيه ويكون ابتداء الفرع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه كما قلنا في ابتداء الصلاة، وهذا قول ابن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة وابن الزبير
وأنس رضي الله عنهم، وبه قال الحسن وعطاء وطاووس وابن المبارك، والشافعي مالك في أحد قوليه وقال الثوري وأبو حنيفة والنخعي لا يرفعهما لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة، حديث حسن.
وروي يزيد بن زياد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلا ثم لا يعود، رواه أحد بمعناه قالوا: والعمل في هذين الحديثين الاولين أولى لأن ابن مسعود كان فقيها مالازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم عالما بأحواله فتقدم روايته على غيره ولنا ما روى عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، متفق عليه، وقد ذكرنا حديث أبي حميد وفيه الرفع، رواه في عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة فصدقوه، ورواه عمر وعلي ووائل ابن حجر ومالك بن الحويرث وأنس وأبو هريرة وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة وأبو موسى فصار كالمتواتر الذي لا يتطرق إليه شك بصحة سنده وكثرة رواته وعمل به الصحابة والتابعون(1/538)
وأنكروا على من تركه، فروي أن ابن عمر كان إذا رأى من لا يرفع حصبه وأمره أن يرفع وحديثاهم ضعيفان، فحديث ابن مسعود قال ابن المبارك لم يثبت، وحديث البراء قال أبو داود: هذا حديث ليس بصحيح - ولو صحا كان الترجيح لأحاديثنا لأنها أصح إسنادا وأكثر رواة ولأنهم مثبتون والمثبت يقدم على النافي ولأنه قد عمل به السلف من الصحابة والتابعين، وقولهم أن ابن مسعود إمام، قلنا لا ننكر فضله وإمامته، أما بحيث يقدم على عمر وعلي فلا ولا يساوي واحدا منهما فكيف تقدم روايته؟ (الأمر الثاني) الركوع وهو واجب في الصلاة بالنص والإجماع قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) وأجمعوا على وجوب الركوع على القادر عليه (الأمر الثالث) التكبير فيه وهو مشروع في كل خفض ورفع في قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وجابر وأبو هريرة وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وعوام علماء الأمصار، وروي عن عمر بن عبد العزيز وسالم والقاسم وسعيد بن جبير أنهم كانوا لا يتمون التكبير لما روى عبد الرحمن بن أبي أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان
لا يتم التكبير، يعني إذا خفض وإذا رفع، رواه الإمام أحمد ولنا ما روى أبو هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس، متفق عليه.
وعن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر، رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حسن صحيح.
وقال النبي(1/539)
صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا " متفق عليه ولأنه شروع في ركن فشرع فيه التكبير كحالة الابتداء (فصل) ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول عامة أهل العلم، وذهب قوم من السلف إلى التطبيق وهو أن يجعل المصلي أحد كفيه على الأخرى ثم يجعلهما بين ركبتيه إذا ركع وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ، قال مصعب بن سعد: ركعت فجعلت يدي بين ركبتي فنهاني أبي وقال إنا كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب متفق عليه.
وفي حديث أبي حميد رأيته إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ويستحب أن يفرج أصابعه لما روى وائل بن حجر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع فرج أصابعه، رواه البيهقي (فصل) ويجعل رأسه حيال ظهره لا يرفعه ولا يخفضه لأن في حديث أبي حميد في صفة الركوع ثم هصر ظهره، وفي لفظ ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنع، وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، متفق عليه.
وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ركع لو كان قدح ماء على ظهره ما تحرك وذلك لاستواء ظهره، ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه فإن في حديث أبي حميد النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ووتر أيديه فنحاهما عن جنبه، صحيح(1/540)
(مسألة) (وقدر الإجزاء الانحناء بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه لأنه لا يخرج عن حد القيام إلى الركوع إلا به ولا يلزمه وضع يديه على ركبتيه بل ذلك مستحب، فإن كانتا عليلتين لا يمكنه وضعهما انحنى ولم يضعهما، وإن كانت إحداهما عليلة وضع الآخرى (1) (فصل) وإذا رفع رأسه وشك هل رفع أو لا؟ أو هل أنى بقدر الإجزاء أو لا؟ لزمه أن يعود فيركع
__________
1) سقط هذا السطر من نسخة الشرح الكبير فنقلناه من المغني وربما كان ما سقط أكثر(1/541)
لأن الأصل عدم ما شك فيه إلا أن يكون وسواسا فلا يلتفت إليه وكذلك حكم سائر الأركان (مسألة) (ثم يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وهو أدنى الكمال) قول سبحان ربي العظيم مشروع في الركوع، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك ليس عندنا في الركوع والسجود شئ محدود وقد سمعت أن التسبيح في الركوع والسجود ولنا ما روى عقبة بن عامر قال: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في ركوعكم " وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه " أخرجهما أبو داود وابن ماجة، وأدنى الكمال ثلاث لما ذكرناء ويجزئه تسبيحة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر عددا في حديث عقبة ولأنه ذكر مكررا فأجزأت واحدة كسائر الأذكار، قال أحمد جاء الحديث عن الحسن البصري أنه قال " التسبيح التام سبع، والوسط خمس، وأدناه ثلاث " وقال القضي الكامل في التسبيح إن كان منفردا(1/542)
مالا يخرجه إلى السهو وفي حق الإمام مالا يشق على المأمومين، ويحتمل أن يكون الكامل عشر تسبيحات لأن أنساً روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي كصلاة عمر بن عبد العزيز فحزروا ذلك بعشر تسبيحات.
وقال الميموني صليت خلف أبي عبد الله فكنت أسبح في الركوع والسجود عشر تسبيحات وأكثر.
وقال بعض أصحابنا الكمال أن يسبح مثل قيامه لما روى البراء قال: رمقت
محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته(1/543)
ما بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء متفق عليه (فصل) إلا أن الأولى للإمام عدم التطويل لئلا يشق على المأمومين إلا أن يكون الجماعة يرضون بذلك فيستحب له التسبيح الكامل على ما ذكرنا، وإن قال سبحان ربي العظيم وبحمده فلا بأس فإنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ركع قال " سبحان ربي العظيم وبحمده " ثلاثا إذا سجد قال " سبحان ربي الأعلى وبحمده " ثلاثا رواه أبو داود.
قال أحمد بن نصر روي عن(1/544)
أحمد أنه سئل: تسبيح الركوع والسجود " سبحان ربي العظيم وبحمده " أعجب إليك أو " سبحان ربي العظيم؟ " فقال قد جاء هذا وجاء هذا.
وروي عنه أنه قال: أما أنا فلا أقول وبحمده.
وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأصحاب الرأي لأن هذه الزيادة قال أبو داود: نخاف أن لا تكون محفوظة والرواية بدونها أكثر (فصل) يكره أن يقرأ في الركوع والسجود لما روى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، قال الترمذي هذا حديث صحيح (مسألة) (ثم يرفع رأسه قائلا سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه) إذا فرغ من الركوع رفع رأسه(1/545)
قائلا سمع الله لمن حمده، ويكون انتهاؤه عند انتهاء رفعه، ويرفع يديه لما روينا من الأخبار، وفي موضع الرفع روايتان (إحداهما) بعد اعتداله قائما، حكاه أحمد بن الحسين أنه رأى أحمد يفعله لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع (والثانية) يبتدئه حين يبتدئ رفع رأسه، لان أبا حميد قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم قال " سمع الله لمن حمده " ورفع يديه.
وفي حديث ابن عمر في الرفع: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ويقول " سمع الله لمن حمده " وظاهره أنه رفع يديه حين أخذ في رفع رأسه كقوله إذا كبر أي إذا أخذ في التكبير ولأنه محل رفع المأموم
فكان محل رفع الإمام كالركوع، فإن الرواية لا تختلف في أن المأموم يبتدئ الرفع عند رفع رأسه لأنه ليس في حقه ذكر بعد الاعتدال والرفع إنما جعل هيئة للذكر.
وقول سمع الله لمن حمده مشروع في حق الإمام والمنفرد لا نعلم فيه خلافاً في المذهب لما ذكرنا من حديث أبي حميد وحديث ابن عمر وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريدة " يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " رواه الدارقطني، ويعتدل قائما حتى يرجع كل عضو إلى موضعه ويطمئن لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا رفع رأسه استوى قائما حتى يعود كل فقار إلى مكانه متفق عليه، وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، رواه مسلم(1/546)
(فصل) وهذا الرفع والاعتدال عنه واجب وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك لا يجب لأن الله تعالى لم يأمر به وإنما أمر بالركوع والسجود والقيام فلا يجب غيره.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم ارفع حتى تعتدل قائما " متفق عليه وداوم على فعله وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقولهم لم يأمر به، قلنا قد أمر بالقيام وهذا قيام وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وأمره يجب امتثاله.
ويسن الجهر بالتسميع للإمام كم يسن له الجهر بالتكبير قياساً عليه، والله أعلم (فصل) وإذا قال مكان سمع الله لمن حمده: من حمد الله سمع له، لم يجزئه.
وقال الشافعي: يجزئه لإتيانه باللفظ والمعنى.
ولنا أنه عكس اللفظ المشروع أشبه ما لو قال في التكبير: الأكبر الله، ولا نسلم أن المعنى لم يتغير فإن قوله: سمع الله لمن حمده، صيغة تصلح للدعاء، واللفظ الآخر صيغة شرط وجزاء لا يصلح للذكر فاختلفا (مسألة) (فإذا اعتدل قائما قال ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الارض وملء ما شئت من شئ بعد) قول ربنا ولك الحمد مشروع في حق كل مصل في المشهور عنه، وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة والشعبي والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وعن أحمد لا يقوله المنفرد فإنه قال في رواية إسحاق في الرجل يصلي وحده فإذا قال سمع الله لمن حمده، قال ربنا ولك الحمد(1/547)
فقال إنما هذا للإمام جمعهما وليس هذا لأحد سوى الإمام لأن الخبر لم يرد به في حقه فلم يشرع له كقول سمع الله لمن حمده في حق المأموم.
وقال مالك وأبو حنيفة لا يشرع هذا في حق الإمام لا المنفرد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له " متفق عليه ولنا أن أبا هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد.
متفق عليه.
وعن أبي سعيد وابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع " قال سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الارض، وملء ما شئت من شئ بعد " رواه مسلم، وما ذكروه لا حجة لهم فيه فإنه إن ترك ذكره في حديثهم فقد ذكره في أحاديثنا - ثم يقول الامام ملء السموات وملء الارض وملء ما شئت من شئ بعد - لما ذكرنا من الأحاديث، والصحيح أن المنفرد يقول كما يقول الإمام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبريدة " يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الارض وملء ما شئت من شئ بعد " رواه الدارقطني، وهذا عام وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، رواه عنه علي وابو(1/548)
هريرة وأبو سعيد وغيرهم ولم يفرقوا بين كونه إماما أو منفردا، ولأنه ذكر للإمام فشرع للمنفرد كسائر الأذكار.
وذكر القاضي في المنفرد رواية أنه يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد لا يزيد عليه قال والصحيح أنه يقول مثل الإمام (فصل) ويقول ربنا ولك الحمد بواو، نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو وقال روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث، عن أنس، وعن سعيد بن المسبب عن أبي هريرة، وعن سالم عن ابيه وهو قول مالك، ونقل ابن منصور عن احمد إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد، رواه أبو سعيد وابن أبي أوفى.
فاستحب الاقتداء به في القولين، وقال الشافعي
السنة قول ربنا لك الحمد، لأن الواو للعطف وليس ههنا شئ يعطف عليه ولنا أن السنة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد صح عنه ذلك، ولأن إثبات الواو أكثر حروفا ويتضمن الحمد مقدرا ومظهرا إذ التقدير ربنا حمدناك، ولك الحمد فإنها لما كانت للعطف ولا شئ ههنا يعطف عليه دلت على التقدير الذي ذكرناه كقولك سبحانك اللهم وبحمدك أي؟ وبحمدك سبحانك وكيفما قال كان حسنا لأن السنة قد وردت به(1/549)
(مسألة) فإن كان مأموما لم يزيد على ربنا ولك الحمد، إلا عند أبي الخطاب.
قال شيخنا لا أعلم خلافاً في المذهب أنه لا يشرع للمأموم قول سمع الله لمن حمده، وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة ومالك وأصحاب الرأي، وقال يعقوب ومحمد والشافعي واسحاق يقول ذلك كالإمام لحديث بريدة وقياسا على الإمام في سائر الأذكار ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد " وهذا يقتضي أن يكون قولهم ربنا ولك الحمد عقيب تسميع الإمام بلا فصل لأن الفاء للتعقيب وهذا ظاهر يجب تقديمه على القياس وعلى حديث بريدة، ولأنه خاص بالمأموم وذلك عام، ولو تعارضا كان حديثنا أولى لأنه صحيح، وحديث بريدة فيه جابر الجعفي، فأما قول ملء السماء وما بعده فظاهر المذهب أنه لا يسن للمأموم، اختاره الخرقي ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره، واختاره أكثر أصحابه لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أمرهم بقول " ربنا ولك الحمد " فدل على أنه لا يشرع لهم سواه، ونقل الأثرم عنه ما يدل على أنه مسنون وهو أنه قال: ليس يسقط خلف الإمام عنه غير سمع الله لمن حمده اختاره أبو الخطاب وهو قول الشافعي لأنه ذكر مشروع في الصلاة أشبه سائر الأذكار (فصل) وموضع قول ربنا ولك الحمد في حق الإمام والمنفرد بعد القيام من الركوع لانه في حال(1/550)
قيامه يقول سمع الله لمن حمده فقوله قولوا ربنا ولك الحمد يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، والمأموم يأخذ في الرفع عقيب قول الإمام سمع الله لمن حمده فيكون قوله ربنا ولك الحمد حينئذ والله أعلم
(فصل) وإن زاد على قول ربنا ولك الحمد: ملء السموات وملء الارض وملء ما شئت من شئ بعد - فقد اختلف عن أحمد فيه، فروي عنه أنه قيل له أتزيد على هذا فتقول أهل الثناء والمجد؟ فقال: قد روي ذلك وأما أنا فأقول هذا إلى: ما شئت من شئ بعد، فظاهر هذا أنه لا يستحب ذلك في الفريضة اتباعا لأكثر الأحاديث الصحيحة، ونقل عنه أبو الحارث أنه قال: وأنا أقول ذلك؟ يعني أهل الثناء والمجد، فظاهره أنه يستحب، اختاره أبو حفص وهو الصحيح لما روى أبو سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال " اللهم ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الارض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال " اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الارض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " وروى عبد الله بن أبي أوفى بعد قوله " وملء ما شئت من شئ بعد، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " رواهن مسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام بين الركوع والسجود.
قال أنس: كان(1/551)
النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم وليست حالة سكوت فنعلم أنه عليه السلام كان يزيد على هذه الكلمات لكونها لا تستغرق هذا القيام كله (فصل) وإذا رفع رأسه من الركوع فعطس فقال ربنا ولك الحمد ينوي بذلك للعطسة والرفع فروي عنه لا يجزئه لأنه لم يخلصه للرفع، قال شيخنا: والصحيح أنه يجزئه لأنه ذكر لا تعتبر له النية وقد اتى به فأجزئه كما لو قاله ذاهلا ويحمل قول أحمد على الاستحباب لا على نفي الإجزاء حقيقة (فصل) وإذا أتى بقدر الإجزاء من الركوع فاعترضته علة منعته القيام سقط عنه الرفع لتعذره ويسجد عن الركوع، فإن زالت العلة قبل سجوده فعليه القيام، وإن زالت بعد سجوده إلى الأرض
سقط القيام لأن السجود قد صح وأجزأ فسقط ما قبله، فإن قام من سجوده عالما بتحريم ذلك بطلت صلاته لأنه زاد في الصلاة فعلا وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل ويعود إلى جلسة الفصل ويسجد للسهو (فصل) وإن أراد الركوع فوقع إلى الأرض فإنه يقوم فيركع، وكذلك إن ركع فسقط قبل طمأنينة الركوع لأنه لم يأت بما يسقط الفرض، فإن ركع فاطمأن ثم سقط فإنه يقوم منتصبا ولا يعيد(1/552)
الركوع فإن فرضه قد سقط والاعتدال عنه قد سقط بقيامه (فصل) إذا رفع رأسه من الركوع فذكر أنه لم يسبح في ركوعه لم يعد إلى الركوع سواء ذكره بعد اعتداله قائما أو قبله لأن التسبيح قد سقط برفعه والركوع قد وقع صحيحا مجزئا فلو عاد إليه زاد ركوعا في الصلاة غير مشروع فإن فعله عمدا أبطل الصلاة وإن فعله ناسياً أو جاهلاً لم تبطل الصلاة كما لو ظن أنه لم يركع ويسجد للسهو، فإن أدرك المأموم الإمام في هذا الركوع لم يدرك الركعة لأنه ليس بمشروع في حقه ولأنه لم يدرك ركوع الركعة فأشبه ما لو لم يدركه راكعا ذكره شيخنا، وقال القاضي في المجرد إن رجع الإمام لم تبطل صلاته فإن أدركه المأموم فقياس المذهب أنه يعتد بها ركعة لأنه رجع إلى واجب غير أنه سقط عنه بالنسيان (مسألة) (ثم يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه) السجود واجب في الصلاة بالنص والإجماع والطمأنينة واجبة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا " والخلاف فيها كالخلاف في طمأنينة الركوع، وينحط إلى السجود مكبرا لما ذكرنا من الأخبار ويكون ابتداء تكبيره مع ابتداء انحطاطه وانتهاؤه مع انتهائه، ولايستحب رفع يديه فيه في المشهور من المذهب ونقل عن الميموني أنه يرفع يديه وسئل عن رفع اليدين في الصلاة فقال: يرفع في كل خفض ورفع(1/553)
وقال، فيه عن ابن عمر وأبي حميد أحاديث صحاح ووجه الأول حديث ابن عمر قال: وكان لا يفعل ذلك في السجود متفق عليه ولما وصف أبو حميد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر رفع اليدين في السجود والأحاديث العامة مفسرة بالأحاديث المفصلة التي رويناها فلا يبقى فيها اختلاف
(مسألة) (فيضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه ويكون على أطراف أصابعه) هذا المشهور من المذهب روى ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يضع يديه قبل ركبتيه، وهو مذهب مالك لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه " رواه أبو داود والنسائي، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه، رواه أبو داود والنسائي والدارقطني، ووجه الأولى ما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب، قال الخطابي هذا أصح من حديث أبي هريرة، وقد روى الأثرم من حديث أبي هريرة " إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك البعير " وعن سعد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين، فهذا يدل على أنه منسوخ رواه ابن خزيمة إلا أنه من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل وقد تكلم فيه البخاري وقال ابن معين ليس بشئ لا نكتب حديثه، وقال الدارقطني في حديث وائل بن حجر: تفرد به شريك عن عاصم ابن كليب وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به، ويستحب أن يكون على أطراف أصابعه ويثنيها إلى القبلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " ذكر منها أطراف القدمين(1/554)
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف رجليه القبلة، وفي رواية وفتح أصابع رجليه، وهذا معناه (مسألة) (والسجود على هذه الأعضاء واجب إلا الأنف على إحدى الروايتين) السجود على الأعضاء السبعة واجب في قول طاوس وإسحاق والشافعي في أحد قوليه، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الآخر لا يجب السجود على غير الجبهة، ورواه الآمدي عن أحمد، وقال القاضي في الجامع هو ظاهر كلام أحمد فإنه قد نص في المريض يرفع شيئا يسجد عليه أنه يجزئه ومعلوم أنه قد أخل بالسجود على يديه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سجد وجهي " وهذا يدل على أن السجود على الوجه
ولأن الساجد على الوجه يسمى ساجدا ووضع غيره على الأرض لا يسمى به ساجدا، فالامر بالسجود ينصرف الى ما يسمى به ساجدا دون غيره، ولأنه لو وجب السجود على هذه الأعضاء لوجب كشفها كالجبهة ولنا ما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم اليدين، والركبتين، والقدمين، والجبهة " متفق عليه وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك " رواه مسلم، وسجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه، وسقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود فانا نمنع في الجبهة على رواية ولو سلم فالجبهة(1/555)
هي الأصل في السجود وهي مكشوفة عادة بخلاف غيرها فإن أخل بالسجود على عضو من هذه الأعضاء لم تصح صلاته عند من أوجبه، وان قدر على السجود على الجبهة وعجز عن السجود على بعض هذه الأعضاء سجد على بقيتها وقرب العضو المريض من الأرض غاية ما يمكنه ولا يجب عليه أن يرفع إليه شيئا، لأن السجود هو الهبوط ولا يحصل بالرفع وإن سقط السجود عن الجبهة لعارض من مرض أو غيره سقط عنه السجود على غيره لأنه الأصل وغيره تبع له فإذا سقط الأصل سقط التبع ولهذا قال أحمد في المريض يرفع إلى جبهته شيئا يسجد عليه أنه يجزئه.
(فصل) وفي الأنف روايتان (إحداهما) يجب السجود عليه وهو قول سعيد بن جبير واسحاق لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين " متفق عليه.
وإشارته إلى أنفه تدل على إرادته.
وللنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم.
الجبهة، والأنف، واليدين والركبتين، والقدمين " (والرواية الثانية) لا يجب وهو قول عطاء والحسن والشافعي وأبي يوسف ومحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " ولم يذكر(1/556)
الانف فيها، وروي أن جابراً قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر، رواه تمام في فوائده وغيره، وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف، وروي عن أبي حنيفة إن سجد على جبهته
دون أنفه أجزأه، ولعله ذهب إلى أن الجبهة والأنف عضو واحد لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الجبهة والسجود على بعض العضو يجزئ، وهذا قول يخالف الحديث الصحيح والعلماء قبله.
قال إبن المنذر لا أعلم أحداً سبقه إلى هذا القول والله أعلم (مسألة) (ولا تجب عليه مباشرة المصلي بشئ منها إلا الجبهة على إحدى الروايتين) لا تجب مباشرة المصلى بشئ من أعضاء السجود في الصحيح من المذهب.
قال القاضي في المجرد: إذا سجد على كور العمامة أو كمه أو ذيله فالصلاة صحيحة رواية واحدة، وهل يكره على روايتين، وممن رخص في السجود على الثوب في الحر والبرد عطاء وطاوس والشعبي ومالك واسحاق وأصحاب الرأي وسجد شريح على برنسه (وفيه رواية أخرى) أنه يجب عليه مباشرة المصلي بالجبهة ذكرها أبو الخطاب وروى الأثرم قال: سألت أبا عبد الله عن السجود على كور العمامة فقال: لا يسجد على كورها ولكن يحصر العمامة وهو مذهب الشافعي لما روى خباب قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر(1/557)
الرمضاء في جباهنا واكفنا فلم يشكنا رواه البيهقي ورواه مسلم وليس فيه جباهنا واكفنا، وعن علي رضي الله عنه قال: إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته رواه البيهقي، ولأنه سجد على ما هو حامل له أشبه مااذا سجد على يديه ولنا ما روى أنس قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود متفق عليه، وعن ثابت بن صامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني الأشهل وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه يقيه برد الحصى رواه ابن ماجه، وقال الحسن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرجل على عمامته رواه البيهقي، ولأنه عضو من أعضاء السجود فجاز السجود على حائله كالقدمين، وأما حديث خباب فالظاهر أنهم طلبوا منه تأخير الصلاة أو تسقيف المسجد أو نحو ذلك مما يزيل عنهم الضرر الحاصل من الحر، أما الرخصة في السجود على العمامة والأكمام فالظاهر أنهم لم يطلبوه لأن ذلك إنما طلبه الفقراء ولم يكن لهم عمائم ولا أكمام طوال يتقون بها وإن احتمل ذلك لكنه لا يتعين لجواز ما ذكرنا ولذلك لم
يعملوا به في الأكف قال أبو إسحاق المنصوص عن الشافعي انه لا يجب كشفهما وقد قيل فيه قول إنه يجب وأما إذا سجد على يديه قائما لم يصح لأن السجود عليهما يفضي إلى تداخل أعضاء السجود(1/558)
بخلاف مسئلتنا، وقال القاضي في الجامع لم أجد نصا في هذه المسألة.
ويجب أن تكون مبنية على السجود على غير الجبهة.
إن قلنا لا يجب جاز كما لو سجد على العمامة، وإن قلنا يجب لم يجز لئلا يتداخل محل السجود بعضه في بعض، والأولى مباشرة المصلي بالجبهة واليدين ليخرج من الخلاف ويأخذ بالعزيمة وذكر القاضي في كراهية ستر اليدين روايتين قال أحمد واسحاق لا يعجبني إلا في الحر والبرد، وكان ابن عمر يكره السجود على كور العمامة (مسألة) (ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، ويضع يديه حذو منكبيه، ويفرق بين ركبتيه) التجافي في السجود للرجل مستحب لأن في حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه، وفيه إذا سجد فرج بين فخديه غير حامل بطنه على شئ من فخذيه، ولابي داود ثم سجد وأمكن أنفه وجبهته ونحى يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه، وعن ميمونة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت رواه مسلم، وعن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه، رواه الإمام أحمد(1/559)
(فصل) ويستحب أن يضع راحتيه على الارض مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلا بهما القبلة ويضعهما حذو منكبيه لما ذكرنا وهو مذهب الشافعي، ولما روى وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد ضم أصابعه، رواه البيهقي.
وروى الأثرم قال: رأيته سجد ويداه حذو أذنيه لما روى البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك " رواه الاثرم وابو داود بمعناه والجميع حسن (فصل) والكمال في السجود أن يضع جميع بطن كفه وأصابعه على الأرض ويرفع مرفقيه، روى ذلك عن ابن عمر لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه
فان اقتصر على أطراف أصابع يديه فظاهر الخبر أنه يجزئه لأنه قد سجد على يديه، وهكذا لو سجد على ظهور قدميه ولأنه لا يخلو من إصابة بعض أطراف قدميه الأرض فيكون ساجدا على أطراف القدمين إلا أنه يكون تاركا للأفضل (فصل) واذا أراد السجود فسقط على وجهه فماست جبهته الأرض أجزأه ذلك إلا أن يقطع نية السجود وإن سقط على جنبه ثم انقلب فماست جبهته الأرض لم يجزئه ذلك إلا أن ينوي السجود والفرق(1/560)
بين المسئلتين أنه ههنا خرج عن سنن الصلاة وهيآتها ثم كان انقلابه الثاني عائدا إلى الصلاة فافتقر إلى تجديد نية.
وفي التي قبلها هو على هيئة الصلاة وسننها فاكتفى باستدامة النية (مسألة) (ويقول سبحان ربي الأعلى ثلاثا) الحكم في هذا التسبيح كالحكم في تسبيح الركوع على ما شرحناه، والأصل فيه حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل (سبح اسم ربك الأعلى) قال " اجعلوها في سجودكم " وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا سجد أحدكم فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه " وعن حذيفة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال " سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات " رواهن ابن ماجة وأبو داود ولم يقل ثلاث مرات.
والحكم في عدده وتطويل السجود كما ذكرنا في الركوع (فصل) وإن زاد دعاءا مأثورا أو ذكرا مثل ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي " متفق عليه.
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معاذ إذا وضعت وجهك ساجدا فقل اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك " وقال عليه السلام " أحب الكلام إلى الله إن يقول العبد وهو ساجد رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " رواهما سعيد في سننه، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده(1/561)
" اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وسره وعلانيته " رواه مسلم - فهو حسن لما ذكرنا وقد قال عليه الصلاة والسلام " وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم "
حديث صحيح، وقال الاقضي لا تستحب الزيادة على سبحان ربي الأعلى في الفرض، وفي التطوع روايتان، قال شيخنا وقد ذكرنا هذه الأخبار الصحيحة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، والأمر بالتسبيح لا ينفي الأمر بغيره كما أن الأمر بالدعاء لم ينف الأمر بغيره (فصل) ولا بأس بتطويل السجود للعذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو حامل حسنا أو حسينا في إحدى صلاتي العشاء فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس يا رسول الله إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر وأنه يوحى إليك قال " كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته " رواه الإمام أحمد والنسائي وهذا لفظه (فصل) ولا بأس أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود لما روى أبو هريرة قال شكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم فقال " استعينوا بالركب " قال ابن عجلان هو أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود وأعيى، رواه الإمام أحمد وأبو داود، وقال عمر رضي الله عنه أن الركب قد سنت لكم فخذوا بالركب، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (مسألة) (ثم يرفع رأسه مكبرا) يعني إذا قضى سجود ورفع رأسه مكبرا وجلس ويكون ابتداء تكبيره مع ابتداء رفعه وانتهاؤه مع انتهائه.
وهذا الرفع والاعتدال عنه واجب وهو قول الشافعي، وقال(1/562)
مالك وأبو حنيفة ليس بواجب بل يكفي عند أبي حنيفة أن يرفع رأسه مثل حد السيف لأن هذه جلسة فصل بين متشاكلين فلم تكن واجبة كجلسة التشهد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم اجلس حتى تطمئن جالسا " متفق عليه وروت عائشة قالت: كان - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من السجدة ثم لم يسجد حتى يستوي قاعدا متفق عليه، ولأنه رفع واجب فكان الاعتدال عنه واجبا كالرفع من السجدة الأخيرة والتشهد الأول واجب عندنا في الصحيح (مسألة) قال (ويجلس مفترشا يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويقول
رب أغفر لي ثلاثا) السنة أن يجلس بين السجدتين مفترشا يفرش رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى ويخرجها من تحته ويجعل بطون أصابعها على الأرض معتمدا عليها تكون أطراف أصابعها إلى القبلة لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ثنى رجله اليسرى(1/563)
وقعد عليها ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه ثم يهوي ساجدا.
وفي حديث عائشة وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، متفق عليه.
قال الأثرم: تفقدت أبا عبد الله فرأيته يفتح أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة، وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا نعلم إذا جلسنا في الصلاة أن يفترش الرجل منا قدمه اليسرى وينصب قدمه اليمنى على صدر قدمه فإن كانت إبهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى يعدلها.
وعن ابن عمر قال: من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة (فصل) والمستحب عند أبي عبد الله أن يقول: رب اغفر لي، يكرر ذلك والواجب منه مرة وأدنى الكمال ثلاث كقولنا في التسبيح، وفي وجوبه (روايتان) نذكرهما فيما يأتي إن شاء الله والأصل في هذا ما روي حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السجدتين " رب أغفر لي " رواه النسائي وابن ماجة، وإن قال رب اغفر لنا أو اللهم اغفر لنا فلا بأس(1/564)
(مسألة) (ثم يسجد الثانية كالأولى) وهذه السجدة واجبة بالإجماع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجدتين لم يختلف عنه في ذلك (فصل) والمستحب أن يكون شروع المأموم في أفعال الصلاة من الرفع والوضع بعد فراغ الإمام منه ويكره فعله معه في قول أكثر أهل العلم واستحب مالك أن تكون أفعاله مع أفعال الإمام ولنا ما روى البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال " سمع الله لمن حمده " لم(1/565)
نزل قياما حتى نراه قد وضع جبهته بالأرض ثم نتبعه، متفق عليه، وروى أبو موسى قال خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا فقال " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، وليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا - إلى قوله - وإذا ركع فاركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فتلك بتلك " رواه مسلم، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " انما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا - إلى قوله - وإذا سجد(1/566)
فاسجدوا " متفق عليه.
رتبه عليه بفاء التعقيب فيقتضي أن يكون بعده كقوله جاء زيد فعمرو؟ أي بعده، فإن وافق إمامه في الأفعال فركع وسجد معه أساء وصحت صلاته (مسألة) (ثم يرفع رأسه مكبرا ويقوم على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه) وجملته أنه إذا قضى السجدة الثانية نهض للقيام مكبرا، والقيام ركن.
وفي وجوب التكبير (روايتان) ذكرنا وجههما وينهض على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه ولا يعتمد على الأرض بيديه، قال القاضي: لا يختلف قوله أنه لا يعتمد على الأرض سواء قلنا يجلس للاستراحة أم لا.
وقال مالك والشافعي: السنة أن يعتمد على يديه في النهوض لان مالك بن الحويرث قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما رفع(1/567)
رأسه من السجدة الثانية استوى قاعدا ثم اعتمد على الأرض، رواه النسائي، ولأن أعون للمصلي ولنا ما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه، رواه النسائي والاثرم.
وفي لفظ وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه.
وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة، رواهما أبو داود.
وقال علي رضي الله عنه أن من السنة في الصلاة المكتوبة إذا نهض الرجل في الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع، رواه الأثرم، ولأنه أشق فكان أفضل كالتجافي وحديث مالك محمول على أنه كان(1/568)
من النبي صلى الله عليه وسلم لمشقة القيام لكبره فإنه قال عليه السلام " إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود "
(مسألة) (إلا أن يشق عليه فيعتمد بالأرض) يعني إذا شق عليه النهوض على الصفة المذكورة فلا بأس باعتماده على الأرض بيديه لا نعلم أحدا خالف في هذا، وقد دل عليه حديث مالك بن الحويرث وقول علي إلا أن يكون شيخا كبير والمشقة تكون لكبر أو ضعف أو سمن أو نحوه (مسألة) (وعنه أنه يجلس جلسة الاستراحة على قدميه واليتيه) اختلفت الرواية عن أحمد في جلسة الاستراحة فروي عنه لا يجلس اختاره الخرقي وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه يقول مالك والثوري وأصحاب الرأي، قال أحمد أكثر الأحاديث على هذا قال الترمذي وعليه العمل عند أهل العلم قال أبو الزناد تلك السنة (والثانية) أنه يجلس اختارها الخلال وهو أحد قول الشافعي.
قال الخلال رجع أبو عبد الله عن قوله بترك الجلوس لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض متفق عليه وذكره أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح فيتعين العمل به، وقيل إن كان المصلي ضعيفا جلس للاستراحة لحاجته، وإن كان قوياً لم يجلس كما قلنا في الاعتماد بيديه على الأرض.
وحمل جلوس النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان في آخر عمره عند كبره، قال شيخنا وفي هذا جمع بين الأخبار، وتوسط بين القولين فإذا قلنا يجلس فإنه يجلس مفترشا كالجلوس بين السجدتين وهو مذهب الشافعي لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عضو في موضعه ثم نهض وهذا صريح لا ينبغي العدول عنه، وقال الخلال روي عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على اليتيه قال القاضي يجلس على قدميه واليتيه مفضيا بهما إلى الأرض لأنه لو جلس مفترشا لم يأمن السهو فيشك هل جلس عن السجدة الأولى أو الثانية، وقال أبو الحسن الآمدي لا يختلف أصحابنا أنه لا يلصق اليتيه بالأرض في جلسة الاستراحة بل يجلس معلقا عن الأرض (فصل) ويستحب أن يكون ابتداء تكبيره مع ابتداء رفع رأسه من السجود وانتهاؤه عند اعتداله(1/569)
قائما ليكون مستوعبا بالتكبير جميع الركن وعلى هذا بقية التكبيرات إلا من جلس جلسة الاستراحة فإنه ينتهي بتكبيره عند انتهاء جلوسه ثم ينهض بغير تكبير وقال أبو الخطاب ينهض مكبراو لا يصح
فإنه يفضي إلى المولاة بين تكبيرتين في ركن واحد لم يرد الشرع بجمعهما فيه (مسألة) (ثم ينهض ثم يصلي الثانية كذلك إلا في تكبيرة الإحرام والاستفتاح وفي الاستعاذة روايتان) وجملة ذلك أنه يصنع في الركعة الثانية كما يصنع في الأولى على ما وصفنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الركعة الأولى للمسئ في صلاته ثم قال " افعل ذلك في صلاتك كلها " وهذا لا نعلم فيه خلافاً إلا أن الثانية تنقص النية وتكبيرة الإحرام والاستفتاح لأن ذلك يراد لافتتاح الصلاة ولا نعلم في ترك هذه الأمور الثلاثة خلافا فيما عدا الركعة الأولى، فأما الاستعاذة ففيها روايتان (إحداهما) تختص الركعة الأولى وهو قول عطاء والحسن والثوري لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت وهذا يدل على أنه لم يكن يستعيذ رواه مسلم، ولان الصلاة جملة واحدة فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة ولذلك اعتبرنا الترتيب في القراءة في الركعتين أشبه مالو سجد للتلاوة في أثناء صلاته فمتى أتى بالاستعاذة في أولها كفى ذلك كالاستفتاح فعلى هذه الرواية إذا ترك الاستعاذة في الأولى لنسيان أو غيره أتي بها في الثانية، والاستفتاح بخلاف ذلك نص عليه لأنه يراد لافتتاح الصلاة فإذا نسيه في أولها فات محله(1/570)
والاستعاذة للقراءة وهو يستفتحها في الثانية (والرواية الثانية) يستعيذ في كل ركعة، وهو قول ابن سيرين والشافعي لقوله سبحانه (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) الآية فيقتضي ذلك تكرير الاستعاذة عند تكرير القراءة ولأنها مشروعة للقراءة فتكرر بتكريرها كما لو كانت في صلاتين (فصل) والمسبوق إذا أدرك الإمام فيما بعد الركعة الأولى لم يستفتح، وأما الاستعاذة فإن قلنا تختص بالركعة الأولى لم يستعذ لأن ما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته فإذا قام للقضاء استفتح(1/571)
واستعاذ نص عليه أحمد، وإن قلنا بالرواية الثانية استعاذ وإذا أراد المأموم القراءة استعاذ لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (مسألة) (ثم يجلس مفترشا ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى يقبض منها الخنصر والبنصر
ويحلق الابهام مع الوسطى ويشير بالسبابة في تشهده مرارا ويبسط اليسرى على فخذه اليسرى) متى فرغ من الركعتين جلس للتشهد، وهذا الجلوس والتشهد فيه مشروعان بغير خلاف نقله الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا فإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين فهما واجبان فيها على إحدى الروايتين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وصفة الجلوس لهذا التشهد كصفة الجلوس بين السجدتين مفترشا كما وصفنا وسواء كان آخر صلاته أو لم يكن وبهذا قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك يكون متوركا على كل حال لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وفي آخرها متوركا.
وقال الشافعي: إن كان متوسطا كقولنا، وإن كان آخر صلاته كقول مالك ولنا حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يعني للتشهد فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته وفي لفظ فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى ونصب الأخرى حديث صحيح وهذا يقدم على حديث ابن مسعود، فإن أبا حميد ذكر حديثه في عشرة من الصحابة فصدقوه وهو متأخر عن ابن مسعود وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر ولأن أبا حميد قد بين في حديثه الفرق بين التشهدين والأخذ بالزيادة واجب، ويستحب أن يضع يده اليمنى على الفخذ اليمنى ويبسط اليسرى على الفخذ اليسرى مضمومة الأصابع مستقبلا بأطراف أصابعهما القبلة كما ذكرنا لما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم عقد من أصابعه(1/572)
الخنصر والتي تليها وحلق حلقة بأصبعه الوسطى على الإبهام ورفع السبابة يشير بها.
قال أبو الحسن الآمدي: وروي عن أبي عبد الله أنه يجمع أصابعه الثلاث ويعقد الإبهام كعقد الخمسين لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة رواه مسلم وفي حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى ولا يحركها لما روى ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه ولا يحركها.
رواه أبو داود، وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع
يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بأصبعه، وعنه أنه يبسط الخنصر والبنصر لذلك فالأول أولى لما ذكرنا من الأحاديث وتكون إشارته بالسبابة عند ذكر الله تعالى (مسألة) (ثم يتشهد فيقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ان لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) هذا التشهد هو المختار عند إمامنا رحمه الله وعليه أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، منهم الثوري واسحاق وأصحاب الرأي وكثير من أهل المشرق.
وقال مالك: أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات لله، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وسائره(1/573)
كتشهد ابن مسعود لأن عمر قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكر فكان اجماعا، وقال الشافعي أفضله ما روي عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " رواه مسلم وفي لفظ سلام عليك سلام علينا ورواه الترمذي وفيه وأشهد أن محمداً رسول الله ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وفي لفظ " فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله فإذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض - وفيه - فليختر من المسألة ما شاء " متفق عليه.
قال الترمذي حديث ابن مسعود قد روي من غير وجه وهو أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد وعليه(1/574)
أكثر أهل العلم فكان الأخذ به أولى وقد رواه عن ابن مسعود وابن عمر وجابر وأبو هريرة وعائشة
فأما حديث عمر فإنما هو من قوله وأكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم على خلافه فكيف يكون إجماعا؟ على أن الخلاف ليس ههنا في الإجزاء إنما الخلاف في الأحسن والأفضل، وتشهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه أصحابه أولى وأحسن.
وحديث ابن عباس تفرد به واختلف عنه في بعض ألفاظه، وحديث ابن مسعود أصح وأكثر رواة فكان أولى (فصل) وأي تشهد تشهد به مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه الصحابة مختلفا دل على جواز الجميع كالقراآت المختلفة التي اشتمل عليها المصحف، قال القاضي: وهذا يدل على أنه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهدات المروية صح تشهده، فعلى هذا أقل ما يجزئ من التشهد: التحيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ان لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - أو - أن محمد رسول الله (فصل) وفي هذا القول نظر فإنه يجوز أن يجزئ بعضها عن بعض على سبيل البدل كقولنا في القراآت ولا يجوز أن يسقط ما في بعض الأحاديث إلا أن يأتي بما في غيره من الأحاديث.
وروى(1/575)
عن أحمد في رواية أبي داود إذا قال وأن محمداً عبده ورسوله ولم يذكر أشهد أرجو أن يجزئه.
وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا يقول لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصلاة، قال شيخنا والأول أصح لما ذكرنا وهو مذهب الشافعي (مسألة) قال (هذا التشهد الأول فلا يستحب الزيادة على ما ذكرنا ولا تطويله) وهو قول النخعي والثوري واسحاق، وقال الشافعي لا بأس أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وعن ابن عمر قال: بسم الله خير الأسماء، وقال ابن عمر زدت فيه وحده لا شريك له، وقد روى جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن " بسم الله وبالله، التحيات لله وباقيه كتشهد ابن مسعود وبعده " أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار " رواه النسائي وابن ماجة وسمع ابن عباس رجلا يقول بسم الله فانتهره، وهو قول مالك وأهل المدينة وابن المنذر والشافعي
وهو الصحيح لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم رواه أبو داود، والرضف الحجارة المحماة يعني لما يخففه ولأن الصحيح في التشهدات ليس فيه التسمية ولا شئ من هذه الزيادات فيقتصر عليها ولم تصح التسمية عند أصحاب الحديث ولا غيرها مما وقع الخلاف فيه وإن فعله جاز لأنه ذكر(1/576)
(فصل) وإذا أدرك بعض الصلاة مع الإمام فجلس الإمام في آخر صلاته لم يزد المأموم على التشهد الأول بل يكرره، نص عليه أحمد فيمن أدرك مع الإمام ركعتين قال يكرر التشهد ولا يصلي على(1/577)
النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدعو بشئ مما دعا به في التشهد الأخير لأن ذلك إنما يكون في التشهد الذي يسلم عقيبه وليس هذا كذلك(1/578)
(مسألة) (ثم يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وإن شاء قال: كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم) يعني إذا جلس في آخر صلاته تشهد بالتشهد الذي ذكرناه ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا، وفي وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم روايتان (أصحهما) وجوبها وهو قول الشافعي واسحاق (والثانية) أنها سنة قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: ابن راهويه يقول لو أن رجلا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بطلت صلاته فقال: ما أجترئ أن أقول هذا وقال في موضع هذا شذوذ وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر وهو قول جل أهل العلم إلا الشافعي وبه قال ابن المنذر قال: لأني لا أجد دليلا يوجوب الإعادة على من تركها، واحتجوا بحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد ثم قال " إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد تمت صلاتك " وفي لفظ " فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم " رواه أبو داود.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا
تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع " رواه مسلم، أمر بالاستعاذة عقيب التشهد من غير فصل ولان(1/579)
الوجود من الشرع ولم يرد به.
ولنا ما روى كعب بن عجزة قال أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " متفق عليه، وعن فضالة بن عبيد قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عجل هذا " ثم دعاه فقال له " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء " رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " رواه البيهقي فأما حديث(1/580)
ابن مسعود فقال الدارقطني: الزيادة فيه من كلام ابن مسعود (فصل) وصفة الصلاة كم ذكرنا لحديث كعب بن عجرة وقد رواه النسائي كذلك وفيه " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد " قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح.
وفي حديث أبي حميد " اللهم صلي على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " متفق عليه واللفظ لمسلم.
والأولى الإتيان بالصلاة كما في حديث كعب بن عجرة المتفق عليه فإنه أصح شئ روي فيها وعلى أي صفة أتى بالصلاة عليه مما روي في الأخبار جاز كقولنا في التشهد، وظاهره أنه إذا أخل بلفظ ساقط في بعض الأخبار جاز لأنه لو كان واجبا لما أغفله النبي صلى الله عليه وسلم، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد أن الصلاة واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حسب لأن أبا زرعة الدمشقي حكي عن أحمد
أنه قال كنت أتهيب ذلك يعني القول بوجوب الصلاة ثم تبينت فإذا الصلاة واجبة فذكر الصلاة حسب وهذا مذهب الشافعي، ولهم في وجوب الصلاة على آله وجهان، وقال بعض أصحابنا تجب الصلاة على ما في خبر كعب لأنه أمر به والأمر يقتضي الوجوب، وقد ذكرنا ما يدل على خلاف قولهم والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بهذا حين سألوه ولم يبتدئهم به(1/581)
(فصل) آل النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه كما قال تعالى (آل فرعون) يعني أتباعه من أهل دينه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل من آل محمد؟ قال " كل تقي " أخرجه تمام في فوائده، وقيل آله أهله الهاء منقلبة عن الهمزة كما يقال أرقت الماء وهرقته، فلو قال على أهل محمد مكان آل أجزأه عند القاضي وقال: معناهما واحد، ولذلك لو صغر قيل أهيل قال: ومعناهما جميعا أهل دينه، وقال ابن حامد أبو حفص: لا يجزئ لما فيه من مخالفة الأثر وتغيير المعنى فإن الأهل يعبر به عن القرابة، والآل عن الأتباع في الدين والله أعلم (فصل) في تفسير التحيات، التحية العظمة، قاله ابن عباس، والصلوات الصلوات الخمس، والطيبات الأعمال الصالحة، وقال أبو عمرو: التحيات الملك وأنشد ولكل ما نال الفتى + + + قد نلته إلا التحية وقيل التحيات البقاء، وقال ابن الأنباري: التحيات السلام، والصلوات الرحمة، والطيبات من الكلام (فصل) والسنة إخفاء التشهد لا نعلم في هذا خلافاً، قال عبد الله بن مسعود من السنة إخفاء التشهد، رواه أبو داود، ولأنه ذكر غير القراءة لا ينتقل به من ركن إلى ركن فاستحب إخفاؤه كالتسبيح.
ومن قدر على التشهد بالعربية والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز بغيرها كالتكبير(1/582)
فإن عجز عن العربية تشهد بلسانه كقولنا في التكبير ويجئ على قول القاضي أنه لا يتشهد وحكمه حكم الاخرس، فإن قدر على تعلم التشهد والصلاة لزمه ذلك كالقراءة فإن صلى قبل تعلمه مع إمكانه لم يصح فإن خاف فوات الوقت أو عجز عن تعلمه أتى بما يمكنه وأجزأه للضرورة، وإن لم يحسن شيئا منه سقط
(فصل) السنة ترتيب التشهد وتقديمه على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نكسه من غير تغيير شئ من معانيه ولا إخلال بشئ من الواجب فيه فعلى وجهين (أحدهما) يجزئه ذكره القاضي وهو قول الشافعي لأن المقصود المعنى وقد حصل أشبه ما لو رتبه (والثاني) لا يصح لأنه أخل بالترتيب في ذكر ورد الشرع به فلم يصح كالأذان (مسألة) (ويستحب أن يتعوذ فيقول أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " متفق عليه، ولمسلم " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع " وذكره (مسألة) (وإن دعا بما ورد في الأخبار فلا بأس) قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله أن هؤلاء يقولون لا يدعو في المكتوبة إلا بما في القرآن، فنفض(1/583)
يده كالمغضب وقال من يقف على هذا وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قالوا؟ قلت لأبي عبد الله: إذا جلس في الرابعة يدعو بعد التشهد بما شاء؟ قال بما شاء لا أدري ولكن يدعو بما يعرف وبما جاء قلت على حديث عمرو بن سعد؟ قال سمعت عبد الله يقول إذا جلس أحدكم في صلاته ذكر التشهد ثم ليقل اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
رواه الأثرم واختاره أحمد ذكره القاضي وقال لا يستحب للإمام الزيادة على هذا لئلا يطيل على المأمومين، فإن كان منفردا فلا بأس بكثرة الدعاء ما لم يخرجه إلى السهو فقد روى أبو داود عن عبد الله قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من
القرآن قال وعلمنا أن نقول اللهم أصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا.
وعن أبي بكر الصديق أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثير ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك(1/584)
وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل " ما تقول في الصلاة؟ " قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال " حولها ندندن " رواه أبو داود، وقوله بما ورد في الأخبار يعني أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف رحمهم الله فقد ذهب أحمد إلى حديث ابن مسعود في الدعاء وهو موقوف عليه قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول في سجوده.
اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك، وقال كان عبد الرحمن يقوله في سجوده وقال سمعت الثوري يقوله في سجوده (فصل) فأما ما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها كقوله اللهم ارزقني جارية حسناء، وطعاما طيبا ودارا قوراء، وبستانا أنيقا، ونحوه فلا يجوز الدعاء به في الصلاة.
وقال الشافعي: يدعو بما أحب لقوله عليه السلام في حديث ابن مسعود " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه " متفق عليه.
ولمسلم " ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء " ولنا قوله عليه السلام (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " رواه مسلم، وهذا من كلام الآدميين ولأنه كلام آدمي يتخاطب بمثله أشبه رد السلام وتشميت العاطس والخبر محمول على أنه يتخير من الدعاء المأثور (فصل) فأما الدعاء بما يتقرب به إلى الله مما ليس بمأثور ولا يقصد به ملاذ الدنيا فقال جماعة(1/585)
من أصحابنا لا يجوز ويحتمله كلام أحمد لقوله يدعو بما جاء وبما يعرف، وحكى عنه ابن المنذر أنه قال
لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه من حوائج دنياه وآخرته وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى اختاره شيخنا لظواهر الاخبار فإن في حديث أبي هريرة " ثم يدعو لنفسه بما بدا له " وعن أنس قال: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله علمني شيئا أدعو به في صلاتي فقال " احمدي الله عشرا، وسبحي الله عشرا، ثم سلي الله ما شئت " يقول نعم نعم نعم رواه الأثرم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء " ولم يعين لهم ما يدعون به فيدل على أنه أباح لهم جميع الدعاء إلا ما خرج منه بالدليل في الفصل الذي قبله ولأنه دعاء يتقرب به إلى الله عزوجل أشبه الدعاء المأثور (فصل) فأما الدعاء لإنسان بعينه في صلاته ففي جوازه روايتان (إحداهما) يجوز قال الميموني سمعت أبا عبد الله يقول لابن الشافعي أنا أدعو لقوم منذ سنين في صلاتي أبوك أحدهم.
وروي ذلك(1/586)
عن علي وأبي الدرداء لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش ابن أبي ربيعة " ولأنه دعاء لبعض المؤمنين أشبه مالو قال: رب اغفر لي ولوالدي (والأخرى) لا يجوز كرهه عطاء والنخعي لشبهه بكلام الآدميين ولأنه دعاء لمعين أشبه تشميت العاطس.
وقد دل على المنع منه حديث معاوية بن الحكم السلمي، ويحتمل التفريق بين الدعاء وتشميت العاطس لانه مخاطبة لإنسان لدخول كاف المخاطب فيه والله أعلم (فصل) ويستحب للامام ترتيل القراءة والتسبيح والتشهد بقدر ما يرى أن من خلفه ممن يثقل على لسانه قد أتى عليه والتمكن في الركوع والسجود حتى يرى أن الكبير والصغير والثقبل قد أتى عليه فإن خالف فأتى بقدر ما عليه كره وأجزأه، ويكره له التطويل كثيرا لئلا يشق على من خلفه، وأما المنفرد فله التطويل في ذلك كله ما لم يخرجه إلى حال يخاف السهو، وقد روي عن عمار أنه صلى صلاة أوجز فيها(1/587)
فقيل له في ذلك فقال: إني أبادر الوسواس، ويستحب للإمام إذا عرض في الصلاة عارض لبعض المأمومين يقتضي خروجه أن يخفف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد
أن أطول فيه فأسمع بكاء الصبي فأتجوز فيها مخافة أن أشق على أمه " رواه أبو داود (مسألة) (ثم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك) التسليم واجب في الصلاة لا يقوم غيره مقامه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يتعين السلام للخروج من الصلاة بل إذا خرج بما ينافي الصلاة من عمل أو حدث أو غير ذلك جاز فالسلام عندهم مسنون غير واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسئ في صلاته ولو وجب لأمر به لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأن إحدى التسليمتين غير واجبة كذلك الأخرى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " رواه أبو داود ولأنه أحد طرفي الصلاة فكان فيه نطق واجب كالأول ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه فقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحديث الأعرابي أجبنا عنه، والتسليمة الثانية عندنا واجبة على إحدى الروايتين (فصل) والمشروع أن يسلم تسليمتين عن يمينه وعن يساره روى ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي وعمار وابن مسعود رضي الله عنهم وهو مذهب الثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال عمر وأنس وسلمة بن الاكوع وعائشة والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك(1/588)
والاوزاعي يسلم تسليمة واحدة وقال عمار بن أبي عمار: كان مسجد الأنصار يسلمون فيه تسليمتين وكان مسجد المهاجرين يسلمون فيه تسليمة واحدة ولما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، وعن سلمة بن الاكوع قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فسلم تسلمية واحدة.
رواهما ابن ماجة، ولأن التسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة فلم يشرع ما بعدها كالثالثة ولنا ما روى ابن مسعود قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه ويساره، وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله " رواهما مسلم، وفي لفظ لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه " السلام عليكم ورحمة الله " وعن يساره " السلام عليكم ورحمة
الله " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وحديث عائشة يرويه زهير بن محمد يروي مناكير (1) وقال أبو حاتم الرازي هذا حديث منكر، ويمكن حمل حديث عائشة على أنه كان يسمعهم تسليمة واحدة جمعاً بين الأحاديث على أن أحاديثنا تتضمن الزيادة والزيادة من الثقة مقبولة، ويجوز أن يكون عليه السلام فعل الأمرين ليبين الجائز والمسنون ولأن الصلاة عبادة ذات إحرام فيشرع لها تحللان كالحج (فصل) والتسليمة الأولى هي واجبة وهي ركن من أركان الصلاة، والثانية سنة في الصحيح
__________
1) عزا المغني هذا القول إلى البخاري فهل تركه الشارح اختصارا أو تركه الناسخ سهوا؟(1/589)
قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صلاة من اقتصر على تسلمية واحدة جائزة (وفيه رواية أخرى) أنها واجبة ذكرها القاضي وابو الخطاب قال القاضي وهي أصح لحديث جابر بن سمرة ولأنها عبادة لها تحللان فكانا واجبين كتحللي الحج ولأنها إحدى التسليمتين أشبهت الأولى وعدها أبو الخطاب من أركان الصلاة لما ذكرنا، والصحيح الأول اختاره شيخنا فإنه لا يصح عن أحمد تصريح بوجوب التسليمتين إنما قال التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يكون ذهب إليه في المشروعية لا الإيجاب كغيره.
وقد دل عليه قوله في رواية مهنا أعجب إلي التسليمتان لأن عائشة وسلمة بن الاكوع وسهل بن سعد قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسلمية واحدة، وكان المهاجرون يسلمون تسليمة واحدة ففيما ذكرناه جمع بين الأخبار وأقوال الصحابة في كون المشروع تسليمتين والواجب واحدة.
وقد دل على صحة ذلك الإجماع الذي حكاه ابن المنذر.
وحديث جابر بن سمرة يعني في إصابة السنة بدليل أن فيه " يضع يده على فخذه " وليس هو واجبا بالاتفاق ولأنها صلاة فتجزئ فيها تسليمة واحدة كصلاة الجنازة والنافلة فإن الخلاف إنما هو في المفروضة، أما صلاة النافلة والجنازة وسجود التلاوة فلا خلاف أنه يخرج منها بتسليمة واحدة قاله القاضي ونص أحمد عليه في صلاة الجنازة وسجود التلاوة(1/590)
(فصل) (فإن لم يقل ورحمة الله لم يجزه، وقال القاضي يجزئه ونص عليه أحمد في صلاة الجنازة)
وجملة ذلك أن الأفضل أن يقول السلام عليكم ورحمة الله لما ذكرنا من حديث ابن مسعود، وقد روى وائل بن حجر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - وعن شماله - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " رواه أبو داود، فإن قال كذلك فحسن، والأول أحسن لكثرة رواته وصحة طرقه، فإن قال السلام عليكم حسب فقال القاضي: يجزئه في ظاهر كلام أحمد ونص عليه في صلاة الجنازة وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وتحليلها التسليم " وهذا التسليم.
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره، السلام عليكم السلام عليكم، رواه سعيد ولأن ذكر الرحمة تكرير للثناء فلم يجب كقوله وبركاته، وقال ابن عقيل الأصح أنه لا يجزئه لأن الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول " السلام عليكم ورحمة الله " ولأنه سلام في الصلاة ورد مقرونا بالرحمة فلم يجز بدونها كالتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (فصل) فإن نكس السلام ففال عليكم السلام لم يجزه، وقال القاضي: يجزئه في وجه وهو مذهب الشافعي لحصول المعنى منه وليس هو قرآنا فيعتبر له النظم ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله مرتبا وأمر به كذلك ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة فلم يجز منكسا كالتكبير(1/591)
(فصل فإن قال سلام عليكم منكرا منونا ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه وهو قول الشافعي لأن السلام الذي ورد في القرآن أكثره بغير ألف ولام كقوله (سلام عليكم بما صبرتم) ولأنا أجزنا التشهد بتشهد ابن عباس وأبي موسى وفيهما سلام عليك والتسليمان واحد (والآخر) لا يجزئه لأنه بغير صيغة السلام الوارد ويخل بحرف يقتضي الاستغراق فلم يجز كما لو أثبت اللام في التكبير، وقال الآمدي: لا فرق بين أن ينون التسليم أو لا ينونه لا حذف التنوين لا يخل بالمعنى بدليل مالو وقف عليه (فصل) ويسن أن يلتفت عن يمينه في التسلمية الأولى وعن يساره في الثانية كما وردت السنة في حديث ابن مسعود وجابر وغيرهما، قال الامام أحمد: ثبت عندنا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خديه، ويكون التفاته في الثانية أكثر لما روي عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن وإذا سلم عن يساره يرى بياض خده الأيمن والأيسر، رواه يحيى بن محمد بن صاعد بإسناده، وقال ابن
عقيل: يبتدئ بقوله السلام عليكم إلى القبلة ثم يلتفت عن يمينه ويساره في قوله ورحمة الله لقول(1/592)
عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تلقاء وجهه معناه ابتداؤه بالتسليم جمعاً بين الأحاديث (فصل) روي عن أبي عبد الله أن التسلمية الأولى أرفع من الثانية اختار هذا أبو بكر الخلال وأبو حفص العكبري وحمل أحمد حديث عائشة أنه كان يسلم تسليمة واحدة على أنه كان يجهر بواحدة فيسمع منه ذلك لأن الجهر في غير القراءة إنما كان للإعلام بالانتقال من ركن إلى غيره وقد حصل الجهر بالأولى، واختار ابن حامد الجهر بالثانية وإخفاء الأولى لئلا يسابقه المأموم في السلام ويستحب حذف السلام لقول أبي هريرة حذف السلام سنة، وروي مرفوعا رواه الترمذي وقال حديث صحيح.
قال أبو عبد الله هو أن لا يطول به صوته: وقال ابن المبارك معناه لا يمد مدا، قال إبراهيم النخعي: التكبير جزم والسلام جزم (مسألة) (وينوي بسلامه الخروج من الصلاة فإن لم ينو جاز، وقال ابن حامد تبطل صلاته) الأولى أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة وإن نوى مع ذلك الرد على الملكين وعلى من خلفه إن كان إماما أو الرد على من معه إن كان مأموما فلا بأس نص عليه أحمد فقال ينوي بسلامه الرد على الإمام.
وقال أيضا ينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن نوى الملكين ومن خلفه فلا بأس والخروج من الصلاة تختار.
وقال ابن حامد إن نوى في السلام الرد على الملائكة أو غيرهم من الناس مع نية الخروج فهل تبطل صلاته؟ على وجهين (أحدهما) تبطل لأنه نوى السلام على آدمي أشبه مالو سلم على من لم(1/593)
يصل معه.
وقال أبو حفص بن مسلمة ينوي بالتسليمة الأولى الخروج وبالثانية السلام على الحفظة والمأمومين إن كان إماما، والرد على الإمام والحفظة إن كان مأموما ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة " إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله " رواه مسلم، وفي لفظ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نرد على الامام وإن يسلم بعضنا على بعض.
رواه أبو داود.
وهذا يدل على أنه يسن التسليم على
من معه وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
فإن لم ينو الخروج ولا شيئا غيره صح، وقال ابن حامد لا يصح وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة فافتقر إلى النية كالتكبير ولنا أنه جزء من أجزاء الصلاة فلم يحتج إلى نية تخصه كسائر أجزائها ولأن الصلاة عبادة فلم تحتج الى نية الخروج منها كالصوم وذلك لأن النية إذا وجدت في أول العبادة انسحبت على أجزائها واستغنى عن ذكرها وقياس الجزء الآخر على الأول لا يصح لذلك (فصل) ويستحب ذكر الله تعالى والدعاء عقيب الصلاة والاستغفار كما ورد في الاخبار فروي المغيرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة مكتوبة " لا إله إلا الله وحده(1/594)
لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " متفق عليه، وقال ثوبان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " قال الأوزاعي يقول " أستغفر الله أستغفر الله " رواه مسلم، وقال أبو هريرة جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال " ألا أحدثكم بحديث إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين " قال سمي (1) فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين " فرجعت إليه يعني إلى أبي صالح فقال يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون.
متفق عليه واللفظ للبخاري.
قال أحمد في رواية أبي داود يقول هكذا ولا يقطعه سبحان الله والحمد لله والله أكبر.
وكان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل والثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون.
وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة رواه مسلم، وعن معاذ ابن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال " يا معاذ والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " رواه الإمام أحمد
__________
1) قوله تعالى سمي ليس من لفظ البخاري بل جاءت في مسلم مع زيادة فلم يكن لذكره حاجة وسمى هذا من رواة هذا الحديث(1/595)
وأبو داود والنسائي عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجله قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير - عشر مرات - كتبت له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان، ولم ينبغ للذنب أن يدركه ذلك اليوم إلا الشرك بالله " رواه النسائي والترمذي وقال حسن غريب صحيح.
وقال أبو معبد مولى ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرف الناس بذلك إذا سمعته متفق عليه (فصل) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقعد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس حسناء، رواه مسلم فيستحب للإنسان أن يفعل ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم (مسألة) وإن كانت الصلاة مغربا أو رباعية نهض مكبرا إذا فرغ من التشهد الأول فصلى الثالثة والرابعة مثل الثانية إلا أنه لا يجهر ولا يقرأ شيئا بعد الفاتحة) متى فرغ من التشهد الأول نهض مكبرا كنهوضه من السجود قائما على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه ولا يعتمد بالأرض إلا أن يشق عليه كما ذكرنا في النهوض من السجود ولا يقدم إحدى رجليه عند النهوض قاله ابن عباس وكرهه إسحاق وروي عن ابن عباس أنه يقطع الصلاة ورخص فيه مجاهد والأولى تركه لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كرهه ابن عباس ولا تبطل به الصلاة لأنه عمل يسير ولم يوجد فيه ما يقتضي البطلان (فصل) ويصلي الثالثة والرابعة كالثانية لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته وقد
وصف له الركعة الأولى " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ولا يجهر فيهما لا نعلم في ذلك خلافا وأكثر(1/596)
أهل العلم يرون أنه لا تسن الزيادة على فاتحة الكتاب في غير الأوليين من كل صلاة.
قال ابن سيرين لا أعلمهم يختلفون في أنه يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب روى ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وأبي هريرة وعائشة وهو قول مالك وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يسن أن يقرأ سورة مع الفاتحة في الأخريين لما روى الصنابحي قال: صليت خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدنوت منه حتى إن ثيابي تكاد أن تمس ثيابه فقرأ في الركعة الأخيرة بأم الكتاب وهذه الآية (ربنا لا تزغ قلوبنا) رواه مالك في الموطأ ولنا حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث إلى قوله - في الركعتين الأخريين " بأم الكتاب " وكتب عمر إلى شريح أن اقرأ في الركعتين الأوليين بأم الكتاب وسورة، وفي الأخريين بأم الكتاب، وما فعل أبو بكر قصد به الدعاء لا القراءة ولو قصد القراءة لكان الأقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى مع أن عمر وغيره من الصحابة قد خالفوه.
فأما إن دعا الإنسان في الركعة الأخيرة بآية كما روي عن الصديق فلا بأس لأنه دعاء في الصلاة أشبه دعاء التشهد (مسألة) (ثم يجلس في التشهد الثاني متوركا يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى ويخرجهما عن يمينه ويجعل اليتيه على الأرض) التورك في التشهد الثاني سنة وبه قال مالك والشافعي.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: يجلس فيه مفترشا كالتشهد الأول لما ذكرنا من حديث وائل وأبي حميد في صفة جلوس النبي صلى الله عليه وسلم ولنا أن في حديث أبي حميد: حتى إذا كانت الركعة التي يقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وجلس متوركا على شقه الأيسر، وهذا بيان الفرق بين التشهدين وزيادة يجب الأخذ بها والمصير إليها والذي احتجوا به في التشهد الأول ونحن نقول به.
فأما صفة التورك فهو كما ذكر.
قال الأثرم رأيت أبا عبد الله يتورك في الرابعة في التشهد فيدخل رجله اليسرى ويخرجها من تحت ساقه الأيمن ولا يقعد على شئ منها وينصب اليمنى يفتح أصابعه وينحي عجزه كله ويستقبل بأصابعه اليمنى القبلة(1/597)
وركبته اليمنى على الأرض ملزقة وهذا قول أبي الخطاب وأصحاب الشافعي فإن أبا حميد قال: فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة، رواه أبو داود.
وقال الخرقي والقاضي: ينصب رجله اليمنى ويجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل اليتيه على الأرض لقول عبد الله بن الزبير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى، رواه مسلم.
وفي بعض ألفاظ حديث أبي حميد نحو هذا قال: جعل بطن قدمه عند مأبض اليمنى ونصب قدمه اليمنى، وأيهما فعل فحسن (فصل) وهذا التشهد والجلوس له من أركان الصلاة وممن قال بوجوبه عمر وابنه وأبو مسعود البدري والحسن والشافعي، ولم يوجبه مالك وأبو حنيفة، وأوجب أبو حنيفة الجلوس قدر التشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه الأعرابي فدل على أنه غير واجب ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقال " قولوا التحيات لله " وفعله وداوم عليه.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبرائيل، السلام على ميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقولوا السلام على الله ولكن قولوا التحيات لله " إلى آخره.
وهذا يدل على أنه فرض بعد إن لم يكن مفروضا، وحديث الأعرابي يحتمل أنه كان قبل فرض التشهد، ويحتمل أنه ترك تعليمه لأنه لم يتركه (فصل) ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما.
وقال الشافعي: يسن التورك في كل تشهد يسلم فيه وإن لم يكن ثانيا كتشهد الصبح والجمعة لأنه تشهد يسن تطويله فسن التورك فيه كالثاني ولنا حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس للتشهد افترش رجله اليسرى ونصب رجله اليمنى ولم يفرق بين ما يسلم فيه ولا ما لا يسلم، وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، رواه مسلم وهذان(1/598)
يقضيان على كل تشهد بالافتراش إلا ما خرج منه بحديث أبي حميد في التشهد الثاني فيبقى فيما عداه
على قضية الأصل ولأن هذا ليس بتشهد ثان فلا يتورك فيه كالأول وهذا لأن التشهد الثاني إنما يتورك فيه للفرق بين التشهدين وما ليس فيه تشهد ثان لا يحتاج إلى الفرق، وما ذكروه من المعنى إن صح فيضم إليه هذا المعنى الذي ذكرناه ويعلل بهما والحكم إذا علل بمعنيين لم يتعد بدونهما (فصل) قيل لأبي عبد الله ما تقول في تشهد سجود السهو؟ قال يتورك فيه أيضا هو من بقية الصلاة يعني إذا كان من السهو في صلاة رباعية لأن تشهدها يتورك فيه وهذا تابع له، وقال القاضي: يتورك في كل تشهد لسجود السهو بعد السلام في الرباعية وغيرها لأنه تشهد ثان في الصلاة يحتاج إلى الفرق، وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يدرك مع الإمام ركعة فيجلس الإمام في الرابعة أيتورك معه الرجل المسبوق في هذه الجلسة؟ فقال إن شاء تورك، قلت فإذا قام يقضي يجلس في الرابعة فينبغي له أن يتورك؟ فقال نعم ينبغي أن يتورك لأنها الرابعة يتورك ويطيل الجلوس في التشهد الأخير قال القاضي: قوله إن شاء تورك على سبيل الجواز لا أنه مسنون، وقد صرح بذلك في رواية مهنا فيمن أدرك من صلاة الظهر ركعتين لا يتورك إلا في الأخيرتين ويحتمل أن تكون هاتين روايتين.
(مسألة) (والمرأة كالرجل في ذلك كله إلا أنها تجمع نفسها في الركوع والسجود وتجلس متربعة أو تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها، وهل يسن لها رفع اليدين؟ على روايتين) الأصل أن(1/599)
نثبت في حق المرأة من الأحكام ما نثبت في حق الرجل لشمول الخطاب لهما غير أنها لا يسن لها التجافي لأنها عورة فاستحب لها جمع نفسها ليكون أستر لها فإنه لا يؤمن أن يبدو منها شئ حال التجافي وكذلك في الافتراش، قال علي رضي الله عنه: إذا صلت المرأة فلتحتفز ولتضم فخذيها، وعن ابن عمر أنه كان يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة، قال أحمد السدل أعجب إلي واختاره الخلال ولا يسن لها رفع اليدين في إحدى الروايتين لأنه في معنى التجافي، والرواية الأخرى يشرع لها قياساً على الرجل ولأن أم سلمة كانت ترفع يديها (فصل) ويستحب للمصلي أن يفرج بين قدميه ويراوح بينهما إذا طال قيامه، قال الأثرم رأيت أبا عبد الله يفرج بين قدميه ورأيته يراوح بينهما.
روي هذا عن عمرو بن ميمون والحسن، وروى
الأثرم باسناده عن أبي عبيدة قال: رأى عبد الله رجلا يصلي صافا بين قدميه فقال لو راوح هذا بين قدميه كان أفضل، ورواه النسائي وفيه قال أخطأ السنة لو راوح بينهما كان أعجب إلي، ولا يستحب الإكثار منه لما روي عن عطاء قال: إني لاحب أن يقل التحريك وأن يعتدل قائما على قدميه إلا أن يكون إنسانا كبيراً لا يستطيع ذلك.
فأما التطوع فإنه يطول على الإنسان فلا بد من التوكي على هذه مرة وعلى هذه مرة، وقد روى النجاد بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم في صلاته فليسكن أطرافه ولا يميل ميل اليهود "(1/600)
(فصل) ويكره الالتفات في الصلاة لغير حاجة لما روي عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " رواه البخاري وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال الله عزوجل مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه " رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وعن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات فيها هلكة فإن كان لابد في التطوع لا في الفريضة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فإن كان لحاجة لم يكره لما روى سهل بن الحنظلية قال: ثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، رواه أبو داود قال: وكان أرسل فارسا إلى الشعب يحرس، وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه، رواه النسائي.
ولا تبطل الصلاة بالالتفات إلا أن يستدير عن القبلة بجملته أو يستدبرها قال ابن عبد البر جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيراً (مسألة) ويكره رفع بصره إلى السماء لما روى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم " فاشتد قوله في ذلك حتى قال " لينتهين عن ذلك أو لتخطف أبصارهم " رواه البخاري.
ويكره الاستناد إلى الجدار ونحوه في الصلاة لأنه يزيل مشقة القيام والتعبد به(1/601)
(مسألة) قال (وافتراش الذراعين في السجود) قال الترمذي أهل العلم يختارون الاعتدال في
السجود، وروي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفي لفظ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اعتدلوا في السجود ولا يسجد أحدكم وهو باسط ذارعيه كالكلب " وهذا هو المنهي عنه كرهه أهل العلم وفي حديث أبي حميد فإذا سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما (مسألة) (ويكره الإقعاء في الجلوس وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه وعنه أنه سنة) كذلك وصف أحمد الإقعاء، وقال أبو عبيد هذا قول أهل الحديث، فأما عند العرب فهو جلوس الرجل على اليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب.
قال شيخنا ولا أعلم أحداً قال باستحباب الإقعاء على هذه الصفة.
فأما الأول فكرهه علي وابو هريرة وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وعليه العمل عند أكثر أهل العلم لما روى الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقع بين السجدتين " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب " رواهما ابن ماجة، وفيه رواية أخرى أنه سنة، وروى مهنا عن أحمد أنه قال لا أفعله ولا أعيب على من يفعله العبادلة كانوا يفعلونه.
قال طاوس رأيت العبادلة يفعلونه ابن عمر وابن الزبير(1/602)
وابن عباس وقال طاوس قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين في الجلوس فقال هي السنة.
قال قلنا إنا لنراه جفاء بالرجل فقال هي سنة نبيك رواه مسلم وأبو داود، والأول أولى لما ذكرنا وقد قال ابن عمر حين فعله لا تقتدوا بي فإني قد كبرت وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى وينهى عن قعية الشيطان (مسألة) (ويكره أن يصلي وهو حاقن) سواء خاف فوات الجماعة أو لا لا نعلم فيه خلافاً وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان " رواه مسلم، ولأن ذلك يشغله عن خشوع الصلاة وحضور قلبه فيها فإن خالف وفعل صحت صلاته وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال ابن أبي موسى إن كان به من مدافعة الأخبثين ما يزعجه ويشغله عن الصلاة أعاد في الظاهر من قوله، وقال مالك أحب
إلي أن يعيد إذا شغله ذلك لظاهر الخبر ولنا أنه إن صلى يحضرة الطعام أو قلبه مشغول بشئ من الدنيا صحت صلاته كذا ههنا وخبر عائشة أريد به الكراهة بدليل ما لو صلى بحضرة الطعام قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته إن صلاته تجزئه وكذلك إذا صلى حاقنا (مسألة) (أو بحضرة طعام تتوق إليه نفسه) وبهذا قال عمر وابنه وتعشى ابن عمر وهو يسمع(1/603)
قراءة الإمام قال ابن عباس: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شئ، وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاما خفيفا.
ولنا حديث عائشة الذي ذكرناه.
وروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قرب عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ولا تعجلوا حتى يفرغ منه " رواه مسلم وغيره.
ولأنه إذا قدم الصلاة على الطعام اشتغل قلبه عن خشوعها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخشى فوات الجماعة أو لم يخش لعموم الحديثين.
هذا إذا كانت نفسه تتوق إليه أو يخشى فواته أو فوات بعضه إن تشاغل بالصلاة أو تكون حاجته إلى البداية به لوجه من الوجوه، فان لم يفعل وبدأ بالصلاة صحت في قولهم جميعاً حكاه ابن عبد البر لأن البداية بالطعام رخصة فإن لم يفعلها صحت صلاته كسائر الرخص (مسألة) (ويكره العبث في الصلاة) لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث في الصلاة فقال " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " ويكره التخصر وهو أن يضع يده على خاصرته لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل متخصرا متفق عليه (مسألة) قال (والتروح وفرقعة الأصابع وتشبيكها) يكره التروح إلا من غم شديد لأنه من العبث وبذلك قال إسحاق وعطاء وأبو عبد الرحمن ومالك، ورخص فيه ابن سيرين ومجاهد والحسن ويكره فرقعة الأصابع وتشبيكها في الصلاة لما روي عن على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تفقع(1/604)
أصابعك وأنت في الصلاة " رواه ابن ماجه، وعن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد شبك
أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، رواه الترمذي وابن ماجة (فصل) وإذا تثاءب في الصلاة استحب أن يكظم ما استطاع فان لم يقدر وضع يده على فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فان الشيطان يدخل " رواه مسلم، وللترمذي " فليضع يده على فيه " (فصل) ومما يكره في الصلاة أن ينظر إلى ما يلهيه أو ينظر في كتاب لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فقال " شغلتي أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم بن حذيفة وائتوني بإنبجانيته " متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة " أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " رواه البخاري.
ويكره أن يصلي وهو معقوص أو مكتوف لما روي عن ابن عباس أنه رأى عبد الله ابن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه فقام إليه فحله فلما انصرف أقبل على ابن عباس فقال: مالك ورأسي فقال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف " رواه مسلم، ويكره أن يكف شعره أو ثيابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا " متفق عليه.
ولا نعلم بين أهل العلم في كراهية هذا خلافا، ونقلت كراهة بعضه(1/605)
عن ابن عباس وعائشة ويكره أن يكثر الرجل مسح جبهته في الصلاة لما روي عن ابن مسعود أنه قال من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته رواه ابن ماجه.
ويكره النفخ وتحريك الحصى لما روت ام سلمة قالت: رأى النبي صلى الله عليه وسلم غلاما لنا يقال له أفلح إذا سجد نفخ فقال " يا أفلح ترب وجهك " رواه الترمذي، إلا أن فيه مقالا.
قال ابن عباس: لا تمسح جبهتك ولا تنفخ ولا تحرك الحصى.
ورخص فيه مالك وأصحاب الرأي، ويكره مسح الحصى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى فان الرحمة تواجهه " رواه أبو داود والترمذي، ويكره أن يعتمد على يده في الجلوس في الصلاة لما روى ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده، رواه الإمام أحمد وأبو داود، ويكره أن يغمض عينيه في الصلاة، نص عليه وقال: هو من فعل اليهود، وهو قول سفيان، وروي عن مجاهد والاوزاعي ورويت الرخصة فيه
من غير كراهة عن الحسن، وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه " رواه الطبراني إلا أن فيه عبد الرحمن بن أبي حاتم وقال هذا منكر الحديث، ويكره الرمز بالعين والإشارة لغير حاجة لأنه يذهب بخشوع الصلاة ويكره إخراج لسانه وفتح فمه لأنه خروج عن هيئة الخشوع (مسألة) (وله رد المار بين يديه) ليس لأحد أن يمر بين يدي المصلي إذا لم يكن بين يديه(1/606)
سترة وإن كان له سترة فليس له المرور بينه وبينها لما روى أبو جهم الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه " ولمسلم " لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي " وروي عن يزيد قال رأيت رجلا بتبوك مقعدا فقال مررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي فقال " اللهم أقطع أثره " فما مشيت عليها بعد، رواه أبو داود، وفي لفظ قال " قطع صلاتنا قطع الله أثره " وإن أراد أحد المرور بين يديه فله منعه يروي ذلك ابن مسعود وابن عمر وابنه سالم وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لما روى أبو سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " ومعناه والله أعلم فليدفعه(1/607)
فإن ألح فليقاتله أي يعنف في دفعه، وقوله فإنما هو شيطان أي فعله فعل شيطان أو الشيطان يحمله على ذلك، وقيل معناه أن معه شيطانا، وأكثر الروايات عن أبي عبد الله " أن المار بين يدي المصلي إذا ألح في المرور وأبى الرجوع فللمصلي أن يجتهد في رده ما لم يخرجه ذلك إلى إفساد صلاته بكثرة العمل فيها " وروي عنه أنه قال: يرد ما استطاع وأكره القتال فيها وذلك لما يفضي إليه من الفتنة وفساد الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر برده حفظا للصلاة عما ينقضها فيعلم أنه لم يرد ما يفسدها بالكلية فيحمل لفظ المقاتلة على دفع أبلغ من الدفع الأول والله أعلم.
ويؤيد ذلك ما روت ام سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة أم سلمة فمر بين يديه عبد الله أو عمرو بن أبي سلمة فقال بيده
فرجع فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هن أغلب " رواه ابن ماجه وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجتهد في الدفع (فصل) ويستحب له أن يرد ما مر بين يديه من كبير وصغير وبهيمة لما روينا من حديث أم سلمة وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهيمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار فمرت من ورائه (فصل) فإن مر بين يديه إنسان فعبر لم يستحب رده من حيث جاء، وهذا قول الشعبي والثوري وإسحاق وابن المنذر، وروي عن ابن مسعود أنه يرده من حيث جاء وفعله سالم بن عبد الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برده فيتناول العابر ولنا أن هذا مرور ثان فينبغي أن لا يتسبب إليه كالأول ولأن المار لو أراد أن يعود من حيث جاء لكان مأمورا بدفعه ولم يحل للعابر العود والحديث إنما يتناول من أراد المرور لقوله " فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه " وبعد العبور فليس هو مريدا للاجتياز (فصل) ولا يقطع المرور الصلاة بل ينقصها نص عليه وروي عن ابن مسعود: أن ممر الرجل ليضع(1/608)
نصف الصلاة.
قال القاضي: ينبغي أن يحمل نقص الصلاة على من أمكنه الرد فلم يفعله، أما إذا لم تمكنه الرد فصلاته تامة لأنه لم يوجد منه ما ينقص الصلاة فلا يؤثر فيها ذنب غيره والله أعلم (مسألة) (وله عد الآي والتسبيح) لا بأس بعد الآي في الصلاة، فأما التسبيح فتوقف فيه أحمد، وقال أبو بكر: هو في معنى عد الآي، وقال ابن أبي موسى: لا يكره في أصح الوجهين وهذا قول الحسن والنخعي وسعيد بن جبير وطاوس وابن سيرين والشعبي وإسحاق، وكرهه أبو حنيفة والشافعي لأنه يشغل عن خشوع الصلاة ولنا إجماع التابعين فإنه حكي عمن سمينا من غير خلاف في عصرهم فكان إجماعا وإنما كره أحمد عد التسبيح دون الآي، لأن المنقول عن السلف إنما هو عد الآي، وكره الحسن أن يحسب شيئا سواه ولأن التسبيح يتوالى لقصره فيتوالى حسابه فيصير فعلا كثيرا
(فصل) ولا بأس بالإشارة في الصلاة باليد والعين لما روى ابن عمر وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة، روى الدارقطني حديث أنس بإسناد صحيح، ورواه أبو داود.
وروى الترمذي حديث ابن عمر وقال حسن صحيح (مسألة) (وله قتل الحية والعقرب والقملة ولبس الثوب والعمامة ما لم يطل) وهو قول الحسن والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي.
وكرهه النخعي لأنه يشغل عن الصلاة، والأول أولى لأن النبي(1/609)
صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة، الحية والعقرب.
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولا بأس بقتل القمل لأن أنسا وعمر كانوا يفعلونه.
وقال القاضي: التغافل عنها أولى، وقال الأوزاعي: تركه أحب إلي لأن ذلك يشغل عن الصلاة لأمر غير مهم يمكن استدراكه بعد الصلاة وربما كثر فأبطلها (فصل) ولا بأس بالعمل اليسير للحاجة لما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فاستفتحت فمشى ففتح لي ثم رجع إلى مصلاه، رواه أبو داود، ورواه أحمد عن عائشة وفيه ووصفت له الباب في القبلة، وروى أبو قتادة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود ردها، رواه مسلم.
وصلى أبوبرزة ولجام دابته في يده فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها وجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ فلما انصرف قال: إني سمعت قولكم وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات أو ثمان وشهدت من تيسيره اني ان كنت أرجع مع دابتي أحب إلي من أن ترجع إلى مألفها فيشق علي، رواه البخاري.
قال لا بأس أن يحمل الرجل ولده في الصلاة الفريضة لحديث أبي قتادة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التحف بإزاره وهو في الصلاة، فلا بأس أن سقط رداء الرجل أن يرفعه لذلك، وإن انحل(1/610)
إزاره أن يشده، وإن عتقت الأمة في الصلاة اختمرت وبنت على صلاتها، وقال من فعل كفعل أبي
برزة حين مشى إلى الدابة حين أفلتت منه فصلاته جائزة وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المشرع فما فعله وأمر به فلا بأس به، وقد روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على منبره فإذا أراد أن يسجد نزل عن المنبر فسجد بالأرض ثم رجع إلى المنبر كذلك حتى قضى صلاته، وفي حديث جابر في صلاة الكسوف قال: ثم تأخر وتأخرت الصفوف حتى انتهينا إلى النساء ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه متفق عليه.
فكل هذا وأشباهه لا بأس به في الصلاة ولا يبطلها، وإن فعله لغير حاجة كره ولم يبطلها أيضا لما روى عمرو بن حريث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وربما مسح لحيته وهو يصلي، رواه البيهقي (فصل) ولا يتقدر الجائز من هذا بثلاث ولا بغيرها من العدد لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر منه زيادته على ثلاث كتأخره حتى تأخر الرجال فانتهوا إلى النساء، وكذلك مشي أبي برزة مع دابته ولأن التقدير بابه التوقيف وهذا لا توقيف فيه لكن يرجع في الكثير واليسير إلى العرف فيما يعد كثيرا ويسيرا وما شابه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو يسير (مسألة) (وإن طال الفعل في الصلاة أبطلها عمده وسهوه إلا أن يفعله متفرقا) متى طال الفعل في الصلاة وكثر أبطل الصلاة إجماعا عمدا كان أو سهوا إذا كان من غير جنس الصلاة إلا أن(1/611)
يكون لضرورة فيكون حكمه حكم الخائف فلا تتبطل الصلاة به، وإن فعله متفرقا لم تبطل الصلاة أيضاً إذا كان كل عمل منها يسيرا بدليل حمل النبي صلى الله عليه وسلم إمامة ووضعها في كل ركعة فإن ذلك لو جمع كان كثيراً ولم تبطل به لتفرقه، فإن احتاج إلى الفعل الكثير لغير ضرورة قطع الصلاة فعله.
قال أحمد إذا رأى صبيين يتخوف أن يلقي أحدهما صاحبه في البئر فإنه يذهب إليهما فيخلصهما ويعود في صلاته وقال: إذا لزم رجل رجلا فدخلا المسجد وقد أقيمت الصلاة فإذا سجد الإمام خرج الملزوم فإن الذي كان يلزمه يخرج في طلبه يعني ويبتدئ الصلاة وهكذا لو رأى حريقا يريد إطفاءه أو غريقا يريد إنقاذه خرج إليه وابتدأ الصلاة.
فإن خاف على نفسه من الحريق ونحوه في الصلاة ففر منه بنى على صلاته فأتمها صلاة خائف على ما ذكرنا من قبل والله أعلم
(مسألة) (ويكره تكرار الفاتحة) لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه لأنها ركن، وفي إبطال الصلاة بتكررها خلاف فكره لذلك (مسألة) (ويكره الجمع بين سور في الفرض ولا يكره في النفل) أما الجمع بين السور في النفل فلا يكره رواية واحدة لا نعلم فيه خلافا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة سورة البقرة وآل عمران والنساء.
وقال ابن مسعود: لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في كل ركعة، متفق عليه وكان عثمان يختم القرآن في كل(1/612)
ركعة، وأما الفريضة فيستحب أن يقتصر فيها على سورة بعد الفاتحة من غير زيادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يصلي أكثر صلاته، وهل يكره الجمع بين السورتين فيها؟ على روايتين (إحداهما) يكره لما ذكرنا (والثانية) لا يكره لأن حديث ابن مسعود مطلق، وروي أن رجلا من الأنصار كان يؤمهم وكان يقرأ قبل كل سورة (قل هو الله أحد) ثم يقرأ سورة أخرى معها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ " فقال إني أحبها فقال " حبك إياها أدخلك الجنة " رواه البخاري تعليقا، ورواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب، وروى الخلال بإسناده عن ابن عمر أنه كان يقرأ في المكتوبة بالسورتين في كل ركعة، رواه مالك في الموطأ، فأما قراءة السورة الواحدة في الركعتين يعيدها فلا بأس وقد ذكرناه (فصل) والمستحب أن يقرأ في الثانية سورة بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى في النظم، قال أحمد في رواية مهنا أعجب إلي أن يقرأ من البقرة إلى أسفل لأن ذلك المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وروي عن ابن مسعود أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوسا فقال ذلك منكوس القلب
__________
1) فيه ان السور لم تكن مرتبة كلها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على التحقيق الذي عليه الجمهور وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ليتزم هذا الترتيب الذي في المصحف والمراد بالتنكيس المذموم آيلت السورة(1/613)
وفسره أبو عبيد بذلك، فإن قرأ كذلك فلا بأس به لأن أحمد قال حين سئل عن ذلك: لا بأس به أليس يعلم الصبي على هذا؟ وقد روي أن الأحنف قرأ الكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح فقرأ بهما، استشهد به البخاري (مسألة) (ولا يكره قراءة أواخر السور وأوساطها.
وعنه يكره) المشهور عن أحمد أنه لا يكره قراءة أواخر السور وأوساطها في الصلاة نقلها عنه جماعة لقول الله تعالى (فاقرءوا ما تيسر منه) ولان أبا سعيد قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، رواه أبو داود، وروى الخلال بإسناده أن ابن مسعود كان يقرأ في الآخرة من صلاة الصبح آخر آل عمران وآخر الفرقان.
وقال أبو برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالستين إلى المائة فيه دليل على أنه لم يكن يقتصر على قراءة سورة، ولأن آخرها أحد طرفي السورة فلم يكره كأولها، وعن أحمد أنه يكره في الفرض نقلها عنه المروذي وقال: سورة أعجب إلي، وقال المروذي: وكان لأبي عبد الله قرابة يصلي به فكان يقرأ في الثانية من الفجر بآخر السورة فلما أكثر قال أبو عبد الله: تقدم أنت فصل، فقلت له هذا يصلي بكم منذ كم؟ قال دعنا منه يجئ بآخر السور وكرهه، قال شيخنا رحمه الله ولعل أحمد إنما أحب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما نقل عنه وكره المداومة على خلاف ذلك فإن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السورة أو بعض السور من أولها، ونقل عنه رواية ثالثة أنه يكره قراءة أوسط السورة دون آخرها لما روينا في آخر السور عن عبد الله بن مسعود ولم ينقل مثل ذلك في وسطها، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يقرأ آخر السورة في الركعة فقال أليس قد روي في هذا رخصة عن عبد الرحمن بن يزيد وغيره؟(1/614)
(فصل) فأما قراءة أوائل السور فلا خلاف في أنه غير مكروه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون ثم أخذته سعلة فركع، وقرأ سورة الأعراف في المغرب فرقها مرتين، رواه النسائي (مسألة) (وله أن يفتح على الإمام إذا أرتج عليه في الصلاة وإن يرد عليه إذا غلط) لا بأس به
في الفرض والنفل روى ذلك عن عثمان وعلي وابن عمر وهو قول جماعة من التابعين، وكرهه ابن مسعود وشريح والثوري، وقال أبو حنيفة تبطل به الصلاة لما روى الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يفتح على الإمام " وقال ابن عقيل إن كان في النفل جاز ذلك وإن كان في الفرض وارتج عليه في الفاتحة فتح عليه وإلا فلا ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي " أصليت معنا؟ " قال نعم، قال " فما منعك؟ " رواه أبو داود قال الخطابي اسناده جيد، وعن ابن عباس قال تردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة في صلاة الصبح فلم يفتحوا عليه فلما قضى الصلاة نظر في وجوه القوم فقال " أما شهد الصلاة معكم أبي بن كعب؟ " قالوا لا فرأى القوم إنما فقده ليفتح عليه.
وروى مسور بن يزيد المالكي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك آية من القرآن فقيل يا رسول الله آية كذا وكذا تركتها فقال " فهلا أذكرتنيها؟ " رواه أبو داود،(1/615)
ولأنه تنبيه في الصلاة بما هو مشروع فيها أشبه التسبيح، وحديث علي يرويه الحارث قال الشعبي كان كذابا، وقال أبو داود لم يسمع إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها (فصل) فإن ارتج على الإمام في الفاتحة فعلى المأموم أن يفتح عليه كما لو نسي سجدة لزمهم تنبيهه بالتسبيح، فإن عجز عن إتمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلي بهم، وكذلك لو عجز في أثناء الصلاة عن ركن يمنع الائتمام به كالركوع فإنه يستخلف من يتم بهم كما لو سبقه الحدث، بل الاستخلاف ههنا أولى لأن من سبقه الحدث قد بطلت صلاته وهذا صلاته صحيحة، وإذا لم يقدر على إتمام الفاتحة فقال ابن عقيل يأتي بما يحسن ويسقط عنه ما عجز عنه وتصح صلاته لأن القراءة ركن من أركان الصلاة فإذا عجز عنه في أثناء الصلاة سقط كالقيام، فأما المأموم فإن كان أميا صحت صلاته أيضاً، وإن كان قارئا نوى مفارقته وصلى وحده ولا يصح له إتمام الصلاة خلفه لأن هذا قد صار في حكم الأمي، قال شيخنا والصحيح أنه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة تفسد صلاته لأنه قادر على الصلاة بقراءتها فلم تصح صلاته لعموم قوله عليه السلام " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ولا يصح قياس
هذا على الأمي لأن الأمي لو قدر على تعلمها قبل خروج الوقت لم تصح صلاته بدونها وهذا يمكنه أن يخرج فيسأل عما وقف فيه ويصلي، ولا يصح قياسه على أركان الأفعال لأن خروجه من الصلاة لا يزيل عجزه عنها بخلاف هذا(1/616)
(فصل) ويكره أن يفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى أو على من ليس في صلاة لأن ذلك يشغله عن صلاته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن في الصلاة لشغلا " فإن فعل لم تبطل صلاته لأنه قرآن إنما قصد قراءته دون خطاب الآدمي أشبه مالو رد على إمامه.
وقال ابن عقيل في المصلي إذا رد على من ليس في الصلاة إن كان في النفل فلا بأس، وإن كان في الفرض فهل تبطل صلاته؟ يخرج على روايتين فأما غير المصلي فلا بأس أن يفتح على المصلي وقد روى النجاد بإسناده قال كنت قاعدا بمكة فإذا رجل عند المقام يصلي وإذا رجل قاعد خلفه يلقنه فإذا هو عمر رضي الله عنه (مسألة) (وإذا نابه شئ مثل سهو إمامه أو استئذان إنسان عليه سبح إن كان رجلا وإن كانت امرأة صفحت ببطن كفها على الأخرى) وجملته أنه إذا سها الإمام فأتى بفعل في غير موضعه لزم المأمومين تنبيهه، فإن كانوا رجالا سبحوا به، وإن كانوا نساء صفقن ببطون أكفهن على ظهر الأخرى وبه قال الشافعي، وقال مالك: يسبح الرجل والنساء لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نابه شئ في صلاته فليسبح الرجال ولتصفح النساء " متفق عليه ولنا ما روى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نابكم شئ في صلاتكم فليسبح الرجال، ولتصفح النساء " متفق عليه (فصل) وإذا سبح لتنبيه إمامه أو لاستئذان إنسان عليه وهو في الصلاة أو كلمه بشئ أو نابه(1/617)
أمر في صلاته فسبح ليعلمه أنه في صلاة أو خشي على إنسان الوقوع في شئ فسبح به، أو خشي أن يتلف بشئ فسبح ليتركه أو ترك إمامه ذكرا فرفع صوته به ليذكره لم يؤثر في الصلاة في قول أكثر أهل العلم منهم الأوزاعي والشافعي وإسحاق.
وحكي عن أبي حنيفة: أن تنبيه الآدمي
بالتسبيح أو القرآن أو الإشارة يبطل الصلاة لأن ذلك خطاب آدمي فيدخل في عموم أحاديث النهي عن الكلام لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أشار في الصلاة إشارة تفقه أو تفهم فقد قطع الصلاة " ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء " متفق عليه، ولما ذكرنا من حديث سهل بن سعد: وعن ابن عمر قال: قلت لبلال كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده.
وعن صهيب قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد علي إشارة قال الترمذي كلا الحديثين صحيح.
وقد ذكرنا حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة رواه أبو داود.
وعن علي قال: كنت إذا استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فان كان في صلاة سبح، وإن كان في غير صلاة أذن، وحديث أبي حنيفة يرويه أبو غطفان وهو مجهول فلا تعارض به الأحاديث الصحيحة (فصل) فإن عطس في الصلاة فقال: الحمد لله، أو لسعه شئ فقال بسم الله، أو سمع أو(1/618)
رأى ما يغمه فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون.
أو رأى ما يعجبه فقال سبحان الله - كره له ذلك ولم تبطل الصلاة، نص عليه أحمد في رواية الجماعة فيمن عطس فحمد الله لم تبطل صلاته.
ونقل عنه مهنا فيمن قيل له في الصلاة ولد لك غلام فقال: الحمد لله.
أو قيل احترق دكانك فقال: لا إله إلا الله، أو ذهب كيسك فقال لا حول ولا قوة إلا بالله فقد مضت صلاته وهذا قول الشافعي وأبي يوسف لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال له رجل من الخوارج وهو في صلاة الغداة (لئن أشركت ليحبطن عملك) الآية قال فأنصت له حتى فهم ثم أجابه وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق) الآية رواه النجاد بإسناده، واحتج به أحمد، وقال أبو حنيفة: تفسد صلاته لأنه كلام آدمي، وقد روي نحو ذلك عن أحمد فإنه قال: فيمن قيل له ولد لك غلام فقال: الحمد لله رب العالمين، أو ذكر مصيبة فقال (إنا لله وإنا إليه راجعون) قال يعيد الصلاة قال القاضي هذا محمول على من قصد خطاب الآدمي، ووجه الأول ما ذكرنا من حديث علي، وروى عامر بن ربيعة قال عطس شاب من الأنصار
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه حتى يرضى ربنا وبعد ما يرضى من أمر الدنيا والآخرة.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأسا ما تناهت دون العرش " رواه أبو داود، ولأن ما لا يبطل الصلاة ابتداء لا يبطلها إذا أتى به عقيب سبب كالتسبيح لتنبيه إمامه قال الخلال: اتفقوا عن أبي عبد الله(1/619)
أن العاطس لا يرفع صوته بالحمد، وإن رفع فلا بأس لحديث الأنصاري.
قال أحمد: في الامام يقول لا إله إلا الله فيقول من خلفه لا إله إلا الله يرفعون بها أصواتهم قال: يقولون ولكن يخفضون.
وانما لم يكره أحمد ذلك كما كره القراءة خلف الإمام لأنه يسير لا يمنع الانصات كالتأمين.
قيل لأحمد فان رفعوا أصواتهم بهذا؟ قال: أكرهه قيل فينهاهم الإمام؟ قال لا.
قال القاضي: إنما لم ينههم لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الإخفات (فصل) قيل لأحمد اذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) هل يقول سبحان ربي الأعلى؟ قال إن شاء وإلا فيما بينه وبين نفسه ولا يجهر به، وقد روي عن علي أنه قرأ في الصلاة (سبح اسم ربك الأعلى) فقال سبحان ربي الاعلى.
ومن ابن عباس أنه قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فقال: سبحانك وبلى، وعن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال: سبحانك فبلى، فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود (فصل) فإن قرأ القرآن يقصد به تنبيه آدمي مثل أن يستأذن عليه فيقول (ادخلوها بسلام آمنين) أو يقولون لرجل اسمه يحيى (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) فقد روي عن أحمد أنه يبطل الصلاة، وهو قول أبي حنيفة لأنه خطاب آدمي أشبه ما لو كلمه.
وروي عنه ما يدل على أنها لا تبطل فإنه احتج(1/620)
بحديث علي مع الخارجي قال له (اصبر إن وعد الله حق) وروي نحو هذا عن ابن مسعود وابن أبي ليلى، فروى الخلال بإسناده عن عطاء بن السائب قال: استأذنا على عبد الرحمن بن أبي ليلى
وهو يصلي فقال (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) ولأنه قرآن فلم يفسد الصلاة كما لو لم يقصد به التنبيه، وقال القاضي: إن قصد التلاوة حسب لم تفسد صلاته، وإن حصل التنبيه، وإن قصد التنبيه حسب فسدت صلاته لأنه خاطب آدميا، وإن قصدهما ففيه وجهان (أحدهما) لا تفسد وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا من الآثار والمعنى (والثاني) تفسد صلاته لأنه خاطب آدميا أشبه ما لو لم يقصد التلاوة.
فأما إن أتى بما لا يتميز به القرآن عن غيره كقوله لرجل اسمه إبراهيم يا إبراهيم ونحوه فسدت صلاته لان هذا كلام الناس ولم يتميز عن كلامهم بما يتميز به القرآن أشبه مالو جمع بين كلمات مفرقة من القرآن فقال يا إبراهيم خذ الكتاب الكبير (مسألة) (وان بدره البصاق بصق في ثوبه، وإن كان في غير المسجد جاز أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه) لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فأقبل علي الناس فقال " ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فينتخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فان لم يجد فليقل هكذا " ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البصاق في المسجد(1/621)
خطيئة وكفارتها دفنها " رواه مسلم (1) (مسألة) (ويستحب أن يصلي إلى سترة مثل آخرة الرحل) يستحب للمصلي الصلاة إلى سترة فان كان في مسجد أو بيت صلى إلى الحائط أو إلى سارية، وإن كان في فضاء صلى إلى شئ شاخص بين يديه إما إلى حربة أو عصا أو يعرض البعير فيصلي إليه، لا نعلم في استحباب ذلك خلافا وسواه ذلك في الحضر والسفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تركز له الحربة فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه.
وفي حديث أبي جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركزت له عنزة فتقدم فصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، متفق عليه.
وعن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرجل فليصل ولا يبال من مر من وراء ذلك " رواه مسلم
(فصل) وقدر طولها ذراع أو نحوه يروي ذلك عن عطاء والثوري وأصحاب الرأي، وعنه أنها قدر عظم الذراع وهو قول مالك والشافعي وهذا ظاهر التقريب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدرها بمؤخرة الرحل وهي تختلف فتارة تكون ذراعا وتارة تكون أقل فما قارب الذراع أجزاء الاستتار به فأما قدرها في الغلط فلا نعلم فيه حدا فقد تكون غليظة كالحائط ورقيقة كالسهم فإن النبي صلى الله عليه
__________
1) لعل الاصل رواهما مسلم والا فاثاني متفق عليه وهو في الصحيحين بلفظ البزاق بالزاي(1/622)
وسلم كان يستتر بالعنزة، وقال أبو سعيد كان يستتر بالسهم والحجر في الصلاة إلا أن أحمد قال ما كان أعرض فهو أعجب إلي لما روي عن سبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " استتروا في الصلاة ولو بسهم " رواه الأثرم، فقوله " ولو بسهم " يدل على أن غيره أولى منه (فصل) ويستحب أن يدنو من سترته لما روى سهل بن أبي حثمة يرفعه أنه قال " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته " رواه أبو داود، وعن سهل بن سعد قال: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين السترة ممر الشاة، رواه البخاري.
ولأن قربه من السترة أصون لصلاته وأبعد من أن يمر بينه وبينها شئ، وينبغي أن يكون مقدار ذلك ثلاثة أذرع فما دون قال أحمد أن ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، وكان عبد الله بن مغفل يجعل بينه وبين سترته ستة أذرع، وقال عطاء أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع وهو قول الشافعي لخبر ابن عمر، وكلما دنا فهو أفضل لما ذكرنا من الأخبار والمعنى، قال مهنا سألت أحمد عن الرجل يصلي كم ينبغي أن يكون بينه وبين القبلة؟ قال يدنو من القبلة ما استطاع (فصل) ولا بأس أن يستتر ببعير أو حيوان فعله ابن عمر وأنس، وقال الشافعي لا يستتر بدابة(1/623)
ولنا ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعير، رواه البخاري، وفي لفظ قال: قلت فإذا ذهب الركاب قال: كان يعرض الرحل ويصلي إلى آخرته، فإن استتر بإنسان فلا بأس
لأنه يقوم مقامه، وقد روي عن حميد بن هلال قال: رأي عمر بن الخطاب رجلا يصلي والناس يمرون بين يديه فولاه ظهره وقال بثوبه هكذا - وبسط يديه هكذا - وقال صل ولا تعجل، وعن نافع كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلى سارية من سواري المسجد قال لنافع ولني ظهرك، رواهما النجاد.
فأما الصلاة إلى وجه الإنسان فتكره لأن عمر أدب على ذلك، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حذاء وسط السرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، تكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فأستقبله فأنسل انسلالا، متفق عليه (مسألة) (فإن لم يجد خط خطا وصلى إليه وقام ذلك مقام السترة) نص عليه أحمد وبه قال سعيد ابن جبير والاوزاعي، وأنكره مالك والليث وأبو حنيفة، وقال الشافعي بالخط بالعراق وقال بمصر لا يخط المصلي خط إلا أن يكون فيه سنة تتبع(1/624)
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ثم لا يضره من مر أمامه (1) " رواه أبو داود وصفة الخط مثل الهلال.
قال أبو داود: سمعت أحمد غير مرة وسئل عن الخط فقال هكذا عرضا مثل الهلال قال وسمعت مسددا قال: قال ابن أبي داود الخط بالطول وقال في رواية الأثرم قالوا طولا وقالوا عرضا وأما أنا فأختار هذا ودور بأصبعه مثل القنطرة وكيفما خطه أجزأ لأن الحديث مطلق فكيفما أتى به فقد أتى بالخط والله أعلم (فصل) فان كا معه عصا لا يمكنه نصبها ألقاها بين يديه عرضا نقله الأثرم، وكذلك قال سعيد ابن جبير والاوزاعي، وكرهه النخعي ولنا أن هذا في معنى الخط الذي ثبت استحبابه بالحديث الذي رويناه (فصل) وإذا صلى إلى عود أو عمود أو نحوه استحب أن ينحرف عنه ولا يصمد له لما روى أبو داود عن المقداد بن الأسود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عود أو إلى
__________
1) هذا لفظ ابن حبان ولم يذكره المصف ولفظ أبي داود (ما مر)
وهو أعم(1/625)
عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا؟ أي لا يستقبله فيجعله وسطا، ومعنى الصمد القصد (فصل) وتكره الصلاة إلى المتحدثين لئلا يشتغل بحديثهم، واختلف في الصلاة إلى النائم فروي أنه يكره روى ذلك عن ابن مسعود وسعيد بن جبير.
وعنه ما يدل على أنه إنما يكره في الفريضة خاصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وعائشة معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة متفق عليه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، رواه أبو داود خرج التطوع منه لحديث عائشة وبقي الفرض على مقتضى العموم.
وقيل لا يكره فيهما لأن حديث عائشة صحيح، وحديث النهي ضعيف، قاله الخطابي، وتقديم قياس الخبر الصحيح أولى من الضعيف.
ويكره أن يصلي إلى نار قال أحمد: إذا كان التنور في قبلته لا يصلي إليه، وكره ابن سيرين ذلك.
قال أحمد في السراج والقنديل يكون في القبلة: أكرهه، وأما كره ذلك لأن النار تعبد من دون الله فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها، وقال أحمد: لا تصل إلى صور منصوبة في وجهك(1/626)
وذلك لأن الصورة تعبد من دون الله، وقد روي عن عائشة قالت: كان التابوت فيه تصاوير فجعلته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فنهاني أو قالت كره ذلك، رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده، ولأن المصلي يشتغل بها عن صلاته.
قال أحمد: يكره أن يكون في القبلة شئ معلق مصحف أو غيره، ولا بأس أن يكون موضوعا إلى الأرض، وروى مجاهد قال: لم يكن ابن عمر يدع بينه وبين القبلة شيئا إلا نزعه لا سيفا ولا مصحفا، رواه الخلال.
قال أحمد: ولا يكتب في القبلة شئ لأنه يشغل قلب المصلي وربما اشتغل بقراءته عن الصلاة، وكذلك يكره التزويق وكل ما يشغل المصلي عن صلاته فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة " أميطي عنا قرامك فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " رواه البخاري، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم
مع ما أيده الله به من العصمة والخشوع يشغله ذلك فغيره من الناس أولى، ويكره أن يصلي وأمامه امرأة تصلي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخروهن من حيث أخرهن الله " وإن كانت عن يمينه أو يساره لم يكره وإن كانت تصلي، وكره أحمد أن يصلي وبين يديه كافر، وروي عن إسحاق لأن المشركين نجس(1/627)
(فصل) ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة روى ذلك عن ابن الزبير وعطاء ومجاهد وقال الأثرم: قيل لاحمد الرجل يصلي بمكة ولا يستتر بشئ فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطواف سترة قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها لما روى الأثرم باسناده عن المطلب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من سبعة جاء حتى يحاذي الركن بينه وبين السقيفة فصلى ركعته في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطواف أحد.
وقال عمار بن أبي عمار رأيت ابن الزبير جاء يصلي والطواف بينه وبين القبلة، تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر ثم يضع جبهته في موضع قدمها، رواه حنبل في كتاب المناسك.
قال المعتمر: قلت لطاوس الرجل يصلي ركعتين بمكة فيمر بين يديه الرجل والمرأة فقال: أولا ترى الناس يبك بعضه بعضا وإذا هو يرى أن لهذا البلد حالا ليس لغيره، وذلك لا الناس يكثرون بها لأجل قضاء النسك ويزدحمون فيها ولذلك سميت بكة لان الناس يتباكون فيها أي يزدحمون ويدفع بعضهم بعضا فلو منع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس.
وحكم الحرم كله حكم مكة في هذا بدليل قول ابن عباس: أقبلت راكبا على حمار(1/628)
أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إلى غير جدار، متفق عليه، ولأن الحرم كله محل المشاعر والمناسك فجرى مجرى مكة في ذلك (فصل) فإن صلى في غير مكة إلى غير سترة فلا بأس لما روى ابن عباس قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء ليس بين يديه شئ، رواه البخاري، قال أحمد في رجل يصلي في فضاء ليس بين يديه سترة ولا خط: صلاته جائزة فأحب إلي أن يفعل
(مسألة) (فإن مر من ورائها شئ لم يكره حتى لو صلى إلى سترة فمر من ورائها ما يقطع الصلاة لم تنقطع وإن مر غير ذلك لم يكره) لما ذكرنا من الأحاديث وإن مر بينه وبينها قطعها إن كان مما يقطعها وكره إن كان مما لا يقطعها (مسألة) (وإن لم يكن سترة فمر بين يديه الكلب الأسود البهيم بطلت صلاته وفي المرأة والحمار روايتان) إذا مر الكلب الأسود بين يدي المصلي قريبا منه قطع صلاته بغير خلاف في المذهب، وهذا قول عائشة وروي عن معاذ ومجاهد والبهيم الذي ليس في لونه شئ سوى السواد لما روى أبو ذر(1/629)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره مثل آخرة الرحل فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود " قال عبد الله بن الصامت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال " الكلب الأسود شيطان " رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، وفي المرأة والحمار روايتان (إحداهما) لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود نقلها عنه الجماعة وهو قول عائشة لما روى الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمار لنا وكلبة يعبثان بين يديه فما بالي ذلك.
رواه أبو داود.
وعن ابن عباس قال أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر علي أحد.
وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل كلها وأنا معترضة بينه وبين القبلة، متفق عليهما وقد ذكرنا(1/630)
حديث زينب بنت أبي سلمة حين مرت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فلم تقطع صلاته، رواه ابن ماجه، (والثانية) أن المرأة والحمار يقطعان الصلاة لما ذكرنا من حديث أبي ذر: وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب " رواه مسلم.
فأما حديث عائشة فقد قيل ليس بحجة لأن حكم الوقوع يخالف حكم المرور بدليل كراهة المرور بين يدي المصلي بخلاف
الاعتراض.
وحديث ابن عباس ليس فيه إلا أنه مر بين يدي بعض الصف، وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
روي هذا القول عن أنس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى سترة ولم ينقل أنه أمر أصحابه بنصب سترة أخرى.
وحديث الفضل بن عباس في إسناده مقال ويجوز أن يكونا بعيدين.
وقال مالك والثوري وأصحاب الرأي والشافعي لا يقطع الصلاة شئ لما ذكرنا من الأحاديث ولما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقطع الصلاة شئ " رواه أبو داود(1/631)
ولنا حديث أبي هريرة وأبي ذر، وقد أجبنا عن الأحاديث المتقدمة.
وحديث أبي سعيد يرويه مجالد وهو ضعيف فلا يعارض به الصحيح وهو عام وأحاديثنا خاصة فيجب تقديمها (فصل) ولا يقطع الصلاة غير ما ذكرنا لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لها بالذكر يدل على عدمه فيما سواها، وقال ابن حامد: هل يقطع الصلاة مرور الشيطان؟ على وجهين (أحدهما) يقطع وهو قول بعض أصحابنا لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم قطع الكلب الصلاة بكونه شيطانا (والثاني) لا يقطع اختاره القاضي، ومتى كان في الكلب الأسود لون غير السواد لم يقطع الصلاة وليس ببهيم إلا أن يكون بين عينيه نكتتان تخالفان لونه فلا يخرج بهما عن اسم البهيم.
وأحكامه في قطعه الصلاة وتحريم صيده وإباحة قتله لأنه قد روي في حديث " عليكم بالأسود البهيم ذي القرنين فإنه شيطان " وإنما خصصنا قطع الصلاة بالأسود البهيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه شيطانا في(1/632)
حديث أبي ذر، وقال عليه السلام " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم فإنه شيطان " فبين أن الشيطان هو الأسود البهيم (فصل) ولا فرق بين الفرض والتطوع فيما ذكرنا لعموم الأدلة، وقد روي عن أحمد ما يدل على التسهيل في التطوع.
والصحيح التسوية لأن مبطلات الصلاة في غير هذا يتساوى فيها الفرض والتطوع، وقال أحمد يحتجون بحديث عائشة بأنه في التطوع وما أعلم بين الفريضة والتطوع فرقا إلا أن التطوع يصلي على الدابة
(فصل) فإن كان الكلب الأسود البهيم واقفا بين يديه أو نائما ولم يمر ففيه روايتان (إحداهما) يبطل قياسا على المرور ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب " ولم يذكر مرورا، وقد قالت عائشة: عدلتمونا بالكلاب والحمر، وذكرت في معارضة ذلك ودفعه أنها(1/633)
كانت تكون معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كاعتراض الجنازة (والثانية) لا تبطل به الصلاة لأن الوقوف والنوم مخالف لحكم المرور بدليل أن عائشة كانت تنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكرهه ولا ينكره، وقد قال في المار " كان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه " وكان ابن عمر يقول لنافع: ولني ظهرك ليستتر ممن يمر بين يديه، وقعد عمر بين يدي المصلي يستره من المرور، وإذا اختلف حكم الوقوف والمرور فلا يقاس عليه وقول النبي صلى الله عليه وسلم " يقطع الصلاة " لابد فيه من اضمار المرور أو غيره فإنه لا يقطعها إلا بفعله، وقد جاء في بعض الأخبار فيتعين حمله عليه (فصل) والذي يقطع الصلاة مروره إنما يقطعها إذا مر قريبا والذي لا يقطع الصلاة إنما يكره له المرور إذا كان قريبا أيضا فأما البعيد فلا يتعلق به حكم، قال شيخنا ولا أعلم أحداً من أهل العلم(1/634)
حد البعيد في ذلك ولا القريب إلا أن عكرمة قال: إذا كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة بحجر لم يقطع الصلاة وروى أبو داود وعبد بن حميد عن ابن عباس قال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير والمجوسي واليهودي والمرأة ويجزئ عنه إذا مروا وبين يديه قذفة بحجر " هذا لفظ رواية أبي داود وفي رواية عبد " والنصراني والمرأة الحائض " فلو ثبت هذا الحديث تعين المصير إليه غير أنه لم يجزم برفعه، وفيه ما هو متروك بالإجماع وهو ما عدا الثلاثة المذكورة ولا يمكن تقييد ذلك بموضع السجود كما قال بعضهم، فإن قوله عليه السلام " إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل قطع صلاته الكلب الأسود " يدل على أن ما هو أبعد من السترة تنقطع فيه بمرور الكلب، والسترة تكون أبعد من موضع السجود.
قال شيخنا: والصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه المصلي ودفع المار بين يديه لا بطل(1/635)
صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفع المار بين يديه فتقيد بدلالة الإجماع بما يقرب منه بحيث إذا مشى إليه لا تبطل صلاته، واللفظ في الحديثين واحد، وقد تعذر حملهما على الإطلاق، وقد تقيد أحدهما بالإجماع فينبغي أن يقيد الآخر به والله أعلم (فصل) وإذا صلى إلى سترة مغصوبة فاجتاز وراءها ما يقطع الصلاة قطعها في أحد الوجهين ذكرهما ابن حامد لأنه ممنوع من نصبها والصلاة إليها فوجودها كعدمها (والثاني) لا تبطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى ذلك مثل آخرة الرحل " وقد وجد واصل الوجهين إذا صلى في ثوب مغصوب وفيه روايتان (فصل) وسترة الإمام سترة لمن خلفه، نص عليه أحمد، وروي عن ابن عمر قال الترمذي: قال أهل العلم سترة الإمام سترة لمن خلفه وهو قول الفقهاء السبعة والنخعي ومالك والشافعي وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى سترة ولم يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى وفي حديث ابن عباس(1/636)
قال: أقبلت على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان يرتع ودخلت في الصف فلم ينكر علي أحد، متفق عليه، ومعنى قولهم سترة الإمام سترة لمن خلفه أنه متى لم يحل بين الإمام وسترته شئ يقطع الصلاة لم يضر المأمومين مرور شئ بين أيديهم في بعض الصف ولا فيما بينهم وبين الإمام، وإن مر بين يدي الإمام ما يقطع صلاته قطع صلاتهم، وقد دل على ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة يعني إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار فمرت من وراثه، رواه أبو داود فلولا أن سترته سترة لهم لم يكن بين مرورها بين يديه وخلفه فرق (مسألة) (ويجوز له النظر في المصحف) يجوز له النظر في المصحف في صلاة التطوع قال أحمد(1/637)
لا بأس ان يصلي بالناس القيام وهو يقرأ في المصحف قيل له الفريضة؟ قال لم أسمع فيها بشئ وسئل
الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال: كان خيارنا يقرءون في المصاحف، روي عن عطاء ويحيى الأنصاري، ورويت كراهته عن سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وابراهيم لأنه يشغل عن الخشوع في الصلاة، وقال القاضي: لا بأس به في التطوع إذا لم يحفظ، فإن كان حافظا كره لأن أحمد سئل عن الإمامة في المصحف في رمضان قال إن اضطر الى ذلك، وقال أبو حنيفة تبطل الصلاة إذا لم يكن حافظا لأنه عمل طويل، وروي عن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين إن نؤم الناس في المصاحف وأن يؤمنا إلا محتلم.
رواه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف ولنا أن عائشة كان يؤمها عبد لها في المصحف، رواه الأثرم، وقول الزهري: ولأنه نظر إلى موضع معين فلم نبطل الصلاة كالحافظ، وأما فعله في الفرض ففيه روايتان (إحداهما) يكره اختاره(1/638)
القاضي لأنه يشغل عن خشوع الصلاة ولا يحتاج إليه (والثانية) لا يكره، ذكره ابن حامد.
وقال القاضي في المجرد: أن قرأ في التطوع في المصحف لم تبطل صلاته وان فعل ذلك في الفريضة فهل يجوز؟ على روايتين (فصل) وإذا قرأ في كتاب في نفسه ولم ينطق بلسانه فقد نقل المروذي عن أحمد أنه كان يصلي وهو ينظر إلى جزء إلى جانبه، فظاهره أن الصلاة لا تبطل.
وقال جماعة من أصحابنا تبطل الصلاة إذا تطاول: وكان ابن حامد يقول: إذا طال عمل القلب أبطل كعمل اليدين.
والمذهب أن الصلاة لا تبطل ذكره القاضي (مسألة) (وإذا مرت به آية رحمة أن يسألها أو آية عذاب أن يستعيذ منها، وعنه يكره ذلك في الفرض) لا بأس بذلك في صلاة التطوع لأن حذيفة روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
فأما الفريضة فعنه إباحته فيها كالنافلة لأنه دعاء وخير.
وعنه الكراهة لأنه إنما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم(1/639)
في النافلة فينبغي الاقتصار عليه والله أعلم (فصل) قال رحمه الله (أركان الصلاة اثنا عشر، القيام وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأفعال،
والتشهد الأخير، والجلوس له، والتسليمة الأولى، والترتيب، من ترك منها شيئا عمدا بطلت صلاته) المشروع في الصلاة قسمان.
واجب ومسنون، والواجب ينقسم إلى قسمين (أحدهما) لا يسقط في عمد ولا سهو، وهي الأركان التي ذكرها المصنف، إلا أن قراءة الفاتحة إنما تجب على الإمام والمنرد والقيام يسقط في النافلة، وفي وجوب بعضها اختلاف ذكرناه، وقد ذكرنا أدلتها في أثناء الباب سوى الترتيب ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرتبة وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقد دل على وجوب أكثرها ماروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل(1/640)
فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ارجع فصل فانك لم تصل " ثلاثا فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني قال " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن؟؟؟، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا.
ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " متفق عليه وزاد مسلم " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم إستقبل القبلة فكبر " فدل ذلك على أن هذه المسماة في الحديث لا تسقط بحال فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي لجهله، والجاهل كالناسي.
فأما أحكام تركها فان كان عمداً بطلت صلاته في الحال، وإن كان سهوا ثم ذكره في الصلاة أتى به على ما سنذكره إن شاء الله.
وإن لم يذكره حتى سلم وطال الفصل بطلت الصلاة وإن لم يطل الفصل بنى على ما مضى من صلاته نص عليه أحمد في رواية جماعة وهو قول الشافعي.
وقال بعض أصحابنا(1/641)
متى لم يذكره حتى سلم بطلت صلاته.
وقال الأوزاعي فيمن نسي سجدة من صلاة الظهر فذكرها في صلاة العصر: يمضي في صلاته فإذا فرغ سجدها ولنا على أن الصلاة لا تبطل مع قرب الفصل أنه لو ترك ركعة أو كبر وذكر قبل طول الفصل أتى بما ترك ولم تبطل صلاته إجماعا وقد دل على ذلك حديث ذي اليدين، فإذا ترك ركنا واحدا فأولى أن لا تبطل.
والدليل على ان الصلاة تبطل بطول الفصل أنه أخل بالموالاة فبطلت صلاته كما لو ذكر
في يوم ثان والمرجع في طول الفصل إلى العرف وبه قال بعض الشافعية.
وقال بعضهم الفصل الطويل قدر ركعة وهو نص الشافعي.
وقال الخرقي في سجود السهو إذا تركه يسجد ما كان في المسجد لأنه محل للصلاة فيحد قرب الفصل وبعده به.
والأولى حده بالعرف لأنه لا حد له في الشرع فرجع فيه إلى العرف كسائر ما لاحد له ولا يجوز التقدير بالتحكم(1/642)
(فصل) ومتى كان المتروك سالما أتى به فحسب، وإن كان تشهدا أتى به وبالسلام، وإن كان غيرهما أتى بركعة كاملة.
وقال الشافعي يأتي بالركن وما بعده لا غير.
ويأتي الكلام عليه إن شاء الله وتختص تكبيرة الإحرام من بين سائر الأركان لأن الصلاة لا تنعقد بتركها لأنها تحريمها فلا يدخل في الصلاة بدونها، ويختص السلام بأنه إذا نسيه أتى به وحده وقد ذكرناه (مسألة) (وواجباتها تسعة: التكبير غير تكبيرة الإحرام، والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع، وسؤال المغفرة بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير في رواية) هذا هو القسم الثاني من الواجبات، وفي وجوبها روايتان (إحداهما) هي واجبة وهو قول إسحاق (والرواية الثانية)(1/643)
أنها غير واجبة وهو قول أكثر الفقهاء إلا أن الشافعي قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجعلها من الأركان وهو رواية عن احمد لحديث كعب بن عجرة، ودليل عدم وجوبها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها المسئ في صلاته ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقد روى أبو داود باسناده عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تتم الصلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائما(1/644)
ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته " وفي رواية " لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك " وهذا نص في وجوب التكبير وقد ذكرنا(1/645)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح في الركوع والسجود، ولأن مواضع هذه الأركان أركان فكان فيها ذكر واجب كالقيام وقد أشرنا إلى أدلة الباقي منها.
فأما حديث المسئ في صلاته فلم يذكر فيه جميع الواجبات بدليل أنه لم يعلمه التشهد ولا السلام، فلعله اقتصر على تعليم ما أساء فيه ولا يلزم(1/646)
من التساوي في الوجوب التساوي في الأحكام بدليل واجبات الحج.
وقد ذكر في الحديث الذي رويناه تعليم التكبير وهو زيادة يجب قبولها (مسألة) قال (ومن ترك منها شيئا عمدا بطلت صلاته، ومن تركه سهوا ترك للسهو.
وعنه(1/647)
أن هذه سنن لا تبطل الصلاة بتركها) وحكم هذه إذا قلنا بوجوبها أنه إن تركها عمدا بطلت صلاته لأنها واجبة أشبهت الأركان، وإن تركها سهوا جبرها بسجود السهو لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الثالثة وترك التشهد الأول سجد سجدتين قبل أن يسلم في حديث ابن نجيه ولولا أنه سقط(1/648)
بالسهو لرجع إليه، ولولا أنه واجب لما سجد لجبره لأنه لا يزيد في الصلاة زيادة محرمة لجبر ما ليس بواجب، وغير التشهد من الواجبات مقيس عليه، ولا يمتنع أن يكون لعبادة واجب يجبر إذا تركه وأركان لا تصح إلا بها كالحج، ويختص التسميع لسقوطه عن المأموم.
وذكر ابن عقيل رواية فيمن(1/649)
ترك شيئاً من الواجبات ساهيا أن صلاته تبطل كالأركان.
قال والأول أصح وهو أنها تنجبر بسجود السهو (مسألة) وسنن الأقوال اثنا عشر، الاستفتاح، والتعوذ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم،
وقول آمين، وقراءة السورة، والجهر، والإخفات، وقول ملء السموات (1) بعد التحميد، وما زاد على
__________
1) أي الخ الثناء المعروف(1/650)
التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، والتعوذ في التشهد الأخير، والقنوت في الوتر، فهذه سنن لا تبطل الصلاة بتركها ولا يجب السجود لسهوها لأن فعلها غير واجب فجبرها أولى وهل يشرع؟ على روايتين (إحداهما) يشرع وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في الإمام إذا ترك الجهر.
وقال الحسن والثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي واسحاق: عليه سجود السهو إذا ترك قنوت(1/651)
الوتر ناسيا لقوله عليه السلام " لكل سهو سجدتان " (والثانية) لا يشرع لأن تركها عمدا يبطل الصلاة فلم يشرع لسهوها سجود كسنن الأفعال وهذا قول الشافعي(1/652)
(مسألة) (وما سوى هذا من سنن الأفعال لا تبطل الصلاة بتركها ولا يشرع السجود لها)(1/653)
فأما سنن الأفعال فهي رفع اليدين عند الافتتاح والركوع والرفع منه ووضع اليمنى على اليسرى(1/654)
وجعلها تحت السرة على ما ذكرنا من الاختلاف فيه، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على(1/655)
الركبتين في الركوع، والتجافي في السجود، ومد ظهره معتدلا وجعله حيال رأسه، والبداءة بوضع(1/656)
الركبتين قبل اليدين في السجود ووضع يديه حذو منكبيه وأذنيه فيه ونصب قدميه وفتح أصابعهما(1/657)
فيه، والجلوس والافتراش في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول، والتورك في الثاني،(1/658)
ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلفة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليد اليسرى على الفخذ(1/659)
اليسرى مبسوطة، والالتفات عن اليمين والشمال في التسليمتين، والسجود على الأنف، وجلسة(1/660)
الاستراحة ونية الخروج من الصلاة في سلامه على ما ذكرنا من الخلاف فيها، فهذه لا تبطل الصلاة بتركها عمدا ولا سهوا ولا يشرع السجود لها بحال لأنه لا يمكن التحرز من تركها فلو شرع السجود لها(1/661)
لم تخل صلاة من سجود في الغالب، وقال أبو الخطاب فيها روايتان وقال ابن عقيل يخرج في مشروعية السجود لسهوها روايتان بناء على سنن الأقوال والأول أولى(1/662)
(القسم الثالث) من السنن ما يتعلق بالقلب وهو الخشوع في الصلاة، ونية الخروج وقد ذكرناه والله أعلم(1/663)
(باب سجود السهو) قال الامام أحمد يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء، سلم من اثنتين فسجد، وسلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد.
وقال الخطابي: المعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة، حديثا ابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وابن بحينة (مسألة) قال (ولا يشرع في العمد وهو قول أبي حنيفة) وقال الشافعي: يسجد لترك التشهد والقنوت عمدا لأن ما تعلق الجبر بسهوه تعلق بعمده كجبرانات الحج ولنا أن السجود يضاف إلى السهو فدل على اختصاصه به.
والشرع إنما ورد به فيه ولا يلزم من انجبار السهو به انجبار العمد لوجود العذر في السهو، وما ذكروه يبطل بزيادة ركن أو ركعة أو قيام في موضع جلوس
(مسألة) (ويشرع السهو في زيادة ونقص وشك لأن الشرع إنما ورد به في ذلك) فأما حديث النفس فلا يشرع له سجود لأن الشرع لم يرد به، ولأنه لا يمكن التحرز منه وهو معفو عنه (مسألة) (للنافلة والفرض) لا فرق بين النافلة والفرض في سجود السهو أنه يشرع فيهما في قول عوام أهل العلم، وقال ابن سيرين: لا يشرع في النافلة ولنا عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين " وقوله " إذا نسي أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين " ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود فشرع لها السجود كالفريضة(1/664)
(فصل) ولا يشرع سجود السهو في صلاة الجنازة لأنها لا سجود في صلبها ففي جبرها أولى ولا في سجود تلاوة لأنه لو شرع كان الجبر زائدا على الأصل ولا في سجود السهو، نص عليه أحمد ولأنه إجماع حكاه إسحاق لأنه يفضي إلى التسلسل، ولو سها بعد سجود السهو لم يسجد لذلك والله أعلم (مسألة) (فمتى زاد فعلا من جنس الصلاة قياما أو قعودا أو ركوعا أو سجودا عمدا بطلت الصلاة، وإن كان سهوا سجد له) الزيادة في الصلاة تنقسم إلى قسمين، زيادة أقوال وزيادة أفعال وزيادة الأفعال تتنوع نوعين (أحدهما) زيادة من جنس الصلاة مثل أن يقوم في موضع جلوس أو يجلس في موضع قيام أو يزيد ركعة أو ركنا، فإن فعله عمدا بطلت صلاته إجماعا، وإن كان سهوا سجد له قليلاً كان أو كثيرا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين " رواه مسلم (مسألة) (فإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد لها) لما روى عبد الله بن مسعود قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال " ما شأنكم " قالوا يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال " لا " قالوا فإنك صليت خمسا فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم ثم قال " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين " وفي رواية قال " إنما أنا بشر أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون " ثم سجد سجدتي السهو، وفي رواية قال " إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين " رواه بطرقه مسلم(1/665)
(مسألة) (وإن علم فيها جلس في الحال فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم) متى قام إلى خامسة في الرباعية أو إلى رابعة في المغرب أو إلى الثالثة في الصبح لزمه الرجوع متى ذكر ويجلس فإن كان قد تشهد عقيب الركعة التي تمت بها صلاته سجد للسهو ثم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ثم سجد للسهو وسلم، وإن لم يكن تشهد تشهد وسجد للسهو ثم سلم وإن لم يذكر حتى فرغ من الصلاة سجد عقيب ذكره وتشهد وسلم وصحت صلاته، وبهذا قال علقمة والحسن وعطاء والزهري والنخعي ومالك والشافعي واسحاق.
وقال أبو حنيفة: إن ذكر قبل أن يسجد جلس للتشهد، وإن ذكر بعد السجود وكان جلس عقيب الرابعة قدر التشهد صحت صلاته ويضيف إلى الزيادة أخرى لتكون نافلة.
وإن لم يكن جلس بطل فرضه وصارت صلاته نافلة ولزمه إعادة الصلاة، ونحو قال حماد بن أبي سليمان، وقال قتادة والاوزاعي فيمن صلى المغرب أربعا: يضيف إليها أخرى فتكون الركعتان تطوعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد " فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته " رواه مسلم ولنا حديث عبد الله بن مسعود الذي تقدم والظاهر منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقيب الرابعة لأن الظاهر أنه لو فعله لنقل، ولأنه قام إلى الخامسة يعتقد أنه قام عن ثالثة لم تبطل صلاته بذلك ولم يضف إلى الخامسة أخرى.
وحديث أبي سعيد حجة عليهم أيضا لأنه جعل الزيادة(1/666)
نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس وجعل السجدتين يشفعها بها ولم يضم إليها ركعة أخرى وهذا كله يخالف ما قالوه فقد خالفوا الخبرين جميعاً (فصل) ولو قام إلى الثالثة في صلاة الليل فهو كما لو قام إلى ثالثة في الفجر نص عليه أحمد، وقال مالك: يتمها أربعا ويسجد للسهو في الليل والنهار وهو قول الشافعي بالعراق.
وقال الأوزاعي في صلاة النهار كقوله وفي صلاة الليل إن ذكر قبل ركوعه في الثالثة كقولنا وإن ذكر قبل ركوعه كقول مالك ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل مثنى مثنى " ولأنها صلاة شرعت ركعتين أشبهت صلاة الفجر، فأما صلاة النهار فيتمها أربعا
(فصل) إذا جلس للتشهد في غير موضعه قدر جلسة الاستراحة فقال القاضي: يلزمه السجود سواء قلنا باستحباب جلسة الاستراحة أو لم نقل لأنه لم يردها بجلوسه إنما أراد التشهد سهوا.
قال الشيخ ويحتمل أن لا يلزمه لأنه فعل لا يبطل عمده صلاة فلم يسجد لسهوه كالعمل اليسير من غير جنس الصلاة (مسألة) (وإن سبح به اثنان لزمه الرجوع) متى سبح به اثنان يثق بقولهما لزمه الرجوع إليه سواء غلب على ظنه صواب قولهما أو خلافه.
وقال الشافعي: إن غلب على ظنه خطؤهما لم يعمل بقولهما ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول ابي بكر وعمر في حديث ذي اليدين حين سألهما " أحق ما يقول ذو اليدين؟ " قالا نعم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأمومين بالتسبيح ليذكروا(1/667)
الإمام ويعمل بقولهم.
وقال في حديث ابن مسعود " فإذا نسيت فذكروني ".
فأما إن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يجز له متابعتهم، وقال أبو الخطاب: يلزمه الرجوع كالحاكم يحكم بالشاهدين ويترك يقين نفسه، قال شيخنا: وليس بصحيح لأنه علم خطأهم فلا يتبعهم في الخطأ، وكذا نقول في الشاهدين متى علم الحاكم كذبهما لم يجز له الحكم بقولهما لعلمه أنهما شاهدا زور، ولا يحل الحكم بقول الزور لأن العدالة اعتبرت في الشهادة ليغلب على الظن صدق الشهود وردت شهادة غيرهم لعدم ذلك فمع يقين الكذب أولى أن لا يقبل (مسألة) (فإن لم يرجع بطلت صلاته وصلاة من اتبعه عالما، وإن فارقه أو كان جاهلا لم تبطل) متى سبح المأموم بالإمام فلم يرجع في موضع يلزمه الرجوع بطلت صلاته، نص عليه أحمد لأنه ترك الواجب عمدا، وليس للمأمومين اتباعه لان صلاته باطلة، فإن اتبعوه عالمين بتحريم ذلك بطلت صلاتهم لأنهم تركوا الواجب عمدا، وإن فارقوه وسلموا صحت، وهذا اختيار الخلال لأنهم فارقوه لعذر أشبه من فارق إمامه إذا سبقه الحدث، وذكر القاضي رواية ثانية: أنهم يتبعونه في القيام استحبابا، وذكر رواية ثالثة: أنهم ينتظرونه ليسلم بهم اختارها ابن حامد، والأول أولى لأن الإمام مخطئ في ترك متابعتهم فلا يجوز اتباعه على الخطأ، وإن كانوا جاهلين فصلاتهم صحيحة لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه في الخامسة في حديث ابن مسعود ولم تبطل صلاتهم، وتابعوه أيضا في السلام(1/668)
في حديث ذي اليدين (فصل) فإن سبح به واحد لم يرجع إلى قوله إلا أن يغلب على ظنه فيعمل بغلبة ظنه لا بتسبيحه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين وحده، وإن سبح به فساق فكذلك لأن قولهم غير مقبول وإن افترق المأمومون طائفتين وافقه قوم وخالفه آخرون؟ سقط قولهم كالبينتين إذا تعارضتا ويحتمل أن يرجع إلى قول ما عنده (1) لأنه قد عضده قول اثنين فترجح، ذكره القاضي ومتى لم يرجع وكان المأمومون على يقين من خطأ الإمام لم يتابعوه لأنهم إنما يتابعونه في أفعال الصلاة وليس هذا منها إلا أنه ينبغي أن ينتظروه ههنا لأن صلاته صحيحة لم تفسد بزيادته فينتظرونه كما ينتظرهم الإمام في صلاة الخوف (مسألة) (والعمل المستكثر في العادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه ولا تبطل باليسير ولا يشرع له سجود) وجملته أن العمل ينقسم إلى عمل من جنس الصلاة وقد ذكرنا، وعمل من غير جنس الصلاة كالحك والمشي والتروح فهذا تبطل الصلاة بكثيره عمدا كان أو سهوا بالإجماع وإن كان متفرقا لم تبطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة في الصلاة إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وهذا لو اجتمع كان كثيراً، وإن كان يسيراً لم يبطلها لما ذكرنا والمرجع في الكثير واليسير إلى العرف وقد ذكرناه فيما مضى ولا يشرع له سجود لأنه لا يكاد تخلو منه صلاة ويشق التحرز عنه
__________
1) الظاهر ان كلمة (قول) زائدة من الناسخ(1/669)
(مسألة) (وإن أكل أو شرب عمدا بطلت صلاته، قل أو كثر، وإن كان سهوا لم تبطل إذا كان يسيراً) إذا أكل أو شرب عامدا في الفرض بطلت صلاته لا نعلم فيه خلافاً.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المصلي ممنوع من الأكل والشرب.
وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أكل أو شرب في صلاة الفرض عامدا أن عليه الإعادة، وإن فعله في التطوع أبطله في الصحيح من المذهب، وهو قول أكثر الفقهاء، لأن ما أبطل الفرض أبطل التطوع
كسائر المبطلات وعن أحمد: أنه لا يبطلها ويروى عن ابن الزبير وسعيد بن جبير أنهما شربا في التطوع وهذا قول إسحاق لأنه عمل يسير أشبه غير الأكل، فأما إن كثر فإنه يفسدها بغير خلاف لأن غير الأكل من الأعمال يبطل الصلاة إذا كثر، فالأكل والشرب أولى، فإن كان سهوا وكثر أبطل الصلاة أيضاً بغير خلاف لما ذكرنا، وإن كان يسيرا لم يبطل به الفرض ولا التطوع وهو قول عطاء والشافعي.
وقال الأوزاعي: يبطل الصلاة لأنه فعل من غير جنس الصلاة يبطل عمده فأبطل سهوه كالعمل الكثير.
ولنا عموم قوله عليه السلام " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " ولأنه يسوي بين قليله وكثيره حال العمد فعفي عنه في الصلاة إذا كان سهوا كالعمل من جنسها (فصل) إذا ترك في فيه ما يذوب كالسكر فذاب منه شئ فابتعله أفسد الصلاة لأنه أكل(1/670)
وإن بقي بين أسنانه أو في فيه من بقايا الطعام يسير يجري به الريق فابتعله لم تبطل لأنه يشق الاحتراز منه، وإن ترك في فيه لقمة ولم يبتلعها كره لأنه يشغله عن خشوع الصلاة، وعن الذكر والقراءة فيها ولا يبطلها لأنه عمل يسير فهو كما لو أمسك شيئا في يده والله أعلم (مسألة) (وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كالقراءة في السجود والقعود، والتشهد في القيام وقراءة السورة في الأخريين لم تبطل الصلاة بعمده) لأنه مشروع في الصلاة ولا يجب السجود لسهوه لأن عمده لا يبطل الصلاة فلم يجب السجود لسهوه كسائر مالا يبطل عمده الصلاة وهل يشرع؟ فيه روايتان (إحداهما) يشرع لعموم قوله عليه السلام " إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس " رواه مسلم (والثانية) لا يشرع لأن عمده لا يبطل الصلاة فلم يشرع السجود لسهوه كترك سنن الأفعال (فصل) فإن أتى فيها بذكر أو دعاء لم يرد به الشرع فيها كقوله آمين رب العالمين وقوله في التكبير الله أكبر كبيرا ونحوه لم يشرع له سجود لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يقول في الصلاة الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى فلم يأمره بالسجود (مسألة) (وإن سلم قبل إتمام صلاته عمدا أبطلها لأنه تكلم فيها عامدا، وإن كان سهوا ثم ذكر
قريبا أتهما وسجد، وإن طال الفصل أو تكلم لغير مصلحة الصلاة بطلت) وجملته أن من سلم قبل إتمام صلاته ساهيا ثم علم قبل طول الفصل ولم ينتقض وضوؤه فصلاته صحيحة لا تبطل بالسلام وعليه(1/671)
أن يأتي بما بقي منها ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتين ويتشهد ويسلم، فإن لم يذكر حتى قام فعليه أن يجلس لينهض إلى الإتيان بما بقي عن جلوس لأن هذا القيام واجب في الصلاة ولم يأت به لها فلزمه الإتيان به مع النية ولا نعلم في جواز الإتمام في حق من نسي ركعة فما زاد خلافا - والأصل في هذا ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء قال ابن سرين: سماها لنا أبو هريرة ولكن أنا نسيت - فصلى ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فوضع يده عليها كأنه غضبان وشبك بين أصابعه ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال " لم أنس ولم تقصر " فقال " أكما يقول ذو اليدين " قالوا نعم، قال فتقدم فصلى ما ترك من صلاته ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر قال فربما سألوه ثم سلم قال: ثبت أن عمران بن حصين قال ثم سلم متفق عليه ورواه أبو داود وزاد قال: قلت فالتشهد؟ قال لم أسمع في التشهد وأحب إلي أن يتشهد.
وروى عمران بن حصين قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد(1/672)
سجدتي السهو ثم سلم.
رواه مسلم (فصل) فأما إن طال الفصل أو انتقض وضوءه استأنف الصلاة كذلك قال الشافعي، وإن ذكر قريبا مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين ونحوه بنى.
وقال مالك نحوه.
وقال الليث ويحيى الانصاري والاوزاعي بنى ما لم ينتقض وضوءه.
ولنا أنها صلاة واحدة فلم يجز بناء بعضها على بعض
مع طول الفصل كما لو انتقض وضوءه والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة ولأصحاب الشافعي في ذلك خلاف قد ذكرناه فيما إذا ترك ركنا في الباب قبله.
والصحيح أنه لا حد له إذ لم يرد بتحديده نص فيرجع فيه إلى العادة والمقاربة لمثل حال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين (فصل) فإن لم يذكره حتى شرع في صلاة أخرى فإن طال الفصل بطلت الأولى لما ذكرنا وإن لم يطل الفصل عاد إلى الأولى فأتمها وهذا قول الشافعي.
وقال الشيخ أبو الفرج في المبهج: يجعل ما شرع فيه من الصلاة الثانية تماما للأولى فيبني إحداهما على الأخرى ويصير وجود السلام كعدمه لأنه سهو معذور فيه وسواء كان ما شرع فيه نفلا أو فرضا.
وقال الحسن وحماد بن أبي سليمان إن شرع في تطوع بطلت المكتوبة.
وقال مالك أحب إلي أن يبتدئها.
وروى عن أحمد مثل قول الحسن فإنه قال في رواية أبي الحارث: إذا صلى ركعتين من المغرب وسلم ثم دخل في التكلم أنه بمنزلة الكلام استأنف الصلاة.
ولنا أنه أهمل عملا من جنس الصلاة سهوا فلم تبطل صلاته كما لو زاد خامسة(1/673)
وأما إتمام الأولى بالثانية فلا يصح لأنه قد خرج من الأولى بالسلام ونية الخروج منها ولم ينوها بعد ذلك ونية غيرها لا تجزئ.
عن نيتها كحالة الابتداء (فصل) فإن تكلم في هذه الحال - يعني إذا سلم يطن أن صلاته قد تمت - لغير مصلحة الصلاة كقوله يا غلام اسقني ماء ونحوه بطلت صلاته نص عليه أحمد في رواية يوسف بن موسى وجماعة سواه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " رواه مسلم، وعن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، رواه مسلم.
وفيه رواية ثانية أن الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال بحال وهو مذهب مالك والشافعي لأنه نوع من النسيان ولذلك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبنوا على صلاتهم (مسألة) (وإن تكلم لمصلحتها ففيه ثلاث روايات (إحداها) لا تبطل (والثانية) تبطل (والثالثة) تبطل صلاة المأموم دون الإمام اختارها الخرقي) وجملة ذلك أن من سلم عن نقص في صلاته كما
ذكرنا ثم تكلم لمصلحتها ففيه ثلاث روايات (إحداها) أن الصلاة لا تفسد لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تكلموا في صلاتهم في حديث ذي اليدين وبنوا على صلاتهم.
وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/674)
لنا أسوة حسنة، وهذا مذهب مالك والشافعي ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه وممن روي أنه تكلم بعد أن سلم وأتم صلاته الزبير وابناه، وصوبه ابن عباس وهو الصحيح إن شاء الله تعالى (والثانية) تفسد صلاتهم وهو قول الخلال ومذهب أصحاب الرأي لعموم أحاديث النهي (والثالثة) أن صلاة الإمام لا تفسد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما فتكلم وبنى على صلاته، وصلاة المأمومين تفسد لأنه لا يصح اقتداؤهم بأبي بكر وعمر لأنهما تكلما مجيبين للنبي صلى الله عليه وسلم وإجابته واجبة عليهما ولا بذي اليدين لأنه تكلم سائلا عن نقص الصلاة في وقت يمكن ذلك فيها، وهذا غير موجود في زماننا، وهذا اختيار الخرقي وربما خصصناه بالكلام في شأن الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما تكلموا في شأن الصلاة (مسألة) قال (وإن تكلم في صلب الصلاة بطلت، وعنه لا تبطل إذا كان ساهياً أو جاهلاً ويسجد له) متى تكلم عامدا عالما أنه في الصلاة مع علمه بتحريم ذلك لغير مصلحة الصلاة ولا لأمر يوجب الكلام بطلت صلاته إجماعا حكاه ابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس " وعن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، رواهما مسلم.
وعن ابن مسعود قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من(1/675)
عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد فقلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصباح فترد علينا؟ قال " إن في الصلاة لشغلا " متفق عليه.
ولأبي داود " إن الله يحدث من أمره ما يشاء وقد أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة " (فصل) فأما إن تكلم جاهلاً بتحريم ذلك في الصلاة فقال القاضي في الجامع: لا أعرف عن
أحمد نصا في ذلك.
وقد ذكر شيخنا فيه ههنا روايتين (إحداهما) تبطل صلاته لأنه ليس من جنسه ما هو مشروع في الصلاة أشبه العمل الكثير ولعموم أحاديث النهي (والثانية) لا تبطل لما روى معاوية ابن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه (1) ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت (2) فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني (3) ولا ضربني ولا شتمني ثم قال " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم.
فلم يأمره بالإعادة فدل على صحتها، وهذا مذهب الشافعي وفي كلام الناسي روايتان (إحداهما) لا تبطل وهو قول مالك والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في حديث ذي اليدين، وقد ذكرنا حديث معاوية، وما عذر فيه بالنسيان عذر فيه بالجهل
__________
1) عند أحمد ومسلم وغيرهما وثكل أماء وزيادة الياء رواية أبي داود كما في نيل الاوطار 2) أي لم أتكلم أولم أكملهم لكني سكت 3) قوله ما كهرني معناه ما انتهرني أو ما عبس في وجهي(1/676)
(والثانية) تفسد صلاته وهو قول النخعي وأصحاب الرأي لعموم أحاديث المنع من الكلام وإذا قلنا إنه لا يبطل الصلاة سجد لعموم الأحاديث، ولأن عمده يبطل الصلاة فوجب السجود لسهوه كترك الواجبات والله أعلم (فصل) فإن تكلم في صلب الصلاة لمصلحة الصلاة مع علمه أنه في الصلاة بطلت صلاته لعموم الأحاديث.
وذكر القاضي في ذلك الروايات الثلاث التي ذكرناها في المسألة التي قبلها ويحتمله كلام الخرقي لعموم لفظه، وهو مذهب الأوزاعي فانه قال: لو أن رجلاً قال للإمام وقد جهر بالقراءة في العصر: إنها العصر، لم تفسد صلاته، ولأن الإمام يطرقه حال يحتاج إلى الكلام فيها وهو ما لو نسي
القراءة في ركعة فذكرها في الثانية فقد فسدت عليه ركعة فيحتاج أن يبدلها بركعة هي في ظن المأمومين خامسة ليس لهم موافقته فيهاو لا سبيل إلى إعلامهم بغير الكلام، وقد يشك في صلاته فيحتاج إلى السؤال (1) قال شيخنا: ولم أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته ولا عن الإمام نصا في الكلام في غير الحال التي سلم معتقدا تمام صلاته ثم تكلم بعد السلام، وقياس الكلام في صلب الصلاة عالما بها على هذه الحال ممتنع لان هذه حال نسيان لا يمكن التحرز من الكلام فيها وهي أيضا حال يتطرق الجهل
__________
1) زاد في المغني هنا: فلذلك أبيع له الكلام.(1/677)
إلى صاحبها بتحريم الكلام فيها فلا يصح قياس ما يفارقها في هذين الأمرين عليها، وإذا عدم النص والقياس والاجما امتنع ثبوت الحكم لأنه بغير دليل ولا سبيل إليه والله أعلم (فصل) فإن تكلم مغلوبا على الكلام فهو ثلاثة أنواع (أحدها) أن يخرج الحروف من فيه بغير اختياره مثل أن يتثاءب فيقول هاه أو يتنفس فيقول آه أو يسعل فينطق بحرفين أو يغلط في القرآن فيأتي بكلمة من غير القرآن أو يغلبه البكاء فلا تفسد صلاته في المنصوص عنه فيمن غلبه البكاء وقد كان عمر يبكي حتى يسمع له نشيج.
وقال مهنا: صليت إلى جنب أبي عبد الله فتثاءب خمس مرات وسمعت لتثاؤبه هاه هاه وهذا لأن الكلام ههنا لا ينسب إليه ولا يتعلق به حكم من أحكام الكلام، وقال القاضي فيمن تثاءب فقال هاه تفسد صلاته، وهذا محمول على أن من فعل ذلك غير مغلوب عليه لما ذكرنا.
وذكر ابن عقيل فيه احتمالين (أحدهما) تبطل صلاته لان لا يشرع جنسه في الصلاة أشبه الحدث (والثاني) لا تبطل لما ذكرنا (النوع الثاني) أن ينام فيتكلم فقد توقف أحمد عن الكلام فيه والأولى إلحاقه بالفصل الذي قبله لان القلم مرفوع عنه، وكذلك ليس لعتقه ولإطلاقه حكم، وقال ابن عقيل في النائم إذا تكلم بكلام الآدميين انبنى على كلام الناسي في أصح الروايتين (النوع الثالث) أن يكره على الكلام فيحتمل أن يكون ككلام الناسي لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع(1/678)
بينهما في العفو بقوله " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال القاضي وهذا أولى بالعفو وصحة الصلاة لأن الفعل غير منسوب إليه، ولهذا لو أكره على إتلاف مال لم يضمنه، والناسي يضمن ما اتلفه قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أن صلاته تفسد لأنه أتى بما يفسد الصلاة عمدا أشبه مالو أكره على صلاة الفجر أربعا وقياسه على الناسي لا يصح لوجهين (أحدهما) أن النسيان يكثر بخلاف الإكراه (الثاني) أنه لو نسي فزاد في الصلاة أو نقص لم تفسد صلاته ولم يثبت مثله في الاكراه.
والصحيح عند أصحاب الشافعي إن الصلاة لا تبطل بشئ من هذه الأنواع (فصل) فإن تكلم بكلام واجب كمن خشي على ضرير أو صبي أو رأى حية ونحوها تقصد غافلا أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شئ ونحو هذا ولم يمكن التنبيه بالتسبيح فقال أصحابنا تبطل الصلاة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لما ذكرنا من كلام المكره قال شيخنا: ويحتمل أن لا تبطل الصلاة، وهو ظاهر كلام أحمد لأنه قال في حديث ذي اليدين: إنما كلم النبي صلى الله عليه وسلم القوم حين كلمهم لأنه كان عليهم أن يجيبوه فعلل صحة صلاتهم بوجوب الكلام عليهم، وهذا كذلك وهو ظاهر مذهب الشافعي والحصيح عند أصحابه (فصل) وكل كلام حكمنا بأنه لا يفسد الصلاة فإنما هو اليسير منه، فإن كثر وطال أفسد الصلاة وهذا منصوص الشافعي.
قال القاضي في المجرد: كلام الناسي إذا طال يفسد رواية واحدة، وقال في(1/679)
الجامع لا فرق بين القليل والكثير في ظاهر كلام أحمد، لأن ما عفي عنه بالنسيان استوى قليله وكثيره كالأكل في الصيام وهو قول بعض الشافعية.
ووجه الأول أن دلالة الأحاديث المانعة من الكلام عامة تركت في اليسير بما ورد فيه من الأخبار فتبقى فيما عداه على مقتضى العموم، ولا يصح قياس الكثير عليه لعدم إمكان التحرز من اليسير، ولأن اليسير قد عفي عنه في العمل من غير جنس الصلاة بخلاف الكثير والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدا، هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي لأن الحرفين يكونان كلمة كقوله أب وأخ ويد ودم وكذلك الأفعال والحروف لا تنتظم كلمة من أقل من حرفين ولو قال " لا " فسدت صلاته لأنها حرفان لام وألف
(مسألة) (وإن قهقه أو نفخ أو انتحب فبان حرفان فهو كالكلام إلا ما كان من خشية الله تعالى، وقال أصحابنا في النحنحة مثل ذلك، وقد روي عن أبي عبد الله أنه كان يتنحنح في الصلاة ولا يراها مبطلة للصلاة) إذا ضحك فبان حرفان فسدت صلاته، وكذلك إن قهقه ولم يتبين حرفان وهو قول الشافعي واصحاب الرأي، وكذلك ذكره شيخنا في المغني.
وقال القاضي في المجرد: إن قهقه فبان حرف واحد لم تبطل صلاته، فإن كان حرفان القاف والهاء فهو كالكلام تبطل إن كان عامدا وإن كان ساهياً أو جاهلاً خرج على الروايتين وهو ظاهر قول الشيخ في هذا الكتاب.
قال إبن المنذر اجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة، وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها، وقد روى الدارقطني(1/680)
في سننه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء " (فصل) فأما النفخ فمتى انتظم حرفين أفسد الصلاة لأنه كلام وإلا لم يفسدها، وقد قال أحمد: النفخ عندي بمنزلة الكلام.
وروي عن ابن عباس أنه قال: من نفخ في الصلاة فقد تكلم.
وروي عن أبي هريرة - إلا أن ابن المنذر قال: لا يثبت عن ابن عباس ولا أبي هريرة.
وروى عن أحمد أنه قال: أكرهه ولا أقول يقطع الصلاة ليس كلاما.
روي عن ابن مسعود وابن عباس وابن سيرين والنخعي وإسحاق، وجمع القاضي بين قولي أحمد فقال: الموضع الذي قال أحمد يقطع الصلاة إذ انتظم حرفين، والموضع الذي قال لا يقطع الصلاة إذا لم ينتظم منه حرفان.
وقال أبو حنيفة: إن سمع فهو بمنزلة الكلام وإلا فلا يضر.
قال شيخنا: والصحيح أنا لا يقطع الصلاة ما لم ينتظم منه حرفان لما روى عبد الله بن عمرو قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال ثم نفخ فقال: أف أف.
وأما قول أبي حنيفة: فان أراد مالا يسمعه الإنسان من نفسه فليس ذلك بنفخ، وإن أراد مالا يسمعه غيره فلا يصح لأن ما أبطل الصلاة إظهاره أبطلها إسراره كالكلام (فصل) فأما البكاء والتأوه والأنين فما كان مغلوبا عليه لم يؤثر لما ذكرنا من قبل وما كان غير ذلك، فإن كان لغير خشية الله أفسد الصلاة، وإن كان من خشية الله فقال القاضي وأبو الخطاب: التأوه والبكاء لا يفسد الصلاة وكذلك الانين.
وقال القاضي: التأوه ذكر مدح الله تعالى إبراهيم به(1/681)
فقال (إن إبراهيم لأواه حليم) والذكر لا يفسد الصلاة، ولأن الله سبحانه وتعالى مدح الباكين فقال (خروا سجدا وبكيا) وروى مطرف عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل، رواه الخلال.
قلت: رواه أحمد وأبو داود.
وقال عبد الله بن شداد سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، وقال شيخنا: لم أر عن أحمد في البكاء ولا في الأنين شيئا والأشبه بأصوله أنه متى فعله مختارا فسدت صلاته فإنه قال في رواية مهنا في البكاء: لا يفسد الصلاة ما كان من غلبة، ولأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس أو إجماع وعموم النصوص تمنع من الكلام كله، ولم يرد في الأنين والتأوه نص خاص، والمدح على التأوه لا يخصصه كتشميت العاطس، ورد السلام، والكلمة الطيبة (فصل) فأما النحنحة فقال أصحابنا: هي كالنفخ إن بان منها حرفان بطلت صلاته.
وقد روى المروذي قال: كنت آتي أبا عبد الله فيتنحنح في صلاته لأعلم أنه يصلي.
وقال مهنا: رأيت أبا عبد الله يتنحنح في الصلاة فقال أصحابنا: وهذا محمول على أنه لم يأت بحرفين.
قال شيخنا: وظاهر حال أحمد أنه لم يعتبر ذلك لأنها لا تسمى كلاما وتدعو الحاجة إليها.
وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: كان لي ساعة في السحر أدخل فيها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فان كان في صلاة يتنحنح فكان ذلك إذني، رواه الخلال.
واختلفت الرواية عن أحمد في كراهية تنبيه المصلي بالنحنحة فقال في موضع لا يتنحنح في الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نابكم شئ في صلاتكم فالتسبيح للرجال، والتصفيق(1/682)
للنساء " وقد روى الأثرم أنه كان يتنحنح ليعلمه أنه يصلي، وحديث علي يدل عليه وهو خاص فيقدم على العام (فصل) إذا سلم على المصلي لم يكن له رد السلام بالكلام فان فعل ذلك بطلت صلاته، روي نحو ذلك عن أبي ذر وهو قول مالك والشافعي.
وكان سعيد بن المسيب والحسن وقتادة لا يرون به بأسا.
وروي عن أبي هريرة أنه أمر بذلك، وقال إسحاق: أن فعله متأولا جازت صلاته ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال كنا نسلم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ قال " إن في الصلاة لشغلا " متفق عليه.
ولأبي داود " إن الله يحدث من أمره ما يشاء وقد أحدث
أن لا تتكلموا في الصلاة " وروى جابر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعئي في حاجة فرجعت وهو يصلي على راحلته ووجهه إلى غير القبلة فسلمت عليه فلم يرد علي فلما انصرف قال " أما إنه لم يمنعني إن أرد عليك إلا أني كنت أصلي " ولأنه كلام آدمي أشبه تشميت العاطس، إذ ثبت ذلك فإنه يرد السلام بالإشارة، وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق، وروي عن ابن عباس أن موسى بن جميل سلم عليه وهو يصلي فقبض ابن عباس على ذراعه فكان ذلك رد ابن عباس وذلك لما روى صهيب قال مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه وكلمته فرد علي إشارة، وعن ابن عمر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي قال قلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون(1/683)
عليه وهو يصلي؟ قال يقول هكذا (1) وبسط يعني كفه وجعل بطنه أسفل وظهره إلى فوق، رواهما أبو داود والترمذي وقال كلا الحديثين صحيح، وإن رد عليه بعد فراغه من الصلاة فحسن لأن في حديث ابن مسعود قال فقدمت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي فأخذني ما قدم وما حدث فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال " إن الله يحدث من أمره ما يشاء وقد أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة " (فصل) وإذا دخل على قوم وهم يصلون فلا بأس أن يسلم عليهم قاله أحمد.
وروى ابن المنذر عنه أنه سلم على مصل وفعل ذلك ابن عمر وقال ابن عقيل يكره وكرهه عطاء وأبو مجلز والشعبي واسحاق لأنه ربما غلط المصلي فرد بالكلام، ووجه تجويزه قوله تعالى (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) أي على أهل دينكم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم عليه أصحابه لم ينكر ذلك (فصل) وأما النقص فمتى ترك ركنا فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه منها، وإن ذكره قبل ذلك عاد فأتى به وبما بعده، فإن لم يعد بطلت صلاته.
وجملته أنه متى ترك ركنا سجودا أو ركوعا ساهيا فلم يذكر حتى شرع في قراءة الركعة التي تليها بطلت الركعة التي ترك منها الركن وصارت التي تليها مكانها نص عليه أحمد في رواية جماعة.
قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن رجل صلى ركعة ثم قام ليصلي أخرى فذكر أنه إنما سجد للركعة الأولى سجدة واحدة فقال
__________
1) أي يفعل هكذا(1/684)
إن كان أول ما قام قبل أن يحدث عملا للأخرى فإنه ينحط ويسجد ويعتد بها، وإن كان قد أحدث عملا للأخرى ألغى الأخرى وجعل هذه الأولى قلت: فيستفتح أو يجتزئ.
بالاستفتاح الأول قال: يجزئه الأول قلت: فنسي سجدتين من ركعتين قال: لا يعتد بتينك الركعتين.
وهذا قول إسحاق وقال الشافعي: إن ذكر الركن المتروك قبل السجود في الثانية فإنه يعود إلى سجدة الأولى، وإن ذكره بعد سجوده في الثانية وقعت عن الأولى لأن الركعة الأولى قد صحت وما فعله في الثانية سهوا لا يبطل الاولى كما لو ذكر قبل القراءة، وقد ذكر أحمد هذا القول عن الشافعي وقربه إلا أنه اختار الأول.
وقال مالك: إن ترك سجدة فذكرها قبل رفع رأسه من ركوع الثانية ألغى الأولى.
وقال الحسن والاوزاعي من نسي سجدة ثم ذكرها في الصلاة سجدها متى ذكرها.
وقال الأوزاعي: يرجع إلى حيث كان من الصلاة وقت ذكرها فيمضي فيها.
وقال أصحاب الرأي نحو قول الحسن ولنا أن المزحوم في الجمعة إذا زال الزحام والإمام راكع في الثانية فإنه يتبعه ويسجد معه ويكون السجود من الثانية دون الأولى كذا هنا.
وأما إذا ذكرها قبل ذلك عاد فأتى به وبما بعده لأنه ذكره في موضعه فلزمه الإتيان به كما لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة فذكرها قبل السلام فإنه يأتي بها في الحال، وإن علم بعد السلام فهو كترك ركعة كاملة إن طال الفصل أو أحدث ابتدأ الصلاة لتعذر البناء وإن ذكر قريبا أتى بركعة كاملة لما ذكرنا من أن الركعة التي ترك الركن منها بطلت بالشروع في غيرها(1/685)
(فصل) فإن مضى في موضع يلزمه الرجوع أو رجع في موضع يلزمه المضي عالما بتحريمه بطلت صلاته لتركه الواجب عمدا، وإن فعله يعتقد جوازه لم تبطل لأنه تركه غير متعمد أشبه مالو مضى قبل ذكر المتروك لكن إذا مضى في موضع يلزمه الرجوع فسدت الركعة التي ترك ركنها كما لو لم يذكر إلا بعد الشروع في القراءة، وإن رجع في موضع المضي لم يعتد بما فعله في الركعة التي تركه منها لأنها فسدت بشروعه في قراءة غيرها فلم يعد الى الصحة بحال (مسألة) (وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات وذكر وهو في التشهد سجد سجدة فصحت
له ركعة ويأتي بثلاث، وعنه تبطل صلاته) هذه المسألة مبنية على المسألة التي قبلها وهو أنه متى ترك ركناً من ركعة فلم يذكرها حتى شرع في قراءة التي بعدها بطلت، فههنا لما شرع في قراءة الثانية بطلت الأولى فلما شرع في قراءة الثالثة قبل إتمام الثانية بطلت الثانية، وكذلك الثالثة تبطل بشروعه في الرابعة فبقيت الرابعة ولم يسجد فيها إلا سجدة واحدة، فيسجد الثانية حين يذكر وتتم له ركعة ويأتي بثلاث ركعات، وبهذا قال مالك والليث.
وفيه رواية أن صلاته تبطلا لأن هذا يؤدي الى التلاعب بالصلاة ويلغي عملا كثيرا في الصلاة وهو مابين التحريمة والركعة الرابعة، وهذا قول إسحاق.
وقال الشافعي: يصح له ركعتان على ما ذكرنا في المسألة التي قبلها، وهو أنه إذا قام إلى الثانية سهوا قبل تمام الأولى كان عمله فيها لغوا فلما سجد فيها انضمت سجدتها إلى سجدة الأولى فكملت له ركعة وهكذا الحكم في الثالثة والرابعة.
وحكى الإمام أحمد هذا القول عن الشافعي ثم قال: هو أشبه من(1/686)
من قول أصحاب الرأي.
وقال الأثرم: فقلت له فإنه إذا فعل لا يستقيم لأنه إنما نوى بهذه السجدة عن الثانية قال: فلذلك أقول أنه يحتاج أن يسجد لكل ركعة سجدتين قال شيخنا: ويحتمل أن يكون القول المحكي عن الشافعي هو الصحيح وأن يكون قولا لاحمد لأنه قد حسنه واعتذر عن المصير إليه بكونه إنما نوى بالسجدة الثانية عن الثانية، وهذا لا يمنع جعلها عن الأولى، وقال الثوري وأصحاب الرأي يسجد في الحال أربع سجدات، وهذا فاسد لأن ترتيب الصلاة شرط لا يسقط بالسهو كما لو نسي فقدم السجود على الركوع فإن لم يذكر حتى سلم ابتدأ الصلاة لأن الركعة الأخيرة بطلت بسلامه في منصوص أحمد فحينئذ يستأنف الصلاة (فصل) إذا ترك ركنا ولم يعلم موضعه بنى الأمر فيه على أسوأ الأحوال مثل أن يترك سجدة لا يعلم أمن الرابعة هي أم من غيرها؟ يجعلها مما قبلها لأنه يلزمه ركعة كاملة، ولو جعلها من الرابعة أجزأه سجدة وإن ترك سجدتين لا يعلم أمن ركعتين أم من ركعة جعلهما من ركعتين ليلزمه ركعتان وإن ترك ركناً من ركعة وعلم وهو فيها ولم يعلم أركوع هو أم سجود، جعله ركوعا، وعلى قياس هذا يأتي بما يتيقن به إتمام صلاته لئلا يخرج منها وهو شاك فيها فيكون مغرورا بها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
" لا غرار في صلاة ولا تسليم " رواه أبو داود.
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن تفسير هذا الحديث فقال: أما أنا فأرى أن لا يخرج منها إلا على يقين أنها قد تمت(1/687)
(مسألة) (وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائما فإن استتم قائما لم يرجع وإن رجع جاز وإن شرع في القراءة لم يجز له الرجوع وعليه السجود لذلك كله) إذا ترك التشهد الأول ناسيا وقام لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يذكره قبل أن يعتدل قائما فيلزمه الرجوع للتشهد، وممن قال يجلس علقمة والضحاك وقتادة والاوزاعي والشافعي وابن المنذر، وقال مالك إن فارقت اليتاه الأرض لم يرجع وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى ولنا ما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس فإذا استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو " رواه أبو داود وابن ماجة (الثاني) ذكره بعد اعتداله قائما وقبل شروعه في القراءة فالأولى أن لا يرجع لحديث المغيرة وإن رجع جاز، نص عليه كما ذكره قبل الاعتدال.
وقال النخعي: يلزمه الرجوع ما لم يستفتح القراءة قال شيخنا: ويحتمل أن لا يجوز له الرجوع ههنا لحديث المغيرة ولأنه شرع في ركن فلم يجز له الرجوع كما لو شرع في القراءة (الأمر الثالث) ذكره بعد الشروع في القراءة فلا يجوز له الرجوع في قول أكثر أهل العلم، وممن روي عنه أنه لا يرجع عمر وسعد وابن مسعود والمغيرة بن شعبة والنعمان بن بشير وابن الزبير وغيرهم وقال الحسن: يرجع ما لم يركع، والصحيح الأول لحديث المغيرة ولأنه شرع في ركن مقصود فلم يجز له الرجوع كما لو شرع في الركن، إذا ثبت ذلك فإنه يسجد للسهو في جميع هذه(1/688)
المسائل لحديث المغيرة، ولما روى عبد الله بن مالك بن بحينه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم، متفق عليه (فصل) فإن علم المأمومون بتركه التشهد الأول قبل قيامهم وبعد قيام الإمام تابعوه في القيام ولم
يجلسوا، حكاه الآجري عن أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأهل العراق ولا نعلم فيه مخالفاً لأن النبي لما قام حين سها عن التشهد قام الناس معه، وفعله جماعة من الصحابة فروى الإمام أحمد بإسناده عن زياد بن علاثة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه رواه الآجري عن عقبة بن عامر وقال: إني سمعتكم تقولون سبحان الله لكيما أجلس وليست تلك السنة، إنما السنة التي صنعت.
فأما إن سبحوا به قبل قيامه ولم يرجع تشهدوا لأنفسهم ولم يتابعوه لأنه ترك واجباً عليه فلم يكن لهم متابعته في تركه، ولو رجع إلى التشهد بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه أيضا لأنه أخطأ.
فأما الإمام فان فعل ذلك عالما بتحريمه بطلت صلاته لأنه زاد في الصلاة من جنسها عمدا، أو ترك واجبا عمدا، وإن فعله ناسياً أو جاهلاً بالتحريم لم تبطل لأنه زاده سهوا، ومتى علم بتحريم ذلك وهو في التشهد نهض ولم يتم الجلوس(1/689)
(فصل) فإن ذكر الإمام التشهد قبل انتصابه وقبل قيام المأمومين وشروعهم في القراءة فرجع لزمهم الرجوع لأنه رجع إلى واجب فلزمهم متابعته ولا اعتبار بقيامهم قبله (فصل) وإن نسي التشهد دون الجلوس فالحكم فيه كما لو نسيهما لأن التشهد هو المقصود.
فأما إن نسي شيئا من الأذكار الواجبة غير التشهد كتسبيح الركوع والسجود، وقول رب أغفر لي بين السجدتين، وقول رنبا ولك الحمد، فإنه لا يرجع إليه بعد الخروج من محله لأن محل الذكر ركن وقع مجزئا صحيحا فلو رجع إليه لكان زيادة في الصلاة وتكرارا لركن ثم يأتي بالذكر في ركن غير مشروع بخلاف التشهد لكن يمضي ويسجد للسهو كترك التشهد (فصل) فإن قام من السجدة الأولى ولم يجلس جلسة الفصل فهذا قد ترك جلسة الفصل والسجدة الثانية، ومتى ذكر قبل الشروع في القراءة لزمه الرجوع بغير خلاف علمناه، فإذا رجع جلس جلسة الفصل ثم سجد الثانية.
وقال بعض الشافعية: لا يحتاج إلى الجلوس لأن الفصل قد حصل بالقيام ولا يصح لأن الجلسة واجبة فلم ينب عنها القيام كما لو قصد ذلك، فأما ان قام بعد أن جلس للفصل فإنه يسجد ولا يلزمه جلوس، وقيل يلزمه ليكون سجود عن جلوس، ولا يصح لأنه قد أتى بالجلسة
فلم تبطل بالسهو بعدها كالسجدة الأولى، فإن كان يظن أنه سجد سجدتين وجلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل لأنها سنة فلا تنوب عن الواجب كما لو ترك سجدة من ركعة ثم سجد للتلاوة(1/690)
فإنها لا تجزئ.
عن سجدة الصلاة والله أعلم (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وأما الشك فمتى شك في عدد الركعات بني على اليقين، وعنه يبني على غالب ظنه، وظاهر المذهب أن المنفرد يبني على اليقين، والإمام على غالب ظنه) متى شك في عدد الركعات ففيه ثلاث روايات (إحداها) أن يبني على اليقين إماماً كان أو منفردا اختارها أبو بكر.
ويروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وابن عمرو، وهو قول ربيعة ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي وإسحاق لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى تمام الأربع كانتا ترغيما للشيطان " رواه مسلم.
وعن عبد الرحمن بن عوف (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أو نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثا فيجعلهما اثنتين، فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فيجعلها ثلاثا حتى يكون الشك في الزيادة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ثم يسلم " رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث صحيح ولأن الأصل عدم ما شك فيه فينبني على عدمه كما لو شك في ركوع أو سجود (والثانية) أن يبني على غالب ظنه إماماً كان أو منفردا، نقلها عنه الأثرم، روى ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود
__________
1) ذكر الحافظ في التلخيص أن حديث عبد الرحمن معلول وساق رواياته وحقق انه ضعيف(1/691)
رضي الله عنهما، وهو قول النخعي، وبه قال أصحاب الرأي إذا تكرر ذلك منه، وإن كان أول ما أصابه أعاد لقوله عليه السلام " لا غرار في صلاة ولا تسليم " ووجه هذه الرواية ما روى عبد الله ابن مسعدو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم عليه ثم
يسجد سجدتين " متفق عليه، وللبخاري " بعد التسليم " وفي لفظ " فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب " ولأبي داود " إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر ظنك على أربع تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس ".
والإمام يبني على غالب ظنه لحديث ابن مسعود جمعاً بين الأحاديث، وهذه المشهورة عن أحمد، اختارها الخرقي.
وإنما خصصنا الإمام بالبناء على غالب ظنه لأن له من ينبهه ويذكره إذا أخطأ فيتأكد عنده صواب نفسه، ولأنه إن أصاب أقره المأمومون، وإن أخطأ سبحوا به فرجع إليهم فيحصل له الصواب في الحالين بخلاف المنفرد إذ ليس له من يذكره فيبني على اليقين ليحصل له إتمام صلاته.
وما قاله أصحاب الرأي فيخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس " متفق عليه، وقوله عليه السلام " لاغرار في صلاة " يعني لا ينقص من صلاته ويحتمل أنه أراد ولا يخرج منها وهو شاك في إتمامها، ومن بني على اليقين لم يخرج وهو شاك، وكذلك(1/692)
الإمام إذا بنى على غالب ظنه فوافقه المأمومون أو رد عليه فرجع إليهم (مسألة) (فان استوى الأمران عنده بني على اليقين) إماماً كان أو منفردا وأتى بما بقي عليه من صلاته وسجد للسهو لما ذكرنا من الأحاديث ولأن الأصل البناء على اليقين، وإنما جاز تركه في حق الإمام لمعارضة الظن الغالب فيبقى فيما عداه على الأصل (مسألة) (ومن شك في ترك ركن فهو كتركه) إذا شك في ترك ركن من أركان الصلاة وهو فيها فحكمه حكم تركه إماماً كان أو منفردا لأن الأصل عدمه، وإن شك في ترك واجب يوجب تركه السجود ففيه وجهان (أحدهما) لا سجود عليه، قاله ابن حامد لأنه شك في سببه فلم يجب السجود له كما لو شك في الزيادة (والثاني) يسجد له ذكره القاضي لأن الأصل عدمه، والصحيح وجوب السجود إلا على الرواية التي تقول إن هذه سنن فلا يجب والله أعلم.
وإن شك في زيادة توجب السجود فلا سجود عليه لأن الأصل عدمها فلا يجب السجود بالشك فيها.
ولو شك في عدد الركعات
أو في ركن ثم ذكره في الصلاة لم يسجد لأن السجود لزيادة أو نقص أو احتمال ذلك ولم يوجد وإنما يؤثر الشك في الصلاة إذا وجد فيها، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه لأن الظاهر أنه أتي بها على الوجه المشروع ولأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه، وهكذا الشك في سائر العبادات(1/693)
(مسألة) (وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد) وجملته أن المأموم إذا سها دون إمامه لم يلزمه سجود في قول عامة أهل العلم.
وحكي عن مكحول أنه قام عند قعود إمامه فسجد ولنا أن معاوية بن الحكم تكلم خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بسجود، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه " رواه الدارقطني.
فأما إذا سها الإمام فعلى المأموم متابعته في السجود سواء سها معه أو تفرد الإمام بالسهو إجماعا، كذلك حكاه إسحاق وابن المنذر، وسواء كان السجود قبل السلام أو بعده لحديث ابن عمر ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا سجد فاسجدوا " (فصل) وإذا كان المأموم مسبوقا فسها الإمام فيما لم يدركه فيه فعليه متابعته في السجود سواء كان قبل السلام أو بعده، روي هذا عن عطاء والحسن والنخعي وأصحاب الرأي، وقال ابن سيرين يقضي ثم يسجد، وقال مالك والليث والاوزاعي والشافعي في السجود قبل السلام كقولنا، وقول ابن سيرين فيما بعده، وروي ذلك عن أحمد لأنه فعل خارج الصلاة فلم يتبع الإمام فيه كصلاة أخرى.
وعن أحمد رواية أخرى أنه مخير بين متابعة إمامه وتأخير السجود إلى آخر صلاته حكاه ابن أبي موسى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا سجد فاسجدوا " وقوله في حديث ابن عمر " فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه؟ ولأن السجود من تمام الصلاة فيتابعه فيه كالذي قبل السلام وكغير المسبوق، وفارق صلاة أخرى فإنها غير مؤتم به فيها إذا ثبت أنه يتابع إمامه، فإذا قضى ففي إعادة السجود روايتان (إحداهما) يعيده لأنه قد لزمه حكم السهو، وما فعله من السجود مع الإمام كان متابعة له(1/694)
فلا يسقط به ما لزمه كالتشهد الأخير (والثانية) لا يلزمه السجود لأن سجود إمامه قد كملت به
الصلاة في حقهما وحصل به الجبران فلم يحتج إلى سجود ثان كالمأموم إذا سها وحده.
وللشافعي قولان كالروايتين، فإن نسي الإمام السجود سجد المسبوق في آخر صلاته رواية واحدة لأنه لم يوجد من الإمام ما يكمل به صلاة المأموم.
وكذلك إن لم يسجد مع الإمام وإذا سها المأموم بعد مفارقة إمامه في القضاء سجد رواية واحدة لأنه قد صار منفردا فلم يتحمل عنه الإمام السجود، وكذلك لو سها فسلم مع إمامه قام فأتم وسجد بعد السلام كالمنفرد (مسألة) (فإن لم يسجد الإمام فهل يسجد المأموم؟ على روايتين) يريد غير المسبوق إذا سها إمامه فلم يسجد المأموم فيه روايتان (إحداهما) يسجد اختارها ابن عقيل وقال هي أصح لأن صلاة المأموم نقصت بسهو إمامه ولم تنجبر بسجوده فيلزم المأموم جبرها وهذا مذهب ابن سيرين وقتادة ومالك والليث والشافعي (والثانية) لا يسجد روى ذلك عن عطاء والحسن والقاسم وحماد بن أبي سليمان والثوري وأصحاب الرأي لأن المأموم إنما يسجد تبعا فإذا لم يسجد الإمام لم يوجد المقتضي لسجود المأموم.
هذا إذا تركه الإمام لعذر فإن تركه قبل السلام عمدا وكان ممن لا يرى وجوبه فهو كتركه سهوا وإن كان يعتقد وجوبه بطلت صلاته لأنه ترك الواجب عمدا، وهل تبطل صلاة المأموم؟ فيه وجهان (أحدهما) تبطل لبطلان صلاة الإمام كما لو ترك التشهد الأول (والثاني) لا تبطل لأنه لم يبق من الصلاة إلا السلام(1/695)
(فصل) وإذا قام المأموم لقضاء ما فاته فسجد إمامه بعد السلام وقلنا تجب عليه متابعة إمامه فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول وإن لم يستتم قائما لزمه الرجوع وإن استتم قائما لم يرجع وإن رجع جاز وإن شرع في القراءة لم يجز له الرجوع نص عليه أحمد في رواية الأثرم لأنه قام عن الواجب إلى ركن أشبه القيام عن التشهد الأول، وذكر ابن عقيل فيه روايات ثلاث (إحداها) يرجع لأن إمامه نفذ في الأداء ولأنه سجود في الصلاة أشبه سجود صلبها (والثانية) لا يعود لأنه نهض إلى ركن (والثالثة) هو مخير لأن سجود السهو أخذ شبها من سجود صلب الصلاة من حيث إنه سجود وشبها من التشهد الأول لكونه يسقط بالسهو فلذلك جبر، وما ذكرناه أولى (فصل) وليس على المسبوق ببعض الصلاة سجود لذلك في قول أكثر أهل العلم ويروى عن
ابن عمر وابن الزبير وأبي سعيد ومجاهد وإسحاق فيمن أدرك وترا من صلاة إمامه سجد للسهو لأنه يجلس للتشهد في غير موضع التشهد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما فاتكم فأتموا " ولم يأمر بسجود وقد فات النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصلاة مع عبد الرحمن بن عوف فقضى ولم يكن لذلك سجود، والحديث متفق عليه وقد جلس في غير موضع تشهده، ولأن السجود إنما شرع للسهو ولا سهو ههنا، ولأن متابعة الإمام واجبة فلم يسجد لفعلها كسائر الواجبات(1/696)
(فصل) قال رحمه الله (وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب في ظاهر المذهب، وعن أحمد أنه غير واجب) قال شيخنا: ولعل مبنى هذه الرواية على أن الواجبات التي شرع السجود لجبرها غير واجبة فيكون جبرها غير واجب.
وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كانت الركعة والسجدتان نافلة له " ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في حديث ابن مسعود وأبي سعيد وفعله، وقوله نافلة يعني أن له ثوابا فيه كما سميت الركعة أيضا نافلة وهي واجبة على الشاك بغير خلاف.
فأما المشروع لما لم يبطل عمده الصلاة فغير واجب.
قال أحمد إنما يجب السجود فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني وما كان في معناه ونقيس على زيادة خامسة سائر زيادات الأفعال من جنس الصلاة وعلى ترك التشهد الأول ترك غيره من الواجبات وعلى التسليم من نقصان زيادات الأقوال المبطلة عمدا (مسألة) (ومحله قبل السلام، لا في السلام قبل إتمام صلاته، وفيما إذا بنى الإمام على غالب ظنه، وعنه أن الجميع قبل السلام، وعنه ما كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص كان قبله) وجملة ذلك أن سجود السهو كله قبل السلام في ظاهر قول أحمد إلا في الموضعين المذكورين وهي إذا سلم عن نقص في صلاته لحديث ذي اليدين وعمران بن حصين (والثاني) إذا بنى الإمام على غالب ظنه لحديث ابن مسعود، نص على ذلك في رواية الأثرم فقال: أنا أقول كل سهو جاء عن(1/697)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام، فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام، وهو أصح في المعنى لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل التسليم كسجود صلبها، وهذا قول سليمان بن داود وابن أبي خيثمة وابن المنذر.
قال القاضي: لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد التسليم، وهذا اختيار الخرقي.
والروايتان الأخريان ذكرهما أبو الخطاب (إحداهما) جميع السجود قبل السلام، روى ذلك عن أبي هريرة والزهري والليث والاوزاعي، وهو مذهب الشافعي لحديث ابن بحينة وأبي سعيد.
قال الزهري: كان آخر الأمرين السجود قبل السلام، ولأنه تمام للصلاة فكان قبل سلامها كسائر أفعالها (والثانية) ما كان من زيادة كان بعد السلام لحديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسا، وما كان من نقص كان قبله لحديث ابن بحينة، وهذا مذهب مالك وأبي ثور والمزني، وقال أصحاب الرأي: جميع سجود السهو بعد السلام، وله فعله قبل السلام، روي نحو ذلك عن علي وسعد وابن مسعود وعمار وابن عباس وابن الزبير وأنس والحسن لحديث ذي اليدين وابن مسعود، وروي ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل سهو سجدتان بعد التسليم " رواه سعيد عن عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم " رواهما أبو داود ولنا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام وبعده في أحاديث صحيحة وفيما ذكرناه عملا بالأحاديث كلها وجمعا بينها وذلك واجب مهما أمكن فإن خبر النبي صلى الله عليه وسلم(1/698)
حجة يجب المصير إليه، والعمل به، ولا يترك إلا لمعارض مثله أو أقوى منه وليس في سجوده في موضع ما ينفي سجوده في موضع آخر ودعوى نسخ حديث ذي اليدين لا وجه له لان راوييه أبو هريرة وعمران بن حصين وهجرتهما متأخرة وقول الزهري مرسل ثم لا يقتضي نسخا فانه يجوزأن يكون آخر الأمرين سجوده قبل السلام لوقوع السهو آخرا فيما يسجد له قبل السلام، وحديث ثوبان يرويه اسماعيل بن عياش وزهير بن سالم وفي روايته عن أهل الحجاز ضعف وحديث ابن جعفر من رواية مصعب بن شيبة، قال أحمد يروى المناكير، وقال النسائي منكر الحديث وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف
قال الأثرم لا يثبت واحد منهما والله أعلم (مسألة) (وإن نسيه قبل السلام قضاه ما لم يطل الفصل أو يخرج من المسجد وعنه أنه يسجد وإن بعد) متى نسي سجود السهو قبل السلام قضاه بعد السلام ما لم يطل الفصل ما دام في المسجد وإن تكلم، وبه قال مالك والاوزاعي والشافعي وأبو ثور، وقال الحسن وابن سيرين إذا صرف وجهه عن القبلة لم يبن ولم يسجد، وقال أبو حنيفة إن تكلم بعد الصلاة سقط عنه سجود السهو لأنه أتى بما ينافيها أشبه مالو أحدث ولنا ما روى ابن مسعدو أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام.
رواه مسلم، وفي حديث ابن مسعود أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا فلما انفتل توشوش القوم فيما بينهم ثم سجد بعد انصرافه عن القبلة، ولأنه إذا جاز إتمام الركعتين من الصلاة بعد الكلام والانصراف كما جاء في حديث ذي اليدين(1/699)
وعمران بن حصين فالسجود أولى (فصل) فأما أن طال الفصل وخرج من المسجد لم يسجد، والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة، وذكر القاضي: أنه يسجد ما لم يطل الفصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المسجد بعد خروجه منه في حديث عمران بن حصين لإتمام الصلاة والسجود أولى، وهذا قول الشافعي وقال الخرقي: يسجد ما كان في المسجد، فإن خرج لم يسجد، وهو قول الحكم وابن شبرمة، وعنه أنه يسجد وإن خرج، وقد حكاها ابن أبي موسى عن أحمد، وهو أحد قولي الشافعي لأنه جبران فأتى به بعد طول الفصل والخروج كجبرانات الحج، وهذا قول مالك إن كان لزيادة، وإن كان لنقص أتى به ما لم يطل الفصل لانه لتكميل الصلاة.
ووجه الأولى أنه لتكميل الصلاة فلا يأتي به بعد طول الفصل كركن من أركانها، وإنما ضبطناه بالمسجد لأنه محل الصلاة فاعتبرت فيه المدة كخيار المجلس (فصل) فإن نسيه حتى شرع في صلاة أخرى سجد بعد فراغه منها في ظاهر كلام الخرقي ما كان في المسجد وعلى قول غيره: إن طال الفصل لم يسجد وإلا سجد (مسألة) (وكيفي لجميع السهو سجدتان إلا أن يختلف محلهما ففيه وجهان) إذا سها سهوين
أو أكثر من جنس كفاه سجدتان بغير خلاف علمناه، وإن كان السهو من جنسين فكذلك حكاه ابن المنذر عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وذكر أبو بكر(1/700)
فيه وجهين (احدهما) ما ذكرنا (والثاني) يسجد سجودين، وهو قول الأوزاعي وابن أبي حاتم وعبد العزيز بن أبي سلمة إذا كان أحدهما قبل السلام، والآخر بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لكل سهو سجدتان " رواه أبو داود وابن ماجة، وهذان سهوان، ولأن كل سهو يقتضي سجودا وإنما يتداخلان في الجنس الواحد.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين " وهذا يتناول السهو في موضعين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سها وتكلم بعد سلامه فسجد لهما سجودا واحدا، ولأنه شرع للجبر فكفى فيه سجود واحد كما لو كان من جنس واحد، وحديثهم في إسناده مقال.
ثم إن المراد به لكل سهو في صلاة، والسهو وإن كثر داخل في لفظ السهو لأنه اسم جنس فيكون التقدير لكل صلاة فيها سهو سجدتان يدل على ذلك أنه قال " لكل سهو سجدتان بعد السلام " كذا رواية أبي داود، ولا يلزمه بعد السلام سجودان (فصل) ومعنى اختلاف محلهما أن يكون أحدهما قبل السلام والآخر بعده لاختلاف سببهما وأحكامهما.
وقال بعض أصحابنا: هو أن يكون أحدهما من نقص والآخر من زيادة، قال شيخنا: والأول أولى إن شاء الله تعالى، فإذا قلنا يسجد لهما سجودا واحدا سجد قبل السلام لأنه أسبق وآكد، ولأن الذي قبل السلام قد وجد سببه ولم يوجد قبله ما يوجب منع وجوبه ولا يقوم مقامه(1/701)
فلزمه الإتيان به، وإذا سجد له سقط الثاني لإغناء الأول عنه (فصل) ولو أحرم منفردا فصلى ركعة ثم نوى متابعة الإمام وقلنا بجواز ذلك فسها فيما انفرد فيه وسها إمامه فيما تابعه فيه فإن صلاته تنتهي قبل صلاة إمامه، فعلى قولنا هما من جنس واحد إن كان محلهما واحدا، وعلى قول من فسر الجنسين بالزيادة والنقص يحتمل كونهما من جنسين، وهكذا
لو صلى من الرباعية ركعة ودخل مع مسافر فنوى متابعته فلما سلم إمامه قام ليتم ما عليه فقد حصل مأموما في وسط صلاته منفردا في طرفيها، فإذا سها في الوسط والطرفين جميعا فعلى قولنا إن كان محل سجودهما واحدا فهي جنس واحد، وإن اختلف محل السجود فهي جنسان.
وقال بعض أصحابنا: هي جنسان.
ولأصحاب الشافعي فيها وجهان كهذين.
ووجه ثالث: أنه يسجد ست سجدات لكل سهو سجدتان(1/702)
(مسألة) (ومتى سجد بعد السلام جلس فتشهد ثم سلم) وجملة ذلك أنه متى سجد للسهو كبر للسجود والرفع منه سواء كان قبل السلام أو بعده، فإن كان قبل السلام سلم عقيبه، وإن كان بعده تشهد وسلم سواء كان محله بعد السلام أو كان قبله فنسيه إلى ما بعده وبهذا قال ابن مسعود والنخعي وقتادة والحكم والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي في التشهد والتسليم، وقال أنس والحسن وعطاء ليس فيهما تشهد ولا تسليم.
وقال ابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد، وعن عطاء: إن شاء تشهد وإن شاء ترك ولنا على التكبير قول ابن بحينة: فلما قضى الصلاة سجد سجدتين كبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.
وقول أبي هريرة: ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر.
وأما التسليم فقد ذكره عمران بن حصين في حديثه الذي رواه مسلم قال فيه: سجد سجدتي السهو ثم سلم(1/703)
وفي حديث ابن مسعود: ثم سجد سجدتين ثم سلم وأما التشهد فروي عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه سجود له تسليم فكان له تشهد كسجود صلب الصلاة.
ويحتمل أن لا يجب التشهد لأن ظاهر الحديثين الأولين أنه سلم من غير تشهد وهما أصح من هذه الرواية ولأنه سجود مفرد أشبه سجود التلاوة (فصل) وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل لم تبطل صلاته، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي.
وعن أحمد أن خرج من المسجد أعاد الصلاة، وهو قول الحكم وابن شبرمة وقول مالك وابي
ثور في السجود قبل السلام ووجه الأول أنه جابر للعبادة بعدها فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج (مسألة) (وإن ترك السجود الواجب قبل السلام عمدا بطلت صلاته) لأنه ترك واجبا في الصلاة(1/704)
عمدا، وإن ترك المشروع بعد السلام لم تبطل لأنه جبر للعبادة خارجا عنها فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج وسواء كان محله بعد السلام أو كان قبله فنسيه فصار بعده.
وقد نقل عن أحمد ما يدل على بطلان الصلاة.
ونقل عنه التوقف فإنه قال فيمن نسي سجود السهو: إن كان في سهو خفيف فارجو أن لا يكون عليه.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله فإن كان فيما سها فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال هاه ولم يجب فبلغني عنه أنه يستحب أن يعيد، فإذا كان هذا في السهو ففي العمد أولى وهذا ظاهر المذهب (فصل) ويقول في سجود السهو ما يقول في سجود صلب الصلاة قياساً عليه والله أعلم (باب صلاة التطوع) (مسألة) قال (وهي أفضل تطوع البدن) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة " رواه ابن ماجه.
ولأن فرضها آكد الفروض فتطوعها آكد التطوع(1/705)
(مسألة) (وآكدها صلاة الكسوف والاستسقاء) لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بصلاة الكسوف في حديث ابن مسعود، فذكر الحديث إلى أن قال " فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم " متفق عليه وفي حديث عائشة من رواية أبي داود، أمر بمنبر فوضع له ووعد الناس يوما يخرجون فيه أي في الاستسقاء، وهذا يدل على الاعتناء بها والمحافظة عليها (مسألة) قال (ثم الوتر وليس بواجب، ووقته ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة) الوتر سنة مؤكدة في المنصوص عنه قال أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء، ولا ينبغي أن تقبل له شهادة، أراد بذلك المبالغة في تأكده ولم يرد الوجوب فإنه قد صرح في رواية حنبل فقال: الوتر ليس بمنزلة الفرض، فإن شاء قضى الوتر وان شاء لم يقضه.
وذلك لان البني صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه حضرا وسفرا، وروى أبو(1/706)
أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الوتر حق فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فيلفعل " رواه أبو داود (فصل) واختلف أصحابنا في الوتر وركعتي الفجر فقال القاضي: ركعتا الفجر آكد لاختصاصها بعدد لا يزيد ولا ينقص، وقال غيره: الوتر آكد وهو أصح لأنه مختلف في وجوبه وفيه من الأخبار ما لم يأت مثله في ركعتي الفجر، لكن ركعتي الفجر تليه في التأكد (فصل) وليس الوتر واجبا، وبهذا قال مالك والشافعي، وذهب أبو بكر الى وجوبه وهو قول أبي حنيفة لما ذكرنا من حديث أبي أيوب ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة " وعن بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا " رواه الإمام أحمد، وعن خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة فقال " إن الله أمدكم بصلاة فهي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها(1/707)
لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر " رواه الإمام أحمد وأبو داود، وعن أبي بصرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله زادكم صلاة فصلوها مابين العشاء إلى صلاة الصبح " رواه الأثرم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله ما فرض الله عليه من الصلاة في اليوم والليلة قال " خمس صلوات " قال هل علي غيرها؟ قال " لا أن تطوع " فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال " أفلح الرجل إن صدق " حديث صحيح، وروي أن رجلا من كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا من أهل الشام يدعى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب قال: فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد فمن جاء بهن لم يضيع من حقهن(1/708)
شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة " رواه مسلم.
وعن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم،
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر ثم قال " يا أهل القرآن أوتروا فإن الله يحب الوتر " رواه أحمد، ولأنه يجوز فعله على الراحلة من غير ضرورة فلم يكن واجباً كالسنن، فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره متفق عليه.
وفي لفظ: كان يسبح على الراحلة قبل أي وجة توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة، رواه مسلم، وأحاديثهم قد تكلم فيها، ثم إن المراد بها تأكده وفضيلته وذلك حق وزيادة الصلاة يجوز أن تكون سنة.
والتوعد للمبالغة كقوله " من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا " والله أعلم (فصل) ووقته ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر كذلك ذكره شيخنا في كتاب المغني وذكر(1/709)
في الكافي أنه إلى صلاة الصبح لقول النبي صلى اله عليه وسلم " أن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح " رواه الإمام أحمد في المسند.
ووجه الأول ما روي عن معاذ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " زادني ربي صلاة وهي الوتر ووقتهاما بين العشاء إلى طلوع الفجر " (1) رواه الإمام أحمد: فإن أوتر قبل العشاء لم يصح وتره، وهو قول مالك والشافعي ويعقوب ومحمد.
وقال الثوري وأبو حنيفة: إن صلاه قبل العشاء ناسيا لم يعد والأول أولى لما ذكرنا من الحديثين، ولأنه صلاة قبل الوقت أشبه مالو صلاه نهارا، وإن أخره حتى طلع الصبح احتمل أن يكون أداء لحديث أبي نصرة، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما.
قال شيخنا: والصحيح إن يكون قضاء لحديث معاذ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا خشي أحدكم الصبح يصلي ركعة فأوترت له ما قد صلى " وقال " واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " متفق عليه وقال " أوتروا قبل أن تصبحوا " رواه مسلم
__________
1) قد يقال المراد بصلاة الصبح فيما قبله فهو بمعنى طلوع الفجر فالروايتان بمعنى واحد وهو الذي يتفق مع سائر الاحاديث فيه(1/710)
(فصل) والأفضل فعله في آخر الليل لقول عائشة، من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر، متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من خاف أن لا يقوم
من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم آخر فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل " رواه مسلم.
وهذا صريح فإذا كان له تهجد جعل الوتر بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " رواه مسلم.
فأما إن خاف أن لا يقوم آخر الليل استحب أن يوتر من أوله لما ذكرنا من الحديث، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى به أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء وكلها أحاديث صحاح.
وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر " متى توتر؟ " قال: أوتر من أول الليل، وقال لعمر " متى توتر؟ " قال: آخر الليل، فقال لأبي بكر " أخذ هذا بالحزم، وهذا بالقوة " وأي وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأه بغير(1/711)
خلاف.
وقد دلت عليه الأخبار (فصل) ومن أوتر أول الليل ثم قام للتهجد صلى مثنى مثنى ولم ينقض وتره، روى ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي هريرة وعائشة، وبه قال طاوس والنخعي ومالك والاوزاعي وأبو ثور، قيل لاحمد: ولا ترى نقض الوتر؟ فقال " لا ثم قال وإن ذهب إليه ذاهب فأرجو، قد فعله جماعة.
روي عن عمر وعلي وأسامة وأبي هريرة وابن مسعود وعثمان وسعيد وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال إسحاق، ومعناه إذا قام للتهجد يصلي ركعة شفع الوتر الأول ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر في آخر التهجد: ولعلهم ذهبوا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا وتران في ليلة " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح(1/712)
(فصل) وأقله ركعة لما ذكرنا من حديث أبي أيوب ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة " وروى ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الوتر ركعة من آخر الليل " رواهما مسلم، وأكثره إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة
لما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل إحدى عشر ركعة يوتر منها بواحدة، رواه مسلم وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة وذكر القاضي في المجردانه إن صلى إحدى عشرة ركعة وما شاء منهن بسلام واحد أجزأه والأولى الأقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم (مسألة) (وإن أوتر بتسع سرد ثمانيا وجلس ولم يسلم ثم صلى التاسعة وتشهد وسلم، وكذلك(1/713)
السبع وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن) وجملته أنه يجوز أن يوتر بواحدة وثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وقد ذكرنا دليل الواحد والإحدى عشرة وسنذكر الثلاث إن شاء الله تعالى.
قال الثوري واسحاق: الوتر ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة، وقال ابن عباس إنما هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر من ذلك يوتر بما شاء.
فظاهر قوله أنه لا بأس أن يوتر بأكثر من إحدى عشرة ويدل عليه ما روى عبد الله بن قيس قال: قلت لعائشة بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقل من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة.
رواه أبو داود، وهذا صريح في أنه يزيد على إحدى عشرة (فصل) فإن أوتر بتسع سرد ثمانيا ثم جلس فتشهد ولم يسلم ثم صلى التاسعة وتشهد وسلم ونحو هذا قال إسحاق، وذلك لما روى سعد بن هشام قال: قلت يعني لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر(1/714)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول، قال فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت رواه مسلم.
وحكم السبع حكم التسع لأن في حديث عائشة من رواية أبي داود أوتر بسبع لم يجلس
إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة.
وقال القاضي: لا يجلس في السبع إلا في آخرها كالخمس لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتوضأ ثم صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن، رواه مسلم وأبو داود، وليس في هذا الحديث تصريح بأنه لم يجلس عقيب السادسة،(1/715)
وحديث عائشة حجة عليه.
وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن، روى ذلك عن زيد بن ثابت لما روى عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شئ منها إلا في آخرها، متفق عليه (مسألة) (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بتسليمتين) كذلك ذكره أبو الخطاب، وممن روي عنه أنه أوتر بثلاث عمر وعلي وأبي وأنس وابن مسعود وابن عباس وأبو أمامة وعمر بن عبد العزيز وبه قال أصحاب الرأي، وقد دل على ذلك حديث أبي أيوب.
وقال أبو موسى: ثلاث أحب إلي من واحدة، وخمس أحب إلي من ثلاث، وسبع أحب إلي من خمس، وتسع أحب إلي من سبع إذا ثبت ذلك فاختيار أبي عبد الله أن يفصل بن الواحدة والثنتين بالتسليم قال: وإن أوتر بثلاث لم يسلم فيهن لم يضيق عليه عندي.
وممن كان يسلم من كل ركعتين ابن عمر حتى يأمر ببعض حاجته(1/716)
وهو مذهب معاذ القارئ ومالك والشافعي واسحاق، وقال الأوزاعي: إن فصل فحسن، وإن لم يفصل فحسن.
وقال أبو حنيفة: لا يفصل بسلام، واستدل بقول عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وقولها كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا.
وظاهر هذا أنه كان يصلي الثلاث بتسليم واحد ولنا ما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، رواه مسلم.
وعن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوتر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم " رواه الأثرم، وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها، رواه(1/717)
الإمام أحمد وهذا نص، فأما حديث عائشة فليس فيه تصريح بأنها بتسليم واحد.
فإن صلى خلف إمام يصلي الثلاث بتسليم تابعه لئلا يخالف إمامه وهو قول مالك والله أعلم (مسألة) قال (يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد) يستحب أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث بذلك، وبه قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: يقرأ في الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين، وروي نحوه عن أحمد وهو قول مالك في الوتر وقال في الشفع: لم يبلغني فيه شئ معلوم لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الاولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين، رواه ابن ماجه.(1/718)
ولنا ما روى أبي بن كعب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، رواه أبو داود وابن ماجة.
وحديث عائشة في هذا لا يثبت يرويه يحيى بن أيوب وهو ضعيف، وقد أنكر أحمد ويحيى زيادة المعوذتين (مسألة) قال (ثم يقنت فيها بعد الركوع) القنوت مسنون في الركعة الأخيرة من الوتر في جميع السنة في المنصور عند أصحابنا وهو قول ابن مسعود وابراهيم واسحاق وأصحاب الرأي، وعنه لا يقنت في إلا في النصف الأخير من رمضان، روى ذلك عن علي وأبي وهو قول مالك والشافعي اختاره الأثرم لما روي أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بهم عشرين ولا يقنت إلا في النصف الثاني، رواه أبو داود.
وهذا كالإجماع.
وقال قتادة: يقنت في السنة كلها إلا في النصف الأول من رمضان لهذا الخبر.
والرواية الأولى هي المشهورة قال أحمد في رواية المروذي: كنت(1/719)
أذهب إلى أنه في النصف من شهر رمضان ثم إني قنت هو دعاء وخير وذلك لما روى أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع.
وحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره " اللهم
إني أعوذ برضاك من سخطك " الحديث، وكان للدوام، وفعل أبي يدل على أنه رآه، ونحن لا ننكر الاختلاف في هذا، ولأنه وتر فيشرع فيه القنوت كالنصف الأخير (فصل) ويقنت بعد الركوع نص عليه أحمد، وروي نحو ذلك من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال الشافعي.
وقد قال أحمد: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، وإن قنت قبله فلا بأس ونحوه قال أيوب السختياني لما روى حميد قال: سئل أنس عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده، رواه ابن ماجه.
وقال مالك وأبو حنيفة: قبل الركوع، روى ذلك عن أبي وابن مسعود وأبي موسى والبراء وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز، لأن في حديث(1/720)
أبي ويقنت قبل الركوع.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع ولنا ما روى أبو هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع، رواه مسلم.
وحديث ابن مسعود يرويه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث.
وحديث أبي قد تكلم فيه أيضا وقبل: ذكر القنوت فيه غير صحيح والله أعلم (فصل) ويستحب أن يقول في قنوت الوتر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فروى الحسن بن علي قل: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت " رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن، ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت(1/721)
شيئا أحسن من هذا.
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " رواه الطيالسي.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قنت في صلاة الفجر فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل
عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، بسم الله الرحمن الرحيم " اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونجفد، نرجوا رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب.
وهاتان سورتان في مصحف أبي، وقال ابن سيرين: كتبهما أبي في مصحفه يعني إلى قوله بالكفار ملحق - نحفد نبادر وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع، والجد بكسر الجيم الحق لا اللعب، وملحق(1/722)
بكسر الحاء لاحق.
هكذا روي هذا الحرف يقال لحقت القوم وألحقتهم بمعنى واحد، ومن فتح الحاء أراد أن الله يحلقه إياه وهو معنى صحيح غير أن الرواية هي الأولى قال الخلال: سألت ثعلبا عن محلق وملحق فقال: العرب تقولهما معا (فصل) إذا أخذ الإمام في القنوت أمن من خلفه لا نعلم فيه خلافاً قال القاضي: وإن دعا معه فلا بأس فإن لم يسمع قنوت الإمام دعا نص عليه.
ويرفع يديه في حال القنوت قال الأثرم: كان أبو عبد الله يرفع يديه في القنوت إلى صدره يروي ذلك عن ابن مسعود وعمر وابن عباس وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي، وأنكره الاوزاعي ومالك ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك ولا تدع بظهورها، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك " رواه أبو داود وابن ماجه.
وروى السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/723)
كان إذا دعا رفع يديه ومسح وجهه بيديه.
رواه أبو داود (مسألة) وهل يمسح وجهه بيديه؟ على روايتين (إحداهما) يمسح، وهو قول الحسن وهو الصحيح لما ذكرنا من الحديثين (والثانية) لا يستحب لأنه دعاء في الصلاة فلم يمسح وجهه فيه كسائر دعائها (مسألة) (ولا يقنت في غير الوتر) وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبي يالدرداء.
وقال مالك والشافعي: يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان لان أنساً قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
من المسند ولإن
عمر كان يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة وغيرهم ولنا ما روى مسلم في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يذعو على حي من أحياة العرب ثم تركه، وروى ابو هريرة وابن مسعود نحوه مرفوعا.
وعن أبي مالك الأشجعي(1/724)
قال: قلت لأبي يا أبة إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة نحو خمس سنين أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال أي نبي محدث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ورواه أحمد وابن ماجه والنسائي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم رواه سعيد، وروى سعيد أيضاً عن هشيم عن عروة الهمداني عن الشعبي قال: لما قنت علي في صلاة الصبح أنكر ذلك لناس فقال علي: أنا إنما استنصرنا على عدونا.
هذا وحديث أنس يحتمل أنه أراد طول القيام فانه سمى قنوتا.
ويحتمل أنه كان يقنت إذا دعا لقوم أو دعا على قوم ليكون موافقاً لما ذكرنا من الحديثين قنوت عمر يحمل على أنه كان في أوقات النوازل فإن أكثر الروايات عنه أنه لم يكن يقنت، وعن سعيد بن جبير قال أشهد أني سمعت ابن عباس يقول أن القنوت في صلاة الفجر بدعة رواه الدارقطني(1/725)
(مسألة) قال (ألا إن ينزل بالمسلمين نازلة فللإمام خاصة القنوت في صلاة الفجر) متى نزل بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح في المنصوص عن أحمد في رواية الأثرم، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن القنوت في الفجر فقال لو قنت أياما معلومة ثم ترك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة لما ذكرنا من الحديث، وفعل علي حين قال إنما استنصرنا على عدونا.
هذا ولا يقنت آحاد الناس وعنه يقنت رواها القاضي عن أحمد.
والمشهور في رءوس المسائل الأول.
ويقول في قنوته نحوا مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقد روي عن عمر أنه كان يقول في القنوت اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح دات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون
رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد(1/726)
عن القوم المجرمين، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك " رواه أبو داود (فصل) ولا يقنت في غير الفجر والوتر، وقيل يقنت في صلوات الجهر كلها قياسا على الفجر وقال أبو الخطاب: يقنت في الفجر والمغرب لأنهما صلاتهما جهر في طرفي النهار، وعنه يقنت في جميع الصلوات، وهو مذهب الشافعي.
والأول أولى لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه إلا في الفجر والوتر (فصل) قال أحمد: الأحاديث التي جاءت أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم أوتر بركعة كان قبلها صلاة متقدمة.
قيل له: أوتر في السفر بواحدة قال: يصلي قبلها ركعتين.
فقيل له رجل تنفل بعد عشاء الآخرة ثم تعشى ثم أراد أن يوتر يعجبك أن يركع ركعتين ثم يوتر؟ قال: نعم.
وسئل عمن(1/727)
صلى من الليل ثم نام ولم يوتر فلا يعجبني أن يركع ركعتين ثم يسلم ثم يوتر.
وسئل عن رجل أصبح ولم يوتر قال: لا يوتر بركعة إلا أن يخاف طلوع الشمس.
قيل له: فإذا لحق مع الإمام ركعة الوتر؟ قال: إن كان الإمام يفصل بينهن بسلام أجزأته الركعة وإلا تبعه ويقضي ما مضى مثل ما صلى فإذا فرغ قام يقضي ولا يقنت.
قيل لأبي عبد الله: رجل قام يتطوع ثم بدا له فجعل تلك الركعة وترا قال لا كيف يكون هذا قد قلب نيته؟ قيل له: أيبتدئ الوتر؟ قال نعم.
قال أبو عبد الله: إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت، وقد روي عن عمر أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم كبر حين يركع.
وروي ذلك عن علي وابن مسعود والبراء وهو قول الثوري ولا نعلم فيه مخالفا (فصل) وإذا فرغ من وتره استحب أن يقول: سبحان الله الملك القدوس - ثلاثا - ويمد بها صوته في الثالثة لما روى عبد الرحمن بن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر (بسبح اسم ربك(1/728)
الاعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد) وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال " سبحان
الملك القدوس " ثلاث مرات ثم يرفع صوته بها في الثالثة رواه الإمام أحمد (مسألة) قال (ثم السنن الراتبة، وهي عشر ركعات، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وهما آكد، قال أبو الخطاب: وأربع قبل العصر) السنن الرواتب مع الفرائض عشر ركعات كما ذكر، وقال الشافعي: قبل الظهر أربعا لما روى عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، رواه مسلم قال أبو الخطاب: وأربع قبل العصر لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعا " رواه أبو داود.
وعن علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم(1/729)
يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن سمعه من المسلمين والمؤمنين رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن ولنا ما روى ابن عمر قال: حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح.
وكانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين متفق عليه، وروى الترمذي مثل ذلك عن عائشة مرفوعا وقال هو حديث صحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " ترغيب فيها ولم يجعلها من السنن الرواتب بدليل أن ابن عمر لم يحفظها من النبي صلى الله عليه وسلم.
وحديث عائشة قد اختلف فيه فروي عنها مثل رواية ابن عمر(1/730)
(فصل) وآكدها ركعتا الفجر لقول عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شئ من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح، متفق عليه وقال " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم " صلوهما ولو طردتكم الخيل " رواه أبو داود، ويستحب تخفيفهما فإن عائشة
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخفف حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بأم الكتاب متفق عليه.
ويستحب أن يقرأ فيهما وفي ركعتي المغرب (قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد) لما روى ابن مسعود قال: ما أحصي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر (بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) رواه الترمذي وابن ماجة.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر (بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد) قال الترمذي هو حديث حسن.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في(1/731)
ركعتي الفجر (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) رواه مسلم (فصل) ويستحب أن يضطجع بعد ركعتي الفجر على جنبه الأيمن، وكان أبو موسى ورافع بن خديج وأنس يفعلونه، وأنكره ابن مسعود، واختلف فيه عن ابن عمر ولنا ما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب.
وروى عن أحمد أنه ليس بسنة لأن ابن مسعود أنكره، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم أولى.
ويستحب فعل الركعتين قبل الفجر والركعتين(1/732)
بعد المغرب وبعد العشاء في بيته لما ذكرنا من حديث ابن عمر قال أبو داود: ما رأيت أحمد ركعهما يعني ركعتي الفجر في المسجد قط إنما كان يخرج فيقعد في المسجد حتى تقام الصلاة، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الركعتين بعد الظهر أين يصليان؟ قال: في المسجد ثم قال: أما الركعتان قبل الفجر ففي بيته، وبعد المغرب ففي بيته، ثم قال ليس ههنا شئ آكد من الركعتين بعد المغرب
يعني فعلهما في بيت.
قيل له: فإن كان منزل الرجل بعيدا؟ قال: لا أدري وذلك لما روى سعد ابن إسحاق عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد بني عبد الأشهل فصلى المغرب فرآهم يتطوعون بعدها فقال " هذه صلاة البيوت " رواه أبو داود، وعن رافع بن خديج قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عبد الأشهل فصلى بنا المغرب في مسجدنا ثم قال " اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم " رواه ابن ماجه(1/733)
(فصل) وكل سنة قبل الصلاة فوقتها من دخول وقتها إلى فعل الصلاة، وكل سنة بعدها فوقتها من فعل الصلاة إلى خروج وقتها والله أعلم (مسألة) (ومن فاته شئ من هذه السنن سن له قضاؤه) وهذا اختيار ابن حامد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعضها فروي عنه عليه السلام أنه قضى ركعتي الفجر مع الفجر حين نام عنها وقضى الركعتين اللتين قبل الظهر بعد العصر وقسنا الباقي عليه.
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر " رواه أبو داود والترمذي من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قال أحمد: أحب أن يكون للرجل شئ من النوافل يحافظ عليه إذا فات قضاه.
وقال بعض أصحابنا: لا يقضي إلا ركعتا الفجر إلى وقت الضحى وركعتا الظهر فإن أحمد قال: ما أعرف وترا بعد الفجر، وركعتا الفجر تقضي إلى وقت الضحى.(1/734)
وقال مالك: يقضي إلى وقت الزوال ولا يقضي بعده.
وقال النخعي وسعيد بن جبير والحسن: إذا طلعت الشمس فلا وتر.
والصحيح الأول لما ذكرنا من النص والمعنى (فصل) ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر وأربع بعدها لما روت ام حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار " قال الترمذي حديث صحيح، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء " رواه أبو داود.
وعلى أربع قبل العصر لما ذكرنا
وعن علي رضي الله عنه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعا قبل الظهر إذا زالت الشمس وركعتين بعدها، وأربعا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالسلام على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين، رواه ابن ماجه، وعلى ست بعد المغرب لما روى أبو هريرة قال قال(1/735)
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم بينهن بسوء عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة " رواه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي خثعم وضعفه البخاري.
وعلى أربع بعد العشاء، قالت عائشة: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات، رواه أبو داود (فصل) واختلف في أربع ركعات منهما ركعتان قبل المغرب بعد الأذان، والظاهر عن أحمد جوازهما وعدم استحبابهما، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله الركعتان قبل المغرب؟ قال: ما فعلته قط إلا مرة واحدة حين سمعت الحديث، وقال فيهما أحاديث جياد أو قال صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين إلا أنه قال لمن شاء، فمن شاء صلى، وقال هذا شئ ينكره الناس وضحك كالمتعجب وقال هذا عندهم عظيم.
ووجه جوازهما ما روى أنس قال: كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/736)
ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، قال المختار بن فلفل: فقلت له أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا، متفق عليه.
وقال أنس: كنا بالمدينة إذا أذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فصلوا ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها.
رواه مسلم، وعن عبد الله المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلوا قبل المغرب ركعتين " ثم قال " صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء " خشية أن يتخذها الناس سنة، متفق عليه (الثاني) الركعتان بعد الوتر وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب فعلهما مع الجواز.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الركعتين بعد الوتر فقال: أرجو أن فعله إنسان أن لا يضيق عليه ولكن تكون وهو جالس كما جاء الحديث
قلت تفعله أنت؟ قال لا ما أفعله.
وعدهما أبو الحسن الآمدي من السنن الراتية.
قال شيخنا: والصحيح أنهما ليستا بسنة لأن أكثر من وصف تهجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكرهما منهم ابن عباس(1/737)
وزيد بن خالد وعائشة فيما رواه عنها عروة وعبد الله بن شقيق والقاسم واختلف فيه عن أبي سلمة وأكثر الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم على تركهما.
ووجه قول من قال بالاستحباب ما روى سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة، وقال أبو سلمة سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة يصلي ثماني ركعات ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.
رواهما مسلم وروى ذلك أبو أمامة أيضا (فصل) في صلوات معينة سوى ما ذكرنا (منها) صلاة التراويح، والضحى، وسجود التلاوة(1/738)
والشكر، وسيأتي ذكرها إن شاء الله (ومنها تحية المسجد) فيستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين قبل جلوسه لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " متفق عليه.
فإن جلس قبل الصلاة سن له أن يقوم فيصلي لما روى جابر قال: جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال " يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما " رواهما مسلم (فصل) ويستحب أن يتطوع مثل تطوع النبي صلى الله عليه وسلم فإن علياً رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا يعني من قبل المشرق مقدارها من صلاة العصر من ههنا يعني من قبل المغرب قام فصلى ركعتين ثم تمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا يعني من قبل المشرق مقدارها من صلاة الظهر قام فصلى أربعا، وأربعا قبل(1/739)
الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها، وأربعا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالسلام على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين، فتلك ست عشرة ركعة تطوع النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار، وقل من يداوم عليها، من المسند (فصل) ومنها صلاة الاستخارة فروى جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول " إذا هم أحدكم بالأمر فيلركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال - في عاجل أمري وآجله، فيسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري - أو قال - في(1/740)
عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ورضني به، ويسمي حاجته " أخرجه البخاري، ورواه الترمذي وفيه " ثم رضني به " (فصل) ومنها صلاة الحاجة.
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله تعالى، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضى إلا قضيتها يا أرحم الراحمين " رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث غريب (فصل) في صلاة التوبة عن علي رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال:(1/741)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له " ثم قرأ (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) إلى آخرها إلا انه رواه أبو داود
والترمذي وقال حديث حسن غريب وفي إسناده قال لأنه من رواية أبي الورقاء وهو يضعف في الحديث (فصل) فأما صلاة التسبيح فإن أحمد قال ما يعجبني قيل له لم؟ قال ليس فيها شئ يصح ونفض يده كالمنكر ولم يرها مستحبة.
قال شيخنا: وإن فعلها إنسان فلا بأس فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها، وقد رأى غير واحد من أهل العلم صلاة التسبيح منهم ابن المبارك، وذكروا الفضل فيها.
ووجهها ما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس ابن عبد المطلب " يا عباس يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره سره(1/742)
وعلانيته، أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في الأربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة " رواه ابن خزيمة في صحيحه والطبراني في معجمه وفي آخره " فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر ورمل عالج غفر الله لك " (فصل) ويستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين عقيب الوضوء إذا كان في غير أوقات النهي(1/743)
لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر " يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة " فقال: ما عملت عملا أرجى عندي فإني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي، متفق عليه، واللفظ للبخاري، وعن بريدة قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالا فقال " يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك "
وذكر الحديث وفيه قال: وقال لبلال " بم سبقتني إلى الجنة؟ " قال: ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بهذا " ورواه الإمام أحمد وهذا لفظه والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب (فصل) وقد وصف عبد الله بن المبارك صلاة التسبيح فذكر أنه يقول قبل القراءة وبعد الاستفتاح(1/744)
خمس عشرة مرة سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يقولها بعد القراءة عشرا، ويقولها في الركوع عشرا، وفي الرفع منه عشرا، وفي السجود عشرا، وفي الرفع منه عشرا، وفي السجدة الثانية عشرا، فتلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة، قال أبو وهب: وأخبرني عبد العزيز هو ابن أبي رزمة عن عبد الله قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثا، ثم يسبح التسبيحات وعن أبي رزمة قال: قلت لعبد الله بن المبارك إن سها فيها أيسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا؟ قالا لا إنما هي ثلاثمائة تسبيحة رواه الترمذي (مسألة) (ثم التراويح وهي عشرون ركعة يقوم بها في رمضان في جماعة ويوتر بعدها في الجماعة) التراويح سنة مؤكدة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر(1/745)
له ما تقدم من ذنبه " وعن عائشة: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى في القابلة وكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " وذلك في رمضان.
رواه مسلم، وعن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة فلم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة، قال فقال " ان الرجل اذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " قال فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا(1/746)
الفلاح قال قلت وما الفلاح؟ قال السحور ثم لم يقم بقية الشهر.
رواه الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الناس يصلون في ناحية المسجد فقال " ما هؤلاء؟ " فقيل هؤلاء أناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته فقال " أصابوا ونعم ما صنعوا " رواه أبو داود وقال: يرويه مسلم بن خالد وهو ضعيف، حتى كان زمن عمر رضي الله عنه فجمع الناس على أبي بن كعب.
فروى عبد الرحمن بن عبد القادر قال: خرجت مع عمر ليلة في رمضان فإذا الناس متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل.
وكان الناس يقومون أوله، أخرجه البخاري(1/747)
(فصل) وعددها عشرون ركعة وبه قال الثوري وابو حنيفة والشافعي، وقال مالك: ست وثلاثون، وزعم أنه الأمر القديم وتعلق بفعل أهل المدينة، فإن صالحا مولى التوأمة قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس ولنا أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرون ركعة.
وروى السائب بن يزيد نحوه، وروى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة، وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أنه أمر رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة، وهذا كالإجماع، وأما ما روى صالح فإن صالحا ضعيف، ثم لا يدري من الناس الذين أخبر عنهم وليس ذلك بحجة، ثم لو ثبت أن أهل المدينة كلهم فعلوه لكان ما فعله عمر وعلي وأجمع عليه الصحابة في عصرهم أولى بالاتباع.
قال بعض أهل العلم(1/748)
إنما فعل هذا أهل المدينة لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات واتباع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق وأولى (فصل) والأفضل فعلها في الجماعة نص عليه في رواية يوسف بن موسى ويوتر بعدها في الجماعة لما ذكرنا من حديث يزيد بن رومان.
قال أحمد: كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في الجماعة، وبهذا قال المزني وابن عبد الحكم وجماعة من الحنفية.
وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب إلينا لما روى زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال لهم " ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب(1/749)
عليكم فعليكم الصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " رواه مسلم ولنا إجماع الصحابة على ذلك، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أهله وأصحابه في حديث أبي ذر وقوله " ان الرجل اذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " وهذا خاص في قيام رمضان فيقدم على عموم ما احتجوا به وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك معلل بخشية فرضه عليهم ولهذا ترك القيام بهم معللا بذلك أو خشية أن يتخدها الناس فرضا، وقد أمن هذا بعده (فصل) قال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف عليهم ولا يشق لا سيما في الليالي القصار وقال القاضي: لا يستحب النقصان من ختمة في الشهر ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة على من خلفه، قال الشيخ رحمه الله والتقدير بحال الناس أولى، فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل كما جاء في حديث أبي ذر قال فقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح - يعني السجور.
وعن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على(1/750)
عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وكانوا يقومون بالمائتين، وكانوا
يتوكؤن على عصيهم في عهد عثمان رضي الله عنه من شدة القيام، رواه البيهقي.
وعن أبي عثمان النهدي قال: دعا عمر بن الخطاب بثلاثة قراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس بثلاثين آية وأوسطهم أن يقرأ خمسا وعشرين آية، وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية، رواه البيهقي، وكان السلف يستعجلون خدمهم بالطعام مخافة طلوع الفجر (فصل) فإن كان له تهجد جعل الوتر بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم " واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " (مسألة) (فإن أحب متابعة الإمام فأوتر معه قام إذا سلم الامام فشفعها بأخرى) قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الرجل اذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته " قال وكان أحمد يقوم مع الناس ويوتر معهم(1/751)
وأخبرني الذي كان يؤمه في شهر رمضان أنه كان يصلي معهم التراويح كلها والوتر قال: وينتظرني بعد ذلك حتى أقوم ثم يقوم كأنه يذهب إلى حديث أبي ذر.
وإذا أوتر مع الإمام شفعها بأخرى إذا سلم إمامه لقوله عليه السلام " لا وتران في ليلة " ويؤخر وتره إلى آخر الليل للحديث المذكور.
قال أبو داود: وسئل أحمد عن قوم صلوا في رمضان خمس تراويح لم يتروحوا بينها قال، لا بأس.
وسئل عمن أدرك من ترويحة ركعتين يصلي إليها ركعتين فلم ير ذلك، وقيل لاحمد: يؤخر القيام يعني في التراويح إلى آخر الليل؟ لا سنة المسلمين أحب إلي (فصل) ويجعل ختم القرآن في التراويح، نص عليه في رواية الفضل بن زياد قال: حتى يكون لنا دعاء بين اثنين قلت: كيف أصنع قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع(1/752)
وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام.
قلت بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال حنبل: وسمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة قل أعوذ برب الناس فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع قلت إلى أي شئ تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة وسفيان بن عيينة يفعلونه، قال العباس بن عبد العظيم: أدركت الناس بالبصرة يفعلونه وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً وذكر عن عثمان بن عفان
(فصل) واختلف أصحابنا في قيام ليلة الثلاثين من شعبان في الغيم، فحكي عن القاضي قال: جرت هذه المسألة في وقت شيخنا أبي عبد الله بن حامد فصلى وصلاها القاضي أبو يعلى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه " فجعل القيام مع الصيام، وذهب أبو حفص العكبري إلى ترك القيام وقال: المعول في الصيام على حديث ابن عمر وفعل الصحابة والتابعين ولم ينقل عنهم قيام تلك الليلة، واختاره الميموني لأن الأصل بقاء شعبان وإنما صرنا إلى الصوم(1/753)
احتياطا للواجب والصلاة غير واجبة فتبقى على الأصل (فصل) وسئل أبو عبد الله إذا قرأ (قل أعوذ برب الناس) يقرأ من البقرة شيئاً؟ قال: لا ولم يستحب أن يصل ختمته بقراءة شئ، ولعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح.
وسئل عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة ترى لمن خلفه أن يقرأها؟ قال نعم قد كان بمكة يوكلون رجلا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها، فإذا كان ليلة الختمة أعاده، وإنما استحب ذلك لتكمل الختمة ويعظم الثواب.
(مسألة) (ويكره التطوع بين التراويح، وفي التعقيب روايتان وهو أن يتطوع بعد التراويح والوتر في جماعة) يكره التطوع بين التراويح نص عليه أحمد وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب، رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة وأبو الدرداء وعقبة بن عامر، وذكر لأبي عبد الله رخصة فيه عن بعض(1/754)
الصحابة فقال: هذا باطل إنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير، وقال أحمد يتطوع بعد المكتوبة ولا يتطوع بين التراويح، وروى الأثرم عن أبي الدرداء أنه أبصر قوما يصلون بين التراويح فقال: ما هذه الصلاة؟ أتصلي وإمامك بين يديك ليس منا من رغب عنا، وقال من قلة فقه الرجل أنه يرى أنه في المسجد وليس في صلاة (فصل) فأما التعقيب أو صلاة التراويح في جماعة أخرى فعنه الكراهة نقلها عنه محمد بن الحكم إلا أنه قول قديم، قال أبو بكر وإذا أخر الصلاة إلى نصف الليل أو آخره لم يكره رواية واحدة وإنما
الخلاف فيما إذا رجعوا قبل الإمام، وعنه لا بأس به، نقلها عنه الجماعة وهو الصحيح لقول أنس رضي الله عنه ما يرجعون إلا بخير يرجونه، أو لشر يحذرونه، وكان لا يرى به بأسا، ولأنه خير وطاعة فلم يكره كما لو أخره إلى آخر الليل(1/755)
(فصل) ويستحب أن يجمع أهله عند ختم القرآن وغيرهم لحضور الدعاء، وكان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده، وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره، ورواه ابن شاهين مرفوعا، واستحسن أبو عبد الله التكبير عند آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن، لأنه يروي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك، رواه القاضي باسناده في الجامع.
ولا بأس بقراءة القرآن في الطريق ولا وهو مضطجع، قال اسحاق بن إبراهيم خرجت مع أبي عبد الله إلى الجامع فسمعته يقرأ سورة الكهف، وعن إبراهيم التيمي قال كنت أقرأ على أبي موسى وهو يمشي في الطريق فإذا قرأت السجدة قلت له أسجد في الطريق؟ قال نعم، وعن عائشة أنها قالت: إني لأقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري، رواه الفيرباني في فضائل القرآن (فصل) ويستحب ختم القرآن في كل سبعة أيام، قال عبد الله بن أحمد كان أبي يختم القرآن(1/756)
في النهار في كل سبع يقرأ كل يوم سبعا لا يكاد يتركه نظرا وذلك لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو " اقرأ القرآن في كل سبع ولا تزيدن على ذلك " رواه أبو داود وعن أوس بن حذيفة قال: قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أبطأت عنا الليلة قال " إنه طرأ على حزبي من القرآن فكرهت أن أجئ حتى أختمه " قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر وثلاثة عشر وحزب المفصل وحده، رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد وفيه حزب المفصل من ق حتى يختم، رواه الطبراني فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزب القرآن؟ فقالوا: كان يحزبه ثلاثا وخسما وذكره وإن قرأه في ثلاث فحسن لأنه روي عن عبد الله بن عمرو قال: قلت لرسول صلى الله عليه وسلم إن لي قوة قال " اقرأه في ثلاث "
رواه أبو داود فإن قرأه في أقل من ثلاث فعنه يكره ذلك لما روى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله(1/757)
صلى الله عليه وسلم " لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث " رواه أبو داود وعنه أن ذلك غير مقدر بل هو على حسب ما يجد من النشاط والقوة لأن عثمان كان يختمه في ليلة، وروي ذلك عن جماعة من السلف.
والأفضل الترتيل لقول الله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) وعن عائشة أنها قالت: لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة رواه مسلم وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث، رواه أبو عبيد في فضائل القران، وقال ابن مسعود فيمن قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهذ كهذ الشعر ونثر كنثر الدقل.
ويكره أن يؤخر ختمه أكثر من أربعين يوما لأن عبد الله بن عمرو سأل النبي صلى الله عليه وسلم في كم يختم القرآن؟ قال " في أربعين يوما - ثم قال - في شهر - ثم قال - في عشرين - ثم قال - في خمس عشرة - ثم قال - في عشر - ثم قال - في سبع " لم ينزل من سبع أخرجه أبو داود وقال أحمد أكثر ما سمعت أن يختم القرآن في أربعين ولأن تأخيره أكثر من هذا يفضي إلى نسيانه والتهاون به وهذا إذا لم يكن عذر فأما مع العذر فذلك واسع(1/758)
(فصل) قال أبو داود: قلت لأحمد قال ابن المبارك: إذا كان الشتاء فاختم القرآن في أول الليل، وإذا كان الصيف فاختمه في أول النهار فكأنه أعجبه لما روى طلحة بن مصرف قال: أدركت أهل الخير من صدر هذه الأمة يستحبون الختم في أول الليل وأول النهار يقولون: إذا ختم في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإذا ختم في أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح.
وقال بعض العلماء: يستحب أن يجعل ختمة النهار في ركعتي الفجر أو بعدهما، وختمة الليل في ركعتي المغرب أو بعدهما (فصل) وكره أحمد قراءة القرآن بالالحان وقال: هي بدعة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في أشراط الساعة " أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم غناء " ولأن معجزة القرآن في لفظه ونظمه والألحان تغيره.
قال شيخنا: وكلام أحمد في هذا محمول(1/759)
على الإفراط في ذلك بحيث يجعل الحركات حروفا، ويمد في غير موضعه.
أما تحسين القرآن والترجيع فلا يكره فإن عبد الله بن المغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح قال: فقرأ ابن مغفل ورجع في قراءته.
وفي لفظ قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته قال معاوية بن قرة: لولا إني أخاف أن يجتمع علي الناس لحكيت لكم قراءته.
رواهما مسلم، وفي لفظ أأأ، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به " رواه مسلم، وقال " زينوا القرآن بأصواتكم " وقال " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " رواه البخاري، قال أبو عبيد وجماعة: يتغنى بالقرآن يستغني به، وقالت طائفة معناه يحسن قراءته ويترنم به ويرفع صوته به كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرته لك تحبيراً، وقال(1/760)
الشافعي يرفع صوته به.
وقال أبو عبيد: يقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى: وعلى كل حال فتحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب ما لم يخرج بذلك إلى تغيير لفظه أو زيادة حروف فيه لما ذكرنا من الأحاديث.
وروي عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت أسمع قراءة رجل في المسجد لم نسمع قراءة أحسن من قراءته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع ثم قال " هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا " (مسألة) (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار) قد ذكرنا النوافل المعينة - فأما النوافل المطلقة فتستحب في جميع الأوقات إلا في أوقات النهي لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى: وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار.
قال أحمد: ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) وكان(1/761)
قيام الليل مفروضا بقوله تعالى (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) ثم نسخ بآخر السورة.
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل " رواه مسلم والترمذي وقال
هذا حديث حسن.
وأفضلها وسط الليل (فصل) والنصف الأخير أفضل من الأول لما روى عمرو بن عنبسة قال قلت يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال " جوف الليل الآخر فصل ما شئت " رواه أبو داود.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه " وفي حديث ابن عباس في صفة تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نام حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ - فوصف تهجده قال - ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن.
وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويحيي آخره: ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى(1/762)
حاجته ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن له حاجة توضأ.
وقالت ما ألفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر الأعلى في بيتي إلا نائما، متفق عليهن.
ولأن آخر الليل ينزل فيه الرب عزوجل إلى السماء الدينا، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟ " قال أبو عبد الله: إذا أغفى يعني بعد التهجد فإنه لا يبين عليه السهر، فإذا لم يغف بين عليه (فصل) ويستحب أن يقول عند انتباهه ما روى عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال اللهم(1/763)
غفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته " رواه البخاري.
وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يتهجد من الليل قال " اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك
أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله " متفق عليه.
وفي مسلم " أنت رب السموات والأرض ومن فيهن - وفيه - أنت إلهي لا إله إلا أنت " وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته قال " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة،(1/764)
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " رواه مسلم (فصل) ويستحب أن يتسوك لما روى حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، متفق عليه.
وعن عائشة قالت: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي، أخرجه مسلم.
ويستحب أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين " وعن زيد بن خالد أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما،(1/765)
ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة، قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة.
أخرجهما مسلم، وقد اختلف في عدد الركعات في تهجد النبي صلى الله عليه وسلم ففي هذين الحديثين أنه ثلاث عشرة ركعة، وقالت عائشة ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا.
وفي لفظ قالت: كانت صلاته في رمضان وغيره بالليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، وفي لفظ كان يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين
كل ركعتين ويوتر بواحدة متفق عليه.
فلعلها لم تعد الركعتين الخفيفتين اللتين ذكرهما غيرها، ويحتمل أنه صلى في ليلة ثلاث عشرة وفي ليلة إحدى عشرة (فصل) ويستحب أن يقرأ حزبه من القرآن في تهجده فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله(1/766)
وهو مخير بين الجهر في القراءة والإسرار، فإن كان الجهر أنشط له في القراءة أو بحضرته من يستمع قراءته أو ينتفع بها فالجهر أفضل، وإن كان قريباً منه من يتهجد أو من يستضر برفع صوته فالإسرار أولى لما روى أبو سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر فقال " ألا أن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة - أو قال - في الصلاة " رواه أبو داود، وإلا فليفعل ما شاء.
قال عبد الله بن أبي قيس: سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت ربما أسر وربما جهر.
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وقال ابن عباس كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت، رواه أبو داود، وعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك " قال: إني أسمعت من(1/767)
ناجيت يا رسول الله قال " ارفع قليلا " وقال لعمر " مررت وأنت تصلي رافعا صوتك " قال فقال يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان قال " اخفض من صوتك شيئا " رواه أبو داود (فصل) ومن كان له تهجد ففاته استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل " وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثلثي عشرة ركعة قالت: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح، وما صام شهرا متتابعا إلا رمضان، أخرجهما مسلم
(مسألة) (وصلاة الليل مثنى مثنى فإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس والأفضل مثنى) قوله مثنى يعني يسلم من كل ركعتين - والتطوع قسمان: تطوع الليل، وتطوع النهار، فلا يجوز تطوع الليل إلا مثنى مثنى، وهذا قول كثير من أهل العلم منهم أبو يوسف ومحمد.
وقال القاضي: لو صلى ستا في ليل أو نهار كره وصح، وقال أبو حنيفة: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستا وإن شئت ثمانيا(1/768)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل مثنى مثنى " متفق عليه (فصل) فأما صلاة النهار فتجوز أربعا فعل ذلك ابن عمر.
وقال إسحاق صلاة النهار اختار أربعا وإن صلى ركعتين جاز لما روي عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أربع قبل الظهر لا يسلم فيهن تفتح لهن أبواب السماء " رواه أبو داود.
والأفضل مثنى، وقال إسحاق الأفضل أربعا ويشبهه قول الأوزاعي وأصحاب الرأي وحديث أبي أيوب، ولنا ما روى علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " رواه أبو داود، ولأنه أبعد للسهو وأشبه بصلاة الليل تطوعات النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح ركعتان.
وذهب الحسن وسعيد بن جبير ومالك إلى أن تطوع النهار مثنى مثنى لحديث علي بن عبد الله البارقي وقد ذكرنا حديث أبي أيوب، وحديث البارقي تفرد بذكر النهار من بين سائر الرواة ونحمله على الفضيلة جمعاً بين الحديثين(1/769)
(فصل) قال بعض أصحابنا لا تجوز الزيادة في النهار على أربع وهذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي يجوز ويكره، ولنا أن الأحكام إنما تتلقى من الشارع ولم يرد شئ من ذلك والله أعلم (فصل) ويستحب التنفل بين المغرب والعشاء لما روي عن أنس بن مالك في هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الآية قال: كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء يصلون، رواه أبو داود، وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة " قال الترمذي هذا حديث غريب (فصل) وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفه أو تطويله فالأفضل اتباعه فيه فإنه عليه
السلام لا يفعل إلا الأفضل، وقد ذكرنا بعض ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخففه ويطوله.
وما عدا ذلك ففيه ثلاث روايات (إحداها) الأفضل كثرة الركوع والسجود لقول ابن مسعود: إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة عشرون سورة من(1/770)
المفصل.
رواه مسلم، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما من عبد سجد سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة " (والثانية) التطويل أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الصلاة القنوت " رواه مسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته التهجد وكان يطيله على ما قد ذكرنا (والثالثة) هما سواء لتعارض الأخبار في ذلك والله أعلم (فصل) والتطوع في البيت أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.
وقال عليه السلام " إذا قضي أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا " رواهما مسلم.
وعن زيد ابن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " رواه أبو داود، ولأن الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، وهو من عمل السر، والسر أفضل من العلانية(1/771)
(فصل) ويستحب أن يكون للإنسان تطوعات يداوم عليها وإذا فاتت يقضيها لقول عائشة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال " أدومه وإن قل " متفق عليه، وقالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا عمل عملاً أثبته.
رواه مسلم، وقال ابن عمر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك القيام فنام الليل " متفق عليه، ولأنه إذا قضى ما ترك من تطوعه كان أبعد له من الترك (فصل) ويجوز التطوع في جماعة وفرادى لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما وكان أكثر تطوعه منفردا، وصلى بحذيفة مرة، وبابن عباس مرة، وبأنس وأمه واليتيم مرة، وأم
الصحابة في ليالي رمضان ثلاثا.
وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى وسنذكر الباقي إن شاء الله تعالى وهي كلها أحاديث صحاح (مسألة) (وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ويكون في حال القيام متربعا) يجوز(1/772)
التطوع جالسا مع القدرة على القيام بغير خلاف علمناه، والصلاة قائما أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم " متفق عليه.
وفي لفظ مسلم " صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة " وقالت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان يصلي كثيرا من صلاته وهو جالس، رواه مسلم.
ولأن كثيراً من الناس يشق عليه طول القيام فلو وجب التطوع لترك أكثره فسامح الشارع في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره كما سامح في فعله على الراحلة في السفر وسامح في نية صوم التطوع من النهار (فصل) ويستحب للمتطوع جالسا أن يكون في حال القيام متربعا، روى ذلك عن ابن عمر وأنس وابن سيرين ومالك والثوري والشافعي واسحاق، وعن أبي حنيفة كقولنا، وعنه يجلس كيف شاء لأن القيام سقط فسقطت هيئته، وروي عن ابن المسيب وعروة وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز أنهم كانوا يحتبون في التطوع، واختلف فيه عن عطاء والنخعي(1/773)
ولنا ما روى عن أنس أنه صلى متربعا، ولأن ذلك أبعد من السهو والاشتباه، ولأن القيام يخالف القعود فينبغي أن يخالف هيئته في بدله هيئة غيره كمخالفة القيام غيره ولا يلزم من سقوط القيام لمشقته سقوط مالا مشقة فيه كمن سقط عنه الركوع والسجود ولا يلزم سقوط، الإيماء بهما وهذا الذي ذكرنا من صفة الجلوس مستحب غير واجب إذ لم يرد بإيجابه دليل (فصل) ويثني رجليه في الركوع والسجود، كذلك ذكره الخرقي لأن ذلك يروي عن أنس وهو قول الثوري، وحكي عن أحمد واسحاق أنه لا يثني رجليه إلا في السجود خاصة ويكون في الركوع على هيئة القيام، وحكاه أبو الخطاب، وهو قول أبي يوسف ومحمد وهو أقيس لأن هيئة الراكع في
رجليه هيئة القائم فينبغي أن يكون على هيئته، قال شيخنا: وهذا أصح في النظر إلا أن أحمد ذهب إلى فعل أنس وأخذ به - وهو مخير في الركوع والسجود إن شاء من قيام، وإن شاء من قعود، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، قالت عائشة: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن فكان يقرأ قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو(1/774)
أربعين آية ثم ركع متفق عليه.
وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد، رواه مسلم (مسألة) (وأدنى صلاة الضحى ركعتان وأكثرها ثمان، ووقتها إذا علت الشمس) صلاة الضحى مستحبة.
قال أبو هريرة: أوصاني خليلي بثلاث، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام، وعن أبي الدرداء نحوه، متفق عليه.
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى " رواه مسلم، وأقل صلاة الضحى ركعتان لهذا الحديث، قال أصحابنا: وأكثرها ثماني ركعات لما روت ام هانئ.
أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود، متفق عليه، ويحتمل أن يكون أكثرها اثنتي عشرة(1/775)
ركعة لما روى أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب " رواه ابن ماجه والترمذي وقال غريب، وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتد حرها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال " رواه مسلم، ويمتد وقتها إلى زوال الشمس، وأوله حين تبيض الشمس (فصل) قال بعض أصحابنا: لا تستحب المداومة عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها قالت عائشة: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، متفق عليه، وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة
أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجئ من مغيبه، رواه مسلم، وقال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: ما حدثني أحد قط أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانئ.
فإنها حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعات ما رأيته قط صلى صلاة أخف منها غير أنه كان يتم الركوع والسجود متفق عليه، ولأن في المداومة عليها تشبيها بالفرائض، وقال أبو الخطاب: تستحب المداومة عليها لأن(1/776)
النبي صلى الله عليه وسلم وصى بها أصحابه وقال " من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كان مثل زبد البحر " رواه الترمذي وابن ماجه.
وروت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله.
رواه مسلم، ولان أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه على ما ذكرنا (مسألة) (وسجود التلاوة صلاة) يعني يشترط له ما يشترط لصلاة النافلة من ستر العورة واستقبال القبلة والنية والطهارة من الحدث والنجس في قول عامة أهل العلم.
وروى عن عثمان رضي الله عنه في الحائض تستمع السجدة تومئ برأسها، وهو قول سعيد بن المسيب قال: وتقول اللهم لك سجدت وقال الشعبي فيمن سمع السجدة على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فيدخل في عمومه السجود، ولأنه سجود فأشبه سجود السهو، فعلى هذا إن سمع السجود وهو محدث لم يلزمه الوضوء ولا التيمم.
وقال النخعي: يتيمم ويسجد، وعنه يتوضأ ويسجد، وبه قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي(1/777)
ولنا أنها تتعلق بسبب فإذا فات لم يسجد كما لو قرأ سجدة في الصلاة فلم يسجد لم يسجد بعدها فعلى هذا إن توضأ لم يسجد لفوات سببها، ولا يتيمم لها مع وجود الماء لأن الله تعالى شرط لجواز التيمم المرض أو عدم الماء ولم يوجد واحد منهما، فإن كان عادما للماء فتيمم فله السجود إن لم يطل لأنه لم يبعد سببها ولم يفت بخلاف الوضوء (مسألة) (وهو سنة للقارئ والمستمع دون السامع) سجود التلاوة سنة مؤكدة ليس بواجب روى ذلك عن عمر وابنه وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه بوجوبه لقوله تعالى
(فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) وهذا ذم ولا يذم إلا على ترك الواجب ولأنه سجود يفعل في الصلاة أشبه سجود صلبها ولنا ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النمل حتى إذا جاء السجدة(1/778)
نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر.
وفي لفظ أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وراه البخاري.
وهذا كان يوم الجمعة بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكر فيكون إجماعاً، وروى زيد بن ثابت قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلم يسجد منا أحد متفق عليه.
فأما الآية فإنما ذم فيها تارك السجود غير معتقد فضله ولا مشروعيته وقياسهم ينتقض بسجود السهو فإنه في الصلاة وهو غير واجب عندهم (فصل) ويسن للتالي والمستمع وهو الذي يقصد الاستماع بغير خلاف علمناه سواء كان التالي في صلاة أو لم يكن، فإن كان المستمع في صلاة فهل يسجد بسجود التالي؟ على روايتين وذلك لما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه رواه أبو داود وروي أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة(1/779)
في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته، متفق عليه، فأما السامع الذي لا يقصد الاستماع فلا يسن له روى ذلك عن عثمان وابن عباس وعمران بن حصين رضي الله عنهم وبه قال مالك.
وقال أصحاب الرأي: عليه السجود وروي نحوه عن ابن عمر والنخعي واسحاق لأنه سامع للسجدة أشبه المستمع، وقال الشافعي: لا أؤكد عليه السجود وإن سجد فحسن ولنا ما روى عن عثمان أنه مر بقاص فقرأ القاص سجدة ليسجد عثمان معه فلم يسجد وقال: إنما السجدة على من استمع.
وقال ابن عباس وعمران: ما جلسنا لها، ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم.
فأما ابن عمر فإنما روي عنه أنه قال: إنما السجدة على من سمعها، فيحتمل أنه أراد من سمعها قاصدا وينبغي
أن يحمل على ذلك جمعاً بين أقوالهم، ولأن السامع لا يشارك التالي في الأجر فلم يشاركه في السجود كغيره أما المستمع فقد قال عليه السلام " التالي والمستمع شريكان في الأجر " فلا يقاس غيره عليه (مسألة) (ويعتبر أن يكون القارئ يصلح إماما له) يشترط لسجود التلاوة كون التالي يصلح(1/780)
إماما له، فان كان امرأة أو خنثى مشكلا لم يسجد الرجل باستماعه رواية واحدة، وبهذا قال مالك والشافعي واسحاق وروي ذلك عن قتادة، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى إلى نفر من أصحابه فقرأ رجل منهم سجدة ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك كنت إمامنا ولو سجدت سجدنا " رواه الشافعي في مسنده والجوزجاني في المترجم عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان التالي أميا سجد القارئ المستمع بسجوده لأن القراءة ليست بركن في السجود، وإن كان صبياً ففي سجود الرجل بسجوده وجهان بناء على صحة إمامته في النفل (مسألة) (فإن لم يسجد القارئ لم يسجد) يعني إذا لم يسجد التالي لم يسجد المستمع، وقال الشافعي يسجد لوجود الاستماع وهو سبب السجود، وقال القاضي إذا كان التالي في غير صلاة وهناك مستمع للقراءة فلم يسجد التالي لم يسجد المستمع في ظاهر كلامه فدل على أنه قد روي عنه السجود(1/781)
ولنا ما روينا من الحديث ولأنه تابع له فلم يسجد بدون سجوده كما لو كانا في الصلاة، وإن كان التالي في صلاة دون المستمع سجد معه، وإن كان المستمع في صلاة أخرى لم يسجد ولا ينبغي له الاستماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن في الصلاة لشغلا " متفق عليه، فعلى هذا لا يسجد إذا فرغ من الصلاة وقال أبو حنيفة يسجد لأن سبب السجود وجد وامتنع المعارض فإذا زال المعارض سجد ولنا أنه لو ترك السجود لتلاوته في الصلاة لم يسجد بعدها فلأن لا يسجد ثم بحكم تلاوة غيره أولى وعن أحمد في المستمع أنه يسجد إذا كان في تطوع سواء كان التالي في صلاة أخرى أو لم يكن، قال شيخنا والأول أصح لأنه ليس بإمام له فلا يسجد بتلاوته كما لو كان في فرض (فصل) والركوع لا يقوم مقام السجود، وحكى صاحب المستوعب رواية عن أحمد أن ركوع
الصلاة يقوم مقام السجود، وقال أبو حنيفة يقوم مقامه لقوله تعالى (وخر راكعا وأناب) ولنا أنه سجود مشروع فلم يقم الركوع مقامه كسجود الصلاة، والآية أريد بها السجود وعبر(1/782)
عنه بالركوع بدليل أنه قال وخر ولا يقال للراكع خر وإنما روي عن داود عليه السلام السجود ولو قدر أن داود ركع حقيقة لم يكن فيه حجة لأنه أنما فعل ذلك توبة لا لسجود التلاوة.
وإذا قرأ السجدة في الصلاة في آخر السورة فإن شاء ركع وإن شاء سجد ثم قام فقرأ شيئا من القرآن ثم ركع، وإن شاء سجد ثم قام فركع من غير قراءة نص عليه أحمد، وهذا قول ابن مسعود والربيع ابن خيثم واسحاق وأصحاب الرأي.
وروي عن عمر أنه قرأ بالنجم فسجد فيها ثم قام فقرأ سورة أخرى (فصل) وإذا قرأ السجدة على الراحلة في السفر أومأ بالسجود حيث كان وجهه.
وقال القاضي: إن أمكنه أن يستفتح بها القبلة فعله، وإن كان لا تطيق دابته احتمل أن لا يستفتح بها واحتمل أنه لا بد من الاستفتاح؟ وقد روي الإيماء به على الراحلة عن علي وسعيد بن زيد وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/783)
قرأ عام الفتح سجدة فسجد الناس كلهم منهم الراكب والساجد بالأرض حتى إن الراكب ليسجد على يده رواه أبو داود، ولأنه صلاة تطوع أشبه سائر التطوع، وإن كان ماشيا سجد بالأرض وبه قال أبو العالية وأبو ثور وأصحاب الرأي لما ذكرنا، وقال الأسود بن يزيد وعلقمة وعطاء ومجاهد يومئ وقد قال أبو الحسن الآمدي في صلاة الماشي يومئ وهذا مثله (مسألة) قال (وهو أربع عشرة سجدة) اختلفوا في سجود القرآن فالمشهور من المذهب أن عزائم السجود أربع عشرة سجدة (منها) ثلاث في المفصل وليس منها سجدة ص، ومنها اثنتان في الحج وهذا أحد قولي أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة جعل سجدة ص بدل من السجدة الثانية من الحج، وروى عن أحمد أنها خمس عشرة منها سجدة ص، وروي ذلك عن عقبة بن عامر وهو قول إسحاق لما روي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة منها
ثلاث في المفصل وفي الحج اثنتان، رواه أبو داود وابن ماجة.
وقال مالك في رواية والشافعي في قول: عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ويروى هذا القول عن ابن عمر وابن عباس منها سجدة(1/784)
ص وأول الحج دون آخرها وليس فيها سجدات المفصل.
وروي عن ابن عباس أنه عدها عشرا وأسقط منا سجدة ص لما روى أبو الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شئ، رواه ابن ماجه.
وقال ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شئ من المفصل منذ تحول إلى المدينة.
رواه أبو داود ولنا ما روى أبو رافع قال: صليت خلف أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فقلت ما هذه السجدة؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه، متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في (إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك) أخرجه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد فيها وما بقي من القوم أحد إلا سجد، متفق عليه، وهذا مقدم على قول ابن عباس لأنه إثبات والإثبات مقدم على النفي وأبو هريرة إنما أسلم بعد الهجرة في السنة السابعة ويمكن الجمع بين الأحاديث بحمل السجود على الاستحباب، وتركه السجود يدل على عدم الوجوب فلا تعارض إذا - وأما رواية كون السجود(1/785)
خمس عشرة فمبناه على أن منها سجدة ص وقد روي عن عمر وابنه وعثمان أنهم سجدوا فيها وهو قول الحسن ومالك والثوري وأصحاب الرأي لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وظاهر المذهب أنها ليست من عزائم السجود روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة وهو قول الشافعي لما روى أبو سعيد قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ص فنزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود " فنزل فسجد وسجدوا.
رواه أبو داود، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال " سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا " أخرجه
النسائي، وقال ابن عباس ليست ص من عزائم السجود والحديث الذي ذكرناه للرواية الأولى من أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها يدل على أنه إنما سجد فيها شكرا كما بين في حديث ابن عباس، فإذا قلنا ليست من عزائم السجود فسجدها في الصلاة احتمل أن لا تبطل صلاته لأن سببها القراءة في الصلاة أشبهت عزائم السجود(1/786)
واحتمل أن تبطل صلاته إذا فعل ذلك عمدا كسائر سجود الشكر والله أعلم (مسألة) قال (في الحج منها اثنتان) وهذا قول الشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وممن كان يسجد فيها سجدتين عمر وعلي وعبد الله بن عمر وأبو الدرداء وأبو موسى، وقال ابن عباس فضلت الحج بسجدتين.
وقال الحسن وسعيد بن جبير والنخعي ومالك وأصحاب الرأي: ليست الثانية بسجدة لأنه جمع فيها بين الركوع والسجود فلم تكن سجدة كقوله (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) ولنا حديث عمرو بن العاص الذي ذكرناه، وعن عقبة بن عامر قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الحج سجدتان؟ قال " نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " رواه أبو داود.
وقال أبو إسحاق أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين، وقال ابن عمر لو كنت تاركا لإحداهما لتركت الأولى، وذلك لأن الأولى إخبار والثانية امر واتباع الأمر أولى(1/787)
(فصل) وموضع السجدات آخر الأعراف والرعد (بالغدو والآصال) وفي النحل (ويفعلون ما يؤمرون) وفي بني إسرائيل (ويزيدهم خشوعا) وفي مريم (خروا سجدا وبكيا) وفي الحج (يفعل ما يشاء) وفي الثانية (لعلكم تفلحون) وفي الفرقان (وزادهم نفورا) وفي النمل (رب العرش العظيم) وفي (الم تنزيل - وهم لا يستكبرون) وفي حم السجدة (وهم لا يسأمون) وآخر النجم وفي سورة الانشقاق (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) وآخر اقرأ باسم ربك (واقترب) وروي عن ابن عمر أن السجود في حم عند قوله (إياه تعبدون) وحكاه ابن أبي موسى وبه قال الحسن وابن سيرين وأصحاب عبد الله والليث ومالك لأن الأمر بالسجود فيها.
ولنا تمام الكلام في الثانية فكان السجود بعدها كما في
سجدة النحل عند قوله (ويفعلون ما يؤمرون) وذكر السجدة في التي قبلها (مسألة) قال (ويكبر إذا سجد وإذا رفع) متى سجد للتلاوة فعليه التكبير للسجود والرفع منه في الصلاة وغيرها وبه قال الحسن وابن سيرين والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي وبه قال مالك إذا سجد في الصلاة واختلف عنه في غير الصلاة، وقال ابن أبي موسى: في التكبير إذا رفع رأسه من سجود التلاوة اختلاف في الصلاة وغيرها(1/788)
ولنا ما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجود كبر وسجد وسجدنا معه.
قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث.
قال أبو داود يعجبه لأنه كبر رواه أبو داود ولأنه سجود منفرد فيشرع التكبير في ابتدائه والرفع منه كسجود السهو بعد السلام.
(فصل) ولا يشرع في ابتداء السجود أكثر من تكبيرة، وقال الشافعي: إذا سجد خارج الصلاة كبر تكبيرتين الافتتاح والسجود كما لو صلى ركعتين ولنا حديث ابن عمر وظاهره أنه كبر واحدة ولأن معرفة ذلك من الشرع ولم يرد به ولأنه سجود منفرد فلم يشرع فيه تكبيران كسجود السهو وقياسهم يبطل بسجود السهو وقياس هذا على سجود السهو أولى من قياسه على الركعتين لشبهه به، ولأن الإحرام بالركعتين يتخلل بينه وبين السجود أفعال كثيرة فلذلك لم يكتف بتكبيرة الإحرام عن تكبير السجود بخلاف هذا (مسألة) (ويجلس ويسلم ولا يتشهد) المشهور عن أحمد أن التسليم واجب في سجود التلاوة وبه قال أبو قلابة وأبو عبد الرحمن لقول النبي صلى الله عليه وسلم " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " ولأنها صلاة ذات(1/789)
إحرام فوجب السلام فيها كسائر الصلوات، وفيه رواية أخرى لا تسليم، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير، وروي ذلك عن أبي حنيفة، واختلف قول الشافعي فيه.
قال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى قولنا بوجوب السلام يجزئه تسليمة نص عليه أحمد، وبه قال إسحاق قال: يقول السلام عليكم.
وذكر القاضي في المجرد عن أبي بكر
رواية لا يجزئه إلا اثنتان، والصحيح الأول لأنها صلاة ذات إحرام لا ركوع فيها أشبهت صلاة الجنازة ولا تفتقر إلى تشهد، نص عليه أحمد لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولاعن أحد من أصحابه واختار أبو الخطاب أنه يفتقر إلى التشهد قياساً على الصلاة ولنا أنها صلاة لا ركوع فيها فلم تفتقر إلى تشهد كصلاة الجنازة ولا يسجد فيه للسهو كصلاة الجنازة (فصل) ويقول في سجوده ما يقول في سجود صلب الصلاة، نص عليه أحمد.
وإن قال ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فحسن.
قالت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل " سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول(1/790)
الله إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا فتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود.
فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، فقال ابن عباس فسمعته يقول مثلما أخبره الرجل عن قول الشجرة، رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال غريب: ومهما قال من نحو ذلك فحسن (مسألة) قال (وإذا سجد في الصلاة رفع يديه نص عليه، وقال القاضي لا يرفعهما) متى سجد للتلاوة خارج الصلاة رفع يديه في تكبيرة الابتداء لأنها تكبيرة الإحرام، وإن كان في الصلاة فكذلك نص عليه أحمد لما روي وائل بن حجر قال: قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكبر إذا خفض ورفع ويرفع يديه في التكبير، قال أحمد هذا يدخل في هذا كله، وفي رواية أخرى لا يرفع يديه في الصلاة اختاره القاضي وهو قياس المذهب لقول ابن عمر وكان لا يفعل ذلك في السجود متفق عليه، ويتعين تقديمه على حديث وائل بن حجر لأنه أخص منه، ولذلك قدم عليه في سجود الصلاة كذلك ههنا (فصل) ويكره اختصار السجود وهو أن ينزع الآيات التي فيها السجود فيقرؤها ويسجد فيها(1/791)
وبه قال الشعبي والنخعي والحسن واسحاق ورخص فيه أبو حنيفة ومحمد وأبو ثور، وقيل اختصار السجود أن يحذف في القراءة آيات السجود وكلاهما مكروه لأنه لم يرو عن السلف رحمهم الله، بل المنقول عنهم كراهته (مسألة) (ولا يستحب للإمام السجود في صلاة لا يجهر فيها) قال بعض أصحابنا يكره للإمام قراءة السجدة في صلاة السر فإن قرأ لم يسجد، وبه قال أبو حنيفة لأن فيها إبهاما على المأموم.
وقال الشافعي لا يكره لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الظهر ثم قام فركع فرأى أصحابه أنه قرأ سورة السجدة، رواه أبو داود.
قال شيخنا واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى (مسألة) (فإن سجد فالمأموم مخير بين اتباعه وتركه) كذلك قال بعض أصحابنا لأنه ليس بمسنون للإمام ولم يوجد الاستماع المقتضي للسجود.
قال شيخنا: والأولى السجود لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا سجد فاسجدوا " وما ذكروه يبطل بما إذا كان المأموم بعيدا أو أطروشا في صلاة الجهر فإنه يسجد بسجود إمامه وإن لم يسمع (مسألة) (ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم، واندفاع النقم) وبهذا قال الشافعي واسحاق(1/792)
وأبو ثور وابن المنذر.
وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أيامه الفتوح واستسقى فسقي ولم ينقل أنه سجد ولو كان مستحبا لم يخل به ولنا ما روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسر به خر ساجدا رواه ابن المنذر، وسجد الصديق حين بشر بفتح اليمامة، وعلي حين وجد ذا الثدية، وروي عن غيرهما من الصحابة فثبت ظهوره وانتشاره، وتركه تارة لا يدل على عدم استحبابه فإن المستحب يفعل تارة ويترك أخرى وصفة سجود الشكر كصفة سجود التلاوة في أفعاله وأحكامه وشروطه على ما بينا (مسألة) (ولا يسجد له في الصلاة) لا يجوز أن يسجد للشكر في الصلاة لأن سببه ليس منها فإن فعل بطلت صلاته إن كان عمداً كما لو زاد فيها سجودا غيره.
وإن كان ناسياً أو جاهلاً بتحريم ذلك لم تبطل صلاته كما لو زاد في الصلاة سجودا ساهيا والله أعلم وقال ابن الزاغوني يجوز في الصلاة والأول أولى
(فصل في أوقات النهي) وهي خمسة، بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر،(1/793)
وعند طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تزول، وإذا تضيفت للغروب حتى تغرب) كذلك عدها أصحابنا خمسة أوقات كما ذكرنا.
وقال بعضهم: الوقت الخامس من حين شروع الشمس في الغروب إلى تكامله لما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب " ووجه القول الأول حديث عقبة بن عامر الذي نذكره إن شاء الله تعالى، قال شيخنا: والمنهي عنه من الأوقات عند أحمد: بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب وعند قيامها حتى تزول وهو في معنى قول الأصحاب، وهذه الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي والأصل فيها ما روى ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس " متفق عليهما.
وعن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات نهانا النبي صلى الله عليه وسلم إن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة(1/794)
حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب، وعن عمرو بن عنبسة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الصلاة؟ قال " صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة محصورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جنهم، فإذا أقبل الفئ فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار " رواهما مسلم، وقال ابن المنذر إنما المنهي عنه الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بدليل تخصيصها بالنهي في حديثه وقوله " لا تصلوا
بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة " رواه أبو داود، وقالت عائشة وهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها ولنا ما ذكرنا من الأحاديث فإنها صريحة صحيحة والتخصيص في بعض الأحاديث لا يعارض العموم الموافق له، بل يدل على تأكد الحكم فيما خصه، وقول عائشة في رد خبر عمر غير مقبول فإنه مثبت لروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول برأيها، ثم هي قد روت ذلك أيضا، فروت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، رواه أبو داود.
فكيف يقبل ردها لما قد(1/795)
أقرت بصحته؟ وقد رواه أبو سعيد وأبو هريرة وعمرو بن عنبسة وغيرهم كنحو رواية عمر فكيف يترك هذا بمجرد رأي مختلف؟ (فصل) والنهي بعد العصر عن الصلاة متعلق بفعلها فمن لم يصل العصر أبيح له التنفل وإن صلى غيره، ومن صلى فليس له التنفل وإن صلى وحده، لا نعلم في ذلك خلافا عند من منع الصلاة بعد العصر.
فأما النهي بعد الفجر ففيه روايتان (إحداهما) يتعلق بفعل الصلاة أيضا يروي ذلك عن الحسن والشافعي لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس " وروى أبو داود حديث عمر بهذا اللفظ.
وفي حديث عمرو بن عنبسة " صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة " رواه مسلم.
وفي رواية أبي داود قال: قلت يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال " جوف الليل الآخر فصل فيما شئت فإن الصلاة مقبولة مشهودة حتى تصلي الصبح ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيد رمح أو رمحين " ولأن النهي بعد العصر متعلق بفعل الصلاة فكذلك بعد الفجر.
(والرواية الثانية) أن النهي متعلق بطلوع الفجر.
وبه قال ابن المسيب وحميد بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي.
وقد رويت كراهته عن(1/796)
ابن عمر وابن عمرو وهو المشهور في المذهب لما روى يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر فقال: يا يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه
الصلاة فقال " ليبلغ شاهدكم غائبكم لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين " (1) رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتا الفجر " وهذا يبين مراد النبي صلى الله عليه وسلم من اللفظ المجمل ولا يعارضه تخصيص ما بعد الصلاة من النهي فإن دليل ذلك خطاب فالمنطوق أولى منه، وحديث عمرو بن عنبسة قد اختلفت ألفاظ الرواة فيه وهو في سنن ابن ماجة " حتى يطلع الفجر " (مسألة) قال (ويجوز قضاء الفرائض فيها) يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وغير واحد من الصحابة، وبه قال أبو العالية والنخعي والشعبي والحكم وحماد ومالك والاوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال أصحاب الرأي لا تقضى الفوائت في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر إلا عصر يومه يصليها قبل غروب الشمس لعموم النهي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس أخرها حتى
__________
1) يعني ركعتين وهما سنة الفجر(1/797)
ابيضت الشمس، متفق عليه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها " متفق عليه وفي حديث أبي قتادة " إنما التفريط في اليقطة على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الأخرى فان فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها " متفق عليه (1) وخبر النهي مخصوص بالقضاء في الوقتين الآخرين فنقيس محل النزاع على المخصوص، وقياسهم منقوض بذلك أيضا، وحديثهم يدل على جواز التأخير لا على تحريم الفعل (فصل) ولو طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح أتمها.
وقال أصحاب الرأي: تفسد لأنها صارت في وقت النهي ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذ أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغيب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته "
متفق عليه، وهذا نص خاص على عموم ما ذكروه (فصل) ويجوز فعل الصلاة المنذورة في وقت النهي سواء كان النذر مطلقاً أو مؤقتا ويتخرج
__________
1) الحديث غير متفق عليه بل رواه مسلم حديث طويل وأولل لبمرفوع في المسألة (أنه ليس في النوم تفريط ... ) ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه(1/798)
أنه لا يجوز بناء على صوم الواجب في أيام التشريق وهو قول أبي حنيفة لعموم النهي.
ولنا أنها صلاة واجبة فأشبهت الفوائت من الفرائض وصلاة الجنازة فإنه قد وافقنا فيما بعد صلاة العصر والصبح (مسألة) (وتجوز صلاة الجنازة وركعتا الطواف وإعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد بعد الفجر والعصر، وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ على روايتين) تجوز صلاة الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تميل الشمس للغروب بغير خلاف قال إبن المنذر: إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد العصر والصبح، فأما الصلاة عليها في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة فلا تجوز، ذكره القاضي وغيره، وحكاه الأثرم عن أحمد، وقد روي عن جابر وابن عمر نحو هذا القول، قال الخطابي: هذا قول أكثر أهل العلم، وفيه رواية أخرى أنه يجوز حكاها أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي لأنها صلاة تباح بعد الصبح والعصر فأبيحت في سائر الأوقات كالفرائض، ولنا قول عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الصلاة فيهن وأن نقبر فيهن موتانا، وذكره للصلاة مقروناً بالدفن يدل على إرادة صلاة الجنازة ولأنها صلاة من غير الصلوات الخمس أشبهت النوافل، وإنما أبيحت بعد العصر والصبح لطول مدتهما فالانتظار يخاف منه عليها بخلاف هذه الأوقات، وقياسهم على(1/799)
الفرائض لا يصح لتأكدها ولا يصح قياس الأوقات الثلاثة على الوقتين الطويلين لما ذكرنا (فصل) وتجوز ركعتا الطواف بعده في هذين الوقتين، وممن طاف بعد الصبح والعصر وصلى ركعتين ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والحسن والحسين ومجاهد والقاسم بن محمد، وفعله عروة
بعد الصبح وهو قول الشافعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز لعموم أحاديث النهي، ولنا ما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار " ورواه الاثرم والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولأن ركعتي الطواف تابعة له فإذا أبيح المتبوع أبيح التبع وحديثهم مخصوص بالفوائت وحديثنا لا تخصيص فيه فيكون أولى، وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ فيه روايتان (إحداهما) يجوز لما ذكرنا وهو مذهب الشافعي وأبي ثور (والثانية) لا يجوز لحديث عقبة بن عامر ولتأكد النهي في هذه الأوقات الثلاثة وقصرها وكونها لا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها (فصل) ويجوز إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد أو دخل وهم يصلون بعد الفجر والعصر(1/800)
وهذا قول الحسن والشافعي، واشترط القاضي لجواز الاعادة ههنا أن يكون مع إمام الحي، ولم يفرق هنا بين إمام الحي وغيره ولا بين المصلي جماعة أو فرادى، وهو ظاهر قول الخرقي، وكلام أحمد يدل على هذا أيضاً.
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عمن صلى في جماعة ثم دخل المسجد وهم يصلون أيصلي معهم؟ قال: نعم، وقال أبو حنيفة: لا تعاد الفجر ولا العصر في وقت النهي لعموم النهي ولنا ما روى جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف وأنا غلام شاب، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه فقال " علي بهما " فأتي بهما ترتعد فرائصهما فقال " ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا قال " لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة " رواه أبو داود والاثرم والترمذي، وهذا صريح في إعادة الفجر والعصر مثلها.
والحديث بإطلاقه يدل على الإعادة سواء كان مع إمام الحي أو غيره، وسواء صلى وحده أو في جماعة، وهل يجوز في الأوقات الباقية؟ على روايتين (إحداهما) يجوز لما روى أبو ذر قال: إن خليلي يعني النبي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أصلي الصلاة لوقتها وقال " فإذا أدركتها معهم فصل(1/801)
معهم فإنها لك نافلة " رواه مسلم، وقياساً على الوقتين الآخرين (والثانية) لا يجوز لحديث عقبة بن عامر ولما بينها وبين هذين الوقتين من الفرق (مسألة) (ولا يجوز التطوع بغيرها في شئ من الأوقات الخمسة الا ماله سبب كتحية المسجد وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وقضاء السنن الراتبة فإنها على روايتين) أراد بغير ما ذكر من الصلوات وهي صلاة الجنازة، وركعتا الطواف، وإعادة الجماعة، وليس في المذهب خلاف نعلمه في أنه لا يجوز أن يبتدئ في هذه الأوقات تطوعاً لا سبب له وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، وقال ابن المنذر: رخصت طائفة في الصلاة بعد العصر يروي ذلك عن علي والزبير وابنه وتميم الداري والنعمان ابن بشير وأبي أيوب الأنصاري وعائشة رضي الله عنهم وجماعة من أهل العلم سواهم.
وروى عن أحمد أنه قال: لا نفعله ولا نعيب فاعله لقول عائشة ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط، وقولها وهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها.
رواه مسلم، وقول علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة "(1/802)
ولنا الأحاديث المذكورة وهي صحيحة صريحة، وروى أبو بصرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص فقال " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد " رواه مسلم، وهذا خاص في محل النزاع.
وأما حديث عائشة فقد روى عنها ذكوان مولاها أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها.
رواه أبو داود، وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ثم رأيته يصليهما وقال " يا بنت ابن ابي أمية أنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان " رواهما مسلم، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله لسبب وهو قضاء ما فات من السنة، وأنه نهى عن الصلاة بعد العصر كما رواه غيرهما، وحديث عائشة يدل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهيه غيره وهو حجة على من خالف ذلك، فإن النزاع في غير النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك من غير معارض
له وقولها وهم عمر قد أجبنا عنه (فصل) فأما ماله سبب فالمنصوص عن أحمد رضي الله عنه في الوتر أنه يفعل بعد طلوع الفجر(1/803)
قبل الصلاة، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، وبه قال مالك والثوري والاوزاعي والشافعي.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه خرج بعد طلوع الفجر فقال: نعم هذه ساعة الوتر.
وقد روي عن أبي موسى أنه سئل عن رجل لم يوتر حتى أذن المؤذن فقال: لا وتر له وأنكر ذلك عطاء والنخعي وسعيد بن جبير وهو قول أبي موسى لعموم النهي ولنا ما روى أبو بصرة الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح الوتر " رواه الأثرم، واحتج به أحمد وأحاديث النهي ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر كما حكينا متقدما وقد روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن الوتر فليصله إذا أصبح " رواه ابن ماجه.
إذا ثبت هذا فإنه لا ينبغي أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح لهذا الخبر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى " متفق عليه، وقال مالك ما فاتته صلاة الليل فله أن يصلي بعد الصبح قبل أن يصلي الصبح وحكاه ابن أبي موسى في الارشاد مذهبا لاحمد قياسا على الوتر ولأن هذا الوقت لم يثبت النهي فيه صريحا فكان حكمه خفيفا (فصل) فأما سجود التلاوة وصلاة الكسوف وتحية المسجد فالمشهور في المذهب أنه لا يجوز فعلها في شئ من أوقات النهي وكذلك قضاء السنن الراتبة في الأوقات الثلاثة المذكورة في حديث(1/804)
عقبة بن عامر ذكره الخرقي في سجود التلاوة وصلاة الكسوف، وقال القاضي في ذلك روايتان أصحهما أنه لا يجوز وهو قول أصحاب الرأي (والثانية) يجوز وهو قول الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " متفق عليه، وقال في الكسوف " فإذا رأيتموها فصلوا "
وهذا خاص في هذه الصلاة فيقدم على النهي العام ولأنها صلوات ذوات سبب أشبهت ما ثبت جوازه ولنا أن كل واحد خاص من وجه إلا أن النهي للتحريم والأمر للندب وترك المحرم أولى من فعل المندوب (فصل) فأما قضاء السنن الراتبة في الوقتين الآخرين فالصحيح أن ركعتي الفجر تقضى بعدها لأن أحمد قال: أنا أختار أن يقضيهما مع الضحى وإن صلاهما بعد الفجر أجزأه لما روى قيس بن فهد قال: رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر فقال: " ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " قلت يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز، وفيه رواية أخرى لا يجوز ذلك وهو قول أصحاب الرأي لعموم أحاديث النهي.
ولما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس " رواه الترمذي وحديث قيس مرسل قاله أحمد والترمذي وإذا(1/805)
كان الأمر هكذا كان تأخيرهما إلى وقت الضحى أحسن ليخرج من الخلاف ولا يخالف عموم الحديث وإن فعلهما جاز لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز، والصحيح أن السنن الراتبة تقضي بعد العصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة الذي ذكرناه والاقتداء بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم متعين، ولأن النهي بعد العصر خفيف لما روي في خلافه من الرخصة.
وقول عائشة أنه كان ينهى عنها معناه والله أعلم أنه ينهى عنها لغير هذا السبب أو كان يفعلها على الدوام وهذا مذهب الشافعي، وفيه رواية أخرى لا يجوز وهو قول أصحاب الرأي لعموم النهي والأخذ بالحديث الخاص أولى (فصل) ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي، وقال الشافعي لا يمنع لما ذكرنا من حديث جبير بن مطعم ولما روى أبو ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يصلين أحد بعد الصبح إلى طلوع الشمس ولا بعد العصر إلى أن تغيب الشمس إلا بمكة قال ذلك ثلاثاً " رواه الدارقطني، ولنا عموم النهي ولأنه معنى يمنع الصلاة فاستوت فيه مكة وغيرها
لما ذكرنا من حديث جبير بن مطعم ولما روى أبو ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يصلين أحد بعد الصبح إلى طلوع الشمس ولا بعد العصر إلى أن تغيب الشمس إلا بمكة قال ذلك ثلاثاً " رواه الدارقطني، ولنا عموم النهي ولأنه معنى يمنع الصلاة فاستوت فيه مكة وغيرها كالحيض وحديث جبير أراد به ركعتي الطواف وحديث أبي ذر يرويه عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف قال (3) يحيى بن معين (فصل) ولا فرق في وقت الزوال بين يوم الجمعة وغيره ولا بين الشتاء والصيف كان عمر بن الخطاب ينهى عنه، وقال ابن مسعود كنا ننهى عن ذلك يعني يوم الجمعة ورخص فيه الحسن وطاوس
__________
3) لعل الاصل:(1/806)
والاوزاعي والشافعي واسحاق في يوم الجمعة لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة.
رواه أبو داود، ولأن الناس ينتظرون الجمعة في هذا الوقت وليس عليهم قطع النوافل وأباحه عطاء في الشتاء دون الصيف لأن ذلك الوقت حين تسجر جهنم ولنا عموم أحاديث النهي وهي عامة في يوم الجمعة وغيره وفي الصيف والشتاء، ولأنه وقت نهي فاستوى فيه يوم الجمعة وغيره كسائر الأوقات وحديثهم في إسناده ليث وهو ضعيف وهو مرسل أيضا وقولهم أنهم ينتظرون الجمعة قلنا إذا علم وقت النهي فليس له أن يصلي وإن شك فله أن يصلي حتى يعلم لأن الأصل الإباحة فلا تزول بالشك ونحو هذا قال مالك والله أعلم (تم طبع الجزء الاول..) ع 9(1/807)
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين * (باب صلاة الجماعة) * * (مسألة) * (وهي واجبة للصلوات الخمس على الرجال لا شرطاً) الجماعة واجبة على الرجال المكلفين لكل صلاة مكتوبة، روي نحو ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى وبه قال عطاء والاوزاعي وأبو ثور، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي لا تجب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " متفق عليه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اللذين قالا قد صلينا في رحالنا ولو كانت واجبة لأنكر عليهما، ولأنها لو كانت واجبة لكانت شرطاً لها كالجمعة ولنا قوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة الخوف ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحطب (1) ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم " متفق عليه، وفيه ما يدل على أنه أراد الجماعة لأنه لو أراد الجمعة لما هم بالتخلف عنها، وعن أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله
__________
(1) بدون تاء وفي المغني بالتاء وهما روايتان من عدة روايات للبخاري(2/2)
عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال " أتسمع النداء بالصلاة؟ " قال نعم قال " فأجب " رواه مسلم.
وإذا لم يرخص للاعمى الذي لا قائد له فغيره أولى قال إبن المنذر وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن أم مكتوم " لا أجد لك رخصة " يعني في التخلف عن الجماعة.
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من ثلاثة في قرية أو بلد لا تقام فيه الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية " وفي حديث مالك ابن الحويرث " إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما " ولمسلم " إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم " أمر وظاهر الأمر الوجوب * (فصل) * وليست شرطاً لصحة الصلاة نص عليه أحمد وقال ابن عقيل تشترط في أحد الوجهين قال وهو الصحيح عندي لما ذكرنا من الأدلة.
قال شيخنا وهذا ليس بصحيح للحديثين اللذين ذكرناهما في حجة الخصم ولا نعلم احدا قال بوجوب الإعادة على من صلى وحده الا أنه قد روي عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود أنهم قالوا: من سمع الندا من غير عذر فلا صلاة له * (فصل) * وتنعقد باثنين فصاعداً بغير خلاف علمناه لما روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه(2/3)
وسلم قال " الاثنان فما فوقهما جماعة " رواه ابن ماجه ولحديث مالك بن الحويرث، وقد أم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس مرة وحذيفة مرة ولو أم الرجل عبده أو زوجته أدرك فضيلة الجماعة وإن أم صبياً جاز في التطوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أم ابن عباس وهو صبي وإن أمه في الفرض فقال أحمد لا تنعقد به الجماعة لأنه لا يصلح أن يكون إماماً فيها وعنه يصح ذكرها الآمدي كما لو أم بالغاً متنفلاً * (مسألة) * (وله فعلها في بيته في أصح الروايتين) .
ويجوز فعل الجماعة في البيت والصحراء في الصحيح من المذهب وعنه إن حضور المسجد واجب على القريب منه لأنه روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " متفق عليه والحديث الذي ذكروه لا نعرفه إلا من قول علي نفسه كذلك رواه سعيد والظاهر أنه إنما أراد الجماعة فعبر بالمسجد عنها لانه محلها ويجوز أن يكون أراد الكمال والفضيلة فان الاخبار الصحيحة دالة على صحة الصلاة في غير المسجد والله أعلم * (فصل) * ويستجب لأهل الثغر الاجتماع في مسجد واحد لأنه أعلى للكلمة وأوقع للهيبة فاذا جاءهم خبر عن عدوهم سمع جميعهم، وكذلك اذا أرادوا التشاور في أمر، وإن جإ عين للكفار أخبر بكثرتهم.
قال الأوزاعي لو كان الأمر الي لسمرت أبواب المساجد التي للثغور ليجتمع الناس في مسجد واحد.
* (مسألة) * (والافضل لغيرهم الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره) لأنه يعمره(2/4)
باقامة الجماعة فيه ويحصلها لمن يصلي فيه فيحصل له ثواب عمارة المسجد ويحضلها لمن لا يصلى فيه وذلك معدوم في غيره، وكذلك إن كانت تقام فيه مع غيبته ألا إن في قصد غيره كسر قلب إمامه وجماعته فجبر قلوبهم أولى * (مسألة) * (ثم ما كان أكثر جماعة ثم في المسجد العتيق) فإن عدم ما ذكرنا في المسألة التي قبلها ففعلها فيما كان أكثر جماعة أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى " رواه الإمام أحمد في المسند فإن تساويا في الجماعة فالمسجد العتيق أفضل لأن الطاعة فيه أسبق والعبادة فيه أكثر.
وذكر أبو الخطاب إن فعلها في المسجد العتيق أفضل وان قل الجمع فيه لذلك والأول أولى لما ذكرنا من الحديث * (مسألة) * (وهل الأولى قصد الأبعد أو الأقرب) على روايتين.
إحداهما قصد الأبعد أفضل لتكثر خطاه في طلب الثواب فتكثر حسناته ولما روى أبو موسى قال قال النبي صلى الله عليه
وسلم " أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى " رواه البخاري والثانية قصد الأقرب لأن له جواراً فكان أحق بصلاته كما أن الجار أحق بهدية جاره ومعروفه لقوله عليه السلام " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " * (مسألة) * (ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه) لأن الامام الراتب بمنزلة صاحب البيت وهو أحق لقوله عليه السلام " لا يؤمن الرجل الرجل في بيته إلا بإذنه " وقد روي عن ابن عمر أنه أتى أرضاً وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم فسألوه أن يصلي بهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق، إلا أن يتأخر لعذر فيصلي غيره لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أحسنتم " * (مسألة) * (فإن لم يعلم عذره انتظر وروسل) إلا أن يخشى خروج الوقت فيقدم غيره لئلا يفوت الوقت(2/5)
* (مسألة) * (فان صلى ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد استحب له إعادتها إلا المغرب فإنه يعيدها ويشفعها برابعة) من صلى فريضة ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة استحب له إعادتها أي صلاة كانت إذا كان في المسجد أو دخل المسجد وهم يصلون وهذا قول الحسن والشافعي سواء كان صلاها منفرداً أو في جماعة، وسواء كان مع إمام الحي أو لا.
هذا ظاهر كلام أحمد فيما حكاه عنه الاثرم والخرقي قال القاضي وإن كان مع إمام الحي استحب له وإن كان مع غير إمام الحي استحب له اعادة ما سوى الفجر والعصر.
وقال أبو الخطاب يستحب له الاعادة مع إمام الحي.
وقال مالك إن كان صلى وحده أعاد المغرب وإلا فلا لأن الحديث الدال على الاعادة قال فيه صلينا في رحالنا.
وقال أبو حنيفة لا تعاد الفجر ولا العصر ولا المغرب لعموم أحاديث النهي ولأن التطوع لا يكون بوتر.
وعن ابن عمر والنخعي تعاد الصلوات كلها إلا الصبح والمغرب.
وقال أبو موسى والثوري والاوزاعي تعاد كلها إلا المغرب لما ذكرنا وقال الحكم إلا الصبح وحدها.
ولنا حديث يزيد بن الأسود الذي ذكرناه وحديث أبي ذر وهي تدل على محل النزاع وحديث يزيد بن الأسود صريح في صلاة
الفجر والعصر في معناها ويدل أيضاً على الإعادة سواء كان مع إمام الحي أو غيره وعلى جميع الصلوات وقد روى أنس قال صلى بنا أبو موسى الغداة في المربد فانتهينا الى المسجد الجامع فأقيمت الصلاة فصلينا مع المغيرة بن شعبة.
وعن حذيفة أنه أعاد الظهر والعصر والمغرب وكان قد صلاهن في جماعة رواهما الأثرم * (فصل) * فأما المغرب ففي استحباب اعادتها روايتان.
إحداهما يستحب قياساً على سائر الصلوات لما ذكرنا من عموم الاحاديث.
والثانية لا يستحب حكاها أبو الخطاب لأن التطوع لا يكون بوتر فان قلنا تستحب اعادتها شفعها برابعة نص عليه أحمد وبه قال الأسود بن يزيد والزهري والشافعي واسحق لما ذكرنا، وروي صلة (1) عن حذيفة أنه قال لما أعاد المغرب قال ذهبت أقوم في الثانية فأجلسني وهذا يحتمل أن يكون أمره بالاقتصار على ركعتين ويحتمل ان أمره بالصلاة مثل صلاة الامام ووجه الأول أن النافلة لا تشرع بوتر والزيادة أولى من النقصان
__________
(1) هو بكسر ففتح ابن زفر تابعي ثقة(2/6)
* (فصل) * فان أقيمت الصلاة وهو خارج المسجد فان كان في وقت نهي لم يستحب له الدخول لما روى مجاهد قال خرجت مع ابن عمر من دار عبد الله بن خالد بن أسيد حتى إذا نظر إلى باب المسجد اذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفاً حتى صلى الناس وقال اني قد صليت في البيت فان دخل وصلى فلا بأس لما ذكرنا من خبر أبي موسى وإن كان في غير وقت النهي استحب له الدخول والصلاة معهم لعموم الاحاديث الدالة على إعادة الجماعة * (فصل) * فاذا أعاد الصلاة فالاولى فرضه روى ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري وأبي حنيفة واسحق والشافعي في الجديد وعن سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي التي صلى معهم المكتوبة لأنه روي في حديث يزيد بن الاسود " إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة " ولنا أن في الحديث الصحيح " تكن لكما نافلة " وقوله في حديث أبي ذر " فإنها لك نافلة "
ولأنها قد وقعت فريضة وأسقطت الفرض بدليل أنها لا تجب ثانياً واذا برئت الذمة بالاولى استحال كون الثانية فريضة.
قال ابراهيم اذا نوى الرجل صلاة وكتبتها الملائكة فمن يستطيع أن يحولها فما صلى بعده فهو تطوع، وحديثهم لا تصريح فيه فينبغي أن يحمل معناه على ما في الاحاديث الباقية، فعلى هذا لا ينوي الثانية فرضاً بل ينويها ظهراً معادة وان نواها نفلاً صح * (فصل) * ولا تجب الاعادة رواية واحدة قاله القاضي قال وقد ذكر بعض أصحابنا فيه رواية انها تجب مع إمام الحي لظاهر الأمر، ولنا أنها نافلة.
والثانية لا تجب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصلى صلاة في يوم مرتين " رواه أبو داود ومعناه والله أعلم واجبتان.
ويحمل الأمر على الاستحباب فعلى هذا إذا قصد الاعادة فلم يدرك الا ركعتين فقال الآمدي يجوز أن يسلم معهم وأن يتمها أربعاً لانها نافلة والمنصوص أنه يتمها أربعاً لقوله عليه السلام " وما فاتكم فأتموا " * (مسألة) * (ولا تكره إعادة الجماعة في غير المساجد الثلاثة) معنى إعادة الجماعة انه اذا صلى إمام الحي وحضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلوا جماعة وهذا قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي واسحق.
وقال مالك والثوري والليث وابو حنيفة والشافعي لا تعاد الجماعة في مسجد له(2/7)
إمام راتب في غير ممر الناس ومن فاتته الجماعة صلى منفرداً لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والعداوة والتهاون في الصلاة مع الإمام، ولأنه مسجد له إمام راتب فكره فيه إعادة الجماعة كالمسجد الحرام ولنا عموم عليه السلام " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " وروى أبو سعيد قال جاء رجل - وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال " أيكم يتجر على هذا؟ " فقام رجل فصلى معه قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه الأثرم وفيه فقال " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " وروى بإسناده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وزاد فلما صليا قال " وهذان جماعة " ولأنه قادر على الجماعة فاستحب له كالمسجد الذي في ممر الناس وما قاسوا عليه ممنوع * (فصل) * فأما اعادتها في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى فقد روي عن أحمد كراهته وذكره أصحابنا لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الامام الراتب فيها
اذا أمكنتهم الصلاة مع الجماعة مع غيره، وظاهر خبر أبي سعيد وأبي أمامة أنه لا يكره لأن الظاهر أن ذلك كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولأن المعنى يقتضيه لأن حصول فضيلة الجماعة فيها كحصولها في غيرها والله أعلم * (مسألة) * (واذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) متى أقيمت الصلاة المكتوبة لم يشتغل عنها بغيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " منفق عليه.
وروي ذلك عن أبي هريرة وكان عمر يضرب على صلاة بعد الاقامة وكرهه سعيد بن جبير وابن سيرين وعروة والشافعي واسحق وأباح قوم ركعتي الفجر والامام يصلي، روى ذلك عن ابن مسعود وروي عن ابن عمر أنه دخل المسجد والناس في الصلاة فدخل بيت حفصة فصلى ركعتين ثم خرج إلى(2/8)
المسجد فصلى وهذا قول مسروق والحسن، وقال مالك إن لم يخف أن تفوته الركعة فليركع.
وقال الأوزاعي اركعهما ما تيقنت انك تدرك الركعة الاخيرة ونحوه قول أبي حنيفة والأول أولى لما ذكرنا * (مسألة) * (وإن أقيمت وهو في نافلة أتمها خفيفة) لقول الله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها لأن الفريضة أهم من النافلة وعنه يتمها للآية التي ذكرها * (فصل) * ومن كبر قبل سلام الامام فقد أدرك الجماعة.
يعني أنه يبني عليها ولا يجدد إحراماً لأنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام أشبه ما لو أدرك ركعة ولأنه اذا أدرك جزءاً من صلاة الإمام فأحرم معه لزمه أن ينوي الصفة التي هو عليها وهو كونه مأموماً فينبغي أن يدرك فضل الجماعة * (مسألة) * قال (ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " رواه أبو داود (1) ولأنه لم يفته من الاركان إلا القيام وهو يأتي به مع تكبيرة الاحرام ثم يدرك مع الامام بقية الركعة وانما تحصل له الركعة اذا اجتمع مع الإمام في الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء من الركوع قبل أن يزول الامام عن قدر الاجزاء منه فان أدرك الركوع ولم يدرك الظمأنينة فعلى وجهين ذكرهما ابن عقيل وعليه أن يأتي بالتكبير في حال قيامه فأما إن أتى به أو ببعضه بعد أن انتهى في الانحناء الى قدر الركوع لم يجزئه لأنه أتي بها في غير محلها
ولأنه يفوته القيام وهو من أركان الصلاة إلا في النافلة لأنه لا يشترط لها القيام * (مسألة) * (وأجزأته تكبيرة واحدة والأفضل اثنتان) وجملة ذلك أن من أدرك الإمام في الركوع أجزائه تكبيرة واحدة وهي تكبيرة الاحرام التي ذكرناها وهي ركن لا تسقط بحال وتسقط تكبيرة الركوع ها هنا نص عليه أحمد في رواية أبي داود وصالح، روى ذلك (عن) زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن والثوري والشافعي ومالك وأصحاب الرأي، وعن عمر بن عبد العزيز عليه تكبيرتان وهو قول حماد بن أبي سليمان قال شيخنا، والظاهر أنهما أرادا الاولى له تكبيرتان فيكون موافقاً لقول الجماعة فان عمر ابن عبد العزيز قد نقل عنه أنه كان ممن لا يتم التكبير ووجه القول الأول أن هذا قد روي عن زيد ابن ثابت وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة فيكون إجماعاً ولأنه اجتمع واجبان من جنس واحد في محل واحد أحدهما ركن فسقط به الآخر كما لو طاف (في) الحج طواف الزيارة عند خروجه من مكة فانه يجزيه عن طواف الوداع وقال القاضي إن نوى بها تكبيرة الاحرام وحدها أجزاه وإن نواهما لم يجزه في الظاهر من قول أحمد لأنه شرك بين الواجب وغيره في النية أشبه ما لو عطس عند رفع رأسه من الركوع فقال ربنا ولك الحمد ينويهما فإن أحمد قد نص في هذا أنه لا يجزيه وهذا القول يخالف منصوص أحمد فإنه قد قال في رواية ابنه صالح فيمن جاء والامام راكع كبر تكبيرة
__________
(1) في هامش الاصل ينظر في هذا الحديث فما أظن أبا داود رواه أقول بل روي من حديث لابي هريرة " ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة " وقد فسروا الركعة بالركوع وهو ضعيف في اسناده يحيي المديني قال البخاري منكر الحديث ... وفي الصحيحين عن أبي هريرة " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " وفي رواية لمسلم زيادة " مع الامام "(2/9)
واحدة قيل له ينوي بها الافتتاح قال نوى أو لم ينو أليس قد جاء وهو يريد الصلاة ولأن نية الركوع لا تنافي نية الافتتاح ولهذا حكمنا بدخوله في الصلاة بهذه النية ولم تؤثر نية الركوع في فسادها، ولا
يجوز ترك نص الامام لقياس نصه في موضع آخر كما لا يترك نص الله تعالى وسنة رسوله بالقياس وهذا لا يشبه ما قاس عليه القاضي فان التكبيرتين من جملة العبادة بخلاف حمد الله في العطاس فإنه ليس من جملة الصلاة فقياسه على الطوافين أولى لكونهما من أجزاء العبادة والأفضل تكبيرتان نص عليه.
قال أبو داود قلت لأحمد يكبر مرتين أحب اليك قال إن كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف وإن نوى تكبيرة الركوع خاصة لم يجزه لأن تكبيرة الاحرام ركن ولم يأت بها * (فصل) * فإن أدرك الإمام في ركن غير الركوع لم يكبر إلا تكبيرة الافتتاح وينحط بغير تكبير لأنه لا يعتد له به وقد فاته محل التكبير وإن أدركه في السجود أو في التشهد الأول كبر في حال قيامه مع الامام الى الثالثة لأنه مأموم له فيتابعه في التكبير من أدرك الركعة معه من أولها.
وان سلم الامام قام المأموم الى القضاء بتكبير وبه قال مالك والثوري واسحق وقال الشافعي يقوم بغير تكبير لأنه قد كبر في ابتداء الركعة ولا إمام له يتابعه.
ولنا أنه قام في الصلاة إلى ركن معتد به فيكبر كالقائم من التشهد الاول وكما لو قام مع الإمام ولا نسلم أنه كبر في ابتداء الركعة فان ما كبر فيه لم يكن من الركعة إذ ليس في أول الركعة سجود ولا تشهد وانما ابتداء الركعة قيامه فينبغي أن يكبر فيه * (فصل) * ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته فيه وإن لم يعتد له به لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " رواه أبو داود وروى الترمذي عن معاذ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام " (1) قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا اذا جاء الرجل والامام ساجد فليسجد ولا تجزيه تلك الركعة قال بعضهم لعله أن لا يرفع رأسه من السجدة حتى يغفر له * (مسألة) * (وما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته وما يقضيه فهو أولها يستفتح له ويتعوذ ويقرأ السورة) هذا هو المشهور من المذهب، ويروى ذلك عن ابن عمر ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري وحكي عن الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما فاتكم فاقضوا " متفق
عليه والمقضي هو الفائت فينبغي أن يكون على صفته.
فعلى هذا يستفتح له ويستعيذ ويقرأ السورة وعنه أن الذي يدرك أول صلاته والمقضي آخرها وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز واسحق وهو قول الشافعي ورواية عن مالك واختاره ابن المنذر لقوله عليه السلام " وما فاتكم فأتموا "
__________
(1) قال الحافظ في التلخيص فيه ضعف وانقطاع(2/10)
فعلى هذه الرواية لا يستفتح.
وأما الاستعاذة فإن قلنا تسن في كل ركعة استعاذ وإلا فلا.
وأما السورة بعد الفاتحة فيقرأها على كل حال قال شيحنا لا أعلم خلافاً بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة وهذا مما يقوي الرواية الأولى فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان إحداهما يستفتح ويأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد فعل ذلك جندب لأن المقضي أول صلاته وهذه صفة أولها ولانهما ركعتان يقرأ فيهما السورة فكانا متواليتين كغير المسبوق.
والثانية يأتي بركعة يقرأ فيها بالحمد وسورة ثم يجلس ثم يقوم فيأتي بأخرى يقرأ فيها بالحمد وحدها نقلها صالح وأبو داود والاثرم فعل ذلك مسروق وبه قال عبد الله بن مسعود وهو قول سعيد بن المسيب وأيما فعل من ذلك جاز آن شاء الله لأنه يروى أن مسروقاً وجندباً ذكرا عند عبد الله بن مسعود فصوب فعل مسروق ولم ينكر فعل جندب ولا أمره باعادة الصلاة والله أعلم * (مسألة) * (ولا تجب القراءة على المأموم) هذا قول أكثر أهل العلم وممن كان لا يرى القراءة خلف الإمام علي وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وجابر وابن عمر وحذيفة بن اليمان وبه يقول الثوري وابن عيينة وأصحاب الرأي ومالك والزهري والاسود وابراهيم وسعيد بن جبير.
قال ابن سيرين لا أعلم من السنة القراءة خلف الإمام وقال الشافعي وداود تجب القراءة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " متفق عليه وعن عبادة قال كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال " لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ " قلنا نعم يا رسول الله قال " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "
رواه أبو داود، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج غير تمام " قال الراوي فقلت يا أبا هريرة إني أكون أحياناً وراء الإمام قال فغمزني في ذراعي وقال اقرأ بها في نفسك يا فارسي رواه مسلم، ولأنها ركن من أركان الصلاة فلم تسقط عن المأموم كسائر الأركان، ولأن من لزمه القيام لزمته القراءة إذا قدر عليها كالمنفرد.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " رواه الحسن ابن صالح عن ليث بن سليم فإن قيل: ليث بن سليم ضعيف قلنا قد رواه الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر ثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا اسناد صحيح متصل رجاله كلهم ثقات، الاسود بن عامر روى له البخاري والحسن بن صالح أدرك أبا الزبير ولد قبل وفاته بنيف وعشرين سنة وروى من طرق خمسة سوى هذا.
وروي أيضاً عن ابن عباس وعمران ابن حصين وأبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهن الدارقطني ورواه عبد الله بن شداد(2/11)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما، وروي عن علي عليه السلام أنه قال ليس على الفطرة من قرأ خلف الإمام، وقال ابن مسعود وددت ان من قرأ خلف الامام ملئ فوه تراباً ولأن القراءة لو وجبت على المأموم لما سقطت عن المسبوق كسائر الأركان.
وأما أحاديثهم فالحديث الاول الصحيح محمول على غير المأموم وكذلك حديث أبي هريرة وقد جاء مصرحاً به فروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج إلا وراء الامام " رواه الخلال، وقول أبي هريرة اقرأ بها في نفسك من كلامه ورأيه قد خالفه غيره من الصحابة وحديث عبادة لم يروه غير ابن إسحق ونافع بن محمود بن الربيع وهو أدنى حالا من ابن إسحق وقياسهم على المنفرد لا يصح لأن المنفرد ليس له من يتحمل عنه القراءة بخلاف المأموم * (مسألة) * (ويستحب أن يقرأ في سكتات الامام وما لا يجهر فيه أو لا يسمعه لبعده فإن لم يسمعه لطرش فعلى وجهين) وهو قول جماعة من أهل العلم روي نحوه عن عبد الله بن عمر وهو قول مجاهد والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وعروة وغيرهم قال أبو سلمة بن عبد الرحمن للامام سكتتان
فاغتنم فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا دخل في الصلاة واذا قال ولا الضالين، وقال عروة أما أنا فأغتنم من الامام اثنتين اذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأقرأ عندها وحين يختم السورة فأقرءوا قبل أن يركع، وهذا قول الشافعي، وقالت طائفة لا يقرأ خلف الامام في سر ولا جهر يروي ذلك عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرناهم في المسألة قبلها رواه سعيد في سننه.
وقال إبراهيم النخعي انما أحدث الناس القراءة وراء الامام زمان المختار لأنه كان يصلي بهم صلاة النهار دون الليل فاتهموه فقرأوا خلفه، وكره ابراهيم القراءة خلف الإمام وقال يكفيك قراءة الامام وهذا قول ابن عيينة والثوري وأصحاب الرأي لما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ولأنه مأموم فلم يقرأ كحالة الجهر ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أسررت بقراءتي فاقرأوا " رواه الدارقطني ولقول الراوي في الحديث الصحيح فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور والقياس في حالة الجهر لا يصح لأنه أمر فيها بالانصات لاستماع قراءة الامام بخلاف هذا.
إذا ثبت هذا فإنه يقرأ في حالة الجهر في سكتات الامام بالفاتحة وفي حال الاسرار يقرأ بالفاتحة وسورة كالامام والمنفرد * (فصل) * فإن لم يسمع الامام في حال الجهر لبعده قرأ نص عليه قيل له أليس قد قال الله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال هذا الى أي شئ يستمع قيل له فالاطروش قال لا أدري قال شيخنا وهذا ينظر فيه فإن كان بعيداً قرأ أيضاً وإن كان قريباً قرأ في نفسه بحيث لا يشتغل من(2/12)
الى جانبه عن الاستماع لأنه في معنى البعيد ولا يقرأ (اذا) كان يخلط على من يقرب اليه ويشغله عن الاستماع وفيه وجه آخر لا يقرأ اذا كان قريباً لئلا يخلط على الإمام ولأنه لو كان في موضعه من يسمع لم يقرأ أشبه السميع، وإن سمع همهمة الامام ولم يفهم فقال في رواية الجماعة لا يقرأ وقال في رواية عبد الله يقرأ اذا سمع الحرف بعد الحرف * (فصل) * ولا يستحب للمأموم القراءة وهو يسمع قراءة الإمام بالحمد ولا بغيرها وبه قال سعيد
ابن المسيب وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن والزهري وكثير من السلف والثوري وابن عيينة وابن المبارك وأصحاب الراي وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر قال يقرأ ونحوه عن الليث وابن عون ومكحول لما ذكرنا من الاحاديث.
والمعنى على وجوب القراءة على المأموم.
ولنا قوله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) قال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب والزهري وابراهيم والحسن أنها نزلت في شأن الصلاة، قال أحمد في رواية أبي داود أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة، وروى ابو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا " رواه سعيد بن منصور، وروى أبو موسى قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم وليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا " رواه مسلم، وروى أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مالي أنازع القرآن " فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
رواه مالك بمعناه وقال الترمذي حديث حسن ولأنه إجماع، قال أحمد ما سمعت احدا من أهل الاسلام يقول أن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزي صلاة من خلفه اذا لم يقرأ، وقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وهذا مالك في أهل الحجاز وهذا الثوري في أهل العراق وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وأما الأحاديث فقد أجبنا عنها فيما مضى ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق فلا تجب على غيره كقراءة السورة * (فصل) * قال أبو داود قيل لأحمد اذا قرأ المأموم بفاتحة الكتاب ثم سمع قراءة الامام قال يقطع اذا سمع قراءة الامام وينصت للقراءة وذلك لما ذكرنا من الآية والأخبار * (مسألة) * (وهل يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الامام؟ على روايتين) أما في حال قراءة إمامه فلا يستفتح ولا يستعيذ لأنه اذا سقطت القراءة عنه كيلا يشتغل عن استماع قراءة الامام فالاستفتاح أولى ولأن قوله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يتناول كل ما يشتغل عن الانصات من الاستفتاح وغيره ولأن الاستعاذة انما شرعت من أجل القراءة فاذا سقطت القراءة سقط التبع، وإن سكت الامام قدراً يتسع لذلك ففيه روايتان إحداهما يستفتح ولا يستعيذ
اختاره القاضي لأنه أمكن للاستفتاح من غير اشتغال عن الانصات وفيه رواية أنه يستفتح ويستعيذ(2/13)
لما ذكرنا.
والثانية لا يستفتح لأنه يشغله عن القراءة وهي أهم منه، وأما المأموم في صلاة الاسرار فانه يستفتح ويستعيذ نص عليه أحمد فقال إذا كان ممن يقرأ خلف الامام تعوذ قال الله تعالى (فإذا قرأت فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (مسألة) * (ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرفع ليأتي به بعده فان لم يفعل عمدا بطلت صلاته عند أصحابنا إلا القاضي) وجملة ذلك أنه لا يجوز أن يسبق إمامه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام " رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار " متفق عليه.
فإن فعل ذلك عامداً أثم وتبطل صلاته في ظاهر كلام أحمد فإنه قال ليس لمن سبق الامام صلاة لو كان له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب.
وذلك لما ذكرنا من الحديثين، وروي عن ابن مسعود أنه نظر إلى من سبق الامام فقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت.
ولأنه لم يأتم بإمامه في الركن أشبه ما إذا سبقه بتكبيرة الاحرام، وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته لأنه سبق يسير، ولقوله عليه السلام " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " وقال ابن حامد في ذلك وجهان وقال عندي أنه يصح لأنه اجتمع معه في الركن أشبه ما لو ركع معه ابتداء صح وهذا اختيار ابن عقيل وعليه أن يرفع ليأتي به بعده ليكون مؤتماً بإمامه فان لم يفعل عمدا بطلت صلاته عند أصحابنا لأنه ترك الواجب عمدا.
وقال القاضي لا تبطل لأنه سبق يسير * (مسألة) * (فإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً فهل تبطل صلاته؟ على وجهين) وكذلك ذكره أبو الخطاب أحدهما تبطل للنهي.
والثاني لا تبطل لأنه سبقه بركن واحد فهي كالتي قبلها.
قال ابن عقيل اختلف أصحابنا فقال بعضهم تبطل الصلاة بالسبق بأي ركن من الاركان ركوعاً كان أو سجوداً أو قياما أو قعودا، وقال بعضهم السبق المبطل مختص بالركوع لأنه الذي يحصل به
ادراك الركعة وتفوت بفواته فجاز أن يختص بطلان الصلاة بالسبق به، وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " وهل تبطل الركعة، فيه روايتان: إحداهما تبطل لأنه لا يقتدي بإمامه في الركوع أشبه ما لو لم يدركه والأخرى لا تبطل للخبر.
فأما إن ركع قبل ركوع إمامه فلما ركع الامام سجد قبل رفعه بطلت صلاته إن كان عمداً لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة وإن فعله جاهلاً أو ناسياً لم تبطل للحديث ولم يعتد بتلك الركعة لعدم اقتدائه بإمامه فيها * (فصل) * فإن سبق الامام المأموم بركن كامل مثل أن يركع ويرفع قبل ركوع المأموم لعذر من نعاس أو غفلة أو زحام أو عجلة الامام فانه يفعل ما سبق به ويدرك إمامه ولا شئ عليه نص عليه(2/14)
أحمد في رواية المروذي.
قال شيخنا وهذا لا أعلم فيه خلافاً.
وحكي في المستوعب رواية أنه لا يعتد بتلك الركعة وان سبقه بركعة كاملة أو أكثر فانه يتبع إمامه ويقضي ما سبقه به كالمسبوق.
قال أحمد في رجل نعس خلف الامام حتى صلى ركعتين قال كأنه أدرك ركعتين، فاذا سلم الامام صلى ركعتين وعنه يعيد الصلاة، وإن سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة ثم زال عذره فالمنصوص عن أحمد أنه يتبع إمامه ولا يعتد بتلك الركعة.
وظاهر هذا أنه إن سبقه بركنين بطلت تلك الركعة وإن سبق بأقل من ذلك فعله وأدرك إمامه، وقد قال بعض أصحابنا فيمن زحم عن السجود يوم الجمعة ينتظر زوال الزحام ثم يسجد ويتبع الامام ما لم يخف فوات الركوع في الثانية مع الامام.
فعلى هذا يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركن وهو قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بأصحابه حين صلى بهم بعسفان صلاة الخوف فأقامهم خلفه صفين فسجد معه الصف الاول والصف الثاني قيام حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثانية فسجد معه الصف الثاني ثم تبعه وجاز ذلك للعذر فهذا مثله.
وقال مالك إن أدركهم المسبوق في أول سجودهم سجد معهم واعتد بها، وإن علم أنه لا يقدر على الركوع وأدركهم في السجود حتى يستووا قياماً أتبعهم فيما بقي من صلاتهم ثم يقضي ركعة ثم يسجد للسهو.
وهذا قول الأوزاعي إلا أنه لم يجعل عليه سجود سهو.
قال شيخنا والأولى في هذا والله أعلم
أنه ما كان على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف فان غير المنصوص عليه يرد الى الأقرب من المنصوص عليه وان فعل ذلك لغير عذر بطلت صلاته لأنه ترك الائتمام بإمامه عمداً والله أعلم (فصل) فإن سبق المأموم الامام بالقراءة لم تبطل صلاته رواية واحدة * (مسألة) * (ويستحب للامام تخفيف الصلاة مع إتمامها) لقول عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام، وروي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم صلى بالناس فليجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة " متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " أفتان أنت؟ ثلاث مرار فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة " رواه البخاري وهذا لفظه، ورواه مسلم * (مسألة) * (ويستحب تطويل الركعة الاولى أطول من الثانية) .
يستحب تطويل الركعة الاولى من كل صلاة ليلحقه القاصد للصلاة.
وقال الشافعي تكون الاوليان سواء.
وقال أبو حنيفة يطول الاولى من صلاة الصبح خاصة ووافق قول الشافعي في غيرها وذلك لحديث أبي سعيد حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الاوليين من الظهر قدر ثلثين آية، ولأن الآخرتين متساويتان فكذلك الأوليان ولنا ما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة(2/15)
الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحياناً وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويطول في الأولى ويقصر في الثانية وكان يطول في الأولى من صلاة الصبح متفق عليه وروى عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الاولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم.
فأما حديث أبي سعيد فرواه ابن ماجة وفيه وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك وهو أولى لموافقته للأحاديث الصحيحة ثم لو قدر التعارض وجب تقديم حديث أبي
قتادة لصحته ولتضمنه الزيادة وهو التفريق بين الركعتين.
وروى أبو سعيد أن الصلاة كانت تقام ثم يخرج أحدنا يقضي حاجته ويتوضأ ثم يدرك الركعة الاولى مع النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد في الامام يطول في الثانية يعني أكثر من الأولى يقال له في هذا يعلم * (مسألة) * (ولا يستحب انتظار داخل وهو في الركوع في إحدى الروايتين) .
متى أحس بداخل في حال القيام أو الركوع يريد الصلاة معه وكانت الجماعة كثيرة في انتظاره لأنه يبعد أن لا يكون فيهم من يشق عليهم وكذلك إن كانت الجماعة يسيرة والانتظار يشق عليهم لأن الذين معه أعظم حرمة من الداخل فلا يشق عليهم لنفعه وإن لم يكن كذلك استحب انتظاره وهذا مذهب ابي مخلد والشعبي والنخعي واسحاق.
وقال الاوزاعي وأبو حنيفة والشافعي لا ينتظره وهو رواية أخرى لأن انتظاره تشريك في العبادة فلا يشرع كالرياء ولنا أنه انتظار ينفع ولا يشق فشرع كتطويل الركعة الاولى وتخفيف الصلاة.
وقد قال عليه السلام " من أم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة " وقد شرع الانتظار في صلاة الخوف لتدرك الطائفة الثانية وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر الجماعة فقال جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم بطؤا أخر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم وأطال السجود حين ركب الحسن على ظهره وقال " إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله " وبهذا كله يبطل ما ذكروه وقال القاضي الانتظار جائز غير مستحب فإنما ينتظر من كان ذا حرمة كأهل العلم ونظرائهم من أهل الفضل * (مسألة) * (وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها وبيتها خير لها) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا ماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات " يعني غير متطيبات.
رواه أبو داود ويخرجن غير متطيبات لهذا الحديث ويباح لهن حضور الجماعة مع الرجال لقول عائشة كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس متفق عليه وصلاتهن في بيوتهن أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " رواه أبو داود(2/16)
(فصل في الامامة) (السنة أن يؤم القيامة اقرؤهم) يعني ان القارئ مقدم على الفقيه وغيره ولا خلاف في التقديم بالقراءة والفقه واختلف في أيهما يقدم فذهب أحمد رحمه الله إلى تقديم القارئ وهو قول ابن سيرين والثوري وابن المنذر واسحق وأصحاب الرأي.
وقال عطاء ومالك والاوزاعي والشافعي يقدم الافقه اذا كان يقرأ ما يكفي في الصلاة لأنه قد ينوبه في الصلاه مالا يدري ما يفعل فيه إلا بالفقه فيكون اولى كالامامة الكبرى والحكم ولنا ما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً - أو قال - سلماً " وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا اجتمع ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " رواهما مسلم ولما قدم المهاجرون الأولون كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وفيهم عمر بن الخطاب وفي حديث عمرو بن سلمة قال " ليؤمكم أكثركم قرآناً " فإن قيل إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ لأن الصحابة كان أقرأهم أفقههم وأنهم كانوا اذا قرأوا القرآن تعلموا معه أحكامه قال ابن مسعود كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها قلنا اللفظ عام فيجب الأخذ بعمومه على أن في الحديث ما يبطل هذا التأويل وهو قوله(2/17)
وان استووا فأعلمهم بالسنة ففاضل بينهم في العلم بالسنة مع تساويهم في القراءة ولو كان كما قالوا للزم من التساوي في القراءة التساوي في الفقه وقد نقلهم مع التساوي في القراءة الى الأعلم بالسنة وقال صلى الله عليه وسلم " أقرؤكم أبي وأقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " ففضل بالفقه من هو مفضول بالقراءة قيل لأبي عبد الله حديث النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر يصلي بالناس أهو خلاف أبي مسعود؟ قال لا إنما قوله لأبي بكر عندي يصلي بالناس للخلافة يعني أن الخليفة أحق بالامامة (فصل) ويرجح أحد القارئين على الآخر بكثرة القرآن لحديث عمر بن سلمة، وان تساويا في قدر ما يحفظ كل واحد منهما وكان أحدهما أجود قراءة واعراباً فهو أولى لأنه اقرأ وإن كان
أحدهما أكثر حفظاً والآخر أقل لحناً وأجود قراءة قدم لأنه أعظم أجراً في قراءته لقوله عليه السلام " من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ومن قرأ ولحن فيه فله بكل حرف حسنة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما اعراب القرآن أحب إلي من حفظ بعض حروفه.
وان اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة فكذلك للخبر وقال ابن عقيل يقدم الأفقه لأنه يمتاز بما لا يستغني عنه في الصلاة(2/18)
* (مسألة) * ثم أفقههم ثم أسنهم ثم أقدمهم هجرة ثم أشرفهم ثم أتقاهم ثم من تقع له القرعة متى استووا في القراءة وكان أحدهما أفقه قدم لما ذكرنا من الحديث ولأن الفقه يحتاج إليه في الصلاة للإتيان بواجباتها وأركانها وشرطوها وسننها وجبرها إن احتاج إليه فإن اجتمع فقيهان قارئان أحدهما أقرأ والآخر أفقه قدم الأقرأ للحديث نص عليه وقال ابن عقيل يقدم الافقه لتميزه بما لا يستغني عنه في الصلاة وهذا يخالف الحديث المذكور فلا يعول عليه فإن اجتمع فقيهان أحدهما أعلم بأحكام الصلاة والآخر أعلم بما سواها قدم الأعلم بأحكام الصلاة لأن علمه يؤثر في تكميل الصلاة بخلاف الآخر (فصل) فإن استووا في القراءة والفقه فقال شيخنا ها هنا يقدم أسنهم يعني أكبرهم سناً وهو اختيار الخرقي لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث " إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما " متفق عليه ولأن الأسن أحق بالتوقير والتقديم وظاهر كلام أحمد أنه يقدم أقدمهما هجرة ثم أسنهما لحديث أبي مسعود فإنه مرتب هكذا قال الخطابي وعلى هذا الترتيب أكثر أقاويل العلماء ومعنى تقديم الهجرة أن يكون أحدهما أسبق هجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام وإنما يقدم بها لأنها قربة وطاعة فإن عدم ذلك إما لاستوائهما فيها أو عدمها قدم أسنهما لما ذكرنا وقال ابن حامد أحقهم بعد القراءة والفقه أشرفهم ثم أقدمهم هجرة ثم أسنهم والصحيح ما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم من تقديم السابق بالهجرة ثم الاسن ويرجح بتقديم الاسلام كتقديم الهجرة(2/19)
لأن في بعض ألفاظ حديث أبي مسعود " فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما " ولأن الإسلام أقدم
من الهجرة فإذا قدم بالهجرة فأولى أن يتقدم بالإسلام فإذا استووا في جميع ذلك قدم أشرفهم والشرف يكون بعلو النسب وبكونه أفضل في نفسه وأعلاهم قدراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " قدموا قريشاً ولا تقدموها " فإن استووا في هذه الخصال قدم أتقاهم لأنه أشرف في الدين وأفضل وأقرب إلى الاجابة وقد جاء " إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال " ذكره الإمام أحمد في رسالته ويحتمل تقديم الأتقى على الأشرف لأن شرف الدين خير من شرف الدنيا وقد قال الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فإن استووا في هذا كله أقرع بينهم نص عليه لأن سعداً أقرع بين الناس في الأذان يوم القادسية فالإمامة أولى ولأنهم تساووا في الاستحقاق وتعذر الجمع فأقرع بينهم كسائر الحقوق وإن كان أحدهما يقوم بعمارة المسجد وتعاهده فهو أحق به وكذلك إن رضي الجيران أحدهما دون الآخر قدم به ولا يقدم بحسن الوجه لأنه لا مدخل له في الإمامة ولا أثر له فيها وهذا كله تقديم استحباب لا تقديم اشتراط ولا إيجاب بغير خلاف علمناه(2/20)
* (مسألة) * وصاحب البيت وإمام المسجد أحق بالإمامة إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان) متى أقيمت الجماعة في بيت فصاحبه أولى بالإمامة من غيره إذا كان ممن تصح إمامته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " رواه مسلم وعن مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه وسلم " من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم " رواه أبو داود وهذا قول عطاء والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً فان كان في البيت ذو سلطان قدم على صاحب البيت لأن ولايته على البيت وصاحبه وقدم النبي صلى الله عليه وسلم عتبان بن مالك وأنساً في بيوتهما اختاره الخرقي وقال ابن حامد صاحب البيت أحق بالإمامة لعموم الحديث والاول أصح وكذلك إمام المسجد الراتب أولى من غيره لأنه في معنى صاحب البيت إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان ففيه وجهان وقد روي عن ابن عمر أنه أتى أرضاً له وعندها مسجد يصلي فيه مولى له فصلى ابن عمر معهم فسألوه أن يؤمهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق (فصل) واذا قدم المستحق من هؤلاء لرجل في الإمامة جاز وصار بمنزلة من أذن له في
استحقاق التقدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولأنه حق له فجاز نقله إلى من شاء قال أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه " أرجو أن يكون الإذن في الكل (فصل) وإذا دخل السلطان بلداً له فيه خليفة فهو أحق من خليفته لأن ولايته على خليفته وغيره وكذلك لو اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى لأنه يملك البيت والعبد على الحقيقة وولايته(2/21)
على العبد فإن لم يكن سيده معهم فالعبد أولى لما ذكرنا من الحديث وقد روي أنه اجتمع ابن مسعود وحذيفة وبو ذر في بيت أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد فتقدم أبو ذر ليصلي بهم فقالوا له وراءك فالتفت إلى أصحابه فقال أكذلك فقالوا نعم فتأخر وقدموا أبا سعيد فصلى رواه صالح بن أحمد باسناده وان اجتمع المؤجر والمستأجر فالمستأجر أولى ولأنه أحق بالسكنى والمنفعة * (مسألة) * والحر أولى من العبد والحاضر أولى من المسافر والبصير أولى من الأعمى في أحد الوجهين) إمامة العبد صحيحة لما روي عن عائشة أن غلاماً لها كان يؤمها وصلى ابن مسعود وحذيفة وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن والنخعي والشعبي والحكم والثوري والشافعي واسحق وأصحاب الرأي وكره ذلك أبو مجلز وقال مالك لا يؤمهم إلا أن يكون قارئا وهم أميون ولنا عموم قوله عليه السلام " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله تعالى " ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعا ولأنه من أهل الآذان للرجال يأتي بالصلاة على الكمال فجاز له امامتهم كالحر إذا ثبت ذلك فالحر أولى منه لأنه أكمل منه وأشرف ويصلي الجمعة والعيد إماماً بخلاف العبد ولأن في تقديم الحر خروجاً من الخلاف والمقيم أولى من المسافر لأنه إذا كان إماماً حصلت له الصلاة كلها جماعة فان أمه المسافر أتم الصلاة منفرداً وقال القاضي إن كان فيهم إماماً فهو أحق بالإمامة وان كان مسافراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بهم عام الفتح ويقول لأهل البلد " صلوا أربعاً فإنا سفر " رواه أبو داود وإن تقدم المسافر جاز ويتم المقيم الصلاة بعد سلام إمامه(2/22)
كالمسبوق وان أنم المسافر الصلاة جازت صلاتهم وحكي عنه رواية في صلاة المقيم أنها لا تجوز لأن الزيادة نفل أم بها مفترضين والصحيح الأول لأن المسافر اذا نوى الاتمام لزمه فيصير الجميع فرضاً (فصل) وإمامة الأعمى جائزة لا نعلم فيها خلافاً إلا ما حكى عن أنس أنه قال ما حاجتهم اليه وعن ابن عباس أنه قال كيف أؤمهم وهم يعدلونني الى القبلة والصحيح عن ابن عباس أنه كان يؤمهم وهو أعمى وعتبان بن مالك وقتادة وجابر وقال أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم أم الناس وهو أعمى (1) رواه أبو داود ولأن الأعمى فقد حاسة لا تخل بشئ من أفعال الصلاة ولا شروطها أشبه فقد الشم والبصير أولى منه اختاره أبو الخطاب ولأنه يستقبل القبلة بعلمه ويتوقى النجاسات ببصره ولأن في إمامته اختلافاً وقال القاضي هما سواء لأن الأعمى أخشع لا يشتغل في الصلاة بالنظر إلى ما يلهيه فيكون ذلك مقابلاً لما ذكرتم فتساويا قال الشيخ والأول أولى لأن البصير لو أغمض عينيه كره ذلك ولو كان فضيلة لكان مستحباً لأنه يحصل بتغميضه ما يحصله الأعمى ولأن البصير اذا أغمض بصره مع إمكان النظر كان له الأجر فيه لأنه يترك المكروه مع إمكانه إختياراً والأعمى يتركه اضطرار افكان أدنى حالاً وأقل فضلاً * (مسألة) * (وهل تصح إمامة الفاسق والاقلف؟ على روايتين) والفاسق ينقسم على قسمين فاسق من جهة الاعتقاد وفاسق من جهة الأفعال فأما الفاسق من جهة الاعتقاد
__________
" 1 " لفظه في المنتفى ان النبي " ص " استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى.
رواه أحمد وأبو داود(2/23)
فمتى كان يعلن بدعته ويتكلم بها ويدعو اليها ويناظر لم تصح إمامته وعلى من صلى وراءه الاعادة قال أحمد لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء اذا كان داعية الى هواه وقال لا تصلى خلف المرجئ اذا كان داعية وقال القاضي وكذلك إن كان مجتهداً يعتقدها بالدليل كالمعتزلة والقدرية وغيرة الرافضة لأنهم يكفرون ببدعتهم، وإن لم يكن يظهر بدعته ففي وجوب الاعادة خلفه روايتان إحداهما تجب الاعادة كالمعلن
بدعته ولأن الكافر لا تصح الصلاة خلفه سواء أظهر كفره أو أخفاه كذلك المبتدع قال أحمد في رواية أبي الحارث لا تصلي خلف مرجي ولا رافضي ولا فاسق الا أن يخافهم فيصلي ثم يعيد وقال أبو داود متى صليت خلف من يقول لقرآن مخلوق فأعد وعن مالك لا نصلي خلف أهل البدع والثانية تصح الصلاة خلفه قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرافضة الذين يتكلمون بما تعرف؟ قال نعم آمره أن يعيد قيل له وهكذا أهل البدع قال لا لأن منهم من يسكت ومنهم من يتكلم وقال لا نصلي خلف المرجئ اذا كان داعية فدل على أنه لا يعيد إذا لم يكن كذلك وقال الحسن والشافعي الصلاة خلف أهل البدع جائزة بكل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا خلف من قال لا إله إلا الله " ولأنه رجل صلاته صحيحة فصح الائتمام به كغيره وقال نافع كان ابن عمر يصلي خلف الحسنية (1) والخوارج زمن ابن الزبير وهم يقتتلون فقيل له أتصلي مع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضاً؟ فقال من قال حي على الصلاة أجبته ومن قال حي على الفلاح أجبته ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا رواه سعيد.
ووجه القول الأول ما روى جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يقول " لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه " رواه ابن ماجه وهذا أخص من حديثهم فيتعين تقديمه وحديثهم نقول به في ال