المتون والشروح والحواشي والتقريرات في التأليف النحوي
التعريف بالبحث :
يتناول هذا البحث ظاهرة المتون والشروح والحواشي والأسباب التي أدت إلى بروزها ، وقد بدأ البحث بلمحة موجزة عن عصري المماليك والعثمانيين ، لأنهما أبرز عصرين اشتهرا بهده الظاهرة التأليفية . ثم تناول البحث تعريفاً بمفردات العنوان ( التن ، والشرح ، والحاشيه ، والتقرير ) بعد ذلك تطرق البحث إلى تاريخ المتون ، متى ظهرت ؟ وما أنواع المتن ؟ ثم أشهر المتن المنظومة وأشهر علمائها ، وبعد ذلك عرض لأشهر المتون النحوية المنثورة وأبرز علمائها .
ثم جاء العنصر الأهم بالموضوع وهو ذكر الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة في الدرس النحوي والدوافع التي دفعت العلماء إلى الاختصار فيما يسمى بالمتون مما اضطرهم بدوره إلى الشروح التي استدعت ظهور الحواشي .
وقد ناقش البحث بدقة العيوب التي أخذت على هذه الظاهرة مناقشة موضوعية بعيدة عن الحماس . ودافع الباحث عن هذه الظاهرة وبين أنها تشكل جزءاً كبيراً من تراثنا الخالد الذي لا يستغني عنه الدارس مهما علا كعبه في العلوم والمعارف .
تقديم
كانت كتب النحويين المتقدمين تؤلف لتتضمن ما اهتدوا إليه من حقائق نحويه ، وحرص أصحابها على استيفاء البحث في كل مسألة بذكر جميع ما يتصل بها ، ولو كان ذلك على سبيل الاستطراد أو لأدني ملابسه ، حتى اكتمل وضع علم النحو ، ونضجت أبحاثه وتمت مسائلة . وحينما جاء من يريد أن يضيف جديداً لم يجد زيادة لمستزيد ، اللهم إلا شرح كتب من سبقوه ، وتوضيح ما عسى أن يكون فيها مما يصعب فهمه ، وإضافة ما ظهر من خلاف طارىء بين النحاة ، وما عرضوه من علل وتأويلات وشواهد ، فازدادت التآليف اتساعاً ، وتشعبت الأبواب النحويه ، وكثرت المسائل الخلافيه ، وتنوعت العلل والتأويلات العقلية .(1/1)
وقد دفع هذا كله إلى ظهور فريق ثالث سعى إلى اختصار الأبواب وتقريب المسائل من أذهاب المتعلمين ، فألف المتون المنظومة التي برزت في القرن السابع الهجري ، حتى باتت تشكل ظاهرة متميزة في منظومة التأليف النحوي أدت إلى ظهور شروح لها أكثر اتساعاً ، ثم بروز حواشٍ وتقريرات على هذه الشروح أوجبتها ظروف التوضيح والتبيين .
وقد رأيت أن أدرس هذه الظاهرة باحثاً عن بدايتها التاريخية وأسباب ظهورها ، مبيناً أشهر علمائها وقيمتها العلمية مبتدئاً بعرض مفصل عن عنصري المماليك والعثمانيين ، لبروز هذه الظاهرة التأليفية المزدهرة فيهما مستعرضاً المآخذ عليها ، ثم مناقشاً ما قيل عن هذا النمط التأليفي سلباً وإيجاباً ، والله الموفق .
نبذه تاريخية موجزة عن عنصري المماليك والعثمانيين :
لعل من المناسب أن أتحدث ابتداءً عن عصر المماليك وعصر العثمانيين أو عصورهم من الوجهة التاريخية قبل أن أخوض في الحديث عن ظاهرة المتون والشروح والحواشي والتقريرات في النحو والصرف خاصة ، وفي سائر العلوم على وجه العموم .
فبعد احتلال بغداد أصبحت المكتبات العربية فيها خاوية بسبب مصيبة ( هولاكو ) ، وبعد النكسات التي سببها زوال سلطان العرب عن الأندلس , أصبح القطران – مصر والشام – الملجأ الوحيد للعلماء من جميع الأقطار الإسلامية , وترسخت قيمة هذا الملجأ بعد انتصار قطز وبيبرس في عين جالوت وبعد دحر المغول .
وكانت ( شجرة الدر ) قد وضعت قبيل هذا أساس سلطنة المماليك , وهي من جواري الملك الصالح نجم الدين أيوب , اشتراها أيام أبيه , وحين ولدت له ابنا أعتقها وتزوجها , وكانت قوية الشخصية , تدير الملك عند غيابه , ولما مات مقتولا سنة (647هـ ) أخفت أمر موته , لأن المعارك مع الإفرنج كانت ناشبة ، وقد حكمت ثمانين يوما , ثم تنازلت بعدها لوزيرها وزوجها الثاني عز الدين أيبك , وبذلك بدأ الحكم المملوكي في سنة (648هـ) .(1/2)
وينقسم المماليك إلى قسمين : مماليك بحرية حكموا من سنة (648هـ) إلى سنة ( 784هـ ) , وأصل هؤلاء من الحرس الذين اشتراهم الصالح الأيوبي وأسكنهم في ثكنات بجزيرة الروضة في النيل , وكان أكثرهم من الترك والمغول .
أما القسم الثاني فهم المماليك البرجية , وهؤلاء جيء بهم إلى مصر بعد المماليك البحرية , وكانوا في أول أمرهم حرسا خاصا للسلطان قلاوون , وكان معظمهم أرقاء شراكسة , وسموا بالبرجية لأنهم كانوا يقيمون في أبراج القلعة بالقاهرة . وقد حكم هؤلاء مصر في سنة ( 784هـ ) إلى سنة (923هـ) .
وقد أفلح المماليك عامة في تطهير مصر وبلاد الشام من بقايا الغزو الأوربي , وصدوا جيش المغول التي قادها هولاكو وتيمور لنك , وبذلك مهدت دولتهم للبلاد سبيل التنعم بثقافة متصلة وأنظمة سياسية مستقرة مستمرة , وقد سيطروا نحو (270سنة ) إلى أن جاء السلطان سليم العثماني سنة (932هـ ) فغلبهم على أمرهم .(1/3)
وبذلك سقطت آخر الدويلات المحلية التي نشأت على أنقاض الخلافة العربية الإسلامية ,وتمهد السبيل لقيام خلافة إسلامية جديدة غير عربية , هي خلافة الأتراك العثمانيين الذين احتلوا بلاد الشام ومصر , والتي بدأت بعد موت السلطان المملوكي قانصوه الغوري في حلب بعد أن دخلها العثمانيون الذين تابعوا مسيرهم حتى مصر , وهناك التقى الجيشان العثماني والمملوكي خارج القاهرة سنة (923هـ ) وكان النصر حليف العثمانيين , وألقى القبض على آخر ملك مملوكي , وهو طومان باي وشنق , وتحطمت دولة المماليك وظهرت الدولة العثمانية التي كبرت واتسعت , ثم ضعفت وانحسرت حتى انفرط عقدها في سنة ( 1341هـ ) وبعد عصر المماليك عصر الازدهار الكامل للدراسات النحوية خاصة واللغوية عامة في مصر والشام فقد امتلأت البلدان بالنحاة القادمين من بغداد بعد احتلالها على يد التتار سنة (656هـ) , ومن الأندلس بعد احتلال الفرنجة آخر حواضرها – غرناطة – سنة (897هـ) , مما جعل المصنفات النحوية على عصرهم تبلغ الذروة كما وكيفا , فظهرت الموسوعات كما ظهرت المتون والشروح والحواشي , وكان الملوك السلاطين من المماليك خير أعوان للعلماء الذين لجئوا إلى مصر وهم يحملون ما بقي من الثروة العلمية العربية ويحفظون البقية الباقية من تراث الإسلام في العراق والأندلس . وبهذا أصبحت القاهرة في عهد المماليك ( موئل الحضارة الإسلامية وبغية القاصدين وموطن الدرس والبحث , وصارت مدارسها تزخر بالطلاب والعلماء والمعلمين , ونشط التأليف فيها في اللغة والأدب والتاريخ والدين وعلوم القرآن .(1/4)
أما عهد الأتراك العثمانيين , فقد كاد مصباح الثقافة ينطفىء فيه , وشمل الأقطار التي كانت تحت حكمهم – ومنها مصر والشام – فتور عقلي وهبوط علمي , إلا بصيص من أمل وشعاع من علم كان مايزال ينير قلوب طائفة من العلماء وعقولهم , وبقية من هذا التراث العربي الواسع , ومن ذلك المجد العظيم , ومن هذه البقية الباقية كانت البذور التي نبتت منها النهضة الحديثة في مصر والشام وسائر الأقطار ) .
على أنه من الحق أن نقول إن الدراسات النحوية في عصر العثمانيين قد طرأ عليها عهد جديد تميز النشاط فيه بالحواشي والتقريرات , والمختصرات التي يشكل جلها فائدة طيبة , وإن كان بعضها يظهر فيه التأثر بالبيئات الأعجمية , ويخلو من الإضافة والتجديد , ويقتصر على الجمع وال‘عادة والترديد .
وسنحاول في الصفحات الآتية الكشف عن الدوافع والأسباب والظروف التي أدت إلى تميز عصر المماليك بالظاهرة التأليفية المعتمدة على سلسلة المتون والشروح والحواشي والتقريرات , فضلا عن عرض شامل لأهم مؤلفات هذه السلسلة ولأشهر مؤلفيها .
المقصود بالمتن والشرح والحاشية والتقرير :
المتن : مصطلح يطلق عند أهل العلم على مبادئ فن من فنون جمعت في رسائل صغيرة خالية من الاستطراد والتفصيل والشواهد والأمثلة إلا في حدود الضرورة .
والشرح : عمل يتوخى فيه توضيح ما غمض من المتون وتفصيل ماأجمل منها , وهو يتراوح بين الطول والقصر والسهولة والعسر , وفيه الوجيز والوسيط والبسيط .
والحاشية : إيضاحات مطولة دعت إليها ظاهرة انتشار المتون والشروح , وقد قصد منها حل مايستغل من الشرح , وتيسير مايصعب فيه , واستدراك مايفوته , والتنبيه على الخطأ والإضافة النافعة , وزيادة الأمثلة والشواهد .
أما التقرير فهو بمثابة هوامش كان يسجلها العلماء والمصنفون على أطراف نسخهم مما يعن لهم من الخواطر والأفكار على نقطة معينة أو نقاط متعددة , وذلك أثناء قيامهم بالتدريس من الشروح والحواشي .(1/5)
ظهور المتون والشروح والحواشي والتقريرات :
لعله من البدهي القول بأن المتون سابقة للشروح والحواشي والتقريرات , فهذه كلها آثار للمتون وعمل عليها , وإذا أردنا أن نضع تاريخاً لبداية المتون , لابد أن ننبه على أنها نوعان : متن منظوم , ومتن منثور . وكل واحد منهما يشترك في طبيعته مع الآخر في الميل إلى الاختصار , والخلو من كل مايؤدي إلى الاستطراد والتفصيل , وقلة ذكر المذاهب والخلافات , كما يندر فيهما وجود الشواهد والأمثلة التي لاتذكر عادة إلا في حدود الضرورة كما سبق أن ذكرنا .
(أ) المتن النظوم :
ظهر المتن المنظوم عند العرب في القرن الثاني الهجري , ولكن العرب لم يكونوا أول من اخترعه , بل كانت له أصول عند اليونان , نرى ذلك عند ( هوميروس ) في ملحمته التاريخية ( الإلياذة ) .
وقد بدأ ظهوره عند العرب حين اتسعت معارفهم , وتنوعت لديهم الثقافات , وزاد إقبالهم على التعلم وقد أحسوا حينذاك بحاجتهم إلى نوع خاص من التصنيف يعينهم على حفظ المعلومات ونقلها , فاستعانوا على ذلك بالشعر الذي امتلكوا ناصيته , لأنه يشكل وسيلة مشوقة , ويسهل على المتعلمين حفظه . يقول أحد الباحثين : ( لعل آخر الاتجاهات الجديدة التي نتناولها بالدراسة , والتي لاحظنا نشأتها في شعر القرن الثاني , هو الفن التعليمي الذي يصطنعه الشعراء عادة لنظم أنواع شتى من العلوم والمعارف تسهيلاً لحفظها. ومما لاشك فيه أن نشأة هذا الفن إنما تقترن باتساع أنواع المعارف والعلوم , وازدياد الإقبال على التعليم والتعلم في القرن الثاني , وما كان ممكنا أن ينشأ في الشعر العربي فن تعليمي قبل هذا القرن لهذا السبب نفسه ) .(1/6)
ويؤكد باحث آخر أن الأرجوزة الأموية تعد أول شعر تعليمي ظهر في اللغوية العربية وأن أراجيز العجاج وابنه رؤية تعد شعراً تعليميا , لأنها متون لغوية منظومة في اللغة نفسها من حيث هي لغة , نظماها لتمد الرواة بالألفاظ الغريبة والأساليب الشاذة والنادرة , وتزودهم بالشواهد والأمثال المأثورة والألفاظ المستعملة والمهملة .
ثم تتابعت المنظومات العلمية عبر العصور حتى جاء عصر المماليك الذي كثر فيه هذا اللون من النظم واتسعت موضوعاته , فشمل كل العلوم ومنها النحو , وأقبل الناظمون على النظم لييسروا على الطلاب سبل الإلمام بالمعارف وحفظها وسرعة استحضارها وقت الحاجة , فجاءت على سبيل المثال منظومتا ابن مالك الطويلتان ( الكافية الشافية ) و ( الخلاصة الألفية ) , ومنظومة الشاطبي الجامعة في القراءات . وهنا يعن لنا تساؤل في ضوء ماهو معروف من أن عصر المماليك يعد العصر الذهبي في نظم العلوم المتعددة , وفي كثرة هذا النظم وتنوعه ، وهو : متى ظهر أول متن منظوم في النحو ؟ .
وللإجابة على هذا التساؤل نقول : تعزى أقدم منظومة في النحو للخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة (170هـ ) , قال خلف الأحمر المتوفى سنة (180هـ ) : وحروف النسق خمسة وتسمى حروف العطف . وقد ذكرها الخليل بن أحمد في قصيدته في النحو :
فانسق وصل بالواو قولك كله ... وبلا وثم وأو فليست تصعب
الفاء ناسقة كذلك عندنا ... وسبيلها رحب المذاهب مشعب
ومهما يكن من شك في نسبة هذه القصيدة للخليل – وهو ماتطرق له المحقق – وبصرف النظر عن سمعة خلف بن الأحمر وأمانته العلمية , وبغض النظر عن كل ذلك فإن هذه المنظومة مازالت تعد أول منظومة في النحو في ذلك الوقت المبكر .(1/7)
ثم تتابعت بعدها المتون المنظومة ، فنظم أحمد بن منصور اليشكري المتوفي سنة (370هـ ) أرجوزة في النحو ، عدد أبياتها ثلاثة آلاف إلا تسعين ، تناول فيها – فيما تناول – الخلاف في وزن " غزاة " و " رماة " و " قضاة " ونحوها ، وهل هي على " فُعَلة " أو " فَعَلة " أو " فُعَّل " ؟ ، وقد قال في مطلعها :
والوزن في الغزاة والرماة ... في الأصل عند جملة الرواة
فُعَلَة ليس لها نظير ... في سالم من شأنه الظهور
وآخرون فيه قالوا فَعَلَة ... كما تقول في الصحيح جملة
ثم صنف الحريري المتوفى سنة (516هـ ) أرجوزته النحوية " ملحة الإعراب وسنحة الآداب " في ثلاثمائة وخمسة وسبعين بيتاً ، منها :
أقول من بعد افتتاح القول ... بحمد ذي الطول شديد الحول
ياسائلي عن الكلام المنتظم ... حدّاً ونوعاً وإلى كم ينقسم
اسمع هديت الرشد ما أقول ... وافهمه فهم من له معقول
حد الكلام ما أفاد المستمع ... نحو : سعى زيد وعمرو متّبع
ومع أن ملحة الإعراب لم تنل حظّاً كبيراً عند الدارسين المعاصرين مثل ألفية ابن مالك ، فإن لها شروحاً كثيرة ، منها : شرح الحريري نفسه ، وشرح لابن مالك المتوفي سنة (672هـ ) ، وشرح محمد المقدسي الحنبلي المتوفى سنة (759هـ ) ، وشرح الهواري الأندلسي الضرير المتوفى سنة (780هـ ) ، وشرح الشهاب الرملي المتوفى سنة ( 842هـ ) ، وشرح السيوطي المتوفى سنة (911هـ ) ، وشروح أخرى لغيرهم .(1/8)
وبعد الحريري نظم الحسين بن أحمد بن خيران البغدادي المتوفى سنة (600هـ ) متناً في النحو . ثم تتابعت المتون النحوية المنظومة حتى وصلت ذروتها في القرن السابع الهجري أثناء عصر المماليك ، واتسعت رقعتها وكثر الناظمون لها ، وكان من أبرزهم ابن معطٍ وابن الحاجب وابن مالك . ومن هذه المنظومات منظومة لنجم الدين الخضراوي المتوفى سنة (663هـ ) نظم فيها مفصل الزمخشري -. وأرجوزة لشهاب الدين أبي شامة المصري المتوفى سنة (665هـ ) نظم فيها أيضاً مفصل الزمخشري -. ومنظومة لشهاب الدين الخوالي المتوفى سنة ( 693هـ ) نظم فيها توضيح ابن هشام الأنصاري . وأرجوزة لأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة ( 745هـ ) ، لم يتمها وسمّاها " نهاية الإِغراب في علمي التصريف والإِعراب " ومنظومة في تسعمائة بيت لعلاء الدين طيبرس المتوفى سنة ( 749هـ ) وقد جمع فيها بين ألفية ابن مالك ومنظومة ابن الحاجب وسمّاها " الطرفة " . ومنظومة ابن الوردي المتوفى سنة ( 749هـ ) في مائة وخمسين بيتاً واسمها " التحفة الوردية " . وأرجوزة في حكم " لو " لتقي الدين السبكي المتوفى سنة (756هـ ) . وارجوزة الممقصور والممدود لشمس الدين الهواري المتوفى سنة ( 780هـ ) . ومنظومة لتقي الدين عبد الرحمن بن أحمد الواسطي البغدادي المتوفى سنة ( 781هـ ) لمتن " غاية الإحسان في علم اللسان " لأبي حيان الأندلسي . ومنظومة " الحلاوة السكرية " لشعبان بن محمد المصري الآثاري المتوفى سنة (828هـ ) . وألفية له أيضاً سماها " كفاية الغلام في إعراب الكلام " . وارجوزة لشهاب الدين بن عربشاه الدمشقي المتوفى سنة ( 854هـ ) . وألفية في النحو لعبد العزيز اللمطي المكناسي المتوفى سنة (880هـ ) . وألفية في النحو والتصريف والخط لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة ( 911هـ ) .(1/9)
إن هذا الثبت الذي تضمن أهم المنظومات في عصر المماليك يدل على نجاح هذه المنظومات ورواجها ، وأنها أصبحت مناط الاهتمام تصنيفاً وتعليماً آنذاك ، وقد تصاعد هذا .
النجاح في عصر العثمانيين من حيث الكم ، ولكن المنظومات العثمانية لم تلق الرواج الذي لاقته المنظومات في عصر المماليك ، ومع ذلك فقد كان فيها الجيد المفيد والطريف المبتكر ، مما كان وما زال محل اهتمام الدارسين آنذاك وحتى اليوم . ومن أشهر المتون النحوية المنظومة في عصر العثمانيين :
1- أرجوزة لعصام الدين بن عربشاه الإِسفراييني المتوفى سنة ( 951هـ ) باسم "الألغاز النحوية " .
2- منظومة لشرف الدين العمريطي ، فرغ منها سنة (976هـ ) ، وسماها " الدرة البهية في نظم الأجرومية " .
3- منظومة إبراهيم الكرمياني المشهور بشريفي المتوفى سنة (1016هـ ) سماها " الفرائد الجميلة " وهي نظم لشافية ابن الحاجب .
4- أرجوزة لعمر الفارسكوري المتوفى سنة ( 1018هـ ) سماها " جوامع الإِعراب وهوامع الأدب " وهي نظم لجمع الجوامع وشرحه همع الهوامع لجلال الدين السيوطي .
5- ألفية في النحو لعلي بن محمد الأجهوري المالكي المتوفى سنة (1066هـ ) .
6- منظومة نحوية لحسن العطار المتوفى سنة ( 1250هـ ) .
7- منظومة في الإخبار بالظرف لمحمد الخضري الدمياطي المتوفى سنة ( 1287هـ ) .
8- منظومتان لناصف اليازجي المتوفى سنة ( 1288هـ ) ، الأولى أسمها " الخزانة " في علم الصرف ، والثانية سماها " جوف الفرا " في علم النحو .(1/10)
ومن المنظومات النحوية التي ظهرت في أواخر العصر العثماني : أرجوزة لأحمد بن عبد الرحيم الطهطاوي المتوفى سنة (1302هـ ) . واسمها " نظم المقصود " نظم فيها " المقصود " في الصرف المنسوب لأبي حنيفة . ومنظومة " الدرة اليتيمة في علم النحو " لسعيد بن سعد بن نبهان الحضرمي المتوفى سنة ( 1322هـ ) . والنظم المشهور بـ "الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة " المعروف بـ " ألفية ابن بون " للمختار بن بون الشنقيطي المتوفى سنة (1300هـ ) .
ويجدر بنا بعد هذا السرد لأسماء المتون النحوية المنظومة ولأسماء ناظميها أن نذكر أهم خصائص هذه المتون , فهي موجزة العبارة , تتصف بالاختصار الشديد , ويطغى فيها التلميح على التصريح , ويأتي فيها الإيجاز والرمز استجابة لما تقتضيه الأوزان الشعرية من تقديم أو تأخير أو حذف .
وقد اختار أكثر الناظمين لها الرجز لأنه أوفى بحور الشعر نغماً , وأكثرها مطاوعة في تفاعليه للحذف والزخارف والعلل , واختاروا المزدوج من الرجز لطول المنظومات العلمية التي لايمكن الالتزام بقافية واحدة فيها , مما اضطرهم إلى مزاوجة القافية في شطري كل بيت ولقد رأى بعض النقاد أن هذه المتون خالية من القيمة الفنية , ووصفها أحدهم بأنها (مجرد متون علمية منظومة , وليست في الحقيقة أشعارا تصاغ , ويعبر بها أصحابها عن حاجاتهم الوجدانية أو العقلية ) ووصفها آخر بقوله : ( إن الشعر التعليمي قد أصبح في العصور المتأخرة النوع الوحيد الذي لا يحمل من الشعر إلا اسمه ) .
(ب) المتن المنثور :(1/11)
صيغت المتون نثراً أيضاً كما صيغت نظماً ، وقد اشتهرت هذه المتون النثرية في تاريخ العلوم عامة ، وفي تاريخ النحو خاصة ، وهي متون اعتمدها الدارسون جيلاً بعد جيل يشرحونها ويعلمونها ، وما زالت حتى اليوم عمدة في بابها ومرجعاً لأصحاب كل فن ، وهي حتى الآن مجال للباحثين يخوضون فيها بالتفسير والتعليق والشرح والإِيضاح والتحقيق . وعندما نحاول أن نضع تاريخاً للبداية الفعلية التي ظهر فيها أول متن نحوي منثور مختصر ، نجد أنها كانت في القرن الثاني الهجري أيضاً ، ولعل أول من كتب مقدمة أو متناً منثوراً هو خلف بن حيان الأحمر البصري المتوفى سنة ( 180هـ ) ، حين ألف كتابه الوجيز " مقدمة في النحو " . وبهذا تكون البداية للمتن المنظوم والمنثور واحدة تقريباً ، إذ لم يفصل الخليل بن أحمد الذي ينسب إليه أول متن منظوم عن خلف الأحمر هذا إلا عشر سنوات .
ويجلى كون كتاب " الأحمر " متناً منثوراً مختصراً من قوله : " ولما رأيت النحويين وأصحاب العربية أجمعين قد استعملوا التطويل وكثرة العلل ، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتعلم المتبلغ في النحو المختصر ... والمأخذ الذي يخفي على المبتدئ حفظه ، ويحيط به فهمه . فأمعنت النظر والفكر في كتاب أؤلّفه وأجمع فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين ؛ ليستغني به المتعلم عن التطويل ، فعملت هذه الأوراق ، فمن قرأها وحفظها وناظر عليها ، علم أصول النحو كله " .
ثم ألف أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي المتوفى سنة ( 225هـ ) مختصراً في النحو سمّاه " المقدمة " ، وسمّاه بعضهم " مختصر نحو المتعلمين " . ثم ألف أبو علي أحمد بن جعفر الدينوري المتوفى سنة (289هـ ) مختصراً سمّاه " المهذب " جرده من الاختلافات واكتفى فيه بمذهب البصريين .(1/12)
ثم ألف أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان المتوفى سنة ( 299هـ ) متناً نحوياً اسمه " الموفقي في النحو " . ثم ألف أبو جعفر النحاس المتوفى سنة ( 338هـ ) كتابه " التفاحة " وهو متن صغير الحجم كبير الفائدة .
كما كتب أبو الحسن أحمد بن فارس المتوفى سنة ( 395هـ ) مقدمة في النحو ثم جاءت مقدمة ابن بابشاذ أبي الحسن طاهر أبن أحمد النحوي المتوفى سنة ( 469هـ ) ثم مقدمة أبي الحسن علي بن فضال المجاشعي المتوفى سنة ( 479هـ ) ثم المقدمة الجزولية التي تسمى بالقانون لأبي موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي المتوفى سنة ( 607هـ ) . بعدها ألف أبو الفتح المطرزي المتوفى سنة ( 610هـ ) متناً نحوياً وأسماه أيضاً " المقدمة " .
وأستمر التأليف في المتون النحوية المنثورة المختصرة في عصر المماليك وازدهر وكثر ، كما كثر شراح هذه المتون وحفاظها والمقبولون عليها . ومن أشهر ما ألف في عصرهم من المتون النحوية : " الكافيه " لأبن الحاجب المتوفى سنة ( 646هـ ) ، و " المقدمة الأجرومية " في النحو لأبي عبد الله محمد بن داود الصنهاجي المعروف بـ " أبن آجروم " المتوفى سنة ( 723هـ ) وقد شاعت هذه المقدمة وذاعت ، وأقبل عليها المعلمون والمتعلمون ، الأولون يشرحون والآخرون يحفظون . ثم تلتها " المقدمة الأزهرية " للشيخ خالد الأزهري المتوفى سنة ( 905هـ ) وهي لا تقل في محتواها وقيمتها عن المقدمة الأجرومية ، لكنها لم تحظ بما حظيت به المقدمة الأجرومية من الشهرة والانتشار .
ويمكن أن يندرج تحت أسم المتون كل كتاب قديم اختصره مؤلفه وأخلاه من الخلاف وكثرة التعليلات ، ومن ذلك كتاب " الجمل في النحو " لأبي القاسم الزجاجي المتوفى سنة ( 339هـ ) إلا أنه يأخذ عليه إكثاره من الأمثلة ، وهذا أمر غير مألوف في المتون بآخرة . ومن ذلك أيضاً كتاب " الجمل في النحو " لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة ( 471هـ ) .
طبيعة المتون والشروح :(1/13)
أجمع الباحثون على القول بأن للمتون طبيعة لا تفارقها وهي الاختصار ، مع أنني أرى أن الحقيقة تخالف ذلك أحياناً ، فالمتون كما تكون مختصرة ، قد تكون عندي من أمهات الكتب ، يؤيد هذا ما نراه من الشروح الكثيرة والتعليقات العديدة على هذه الأمهات ، وهي في الوقت نفسه دليل على أهميتها وعظم منزلتها ، فكتاب سيبويه – مثلاً – يعد من هذه الناحية متناً نحوياً ، صحيح أنه كبير في حجمه الموسوعي في مسائله وأبوابه وأمثلته ، لكن إقبال العلماء والمتعلمين عليه عبر التاريخ ، وكثرة شروحه وتتابعها يسوغ عندي تسميته متناً .
يقول الشيخ محمد عرفة : " لم يخدم كتاب في العربية مثلما خدم ( الكتاب ) لسيبويه ، لوم يوضع على كتاب من الشروح والحواشي وتفسير الشواهد مثل ما وضع على الكتاب " . و " مقتضب المبرد " و " أصول ابن السراج " كذلك ، وهلم جرا . فهذه كلها يمكن أن تعد أيضاً متوناً لأنها ضبطت أصول العلم بدقة وإحكام من جهة ، ولكثرة الشروح عليها من جهة أخرى ، أما الشروح فقد وضعت بقصد استيفاء كل مسألة من جميع النواحي ، وذكر كل ما يتصل بها ولو كان على سبيل الاستطراد أو لأدنى ملابسة ، فحوت من أجل ذلك القواعد والقوانين النحوية والعلل والتأويلات والعوامل والشواهد وإعرابها وتوجيهها واللهجات وما يتصل منها بالنحو ، وبحثت أحياناً في أصول بعض الكلمات ، وقد دعا إلى هذه الشروح العجز عن الإتيان بعلم جديد من مصنف جديد ، مما جعل المصنفين يتجهون إلى شرح متون المتقدمين ، وتجلية ما عسى أن يكون فيها مما يتعاصى على الفهم . يقول محمد كامل حسين : " إن العلوم إذا تم تكوينها ، ووضعت قواعدها ، تمر على العلماء فترة بعد ذلك طويلة أو قصيرة لشرح هذه القواعد أو نقدها ، ويكثرون من التأليف حول هذه القواعد ، دون أن يحاولوا وضع قواعد جديدة " .
بعض الظواهر التي صاحبت بعض المتون والشروح في العصور المتأخرة :(1/14)
من الظواهر التي صاحبت بعض متون المتأخرين وشروحهم :
1- ظهور نوع خاص من المتون النحوية يبحث في موضوع واحد أو مسألة واحده بإيجاز ، مثال ذلك كتاب " الشذا في أحكام كذا " لأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة ( 745هـ ) وكتاب " أحكام كل ما تدل عليه " لتقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756هـ ) .
2- تصنيف بعض الكتب على شكل أسئلة في النحو وإجابات عنها ، مثال ذلك كتاب " الأجوبة المرضية عن الأسئلة النحوية " للراعي الأندلسي المتوفى سنة ( 853هـ ) .
3- قيام بعض المؤلفين من أصحاب المتون بشرح متونهم ، بالإضافة إلى ما يقوم به غيرهم من ذلك ، ومن هؤلاء ابن هشام الأنصاري في شرحي على متني " قطر الندى " و " شذور الذهب " . وخالد الأزهري في شرحه لمقدمته " الأزهرية " .
طبيعة الحواشي والتقريرات :
دعت الضرورة إلى تصنيف الحواشي والتقريرات بعد تصنيف المتون ، وتصنيف الشروح عليها وعلى الكتب السابقة . وقد بدأت ظاهرة الحواشي والتقريرات في أواخر عصر المماليك ، وانتشرت في عصر العثمانيين ، وأصبحت طابعاً شاملاً لتدريس العلوم ، ومنهجاً سائداً من مناهج التأليف فيه ، لذلك يعد علماء عصر المماليك أول من وصل المتون والشروح بالحواشي والتقريرات ، فوصلوا بهذا بين السابق واللاحق ، ثم تبعهم على ذلك علماء العصر العثماني .
من هنا يمكن القول بأن المتون والشروح كانت ظاهرة مميزة لعصر المماليك , أظهرت الحياة العلمية فيه , وحققت بالتأكيد كثيراً من النفع المتوخى منه .(1/15)
أما الحواشي والتقريرات التي بدأت في أواخر عصر المماليك , وعمت في العصر العثماني حتى أضحت ظاهرة راسخة فيه , فقد حققت أيضاً مثل هذا النفع . وقد تعمق رسوخها في القرن العاشر حين ظهرت في صورة منهج تأليفي ذائع , ذلك أن الحواشي كانت إيضاحاً – كما ذكرنا سابقاً – لبعض عبارات الشروح ومسائلها , تجلى ما في عباراتها من غموض , أو تكمل ما فيها من نقص في الحقائق والشروط التي لم يستوفها الشرح .
أما التقريرات فهي تعليقات على الحواشي لإبداء الملاحظات عليها , ومنشأ الحواشي والتقريرات – في نظري – هو نظام التعلم الذي كان سائداً , إذ كان أساسه تدريس كتاب أو إقراءه , فكان المدرس يعالج المباحث التي يتضمنها المتن والشرح , فإن صادف مسألة غامضة أو قصوراً أو نقصاً كتب على حاشية الكتاب ما يسد ذلك أو يسدده , ثم يأتي من ينشر الكتاب , فيطبعه كاملا ً مع المتن والشرح , وهكذا كان أحد العلماء إذا تصدى لتدريس المجموعة المؤلفة من متن وشرح وحاشية , أضاف إليها ما يعن له من تقريرات .(1/16)
ولو حاولنا أن نضع بداية زمنية محددة واضحة للحواشي النحوية والصرفية , نجد أن القرن الثامن كان هو البداية لهذا النمط التأليفي , ويعد محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الصائغ المتوفى سنة ( 776 هـ ) من أوائل المحشين على المؤلفات النحوية في حاشيته على مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري . ثم تتابع المحشون بعده , فكان لمحمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة المتوفى سنة ( 819 هـ ) حواشٍ كثيرة منها : حاشية على شرح التوضيح , وحاشية على مغني اللبيب , وأخرى على ألفية ابن مالك , ورابعة على شرح الشافية للجاربردي . ثم جاء أحمد بن تقي الدين المعروف بالشمني المتوفى سنة ( 872 هـ ) وله حاشية مشهورة على المغني اسمها " المنصف من الكلام على مغني ابن هشام " . ثم جاء جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ( 911 هـ ) , ومن حواشيه " السيف الصقيل في حواشي ابن عقيل " , وحاشية على شرح الشذور لابن هشام . وبعد هؤلاء جاء شهاب الدين أحمد بن قاسم العبادي المتوفى سنة (994 هـ ) وله حاشية في النحو على شرح ابن الناظم لألفية والده , وهو ممن اشتهر أيضاً بكثرة حواشيه في الفقه وأصوله والمعاني والبيان .(1/17)
ثم جاء الشنواني إسماعيل بن شهاب الدين الشافعي المتوفى سنة ( 1019 هـ ) , وهو نحوي تونسي الأصل مصري المولد والدار , ويعد من أشهر أصحاب الحواشي في العصر العثماني , ولعلي لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت : إنه يعد أحد المعالم الرئيسة بين مؤلفي الحواشي في العصور المتأخرة , فقد كثرت حواشيه عامة وفي النحو على وجه الخصوص , ومن أشهر حواشيه النحوية : حاشية على شرح قطر الندى لابن هشام , وحاشية على شذور الذهب لابن هشام , وحاشية على التوضيح لابن هشام , وحاشية على شرح الفاكهي لمتن القطر المسمى " موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب " لخالد الأزهري وهو شرح لكتاب " الإعراب عن قواعد الإعراب " لابن هشام , وقد سمى الشنواني حاشيته هذه " هداية أولي الألباب إلى موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب ، وحاشيته على شرح المقدمة الأزهرية في علم العربية لخالد الأزهري , وحاشية على الأجرومية سماها " الدرة الشنوانية على شرح الأجرومية في علم العربية " .
بعد ذلك تتابع المشحون فجاء الدنوشري المتوفى سنة ( 1025 هـ ) , فياسين الحمصي المتوفى سنة (1061 هـ ) ثم الحفني المتوفى سنة ( 1178 هـ ) , فالسجاعي المتوفى سنة ( 1197هـ ) فالكفراوي المتوفى سنة ( 1202 هـ ) , فالصبان المتوفى سنة ( 1206 هـ ) فالدسوقي المتوفى سنة ( 1230 هـ ) فالأمير المتوفى سنة ( 1232 هـ ) ، فالعطار المتوفى سنة ( 1250 هـ ) , فالخضري المتوفى سنة ( 1287 هـ ) وأكثر هؤلاء العلماء كانت لهم أيضاً تقريرات نحوية على بعض الحواشي بسبب عملهم في التدريس , ويعد الدنوشري خاصة – من بين هؤلاء – أشهر من كتب التقريرات النحوية .
أسباب ظهور المتون والشروح والحواشي والتقريرات :
نشأ هذا النظام التأليفي وتطوير لأسباب وبواعث لاافتعال فيها ولا غلو , فمن الأسباب التي دعت إلى وجود هذا اللون , ثم إلى كثرته في عصري المماليك والعثمانيين :(1/18)
1- الرغبة الشديدة في التسهيل ؛ ليمكن تعلم القواعد وتيسير حفظها واستذكارها واستيعابها , فوجود متن يتميز بالاختصار والاقتصار على الأسس العامة , كان معيناً على حفظ أصول العلم وقواعده , وتقريب الحقائق إلى أذهان المتعلمين في مراحلهم المختلفة , ليسهل عليهم حفظها .
2- ضبط أصول العلم بدقة وإحكام , ويكون ذلك بجمع مادته ولم شعثها بعبارات موجزة جامعة دقيقة يستطيع الدارس استيعابها بأقصر طريق وأقل زمان .
3- شدة حرص علماء هذه العصور على سرعة تلافي ما ضاع من الكتب , ولا سيما بعد كارثة المشرق وإحراق المؤلفات في بغداد في فتنة " هولاكو " , وبعد ما أصاب الأمة من نكسات في الأندلس , فرغبوا في جمع شتات هذه العلوم في صور مختلفة , وحرصوا على جمع أكبر قدر ممكن من العلوم وحفظها من الضياع بعد النكبات السياسية والعسكرية التي حلت بالمسلمين وأفقدتهم جل تراثهم .
4- الحرص على أن تحفظ المتون من العلم جوهره ولبابه , وأن تقوم بدورها الفعال في مسرح التعليم , وقد حدث هذا في ذلك العصر وفي عصرنا الحاضر . أما الشروح فقد كانت تطوراً طبيعياً يناسب عصر التوسع والتخصص , ويقرب للطلاب العلم , ويسهل لهم تناول مسائله .(1/19)
من هنا يمكن القول بأن هذه الألوان من التصانيف ظهرت ثم ازدهرت في العصور المتأخرة ؛ لأن هذه العصور جاءت بعد عصور سابقة عاش فيها الأئمة محققون يألفون ويجتهدون , فخلفوا تراثاً ضخماً متكاملا ً . وحينما اطلع عليه المتأخرون , أدركوا أن ليس لديهم زيادة علمية , كما أن طلاب زمانهم يصعب عليهم استيعاب هذا التراث . يقول ابن خلدون : " واعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته , كثرت التأليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقها , ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك , وحينئذٍ يسلم له منصب التحصيل , فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها , ومراعاة طرقها , ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها , فيقع القصور ولابد دون رتبة التحصيل " . وقد أدى هذا بالعلماء إلى الاتجاه إلى الاختصار , تم شرح وتوضيح ما بأيديهم من المختصرات , بعد أن رأوا ساحة الاجتهاد قد ضاقت بهم , ولم يعد لهم أي مكان يحتلونه فيها .
هذه الأسباب التي ذكرناها هي الكامنة وراء ظهور المتون وبروزها في منظومة التأليف النحوي , التي أدت إلى ظهور الشروح , فصورتها المختصرة وعباراتها المضغوطة وبعدها عن استيفاء الشروط والجزئيات التي تربط بالقاعدة , أو التي يتطلبها إتمام البحث , حتمت ظهور الشروح التي كان بعضها مستقلا عن المتن , كما في شرح ابن عقيل , أو ممزوجاً به كما في شرح الأشموني , ثم نشأت بعد هذا وذاك الحواشي والتقريرات بدافع تحسين نظام التعليم الذي كان أساسه تدريس الكتاب أو إقراءه , فأخذ المدرس يعالج المباحث التي يتضمنها المتن والشرح , ويحاول إزالة مافيها من غموض أو قصور أو نقص , فيكتب ما يعن له على حاشية الشرح , ثم أخذ المعلقون يأتون بتعليقاتهم على الحواشي , فيبدون ملاحظاتهم , ويحاولون بها إتمام النقص وهو ما سمي اصطلاحاً بالتقريرات .
المتون والشروح والحواشي والتقريرات في الميزان :(1/20)
لهذا النظام التأليفي عند بعض الباحثين والنقاد من المتقدمين والمحدثين نقائص , وفيه عيوب , وعليه مآخذ , منها :
1- الإيجاز المخل , وهو كما يرون من أكبر عيوب هذه السلسلة التأليفية , ويظهر هذا بوضوح تام في المتون على وجه الخصوص , فهي أقرب إلى المعميات ؛ لأنها تكدس المعاني وتختزل الألفاظ , وتوجز في العبارات , حتى تصبح ملتوية غامضة يصعب فكها . أما الشروح والحواشي و مثلهما التقريريات , فهي كذلك تهتم بالمظهر دون الجوهر , وتتشاغل بالألفاظ بدلاً من الاشتغال بالمعاني , لذلك أصبحت تعد في نظر هؤلاء قشوراً لا لباباً .
2- في المتون تشتيت للمتعلم بين تحصيل الحقائق وتذليل مافي المتن من صعاب , وتجلية مافيه من غموض وإتمام مافيه من نقص . وقد يكون العناء الذي يبذل في ذلك مستنفذاً في زمن كان المتعلم في غنى عن إضاعته لو استقى المعلومات بطريقة مباشرة من عبارات تامة وافية واضحة . يقول ابن خلدون : " ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم , يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ , وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن ... وهو فساد في التعليم , وفيه إخلال بالتحصيل ؛ وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد ... ثم فيه شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها , وصعوبة استخراج المسائل من بينها ؛ بأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة ...فهم قصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين , فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها " .(1/21)
أما الشروح والحواشي والتقريرات , فتردد الجمل المعادة المبتذلة والأمثلة المكررة , وتكثر من حشد الآراء والمسائل بسبب أو بغير سبب , وتكثر من الاستطراد , مما يزيدها غموضاًُ وإمعاناً في التعقيد , بدلا من الإيضاح والتسهيل .
3- المتون دليل واضح على أنها إفراز عصر أجدبت فيه العقول , وانعدم فيه الإبداع , وكلت القرائح عن الإتيان بجديد . أما الشروح والمحشون والمقررون فهم مولعون بتحكيك ألفاظ النصوص , وعاجزون عن تذوق مضمون أي نص , ومؤلفاتهم تتسم بصعوبة الأسلوب ووعورة المضمون , وتهويش المنهج . يقول البهاء السبكي عن هذه المصنفات جميعاً : " لا تنشرح ببعضها الصدور الضيقة , ولا تنفتح عندها مغلقة , ولا ينقدح فيها زناد الفكر عن مسألة محققة ,يتناولون المعنى الواحد بالطرق المختلفة , ويتناولون المشكل والواضح على أسلوب واحد كلهم قد ألفه . لا يخالف المتقدم منهم المتأخر إلا بتغيير العبارة , ولا يجد له على حل ما أشكل على غيره أو استشكال ما اتضح جسارة , ولا يطمع أن يذوق ما في الاستدراك من اللذة , بل يسري خلف من تقدمه في الكلمة الفذة , ويسير أثره حذو القذة بالقذة ... كل همه أن يوسع الدائرة بما لا يقام له وزن ... " .
4- المتون لا يستفاد منها كثيراً في مجال التطبيقات النحوية ؛ لأن ما فيها من قواعد لا يناسب قابليات الطلاب بصورة علمية ؛ ولأنها تراوح – أحياناً – بين الزيادة في بعض الأبواب والنقص في أبواب أخرى , فأساليبها ومحتوياتها ومناهج تصنيفها لا تتفق مع الحقائق التربوية الحديثة , والمناهج التعليمية العصرية . أما الشروح والحواشي والتقريرات , فهي تكثر من التعرض لقضايا المنطق والكلام والتعليل الفلسفي , وفيها من الحدود والقيود والاحترازات مالا يتلاءم مع المستوى العقلي للطلاب المتلقين الذين صنفت في الأصل لهم .(1/22)
5- هذه المنظومة التأليفية لم تستطيع أن تضيف إلى مباحث النحو جديداً يجعله مزدهراً نامياً , وإنما حوت قواعد متحجرة , وأصبح هم العلماء تلخيص هذه القواعد , ثم شرح التلخيص ، ثم التحشية على الشرح ، ثم التقرير على الحاشية ، لذلك فإن الناظر لا يرى إلا كلاماً معاداً مكرراً في هذه المنظومة لا ينمي ذوقاً ولا يربي ملكة .
هذه هي العيوب المنسوبة أو التي يمكن أن تنسب إلى هذه الظاهرة التأليفية في النحو وغيره من العلوم ، وهي الظاهرة التي ترسم صورة علمية وثقافية واضحة لعصر المماليك وعصر العثمانيين ، وقد ركزت هذه العيوب على جعل هذين العصرين عصري تخلف وانحطاط ، وعلى أن هذا اللون من التصانيف دليل على ضعف الاهتمام العلمي عامة ، وعلى الجهل لدى حكام هذه العصور جميعاً مما انعكس على المؤلفين ، فجاءت تصانيفهم من أجل ذلك بصياغة توهم أنهم أتوا بجديد وواقع الأمر غير ذلك ، إذ كانت مؤلفاتهم قلما تسلم من غموض العبارة أو خطأ الفكرة ، أو مخالفة الاصطلاح السليم ، أو غلط الرواية المعزوة ، وهي – في مجملها – كما يقول هؤلاء المنتقدون صرفت على اللب إلى القشور ، كما أنها – في نهاية الأمر – سلبت من النحو بهجته ورواءه .
أما مصنفو هذه الكتب فقد قالوا فيهم أيضا إنهم متصفون بغلبة العجمة عليهم ، وقلة إلمام كثير منهم بالأساليب العربية القديمة مما جعل أقلامهم وأقلام من تشبه بهم تتبارى وتتنافس في إقامة الصيغ الخفية ، وفي إقحام مصطلحات المنطق والألفاظ الفلسفية ، وفي التلاعب بالألفاظ والإيغال في الإيجاز ، والحرص على الرمز والإلغاز ، وفي الجنوح إلى الاستطراد أو الإيجاز بلا داعٍ ، حتى باتت مصنفاتهم ليس فقيرة في الأساليب الأدبية فحسب ، بل تقع فيها أيضاً أشياء من المخالفة للقواعد النحوية أو الصرفية ..(1/23)
وذهب المنتقدون كذلك إلى أن عيب الحواشي بخاصة يكمن في أن أكثرها انصرف انصرافاً كاملاً إلى الصيغ والألفاظ ، بدلاً من فقه العلم ، والغوص في أعماق المسائل ، وبهذا أصبحت هذه الحواشي مجالاً لتدريب قرائها على الجدل ، والأخذ بهم إلى طريق المناظرة ، وأصبحت في الوقت ذاته تعاني من التواء مناحي البحث في أساليب مؤلفيها مما حمل القراء على كد الفكر لفهم مغازيهم ومراميهم ، وجعلها ذات أثر في شحذ فكر الدارس وتوسيع مدارك عقله ، بدون أن يكون لها الأثر نفسه في ترقيق شعوره وإرهاف خياله وتنمية عواطفه .
هذه هي خلاصة ما انتقد به بعضهم هذا النمط التأليفي ، وما وسموه به في العصور التي كتب فيها وشاع . وبالنظر الموضوعي البعيد عن الحماس الذي اتسم به كلام مناهضي هذا اللون من التأليف ، يمكننا أن نقول في الدفاع عنه وفي بيان مزاياه ، مع الرد على ما سقناه ورويناه عنهم من العيوب والنقائص :(1/24)
أولاً : إن الغموض الذي رأوه عيباً في هذا النظام من التصنيف ، ليس في رأيي عيباً حقيقياً ؛ ذلك أن البون شاسع بين من يحصل العلم بيسر وسهوله ، وذلك الذي يحصله بكد وعناء ومشقة . إن هذا النظام في منهجه ومضمونه يرمي إلى غاية تعليمية متميزة ، كتميز الأسلوب فيه ، يقول أحد الباحثين : " إن معالجة العبارات والنقاش في تأويل معناها ومبناها ، والدوران حولها لتفهمها بطرق مختلفة ، وتعرف نقصها وتذليل صعابها وتجلية غموضها ، كل هذا له فائدة في شحذ الفكر وتكوين ملكة الفن ، والمران على حل المعضلات اللفظية وعلى الجدل العلمي " . ثم إنه لو سلم بغموض عبارات هذه السلسلة التأليفية فإن ذلك لم يكن من الظواهر التي انفردت بها المتون وما بني عليها من مؤلفات وحدها حتى تعاب به دون غيرها ، فإن أمهات الكتب القديمة لا تخلو من ذلك ، و إلا لما كثرت الشروح على كتاب سيبويه وجمل الزجاجي مثلاً ، بل إن من العلماء السابقين من كان يسعى إلى الغموض والتعمية في تأليفه ، ومع ذلك ظلت له ولكتبه مكانة عليا عند الدارسين ، ولم يعب عليه ذلك في زمانه ولا بعد زمانه . جاء في بعض الروايات أن الجاحظ اعترض على أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط قائلاً : " أنت أعلم الناس بالنحو فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها ؟ ، وما لنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها ؟ ، وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم ؟ . فقال : أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله ، وليست هي من كتب الدين ، ولو وضعتها هذا الموضع الذي تدعوني إليه ، قلت حاجتهم إليه فيها ، وإنما غايتي المناولة ، فأنا أضع بعضها هذا الوضع لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا ، وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت ".(1/25)
إنني أرى أن ما ذهب إليه المنتقدون لهذا النوع من التصنيف وزعموه غموضاً وتعقيداً ليس في حقيقة الأمر سوى عمق لم يستطيعوا فهمه أصلاً , أو لم يتمكنوا من فهمه على الوجه الصحيح في أحسن الأحوال . ولنا في قدامى العلماء الذين صبروا على ما في المتون من غموض , وعمدوا إلى إزالته , أو إيضاح أو إكمال ما فيها من نقص – بدون أن يلجئوا إلى القدح – أسوة حسنة .
أما الإيجاز فإنه ليعد عيباً إذا كان القصد منه تسهيل الحفظ وسرعة استحضار المعلومات , إنه في حقيقة الأمر " طور طبيعي في تاريخ التأليف , إذ لابد من أن يعقب طور التوسع طور يقرب لطلاب العلم وناشئته تناول مسائل العلم , ويعاونهم على بلوغ إربتهم من العلم في وجازة وعجلة , وبخاصة صغار المثقفين , ويجمع لهم حقائق العلم في متون يسهل حفظها , فاستحضارها وقت الدرس لتكون موضع المناقشة والشرح ..." .
ثانياً : أما ما زعم من تشتيت المتون ذهن المتعلم بين التحصيل وتذليل الصعاب , وما عيب من حشد الآراء وتكدس المسائل في الشروح والحواشي , فقد كفانا الشيخ محمد عرفة مهمة الرد على ذلك , فهو يرى أن العلم إنما " يمتاز بفهم الغامض وإدراك البعيد وحل المستغلق , وذلك لا يكون إلا بتعويد المرء على شيء من الصعاب ؛ ليمرن عقله على حل ما يماثلها , وكما أن الرجل الرياضي لا يكون قوياً على حمل الأثقال إلا بالتعود على حمل أحمال ثقيلة متدرجاً في ذلك , كذلك لا يكون عقله قادراً على حل الصعاب إلا إذا عود عقله على حل مسائل عويصة متدرجاً في ذلك " .(1/26)
ثالثاً : إن القول بأن العصر الذي كثر فيه هذا النمط التأليفي هو عصر انحطاط أنشغل فيه العلماء بأمور الدنيا , وجهل فيه الحكام قيمة العلم , هو قول يدفعه الواقع التاريخي , وزعم يدحضه ما هو معروف مشاهد , فكتب التراجم حكت لنا ما كان للعلوم كلها في عصر المماليك على وجه الخصوص من ازدهار وانتشار , وما كان للعلماء فيه من منزلة رفيعة , وما كان للحكام آنذاك من اهتمام بالعلم والعلماء . والمطالع لفهارس المخطوطات يجد الكثير الكثير مما ينطق بما حفل به عصر المماليك خاصة من ألوان المعارف والفنون , مما يتعذر معه رمي عصرهم وعصر العثمانيين الذين تلاهم بالتخلف والجمود والضحالة . وإني لذلك لا أرى صحيحاً ما ذهب إليه سعيد الأفغاني من انتقاد لأسلوب هذه المنظومة التأليفية عامة وللمتون منها خاصة حين قال إنه : " أسلوب جروا عليه في العصور التي جمدت فيها الملكات , على ما فيه – أي المتن – من عناء على الماتن والطالب معاً " . إن هذين العصرين اللذين يصفهما الأفغاني بالجمود هما اللذان أخرجا ابن الحاجب وابن مالك وابن هشام والسيوطي وغيرهم من أشهر النحويين الذين لا يستطيع أحد من المنصفين أن ينكر فضلهم العميم فضلاً عن أثرهم العظيم في الدرس النحوي .
رابعاً : إن القول بأن منهج التصنيف وأسلوبه ومضمونه في كتب هذه المنظومة التأليفية لا ينطبق مع الوسائل التربوية الحديثة غير دقيق ؛ لأنها – فيما أرى - تمتاز في هذه الأمور على غيرها من الكتب التي صنفت في العصر الحديث , فهي ترمي فيها جميعاً إلى غاية تعليمية مميزة , وإن الناظر المنصف في ذلك النظام التأليفي يلمس بوضوح تميزه التربوي في " معالجة العبارات والنقاش في تأويل معناها ومبناها والدوران حولها , لتفهمها بطرق مختلفة وتعرف نقصها , وتذليل صعابها , وتجلية غموضها . وكل هذا له فائدة في شحذ الفكر وتكوين ملكة الفهم والمران على حل المعضلات اللفظية وعلى الجدل العلمي " .(1/27)
كما أن هذا النمط التأليفي يحقق غرضاً تربوياً يتمثل في التدرج في التحصيل العلمي , فالمبتدئ يقنع بدراسة المتن , ويتفهم ما تضمنه من حقائق موجزة , ثم ينتقل إلى الشرح , وهو أوسع وأوفى , ثم يرتقي إلى الحاشية , ثم إلى التقريرات ليستوفي ما فيهما من تمحيص وزيادات ليست في الشرح . إلى جانب هذا كان حفظ المتن عن ظهر قلب عوناً على الإلمام بالحقائق العلمية وحفظها ,وسرعة استحضارها والإجابة بسرعة عن دقائقها . ولقد تحققت هذه المزايا " يوم كان المتعلمون فارغين لها , منقطعين لحفظها ودرسها وفك طلاسمها بملازمة أساتذتهم وعلمائهم , والرجوع إليهم وإلى الشروح والتقارير يوم كانت الحياة هادئة , ومطالب العيش محدودة , والقناعة غالبة وسن الطلاب كبيرة , وتقربهم من الله بإتقان هذه العلوم واحتمال متاعبها قوياً . أما اليوم فلا شيء من ذلك كله , فالحاجة إلى النحو ليست في المرتبة الأولى لكثير من الناس وطلاب الدراسات العالية ... وإنما هي حاجة المستكمل الذي تدفعه روح العصر إلى التجمل بألوان من الثقافة العامة لا يليق بالمتحضر أ، يجهلها , ولا أن يجرد نفسه من قدر منها , فهو في تعلمها غير أصيل , وحفظه منها يسير " .
ومهما يكن من أمر فإن هذا اللون من التصنيف يربى – فيما أرى – فضيلة البحث والتمحيص , وينمي حلية الصبر , ويقوي الاعتماد على الذات , ويعود الطالب على دقة الملاحظة .(1/28)
خامسا ً : إن الزعم بأن هذه المؤلفات لم تضف جديدا ً , وإنما هي قواعد متحجرة كان هم العلماء شرحها فحسب هو زعم لا يقره الواقع ؛ ذلك أن تعدد المتون وتنوع الشروح والحواشي والتقريرات قد كون – في حقيقة الأمر – ثروة علمية عظيمة خلدت مع الزمان , وحفلت بالمعارف المفيدة والآراء السديدة والنظرات المبتكرة , إضافة إلى ميزة أخرى هي أن هذه المنظومة التأليفية حفظت نصوصاً من أصول ومصادر ضاعت من يد الزمن , ولم تصلنا غير أسمائها . وليت شعري كيف تكون كافية ابن الحاجب وألفية ابن مالك وشروحهما قواعد متحجرة ؟!! .
على أن الإعجاب بما ورثناه من جمهرة متناسقة من هذه الكتب على هذا النمط التأليفي , لا يمنعنا من أن نقر بأن القليل منها لم يكن على المستوى المرغوب , ولكن وجود مالا يقل على المستوى ليس بدعة أو غريباً ؛ لأن شأن التأليف والمؤلفين في كل زمان و مكان أن يكون فيهم الجيد وغيرهم , وأن تتفاوت مصنفاتهم في الجودة وعدمها . كما أنه لا يمنعنا من أن نسجل بوضوح ما نعده من أبرز معالم الضعف في هذه المصنفات , وهو ضخامة بعض الشروح وكثرة ما فيها من نقول ناقصة أحيانا , ومطربة أحياناً أخرى كما أن بعضها كان محشواً بمصطلحات الفنون المختلفة , وكان بعضها الآخر مفرطاً في الاستطراد بمناسبة وبغير مناسبة .
وخلاصة القول عندي أن جمهرة المتون والشروح والحواشي والتقريرات , وكذلك المنظومات والنكت وشروح الشواهد , قد انتظمت في إطار عام متنوع , وهو الإطار الذي لا يمكن معه أن ترمى بأنها جميعاً صور متقاربة ليس بين أكثرها مقدار واسع من التفاوت في الموضوع والمنهج والأسلوب أو في طريقة عرض المعلومات وحجمها.
هذا مع الإقرار بأن بعضها لم يكد يخرج عن غيره أو يزيد عليه أو يبتعد عنه مما لا يجعل لشيء من هذه المصنفات القليلة مزية علمية ترفعه على ما سبقه أو عاصره أو لحقه من المصنفات المشابهة .(1/29)
ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي ألا يغيب عن ذهن القارئ الكريم في كل الأحوال , هو أن هذا الأسلوب التأليفي يشكل جزءاً كبيراً من تراثنا الخالد الذي لا يستغني عنه الدارس مهما علا كعبه في العلوم والمعارف .
د. عبد الله بن عويقل السلمي *
المصادر والمراجع
1- اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري لمحمد مصطفى هدارة , دار المعارف بالقاهرة ( 1963م ) .
2- الاشتباه والنظائر في النحو للسيوطي , تحقيق طه سعد , القاهرة (1975م) .
3- الأعلام للزركلي , بيروت , ط 3 ( 1969م) .
4- إنباه الرواة في أنباه النحاة للقفطي , تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم , دار الكتب المصرية ( 1952م )
5- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي , إستانبول ( 1945م ) .
6- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي , تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم , مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر ( 1964 م ) .
7- تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدات , دار الهلال بالقاهرة (1914م) .
8- التطور والتجديد في الشعر الأموي لشوقي ضيف , دار المعارف , القاهرة , ط 7 , بدون تاريخ .
9- جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام في مدينة فاس لابن القاضي ، طبع بفاس على الحجر (1309هـ ) .
10- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ، مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر (1967م) .
11- الحيوان للجاحظ ، تحقيق عبد السلام هارون ، مصطفى البابي الحلبي بمصر ، ط 2 (1965م) .
12- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي ، المطبعة الوهبية بمصر (1284هـ ) .
13- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ، دار الجيل ببيروت ، بدون تاريخ .
14- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي ، دار الآفاق الجديدة ببيروت ، بدون تاريخ .(1/30)
15- طبقات الشافعية الكبرى لتقي الدين السبكي ، تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو ، القاهرة (1964م) .
16- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السبكي ، ضمن شروح التلخيص ، مصر ، ط 2 (1342هـ ) .
17- عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي لمحمد رزق سليم ، المطبعة النموذجية بالقاهرة ط 2 (1962م) .
18- في أدب مصر الفاطمية لمحمد كامل حسين ، دار الفكر العربي ، القاهرة (1950م ) .
19- القواعد النحوية مادتها وطريقتها لعبد الحميد حسن ، مكتبة الأنجلو المصرية ( 1952م ) .
20- كشف الظنون لحاجي خليفه ، مكتبة المتنبي ببيروت ، بدون تاريخ .
21- الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة لنجم الدين الغزي ، تحقيق جبرائيل جبور ، بيروت ( 1945م ) .
22- اللغة والنحو بين القديم والحديث لعباس حسن ، دار المعارف بمصر ( 1966 م ) .
23- مقالات منتخبة لعبد الكريم الأسعد ، الرياض ، دار المعراج الدولية (1415هـ ) .
24- المقدمة لأبن خلدون ، دار الشعب بالقاهرة ، بدون تاريخ .
25- مقدمة في النحو لخلف الأحمر ، تحقيق عز الدين التنوخي ، مديرية إحياء التراث القديم ، دمشق (1961م ) .
26- من تاريخ النحو لسعيد الأفغاني ، دار الفكر ببيروت ، بدون تاريخ .
27- النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة لمحمد أحمد عرفه ، مطبعة السعادة ، القاهرة ( 1356هـ - 1937م ) .
28- الوسيط في تاريخ النحو لعبد الكريم الأسعد ، الرياض ، دار الشواف للنشر والتوزيع (1413هـ ) .(1/31)