الاحتجاج النحوي بالحديث النبوي
عند الإمام بدر الدين العيني
في ضوء كتابه ( عمدة القاري )
د. محمد عبد القادر هنادي
باحث وأستاذ جامعي في المدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فقد وُجدت علوم اللغة العربية لخدمة القرآن الكريم والسنة النبوية ، ولهذا فإن العلماء - سلفاً وخلفاً - عكفوا على ربط دراساتهم اللغوية ، النحوية والصرفية والبلاغية بكتاب الله تعالى وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولئن كانت دراساتهم القرآنية النحوية تبدو فيها جهودهم واضحة جليّة ، إنَّ مؤلفاتهم ومصنفاتهم التي تناولوا فيها المباحث النحوية من خلال الحديث النبوي تبدو لي - فيما أعلم - ضئيلةً نادرة ، لاسيما في مجال الاحتجاج النحوي بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كانت هذه الجهود مبعثرةً في مصنفات المتأخرين الذين اهتموا بشرح كتب الصحاح والسنن ، ولعل من أبرز هؤلاء الإمام بدر الدين العيني - رحمه الله تعالى - في كتابه (( عمدةُ القاري شرح صحيح البخاري )) ، فقد تضمَّن مادة نحوية وصرفية ولغوية ثَرَّة ، ولهذا فإنني وجدت فيه ما يصلح أن أستخرج منه بعض البحوث المهمة ، ومنها هذا البحث وهو بعنوان : (( الاحتجاج النحوي بالحديث النبوي عند الإمام العيني من خلال كتابه : عمدة القاري شرح صحيح البخاري )) ، والذي دفعني إلى اختيار هذا البحث أمور كثيرة ، من أهمها :(1/1)
أولاً : إن البحوث التي ربطت بين الدراسات النحوية وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - دراسات نادرة ، تخلو منها المكتبة اللغوية لاسيما تلك البحوث التي تناولت الأحاديث النبوية الواردة في صحيح البخاري من خلال الشروح المعروفة ، وفي مقدمتها (( عمدة القاري )) للإمام العيني ، وعندما ننظر - كما أسلفت - إلى ما بذله الباحثون في الدراسات القرآنية النحوية ، نجد عشرات المؤلفات والبحوث والرسائل الجامعية ، تناولت هذا الجانب من الدراسة خلافًا للدراسات الحديثية النحوية ، فحاولت أن أقدم هذا البحث المتواضع ؛ لبنةً من اللبنات الأولية الأساسية في مكتبتنا النحوية إسهامًا مع الباحثين الآخرين في خدمة السنة النبوية ولغة القرآن الخالدة .
ثانيا : إن كثيرًا من النحويين المتأخرين استشهدوا بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مؤلفاتهم ومصنفاتهم ، لكنهم جمعوا بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة ، في كثير من الأحيان ، فآثرتُ أن أختار صحيح البخاري مجالاً للاحتجاج النحوي بالحديث النبوي ، لأنه أصحُّ كتاب لدى المسلمين بعد كتاب الله تعالى .
ثالثا : إن الإمام العينيّ عالم أتقن علوم الشريعة تفسيرًا وحديثًا وفقهًا ، وعلوم العربية نحوًا وصرفًا وبلاغة ، ولهذا اخترته ؛ لمنزلته الكريمة لدى العلماء ، وهو من أبرز العلماء المُحَدِّثين الذين وَظَّفُوا اللغة العربية في خدمة السنة النبوية .
هذا وقد جعلت هذه الدراسة في أربعة مباحث هي :
المبحث الأول : لمحة موجزة عن سيرة العيني وثقافته اللغوية .
المبحث الثاني : نماذج من الأحاديث التي احتج بها في المسائل النحوية .
المبحث الثالث : منهجه في الاحتجاج بالحديث الشريف .
المبحث الرابع : الحديث النبوي أصل من أصول الاحتجاج النحوي .(1/2)
ولا أزعم أنني قمت في دراستي هذه باستقصاء جميع الأحاديث النبوية التي احتج بها الإمام العيني في المسائل النحوية ، إنما أتيت - حسب جهدي - على معظمها ، واخترت الشواهد المذكورة في البحث ، ولعلي - إن شاء الله تعالى - أفرد هذا الموضوع بكتاب مستقل ، سائلاً الله - عز وجل - أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم ، وأن يجزينا بها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وابنُ آدمَ أقربُ إلى الضعف والخطأ والعجلة، وفوق كل ذي علم عليم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بدر الدين العيني : هو محمود بن أحمد بن موسى العينتابي الحنفي ، أبو محمد ، بدر الدين ، ولد رحمه الله تعالى سنة اثنتين وستين وسبعمائة(1) ، في عين تاب(2) ، ونشأ في بيت علم ودين وصلاح ، فحفظ القرآن الكريم وطلب العلم ولم يزل صبيًا صغيرًا ، وعُرف عنه كثرة رحلاته ، وكانت أولاها إلى حلب(3) سنة 783هـ، ثم زار بيت المقدس سنة 788هـ ، فلقي فيها علاء الدين السيرامي المصري ، فصحبه إلى الديار المصرية ، ونزل بالمدرسة الظاهرية البرقوقية في القاهرة(4) .
توفي الإمام بدر الدين العيني سنة 855هـ(5) بعد أن عاش ثلاثًا وتسعين سنة قضاها في التعليم والتصنيف والتدريس .
__________
(1) موارد ترجمته : النجوم الزاهرة : 16/8 ، والضوء اللامع للسخاوي : 10/131 ، والتبر المسبوك : 375، ومعجم البلدان لياقوت الحموي : 4/176 .
(2) وهي بلدة تبعد ثلاث مراحل عن مدينة حلب ، والنسبة إليها عينتابي ، وقد تخفف فيقال : العيني .
(3) الضوء اللامع :10/131 .
(4) عقد الجمان : 26/310-311 .
(5) الضوء اللامع : 10/133 .(1/3)
أتقن الإمام العيني رحمه الله تعالى العلوم الشرعية والعربية في عصره ، فكان من أئمتها ، وقد أكد العلماء الذين ترجموا له هذه الخصلة التي عُرف بها ، وأثنوا عليه ثناءً طيبًا ، قال عنه السخاوي : (( كان إماماً عالماً علاّمة ، عارفًا بالتصريف والعربية وغيرها ، حافظًا للتاريخ واللغة ، كثيرًا لاستعمالها ، ومشاركًا في الفنون ، لا يَمَلُّ من المطالعة والكتابة ))(1) ، وقال عنه ابن تغري بردي في كتابه المنهل الصافي : (( كان بارعًا في عدة علوم ، عالمًا بالفقه والأصول والنحو والتصريف واللغة ))(2) .
ومما يدل على ثقافة العيني اللغوية تلقيه علوم اللغة على أيدي علماء بارزين في عصرهم ، وهو لم يزل في سن الفتوة ، فقد لازم الشمس محمداً الراعي في الصرف والعربية ، فقرأ عليه : ( مراح الأرواح في التصريف ) لأحمد بن علي بن مسعود ، و ( شرح الشافية في الصرف ) للجاربردي ، وقرأ ( المفصل ) في النحو للزمخشري على جبريل بن صالح البغدادي ، كما قرأ عليه ( الكشاف )(3) ، وقرأ ( المصباح ) في النحو للمطرزي على خير الدين القصير ، و ( ضوء المصباح ) للاسفراييني على ذي النون السرماري(4) .
ومما يدل أيضا على ثقافته اللغوية ؛ أنه قام بتدريس علوم العربية في القاهرة على تلامذته الذين أخذوها عنه قراءة أو سماعا ، ودَرَّسَ في النحو شرح الشواهد الكبرى والصغرى ، وفي الصرف تصريف العزي ، وفي الأدب ما كتبه على المقامات للحريري .
__________
(1) الضوء اللامع : 10/132 .
(2) المنهل الصافي : 8/353 .
(3) الضوء اللامع : 10/131 ، وعقد الجمان : 26/440 .
(4) التبر المسبوك : 375-376 ، والضوء اللامع : 10/131 .(1/4)
ومن الشواهد على ثقافة الإمام العيني اللغوية ، وإمامته فيها الكتب التي وضعها ، ومن كتبه اللغوية المطبوعة كتاب (( المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية المعروف بالشواهد الكبرى )) وهو مطبوع على هامش كتاب خزانة الأدب للبغدادي ، وهذا الكتاب شرح للشواهد الواقعة في شروح الألفية لكل من ابن الناظم(1) وابن أم قاسم(2) ، وابن هشام ، وابن عقيل ، وقد استخرج العيني هذه الشواهد وبَيَّنَ ما فيها من اللغات والمعاني والإعراب .
ومن كتبه اللغوية المطبوعة كتاب ( فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد ) المعروف بالشواهد الصغرى ، وهو مختصر لكتاب المقاصد النحوية السابق(3) .
ومن كتبه اللغوية المخطوطة كتابه ( رسائل الفئة في شرح عوامل المئة ) ، ذكره السخاوي(4) ، و ( بروكلمان )(5) ، وهو شرح لكتاب العوامل المئة لعبد القاهر الجرجاني ، ومنها كتابه : ( الحواشي على شرح الشافية للجاربردي ) ذكره حاجي خليفة(6) ، وكتابه ( الحواشي على شرح الألفية لابن المصنف ) ، ذكره السخاوي(7) وحاجي خليفة(8) ، وكتابه ( شرح تسهيل ابن مالك ) ، ذكره(9) ابن العماد ، والسخاوي(10) .
__________
(1) هو محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك ، وَلَدُ صاحب الألفية ، شرح ألفية والده ، مات بدمشق سنة : 686، بغية الوعاة : 1/225 .
(2) هو حسن بن قاسم بن عبد الله المعروف بابن أم قاسم نسبة لامرأة تَبَنَّتْهُ تدعى أم قاسم ، شرح الألفية ، مات سنة 749هـ ، بغية الوعاة : 1/517 .
(3) فرائد القلائد : 3 .
(4) الضوء اللامع : 10/34 .
(5) تاريخ الأدب العربي : 5/201 .
(6) كشف الظنون : 1/152 .
(7) الضوء اللامع : 10/134 .
(8) كشف الظنون : 2/102 .
(9) شذرات الذهب : 9/287 .
(10) الضوء اللامع : 10/134 .(1/5)
ومن أشهر كتبه الشرعية التي تناول فيها مسائل لغوية ونحوية وصرفية وبلاغية كتابه : ( عمدة القاري شرح صحيح البخاري ) ، وقد بدأه في سنة 820هـ ، وفرغ منه في سنة 847هـ كما ذكر في آخر الكتاب(1) ، والكتاب مطبوع ، ومن آخر طبعاته طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1392هـ/1972م وهو في عشرين جزءًا ، وكان اعتمادي عليه في هذا البحث .
والمادة اللغوية في الكتاب المذكور - كما بيَّنت - غنية وغزيرة ، والمسائل التي تناولها ، والقضايا التي أثارها كثيرة يصعب على باحث واحد أن يحصرها ، أو يتناولها بالدراسة ، وأكتفي - هنا - بذكر أمثلة ثلاثة للدلالة على ذلك :
المثال الأول : روى البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ؛ أن جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لطعام صَنعتْهُ له ، فأكل منه ، ثم قال : قُومُوا فلأصليَ لكم ، قال أنسٌ : فقُمْتُ إلى حصير لنا قد اسودَّ من طولِ ما لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بماءٍ ، فقامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ واليَتِيمَ وراءَهُ ، والعَجُوزُ مِنْ ورائنا(2) . قال العيني : (( قوله فَلأُصليَ لكم )) ، فيه ستة أوجه من الإعراب :
الوجه الأول : ( فَلأُِصليَ ) بكسر اللام ، وضم الهمزة ، وفتح الياء ، ووجهه أن اللام فيه لام ( كي ) والفعل بعدها منصوب بأن المقدرة ، تقديره ( فلأن أُصليَ ) .
الوجه الثاني : ( فَلأُِصلِّيْ ) مثلها إلا أنها ساكنة الياء ، ووجهه أن تسكين الياء المفتوحة للتخفيف وفي مثل هذا لغة مشهورة .
الوجه الثالث : ( فَلأُِصَلِّ ) بحذف الياء ، لكون اللام لام الأمر ، وهي رواية الأصيلي .
الوجه الرابع : ( فأصلي ) على صِيغةِ الإخبار - عن نفسه - وهو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره ( فأنا أصلي ) ، والجملة جواب الأمر .
__________
(1) عمدة القاري : 20/402 .
(2) عمدة القاري : 3/355 .(1/6)
الوجه الخامس : ( فَلْنُصَلِّ ) بكسر اللام في الأصل ، وبنون الجمع ، ووجهه أن اللام لام الأمر ، والفعل مجزوم بها ، وعلامة الجزم سقوط الياء .
الوجه السادس : ( فَلأصلي ) ، بفتح اللام ، وروي هكذا في بعض الروايات ، ووجهه أن تكون اللام لام الابتداء للتأكيد ، أو تكون جواب قسم محذوف ، والفاء جواب شرط محذوف ، تقديره ( وإن قمتم فوالله لأصليْ لكم ) ، ثم قال :
(( قوله (( فصففتُ أنا واليتيمُ )) هكذا رواية الأكثرين ، وفي رواية المستملي والحموي (( فصففت واليتيمَ )) بغير لفظ ( أنا ) ، وفي مثل هذا خلاف بين البصريين والكوفيين ، فعند البصريين لا يعطف على الضمير المرفوع إلا بعد أن يؤكد بضمير منفصل ... وعند الكوفيين يجوز ذلك بدون التوكيد ، والأول هو الأفصح(1) .
وأما المثال الثاني : فقد روى البخاري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ ، ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كَيوْمَ ولَدَتْهُ أمهُ ))(2) ، قال العيني : قوله (( ولم يفسق )) الفسق : العصيان والترك لأمر الله تعالى ، والخروج عن طريق الحق ، وقال القزاز أصله : انفسقت الرطبة إذا أخرجت من قشرها ، فسمي بذلك الفاسق لخروجه من الخير وانسلاخه منه ، وقالوا : الفسق في الدين اسم إسلامي ، لم يُسْمَعْ في الجاهلية ولا يوجد في أشعارهم ، قال ابن الأعرابي : (( لم يُسْمَعْ قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق ، وهذا عجيب ، وهو كلام عربي ))(3) .
__________
(1) عمدة القاري : 3/357 .
(2) عمدة القاري : 7/402 .
(3) عمدة القاري : 7/402 .(1/7)
وأما المثال الثالث : روى البخاري عن مسروق قال ، قلت لعائشةَ رضي اللهُ عنها : (( يَا أُمَّتَاهُ ، هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربَّه .. ))(1) قال العيني : قوله (( يا أُمَّتَاهُ )) بزيادة الألف والهاء ، قال الخطابي : هم يقولون في النداء : يا أبه ، يا أمه ، إذا وقفوا ، فإذا وصلوا قالوا : يا أَبَتِ ، ويا أُمَّتِ ، وإذا فتحوا للندبة قالوا :يا أبتاه ، ويا أمتاه ، والهاء : للوقف ، وقال الكرماني : (( هذا ليس من باب الندبة إذ ليس ذلك تفجعا عليهم ، وقال بعضهم : أصله : يا أُمَّ ، فأضيف إليها ألف الاستغاثة ، فأبدلت تاء ، وزيدت هاء السكت بعد الألف ، قلت - أي العيني - لم يقل أحد ممن يُؤْخَذ ُ عنه أن الألف للاستغاثة ، وأين الاستغاثة ها هنا ؟ ))(2) .
من هذه الأمثلة - وسواها كثير - يتضح أن كتاب عمدة القاري للإمام العيني حوى مادة لغوية ثَرَّة يمكن أن تكون موضع بحوث نحوية مهمة ، وهذا ما سعيتُ إليه في هذه الدراسة .
أولا : في باب الأسماء :
1- إثبات الألف في المثنى :
__________
(1) عمدة القاري : 16/44 .
(2) عمدة القاري : 16/45 .(1/8)
الأصل في المثنى أن يرفع بالألف ، وينصب ويجر بالياء ، بَيْدَ أن بعض القبائل العربية تثبت الألف في المثنى في جميع الحالات ، سواء أكان اسم إشارة أم لم يكن ، والإمام العيني في شرحه لصحيح البخاري أورد طائفةً من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تُخَرَّجُ إلا على هذه اللغة ، ومنها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : (( إِنَّ المُتَبَايعَيْنِ بِالخِيْارِ في بَيْعِهِمَا ما لم يَتَفَرَّقا ))(1) فقال : (( إِن المُتبَايعينِ بالخِيَارِ )) هكذا في رواية الأكثرين على الأصل ، وحكى ابن التين عن القابسي ( إِنَّ المتبايعان ) ، وهي لغة بلحارث بن كعب في إجراء المثنى بالألف دائما )(2) .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب البيوع ، باب ( كم يجوز الخيار ) .
(2) عمدة القاري : 9/314 .(1/9)
ومن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي استشهد بها الإمام العيني على صحة لغة بلحارث بن كعب ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : (( مَثَلُ المسلمينَ واليهودِ والنَّصَارى كَمَثلِ رجلٍ استأجرَ قَومْاً يعملونَ لهُ عملاً يوماً إلى الليل على أجرٍ معلومِ ، فعملُوا له إلى نصفِ النَّهارِ ... واستأجَر أجيرين بَعْدَهُمْ فقال لهما : أكْمِلاَ بقيَّة يومكما هذا .. فَعَمِلاَ حتى إذا كان حينَ صلاةِ العصرِ قَاَلا : لكَ مَاعَمِلْنَا بَاطِلٌ ولك الأجرُ الذي جَعَلْتَ لنا فيه ... واستأجرَ قوماً أن يعملُوا بقية يومهم ، فعملُوا بقَّية يومهمِ حتى غابتِ الشمسُ ، واستكملوا أجر الفريقين كليهما .. ))(1) قال العيني في معرض شرح هذا الحديث : (( قوله : ( أَجرَ الفريقين كليهما ) كذا وقع في رواية أبي ذر وغيره ، وحكى ابن التين أن في روايته ( كلاهما ) بالرفع خطأ ، قلت - أي العيني - : ليس لما قاله وجه لأن ( كلاهما ) بالألف على لغة من يجعل المثنى في الأحوال الثلاثة بالألف ))(2) .
فمما سبق ذكره يتبين لنا أن العيني - رحمه الله - يجعل حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلاً في الاحتجاج به في القواعد النحوية ، وما أثبتَهُ هنا من جواز إثبات الألف في المثنى في جميع الحالات هو الصحيح ، وذلك للأدلة التالية :
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الإجارة ، باب ( الإجارة من العصر إلى الليل ) .
(2) عمدة القاري : 10/82(1/10)
الدليل الأول : لورود هذه اللغة في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثابتة الصحيحة ، وقد وردت أيضا في القرآن الكريم في قوله تعالى : { إِنَّ هَذانِ لَسَاحِرَانِ } (1) على قراءة الجمهور(2) - بتشديد النون في ( إنَّ ) ، وإثبات الألف في اسم الإشارة ( هذان ) ، ووردت أيضا في كلام العرب في شعرٍ كثيرٍ(3) ، منه على سبيل المثال قول الشاعر :
تَزَوّدَ مِنَّا بين أُذُنَاه طَعْنَةً دَعَتْهُ إلى هابي الترابِ عَقيمُ(4)
الدليل الثاني : هذه اللغة التي جاء ذكرها في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست لغة شاذة أو نادرة خاصة بقبيلة عربية واحدة ، وإنما نسبها الأئمة اللغويون إلى كثير من القبائل العربية ، أذكر منهم بني الحارث بن كعب ، وخثعم، وزبيداً ، وكنانة ، وبني العنبر ، وبني الهجيم ، ومراداً ، وعذرة ، وقبائل من ربيعة(5) ، واجتماع هذه القبائل العربية يقوي هذه اللغة ، وما أحسن ما قاله أبو جعفر النحاس : (( كانت هذه اللغة معروفة ، وقد حكاها من يُرْتَضَى علمُهُ وصدقه وأمانته ))(6) ، وأقول : يكفي هذه اللغة ثبوتاً ورودها على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما نقلها إلينا من يُرْتَضَى علمهم وصدقهم وأمانتهم من رواة الحديث .
2- وقوع التمييز نكرة بعد فاعل (( نِعْمَ وبِئْسَ )) الظاهر :
__________
(1) طه : 63 .
(2) الحجة في القراءات السبع - ابن خالويه : ص242 ، والكشف : 2/99 ، ومفاتيح الغيب : 22/74 .
(3) ينظر مفصلا في البيان في غريب إعراب القرآن : 2/144 ، الكشف : 2/100 ، 22/74 ، وجمهرة اللغة : 2/323 ، وشرح شذور الذهب : 46- 47.
(4) الكشف : 2/100 .
(5) ينظر في البحر المحيط : 6/255 ، وشرح شذور الذهب : 46-47 ، وهمع الهوامع : 1/40 ، وحاشية ابن جماعة : 1/277 ، وشرح الجاربردي على شافية ابن الحاجب : 1/77 .
(6) إعراب القرآن - النحاس : 2/346-347 .(1/11)
للنحاة في انتصاب النكرة على التمييز بعد (( نعم وبئس )) مع الفاعل الظاهر قولان :
الأول : المنع ، وإليه ذهب ابن السراج(1) ، وابن هشام(2) ، والأشموني(3) ، والسيوطي(4) ، فلا يصح عندهم أن يقال : نِعْمَ الرجلُ رَجُلاً زيدٌ ، حيث جاء التمييز ( رجلاً ) منصوبا بعد الفاعل الظاهر ( الرجل ) .
الثاني : الجواز ، وإليه ذهب المبرد(5) ، والفارسي(6) ، وابن جني(7) ، وابن مالك(8) ، وآخرون .
وذكر الإمام العيني هذه المسألة النحوية في شرحه ، واحتج على الجواز بالحديث الذي رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( نِعْمَ المَنِيْحَةُ اللِّقْحَةُ الصّفِيُّ مِنْحَةً ، والشاةُ الصَّفيُّ تَغدُو بإِناءٍ وَتَروُحُ بإناءٍ ))(9) ، فقد جاء التمييز (( مِنْحَةً )) منصوبا بعد ذكر الفاعل الظاهر (( المنيحة )) ، قال العيني في معرض شرح هذا الحديث : (( قوله ( منِْحَةً ) نصب على التمييز ، وفيه وقوع التمييز بعد فاعل نعم ظاهراً ، وهذا منعه سيبويه إلا مع الإضمار ، وجوَّزه المبرد وهو الصحيح ))(10) .
وما ذهب إليه الإمام العيني من جواز مجيء التمييز نكرة بعد ذكر فاعل
(
__________
(1) شرح المفصل لابن يعيش : 7/132 .
(2) أوضح المسالك : 3/278 .
(3) شرح الأشموني : 3/39 .
(4) الهمع : 2/86 .
(5) المقتضب : 2/150 .
(6) الإيضاح لأبى علي : 1/88 .
(7) الخصائص : 1/83 .
(8) شرح الكافية الشافية : 2/1106- 1107 .
(9) صحيح البخاري ، كتاب المكاتب ، باب فضل المنيحة ، المنيحة : الناقة والشاة ذات الدر ، يعار لبنها ، ثم ترد إلى أهلها ، اللقحة بمعنى الملقوحة ، أي : الحلوب ، الصفي : الكثيرة اللبن .
(10) عمدة القاري : 11/92 .(1/12)
نعم ) ظاهرًا هو الذي يؤيده السماع الصحيح ، ومنه الحديث الشريف الذي احتج به ، ومن السماع الصحيح أيضًا ؛ ما نقل عن الصحابة - رضي الله عنهم - ، ومنه ما رواه البخاري : قول امرأة عبد الله بن عمرو وهي تتحدث عنه : (( نعمَ الرجلُ من رَجُلٍ ؛ لم يَطَأْ لنا فِرَاشا ، ولم يُفَتِّشْ لنا كَنَفاً مُنْذُ أتيناهُ ))(1) ، و ( مِنْ ) زائدة ، و ( رَجلٍ ) اسم مجرور لفظا منصوب محلاً على أنه تمييز للفاعل الظاهر ( الرجل ) .
ومن النثر قول الحارث بن عباد : نعمَ القتيلُ قتيلاً ، أصلحَ بين بكرٍ وتغلب(2) .
ومما ورد في الشعر قول جرير :
تَزَّودْ مِثْلَ زادِ أبيك فينا فنِعْمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا(3)
حيث جمع الشاعر بين الفاعل الظاهر ( الزاد ) ، والتمييز المنصوب ( زاداً ) ، ومثله قول جرير أيضا :
والتَّغْلِبيُّونَ بِئْس الفَحْلُ فَحْلُهُم فَحْلاً ، وُأُمُّهم زَلاَّءُ مِنْطِيْقُ(4)
فقد جمع الشاعر فيه بين الفاعل الظاهر ( الفحلُ ) والنكرة المنصوبة بعده ( فحلاً ) .
3- هل يأتي اسم التفضيل على وزن ( أفعل ) من الثلاثي المزيد ؟ :
يشترط(5) في اسم التفضيل الذي يُصَاغُ على وزن ( أَفْعَل ) أن يكون فعله ثلاثياً مجرداً ، متصرفاً ، تاماً ، قابلاً معناه للتفاضل ، غير مبني للمجهول ، ولا منفياً ، فاسم التفضيل من الفعل ( علم ) هو ( أَعْلَم ) ، تقول : زيد أعلمُ من عمرو ، أما إذا اختل شرط من الشروط السابقة فيتوصل إلى اسم التفضيل بأشد وأعظم ، كقولهم : خالد أَشَدُ إسراعاً من بكر ، لأن الفعل ( أَسْرَعَ ) ثلاثي مزيد .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب فضائل القرآن ، باب في كم يُقرأ القرآن .
(2) شرح الأشموني : 2/39 .
(3) شرح الكافية الشافية : 2/1107 ، والمغني : 604 .
(4) شرح الكافية الشافية : 2/1107 .
(5) شرح الكافية الشافية : 2/1121 .(1/13)
وخلافًا لهذه القاعدة التي ذكرها النحاة فقد ورد حديث في صحيح البخاري جاء فيه اسم التفضيل على صيغة ( أَفْعَل ) من الفعل الثلاثي المزيد ، واستدل به الإمام العيني على جواز ذلك ، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث عن النساء عندما أمرهن بالصدقة :
(( مَا رَأْيتُ من ناقصاتِ عَقْلٍ وَدِيْنٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ مِنْ إحدَاكُنَّ ))(1) ، قال العيني لدى شرح هذا الحديث : (( قوله ( أَذْهَبَ ) : أَفْعَلُ التفضيل من الإذهاب ، هذا على مذهب سيبويه ، حيث جوَّز بناء أفعل التفضيل من الثلاثي المزيد فيه ، وكان القياس فيه أشد إذهابا ))(2) .
وما أيد فيه العيني إمام النحاة سيبويه هو الصحيح لأمرين :
الأول : أن اسم التفضيل إذا صيغ من الفعل الثلاثي المزيد على وزن ( أَفْعَل ) فجائز أن يأتي على صيغة : ( أَفْعَل ) ، وإلى هذا أشار ابن مالك بقوله : (( ثم بيَّنتُ أنَّ أَفْعَل التفضيل إذا بني من فعلٍ على : ( أَفْعَلَ ) كـ ( أَعْطَى ) لم يُعَدَّ شاذًا ، كما لا يُعَدُّ شاذًا التعجب منه ))(3) .
الثاني : أن السماع يؤيد ذلك ، ومنه حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، (( ما رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحدَاكُنَّ )) ، ومنه أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام مالك في الموطأ : (( فَهُوَ لِمَا سواها أَضْيَعُ ))(4) .
ومن المسموع عن العرب في ذلك قولهم : هو أعطاهم للدراهم ، وأولاهم للمعروف ، وهذا المكانُ أَقْفرُ من غيره ، وفي أمثالهم : هو أَفْلَسُ من ابنِ المُذَلقِِ(5) .
4- إضافة ( الأَلْفِ ) إلى التمييز :
__________
(1) عمدة القاري : 3/170 .
(2) عمدة القاري : 3/172 .
(3) شرح الكافية الشافية : 2/1123 .
(4) الموطأ - باب الوقوت : 6/80 .
(5) شرح الكافية الشافية : 2/1124 .(1/14)
القياس عند النحاة أن العدد ( أَلْف ) إذا جاء مضافا لا تدخله ( أل ) التعريف ، فلا يقال : عندي الأَلْفُ دينار ، وإنما الصواب عندهم : عندي أَلْفُ دينارٍ ، قال السيوطي في ( همع الهوامع ) : (( يُعَرَّفُ العدد المفرد .. فيقال : الواحد والاثنان والثلاثة والعشرة والعشرون والتسعون والمئة والألف ، وتدخل ( أل ) في المتعاطفين ، وفي ثاني المضاف دون أوله نحو: مئة الدرهم ، وألف الدينار ))(1) .
وقد جاء العدد ( ألف ) مضافا إلى ( دينار ) ، وهو مُعَرَّف بـ ( أل ) ، من ذلك ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه البخاري ، وهو يتحدث عن رجل من بني إسرائيل سأل رجلا أن يسلفه ألف دينار ، فقال عليه الصلاة السلام في ختام القصة على لسان الرجل الدائن : (( فإِنَّ اللهَ قد أدَّى عنك الذي بَعَثْتَ في الخَشَبةِ ، فَانْصرِفْ بالألفِ دينارٍ رَاشدًا ))(2) .
وقد علق الإمام العيني على هذا الحديث بقوله :
(( قوله (( بالألف دينار )) هو جائز على رأي الكوفيين ))(3) .
ويفهم من قوله هذا أنه اتخذ الحديث الشريف حجةً في جواز إضافة العدد
( ألف ) ، وهو معرف بِأل ، وما دام قد ورد هذا في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا داعي إلى تأويلهِ أَوْ رَدِّهِ .
5- مجيء خبر ( كان ) ضميرًا متصلاً :
__________
(1) همع الهوامع : 2/150 .
(2) عمدة القاري : 7/359 .
(3) عمدة القاري : 7/360 ، وذكر هذا أيضا في : 10/112 .(1/15)
القياس عند النحاة أن يكون خبر ( كان ) ضميرًا منفصلاً ، نحو قولك : صديقي كنتُ إيَّاه ، ولا يجوز عند أكثرهم : صديقي كُنْتُهُ ، وقد أجازه الإمام العيني محتجا على هذا بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن أباه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يتحدث عن ابن صياد : دَعْنِي يا رسول الله أَضْرِبْ عنقَهُ ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عليهِ ، وإن لم يَكُنْهُ فلا خيرَ لك في قَتْلِهِ ))(1) ، قال رحمه الله بعد أن ذكر هذا الحديث : (( قوله ( إِنْ يَكُنْهُ ) هذا الضمير المتصل في ( يكنه ) هو خبرها ، وقد وضع موضع المنفصل ، واسم يكن مستتر فيه ))(2) .
وما أجازه الإمام العيني من جواز مجيء خبر ( كان ) ضميرًا متصلاً هو الصحيح ، وذلك لوروده في أفصح الكلام ، وهو حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد دافع ابن مالك عن هذا الرأي فقال(3) : (( إن كان الفعل من باب ( كان ) واتصل به ضميرُ رفعٍ جاز في الضمير الذي يليه الاتصال نحو : صديقي كنتُهُ ، والانفصال نحو : صديقي كنتُ إياه ، والاتصال عندي أجود ، لأنه الأصل ، وقد أمكن لشبه ( كنته ) بـ ( فَعَلْتُهُ ) ، فمقتضى هذا الشبه أن يمتنع ( كنتُ إياه ) ، كما يمتنع ( فعلْتُ إياه ) ، فإذا لم يمتنع فلا أقل من أن يكون مرجوحا ، وجعله أكثر النحويين راجحًا ، وخالفوا القياس والسماع ، أما مخالفة القياس فقد ذكرت ، وأما مخالفة السماع فمن قِبَل أن الاتصال ثابت في أفصح الكلام ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إِنْ يَكُنْهُ فلن تُسَلَّطَ عليه )) ، وفي الكلام المنظوم كقول الشاعر :
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب إذا أسلم الصبي فمات ، هل يصلى عليه .
(2) عمدة القاري : 7/88 .
(3) شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح - ابن مالك : 27- 28 .(1/16)
فَإِنْ لاَ يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فَإِنَّهُ أخوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِها(1) )) .
6- جواز استعمال ( قط ) في الإثبات :
تحدث ابن هشام في كتابه ( مغني اللبيب ) عن الظرف ( قط ) فقال : (( ( قَطُّ ) على ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى ، وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات ، وتختص بالنفي ، يقال : ما فعلته قط ))(2) ، قُلتُ : وقد ورد استعمالها في الإثبات في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، منها ما رواه البخاري في صحيحه عن سَمُرَة بن جندب - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل ، تحدث فيه عن رؤيا رآها : (( فَقَالا لي [ أي المَلَكَانِ ] : اِنْطَلِقْ، اِنْطَلِقْ ، فانطلقْناَ فَأَتَيْنَا على رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فيها من كُلِّ نَوْرِ الرَّبيعِ ، وإذا بين ظَهرِيْ الروضةِ رجلٌ طويلٌ لا أكاد أرى رأسَهُ طُولاً في السماء ، وإذا حولَ الرجلِ من أكثرِ وِلْدَانٍ رأيتُهُم قَطُّ ... ))(3) ، فقد جاءت ( قط ) ههنا في الإثبات ، وأجازه بدر الدين العيني ، واستشهد بقول ابن مالك على الجواز فقال : (( قال ابن مالك: جاء استعمال (قط) في المثبت في هذه الرواية ، وهو جائز ، وغفل أكثرهم عن ذلك فخصوه بالماضي المنفي ))(4) .
__________
(1) الإنصاف في مسائل الخلاف : 2/823 ، هذا البيت ينسب لأبى الأسود الدؤلي ، وقد كان له مولى يحمل تجارته إلى الأهواز ، وكان هذا المولى إذا مضى بالتجارة تناول شيئا من الشراب فاضطرب أمره ، وفسدت التجارة ، فقال أبو الأسود هذا البيت وقبله :
دَعِ الخمرَ يشربها الغُوَاةُ فإنني رأيتُ أخاها مُغْنِيَاً بِمكانِهَا
(2) مغني اللبيب : ص223 ، وينظر في همع الهوامع : 1/214 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الرؤيا ، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح .
(4) عمدة القاري : 20/55 ، وقد ورد قول ابن مالك في شواهد التوضيح : ص193 .(1/17)
وما أراه في هذه المسألة أن استعمال ( قط ) في الإثبات من القليل النادر ، ومنه قول أبي موسى الأشعري : (( خَسَفَتِ الشمسُ فقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَزِعاً يخْشَى أن تكونَ الساعةُ ، فأتى المسجدَ فصلى بأطولِ قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ رأيتُه قَطُّ ))(1) ، ولهذا قال الرضي في شرح الكافية وهو يتحدث عن ( قط ) : (( وقد يستعمل مع الإثبات ))(2) ، وقال الفيروزابادي : (( تختص ( قط ) بالنفي ماضيا ، وفي مواضع من البخاري جاء بعد المثبت .. وأثبته ابن مالك لغة ))(3) .
ثانيا: في باب الأفعال :
1- هل يأتي جواب فعل الشرط المضارع في صيغة الماضي ؟
__________
(1) عمدة القاري : 6/97 ، كتاب الكسوف ، باب الذكر في الكسوف .
(2) شرح الكافية للرضي : 2/124 .
(3) القاموس المحيط : 2/394 .(1/18)
ذهب جمهور النحاة إلى أن مجيء فعل الشرط مضارعا وجوابه ماضيا يختص بالضرورة الشعرية ، وأجازه الإمام العيني مستشهداً على ذلك بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ يَقُمْ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تَقدَّمَ من ذنبِهِ ))(1) قال رحمه الله في شرح هذا الحديث(2) : قوله (( غُفِرَ له )) جواب الشرط ، وهذا كما ترى وقع ماضيا ، وفعل الشرط مضارع ، والنحاة يستضعفون مثل ذلك ، ومنهم من منعه إلا في ضرورة شعر ، وأجازوا ضده ، وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا ، والجواب مضارعا ، ومنه قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يريدُ الحياةَ الدنيا وزينَتَها نُوفِّ إليهم } (3) ، وجماعة منهم جوزوا ذلك مطلقا ، واحتجوا بالحديث المذكور ، وتقول عائشة رضي الله عنها في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : (( مَتَىَ يَقُمْ مَقَامَك رَقَّ )) ، والصواب معهم لأنه وقع في كلام أفصح الناس ، وفي كلام عائشة الفصيحة .
ثم رد الإمام العيني على ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - إذ ذهب ابن حجر إلى أن هناك تصرفا من الرواة في حديث البخاري فقال : (( وعندي في الاستدلال بالحديث نظر، لأنني أظنه من تصرف الرواة ، فقد رواه النسائي عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه ، فلم يغاير بين الشرط والجزاء ، بل قال : مَنْ يَقُمْ ليلةَ القدرِ يُغْفَرْ له ))(4) ، وبعد أن أورد العيني قول ابن حجر في شرحه رد عليه قائلاً(5) :
((
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب ( قيام ليله القدر من الإيمان ) .
(2) عمدة القاري : 1/260 .
(3) هود : 15 .
(4) فتح الباري : 1/114 .
(5) عمدة القاري : 1/260 .(1/19)
قلت : لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون تصرف الرواة فيما رواه النسائي ، وأن ما رواه البخاري بالمغايرة بين الشرط والجزاء هو اللفظ النبوي ، بل الأمر كذا لأن رواية محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان لا تعادل رواية البخاري عن أبي اليمان ، ويؤيد هذا رواية مسلم أيضًا )) . وما ذهب إليه الإمام العيني في هذه المسألة هو الصحيح وذلك لأمرين :
الأول : أن رواية البخاري مُقَدَّمَةٌ على رواية النسائي ، لأن البخاري نقل لفظ الحديث مباشرة عن شيخه أبي اليمان ، أما النسائي فقد رواه عن محمد بن علي بن ميمون عن شيخ البخاري ، فربما كانت رواية النسائي هي التي وقع فيها التصرف .
الثاني : أجاز بعض النحاة مجيء جواب فعل الشرط المضارع في صيغة الماضي ، محتجين عليه بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام العرب ، قال ابن مالك - رحمه الله - بعد أن أورد حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقول عائشة : (( تضمن هذان الحديثان وقوع الشرط مضارعا ، والجواب ماضيًا لفظاً لا معنى ، والنحويون يستضعفون ذلك ، ويراه بعضهم مخصوصا بالضرورة ، والصحيح الحكم بجوازه مطلقا لثبوته في كلام أفصح الفصحاء ، وكثرة صدوره عن فحول الشعراء ))(1) ، وقال ابن عقيل : (( ولا يختص نحو : (( إِنْ تفعلْ فَعَلْتُ )) بالشعر وفاقا للفراء ، فإنه أجازه في الاختيار، وكلام سيبوبه يقتضي عدم اختصاصه بالشعر ))(2) . ومما ورد في كلام العرب ، قول الشاعر :
إِن تَصْرِمُونَا وَصَلْنَاكُم وإِنْ تَصِلُوا مَلأَتُمُ أَنْفسَ الأعداءِ إِرهَابا(3)
فقد وقع الفعل الماضي ( وصلناكم ) جوابا للشرط ( تصرمونا ) .
ومنه قول أبي زبيد الطائي :
مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّءٍ كنتُ منهُ كالشَّجَا بينَ حَلْقِهِ والوَرِيدِ(4)
__________
(1) شواهد التوضيح : 14-15 .
(2) المساعد على تسهيل الفوائد : 3/184 .
(3) المساعد : 3/184 .
(4) شرح الكافية الشافية : 3/1585 .(1/20)
والشاهد فيه هو قوله ( كنتُ ) فقد وقع جوابا لفعل الشرط المضارع ( يكدني )
ومنه قول الشاعر :
إِنْ تَستجِيرُوا أَجَرْنَاكُم وإِنْ تَهِنُوا فعندنا لكمُ الإِنْجَادُ مَبْذولُ(1)
فالفعل الماضي ( أجرناكم ) هو جواب الشرط وقد جاء في صيغة الماضي .
2- استعمال فعل القول مكان فعل الظن :
قال ابن عقيل لدى حديثه عن الفعل ( قال ) : (( المشهور أن للعرب مذهبين ، أحدهما وهو مذهب عامة العرب ؛ أنه لا يجرى مجرى الظن إلا بشروط أربعة ، وهي التي ذكرها عامة النحويين ، الأول : أن يكون الفعل مضارعًا ، الثاني: أن يكون للمخاطب، الشرط الثالث : أن يكون مسبوقا باستفهام ، الشرط الرابع : ألا يفصل بينهما بغير ظرف ولا مجرور ))(2) .
وأجاز الإمام بدر الدين العيني استعمال فعل القول مكان فعل الظن ، واحتجَّ له بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه البخاري عن عائشةَ - رضي اللهُ عنها - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أراَد أن يعتكفَ ، فلمَّا انصرف إلى المكانِ الذي أرادَ أن يعتكف إذا أَخْبِيَةٌ ؛ خِباءُ عائشةَ ، وخِبَاءُ حفصةَ ، وخِباءُ زينبَ ، فقال : (( آَلْبِرَّ تقولون بهن ))(3) ، وبعد أن ذكر الحديث الشريف قال : (( قوله : ( تقولون ) أي تعتقدون أو تظنون ، والعرب تجري ( تقول ) في الاستفهام مجرى الظن في العمل ، وكان القياس أن يقال : ( يقلن ) بلفظ جمع المؤنث ، ولكن الخطاب للناس الحاضرين للرجال والنساء ، والمفعول الثاني لقوله (تقولون) هو ( بهن ) إذ تقديره ( ملتبسًا بهن ) ))(4) .
__________
(1) شواهد التوضيح : 16 .
(2) شرح ابن عقيل : 1/58- 59 دار الفكر .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الاعتكاف ، باب الأخبية في المسجد .
(4) عمدة القاري : 9/227 .(1/21)
وقد ورد استعمال فعل ( القول ) مكان فعل ( الظن ) في كلام العرب نثرهم وشعرهم ، فلغة سليم(1) إلحاق القول في العمل بالظن مطلقًا ، وقد حكى هذه اللغة سيبويه عن أبي الخطاب الأخفش الأكبر ، فيقولون : قلت زيدًا قائمًا ، أي : ظننت زيدًا قائمًا ، وحكى الكسائي أنه سمع أعرابيًا يقول : أتقول للعميان عقلاً ؟ أي أتظن .
ومما ورد في الشعر قول هُدْبَةُ بن خشرم العذري :
متى تقول ُالقُلُصَ الرَّواسِمَا يَحْمِلْنَ أُمَّ قاسِمٍ وقَاسِمَا؟(2)
3- (( هَلُمَّ )) على لغة الحجازيين :
قال ابن مالك عن ( هَلُمَّ ) : (( إنه اسم فعل على لغة الحجازيين ، وفعل على لغة بني تميم ، لأن الحجازيين لا يبرزون فاعلها في التأنيث والتثنية والجمع ، وبنو تميم يبرزونه ))(3) .
__________
(1) المساعد على تسهيل الفوائد : 1/375 .
(2) شرح ابن عقيل : 1/59 دار الفكر ، القلص : جمع قلوص ، وهي الشابة الفتية من الإبل ، الرواسم : المسرعات، أم قاسم : كنية امرأة .
(3) شرح الكافية الشافية : 3/1390 - وينظر في هذه المسألة مفصلا أيضا في البحر المحيط : 4/248 ، والمساعد على تسهيل الفوائد : 2/644 ، والجامع لأحكام القرآن : 7/85 .(1/22)
وذهب الإمام العيني إلى أن ( هَلُمَّ ) جاء في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على لغة الحجازيين في مواضع ، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( قَدْ توفيَ اليومَ رجلٌ صالحٌ من الحَبَشِ ، فَهُلُمَّ فَصلُّوا عليه ))(1) ، قال : (( قوله : ( فَهُلُمَّ ) أي تعال، ويستوي فيه الواحد والجمع في لغة الحجاز ، وأهل نجد يصرفونها ، فيقولون : هَلُمَّا ، هَلُمَّوا ، هَلُمِّي ، هَلْمُمْنَ ))(2) ، ومن الآثار التي استدل بها العيني على مجيء ( هلمَّ ) على لغة أهل الحجاز ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر النساء بالصدقة فقال : تَصَدَّقْنَ ، فَبَسط بلاُلٌ ثوبَهُ ثم قال : (( هَلُمَّ لَكُنَّ فداءُ أبي وأمي )) ، وبعد أن أورد الإمام العيني هذا الأثر في شرحه قال معلقا : (( قوله : ( هلمَّ ) : أي هَاِتِه وَقَرِّبْهُ ، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر و المؤنث ، تقول : هلمَّ يا رجل ، هلمَّ يا رجلان ، هلمَّ يا رجال ، هلمَّ يا امرأة ، هلمَّ يا امرأتان ، هلمَّ يا نسوة ، هذه لغة أهل الحجاز، وأما بنو تميم فيقولون : هلمَّ ، هلمَّا ، هلمُّوا ، هلمِّي ، هلممن ، والأول أفصح ))(3) .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب الصفوف على الجنازة .
(2) عمدة القاري : 7/30 .
(3) عمدة القاري : 5/405-406 .(1/23)
وهذه اللغة التي نطق بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها القرآن الكريم كذلك، قال الإمام القرطبي - رحمه الله - بعد أن ذكر لغة أهل الحجاز وأهل نجد : (( وعلى لغة أهل الحجاز جاء القرآن ، ومنه قوله تعالى : { قُلْ هُلُمَّ شهداءَكمُ } (1) ، وقوله تعالى : { والقائِلين لإخوانِهم هَلُمَّ إلينا } (2) ))(3) .
4- حذف الفاء والمبتدأ من جواب الشرط(4) :
روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُني عامَ حَجَّةِ الوَداعِ من وجعٍ اشتدَ بي : فقالَ لي : (( إنك إِنْ تَذَرْ ورثَتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس ))(5) ، أورد العيني هذا الحديث في كتابه فقال : (( قوله : (( إنك إِنْ تَذَرْ )) أي : إِنْ تترُكْ ، قال عياض : رويناه بفتح الهمزة وكسرها ، وكلاهما صحيح ، وقال ابن الجوزي : سمعناه من رواة الحديث بكسر ( إِنْ ) ، وقال لنا : عبد الله بن أحمد النحوي : إنما هو بفتح الألف ، ولا يجوز الكسر لأنه لا جواب له ، وقال القرطبي : رويناه بفتح الهمزة وقد وهم من كسرها ، وقال بعضهم : - أي ابن حجر - : ولا يصح كسرها لأنها تكون شرطية ، والشرط لما يستقبل ، وهو فقد كان مات ))(6) .
__________
(1) الأنعام : 150 .
(2) الأحزاب : 18 .
(3) الجامع لأحكام القرآن : 7/85 .
(4) ينظر في هذه المسألة في : عقود الزبرجد : 1/19 ، والمغني : 219 .
(5) صحيح البخاري .
(6) عمدة القاري : 6/459 ، وانظر قول ابن حجر في فتح الباري : 3/196 .(1/24)
وبعد أن أورد الإمام العيني ذكر أقوال المحدثين في رواية الحديث ، أجاز رواية كسر همزة ( إِنْ ) ، واستشهد بها على جواز حذف الفاء والمبتدأ من جواب الشرط ، مستدلاً على هذا الجواز بقول ابن مالك ، قال - رحمه الله - في معرض رده على ابن حجر العسقلاني : (( قلت : التحقيق فيه ، ما قاله ابن مالك : أن الأصل إِنْ تركتَ ورثتَك فهو خيرٌ لك ، فحذف الفاء والمبتدأ ، ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب : (( فإن جاءَ صاحبُهَا وإلاَّ فاَستمتِعْ بها ))(1) ، وقوله لهلال بن أمية : (( البينَّةُ وإلا حَدٌّ في ظهرِكَ ))(2) ، وذلك مما زعم النحويون أنه مخصوص بالضرورة ، وليس مخصوصا بها ، بل يكثر استعماله في الشعر ، ويقل في غيره ، ومن خص هذا الحذف بالشعر حَادَ عن الطريق ، وضَيَّقَ حيث لا تَضْييق ))(3) .
ومن الشواهد الشعرية(4) الواردة في ذلك قول الشاعر :
أَأُبَيُّ لا تَبْعَدْ وليسَ بخالدٍ حيٌّ ، وَمن تُصِبِ المَنُونُ بعيدُ
ومثله :
بني ثُعَلٍ لا تَنْكَعُوا العَنْزَ شِرْبَهَا بني ثُعَلِ مَنْ ينكَعِ العنزَ ظَالمُ(5)
فالتقدير في البيت الأول : ( فهو بعيد ) ، وفي الثاني : ( فهو ظالم ) .
5- إثبات حرف العلة في الفعل المعتل المجزوم :
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب اللقطة ، باب ( هل يأخذ اللقطة ولايدعها ) .
(2) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، سورة النور ، باب قوله { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } .
(3) عمدة القاري 6/459 .
(4) شواهد التوضيح والتصحيح : 134 .
(5) شواهد التوضيح والتصحيح : 134 .(1/25)
القياس عند النحاة أن الفعل المجزوم يحذف منه حرف العلة إذا كان معتل الآخر ، نحو: لم يبكِ زيدٌ ، وقد ورد عن بعض العرب إثبات حرف العلة في الفعل المعتل المجزوم ، وأجاز الإمام العيني هذه اللغة ، واحتج لها ببعض أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة ، فمن الأحاديث التي احتج بها ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ أَكَل من هذه الشجرة - يريد الثوم - فلا يَغْشَانا في مساجدنا ))(1) ، قال العيني - رحمه الله - : (( قوله : (( فلا يغشانا )) من الغشيان ، وهو المجيء والإتيان ، أي : فلا يأتنا ، وإنما أثبت الألف لأن الأصل فلا يغشنا ، لأنه أجرى المعتل مجرى الصحيح ، كما في قول الشاعر :
إذا العجوزُ غَضِبَت فَطلقِ ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ ))(2)
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الأذان ، باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث .
(2) عمدة القاري : 5/219-220 ، وانظر الشاهد في شواهد التوضيح والتصحيح : 20 .(1/26)
وما أجازه العيني - من وجهة نظري - هو الصحيح ، وذلك لورود هذه اللغة في القرآن الكريم والحديث الشريف ، وهما في المرتبة الأولى من حيث الاحتجاج والاستدلال ، فمن القرآن الكريم قوله تعالى : { إنه مَنْ يَتَّقِ وَيصبرْ فإن الله لا يُضيعُ أجرَ المحسنين } (1) ، فقد قرأها ابن كثير(2) بإثبات الياء ( مَنْ يتقي ) ، وقوله تعالى : { ولقد أَوحْينَاْ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي فاضربْ لهم طريقاً في البَحْرِ يَبَساً لا تخافُ دَرَكا ولا تخشى } (3) ، فقد قرأها حمزة(4) { لا تَخَفْ دَرَكاً ولا تَخْشَى } ، حيث جزم الفعل ( تَخَفْ ) ، وأبقى حرف العلة في الفعل ( ولا تَخْشَى ) ، مع أنه معطوف على الفعل المجزوم قبله .
ومن الأحاديث النبوية ما رواه البخاري في إحدى الروايتين(5) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مُرُوا أَبَا بكرٍ فليصلي بالنَّاسِ ))(6) ، فقد جاء الفعل بالياء مع أنه سُبِقَ بلام الأمر ، ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده في إحدى الروايات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل عندما سأله عن الإحسان (( أن تعبدَ اللهَ كأنك ترَاهُ ، فإنَّك إِنْ لا تراهُ فإنَّه يَرَاك )) ، قال أبو البقاء : كذا وقع في هذه الرواية ( إِنْ لا تراهُ ) بالألف ، والوجه حذفها ))(7) .
ومما ورد في الشعر قول الشاعر :
إذا العجوزُ غَضِبَت فَطلِّقِ ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ(8)
__________
(1) يوسف : 90 .
(2) الجامع لأحكام القرآن : 9/256 ، البحر المحيط : 5/342 .
(3) طه : 77 .
(4) الحجة- ابن خالويه : 245 ، والنشر ، ابن الجزري : 2/321 .
(5) شواهد التوضيح : 21 .
(6) صحيح البخاري - كتاب الأذان .
(7) عقود الزبرجد : 2/277 .
(8) الإنصاف : 1/26 دار الجيل ، وينظر في الشواهد الشعرية الأخرى التي جاءت على هذه اللغة في الإنصاف : 1/24 ، وشرح المفصل : 10/105 ، والكتاب : 3/315-316 ت : هارون .(1/27)
أراد ( ولا تَرَضَّهَا ) فلم يَحْذِفْ حرف العلة .
وأقول - ختاما - كما قال أبو حيان وهو يرد على النحاة الذين أنكروا هذه اللغة ورفضوها : (( الأحسن من هذه الأقوال أن تُخَرَّج قراءة ابن كثير ( مَنْ يَتَّقِي ) على لغةٍ ، وإن كانت قليلة ))(1) ، وكذلك الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة ، وهي لغة تحفظ ولا يُقَاسُ عليها .
6- اتصال الفعل بعلامة الجمع مع إسناده إلى الاسم الظاهر(2) :
تباينت آراء النحاة حول اتصال الفعل بعلامة الجمع مع إسناده إلى الاسم الظاهر ، ففريقٌ يجعل ( الواو ) في قولهم : ( ضربوني قومُك ) علامة للجمع ، و ( قومك ) هو الفاعل الظاهر ، وفريق آخر يجعل الضمير فاعلاً ، ويعربون الاسم الظاهر ( قومُك ) بدلا منه .
__________
(1) البحر المحيط : 5/343 .
(2) ينظر في هذه المسألة مفصلا في المصادر والمراجع التالية :
أوضح المسالك : 2/110 ط3 ، معاني القرآن - الفراء : 1/316 ، البحر المحيط : 6/297 ، شرح الأشموني : 2/118 ، شرح ابن عقيل : 1/468 ، الكتاب : 2/40 ، هارون ط1968م ، شرح التصريح على التوضيح : 1/277 ، النحو الوافي : 2/72 دار المعارف ط 3 .(1/28)
والإمام العيني في كتابه ( عمدة القاري ) تحدث في مواضع كثيرة عن هذه المسألة النحوية ، وأجاز لغة بعض القبائل العربية التي تجعل الضمير علامة للجمع ، واحتج على هذا الجواز بطائفةٍ من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة ، ومن الأحاديث التي احتج بها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : (( يَتَعاقبُونَ فيكم مَلاَئكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهار ))(1) ، قال - رحمه الله -(2) : (( قوله : (( يتعاقبُونَ فيكم ملائكةٌ )) ، قال الأخفش ومن تابعه : إن إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدم جائز ، وهي لغة بني الحارث ، وقالوا : هو نحو ( أكلوني البراغيث ) ، كقوله تعالى : { وأسرُّوا النَّجْوَى الذين ظَلَمُوا } (3) ، وقال القرطبي : هذه لغة فاشية ، ولهذا وَجْهٌ في القياس صحيح ، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى : { وأَسَرُّوا النَّجوَى الذين ظُلموا } .
ومن الأحاديث التي احتج بها أيضا لهذه اللغة قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( تَخرُجُ العَوَاتقُ وذَوَاتُ الخُدُورِ والحُيَّضُ ، وَلْيَشْهَدْنَ الخيرَ ودعوةَ المؤمنين ، وَيَعْتزِلْنَ الحُيَّضُ المُصَلَّى ))(4) ، قال العيني : (( قوله ( يَعْتزِلْنَ الحُيَّضُ ) بلفظ الجمع على لغة أكلوني البراغيث ، ويروى ( ويعتزلِ الحُيَّضُ ) بالإفراد ))(5) .
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة العصر .
(2) عمدة القاري : 4/192 .
(3) الأنبياء : 3 .
(4) صحيح البخاري ، كتاب الحيض باب ( شهود الحائض العيدين ) .
(5) عمدة القاري : 3/212 .(1/29)
وأما الآثار التي احتج بها العيني على جواز هذه اللغة فكثيرة(1) ، منها ما رواه البخاري عن أبي حازم ؛ سَمِعَ سَهْلَ بن سعد الساعدي : (( وسألَهُ الناسُ وما بيني وبينه أحدٌ )) ، قال العيني: (( وسأله الناس )) ، وفي بعض النسخ (( سألوه الناس )) على لغة أكلوني البراغيث ))(2) ، ومنها ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( جلَسَ إحدى عشرة امرأةً فتَعَاهَدْنَ وتَعَاقَدْنَ ألا يَكْتُمْنَ من أخبارِ أزواجهن شيئاً )) قال العيني : في رواية أبي عوانة ، ( جلَسَتْ ) وفي رواية أبي عبيد ( اجتمعت ) ، وفي رواية أبي يعلى ( اجتمعن ) على لغة أكلوني البراغيث ))(3) ، ومنها مارواه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : (( فَكَان أُمَّهَاتي يُوَاظِبْنَنَي على خدمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فخدمتُه عَشْرَ سنينَ )) ، قال العيني : (( قوله ( أمهاتي ) ، ويروى ( كُنَّ أمهاتي ) من قبيل أكلوني البراغيث ))(4) .
وما ذهب إليه الإمام العيني من جواز اتصال الفعل بعلامة الجمع مع إسناده إلى الاسم الظاهر هو الصحيح ، وذلك لورود هذه اللغة في طائفة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة .
__________
(1) ينظر العمدة : 3/203 ، 4/192-193 ، 5/237 ، 16/349 .
(2) عمدة القاري : 3/65-66 .
(3) عمدة القاري : 16/366-367 .
(4) عمدة القاري : 16/349 .(1/30)
وأضيف هنا بعض الأحاديث النبوية التي جاءت في كتب السنة ، منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ كُنَّ لهُ ثلاث بناتٍ يُؤَدِّبُهُن ، ويَرْحَمُهُنَّ ، ويَكْفلهُن ، وَجَبتْ له الجَّنةُ البتة ))(1) ، قال العكبري : (( الوجه في الرواية المشهورة أنه جعل النون علامة مجردة للجمع ، وليست اسما للضمير ))(2) ، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ووَقَعتَا رَكْبَتَاهُ قبل أن تقع قفاه ))(3) ، فقد اتصلت الألف بالفعل مع إسناده إلى الفاعل ( ركبتاه ) ، ومن الآثار التي جاءت على هذه اللغة في صحيح مسلم قول أبي قتادة - رضي الله عنه - : (( فَغَضِبَ عِمْرَانُ حتى احمرَّتَا عَيْنَاهُ )) ، قال النووي : قوله :
(( احمرتا عيناه )) كذا هو في الأصل ، وهو صحيح جار على لغة أكلوني البراغيث ))(4) .
ومنها ما رواه مسلم - كذلك - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : (( ذَكَرْنَ أزواجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسةً رأينها بأرض الحبشة )) ، قال النووي : (( هكذا ضبطناه (( ذَكَرْنَ )) بالنون ، وهو جائز على اللغة القليلة (( لغة أكلوني البراغيث ))(5) .
أما الشواهد الواردة في كلام العرب فهي كثيرة(6) جدًا ، منها - على سبيل المثال - قول الشاعر :
إلى أَنْ رَأَيْتُ النجمَ وهو مُغَرِّبٌ وأَقْبَلْنَ راياتُ الصَّباحِ من الشَّرِق(7)
__________
(1) مسند الإمام أحمد : 3/303 .
(2) إعراب الحديث النبوي : 39 .
(3) منحة الجليل : 1/472 .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي : 2/7-8 .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي : 5/11-12 .
(6) ينظر في هذه الشواهد بالتفصيل في : مغني اللبيب : 478 ، وشرح شذور الذهب : 177 ، وهمع الهوامع : 2/57 ، وشرح الكافية الشافية : 2/582 ، وشرح الأشموني : 2/111 ، وشرح ابن عقيل : 1/363 ، وأوضح المسالك : 2/111 .
(7) منحة الجليل : 1/471 .(1/31)
فالفعل (( أقبلن )) جاء مقترناً بنون النسوة مع إسناده إلى الاسم الظاهر وهو (( راياتُ )) .
وختاماً أقول : إن لغة ( يتعاقبون فيكم ملائكة ) لغة صحية فصيحة ، وليست كما قال بعض النحاة(1) : إنها ضعيفة أو شاذة أو غير صحيحة ، فهي منقولة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ، ثم هي منقولة أيضا عن طيء ، وأزد شنوءة ، وبلحارث بن كعب ، وقبيلة طيء من القبائل التي أقر العلماء(2) بصحة الاستشهاد بكلامها في اللغة العربية لكنها لغة تحفظ ولا يقاس عليها في أيامنا هذه .
ثالثا : في باب الأدوات والحروف
1- (( لَنْ )) ، تأتي حرفاً جازما :
الأصل في ( لَنْ ) أنها تنصب الفعل المضارع ، وقد تأتي جازمة على لغة بعض القبائل العربية ، واحتج الإمام العيني على ذلك ببعض الأحاديث والآثار ، فمن الحديث ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ؛ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، قال لابن صياد : (( إني قّدْ خَبَأْتُ لك خَبِيئاً ، فقال ابنُ صيّادٍ : هو الدُّخُّ ، فقال : اِخْسَأ فلن تَعْدُوَ قَدْرَك ))(3) ، قال العيني : (( قوله ( فَلَنْ تَعْدُوَ ) بالنصب لكلمة ( لَنْ ) ، وقال السفاقسي : وقع هنا ( فلن تَعْدُ ) بغير واو ، وهي لغة لبعض العرب يجزمون بـ ( لن ) مثل ( لم ) ، وقال ابن مالك : (( الجزم بـ ( لن ) لغة حكاها الكسائي ))(4) .
__________
(1) الموجز في قواعد اللغة العربية - سعيد الأفغاني : 216-217 ، وظاهرة الشذوذ في النحو العربي د. فتحي الدجني : 496 .
(2) الاقتراح في أصول النحو : 56- د.أحمد قاسم .
(3) صحيح البخاري كتاب الجنازة ، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه ؟ ، والدخ : هو الدخان ، لم يستطع ابن صياد أن يتم الكلمة .
(4) عمدة القاري : 7/88 .(1/32)
ومن الآثار التي احتج بها بدر الدين العيني على جواز مجيء ( لَنْ ) حرفًا جازمًا ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وهو يقص رؤيا رآها في منامه فقال : (( اضطجعتُ ليلةً قلتُ : اللهم إنْ كنتَ تعلم فيَّ خيراً فَأَرِني رؤيا ، فبينمَا أنا كذلك إِذْ جَاءَني مَلَكانِ في يد كل واحدٍ منهما مَقْمَعَةٌ من حديدٍ يُقْبِلانِ بي إلى جهنم وأنا بينهما أدعُو اللهَ : اللهم أعوذُ بك من جهنمَ ، ثم أراني لقيني مَلَكٌ في يده مَقْمَعَةٌ من حديدٍ فقالَ : لن تُرَاعَ ، نِعْمَ الرجلُ أنت لو تكثرُ الصلاة ... ))(1) ، قال العيني معلقا على هذا الأثر : قوله ( لن تراعَ ) هكذا في رواية الكُشْمِيْهَنِيّ ، ووقع عند كثير من الرواة ( لن تُرَعْ ) بحرف (( لن )) مع الجزم ، والجزم بـ ( لَنْ ) لغة قليلة حكاها الكسائي ))(2) .
وما ذهب إليه الإمام العيني من مجيء ( لن ) حرفا جازما على لغة قليلة هو الصحيح من وجهة نظري ، قال الرماني : (( واعلم أن من العرب من يجزم بـ ( لَنْ ) تشبيها بها بـ ( لم ) لأنها للنفي مثلها ، وأن النون أخت الميم في اللغة ))(3) ، وقال ابن مالك : (( وينصب المضارع أيضا بـ ( لن ) هذا هو المشهور في لسان العرب ، وحكي الجزم بها لغة ))(4) .
ومن الشواهد الواردة في الجزم بها قول كثير :
أَيَادي سَبَا يَا عَزُّ ما كنتُ بعدَكُمْ فَلَنْ يَحْلَ للعَيْنَيْنِ بعدكِ مَنْظرُ(5)
أي : ( يحلى ) فحذف حرف العلة لأن ( لن ) جاءت جازمة .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب التعبير ، باب ( الأمن وذهاب الروع في المنام ) .
(2) عمدة القاري : 20/41 .
(3) رصف المباني ، المالقي ، تحقيق د. أحمد الخراط ، دار القلم ، دمشق ,.357 .
(4) المساعد على تسهيل الفوائد : 3/66 .
(5) رصف المباني : 357 ، والمغني : 375 .(1/33)
ومع ورود الجزم ( بلن ) في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام وفي كلام العرب ، أقول : إن ذلك نادرٌ قليلٌ جداً ، لا يقاس عليه .
2- في استعمال ( رب ) للتكثير(1) :
من الأحاديث التي احتج بها الإمام العيني في استعمال (( رُبَّ )) للتكثير قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أم سلمة قالت : (( استيقظَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلةٍ فقالَ : (( سبحانَ اللهِ ، ماذا أُنْزِلَ الليلةَ من الفتنِ ؟ وماذا فُتِحَ من الخزائنِ ؟ أَيْقِظوا صَوَاحب الحُجَرِ ، فربَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرةِ ))(2)، فبعد أن أورد هذا الحديث قال : (( قوله : ( فربَّ كاسيةٍ ) أصل (( رُبَّ )) للتقليل ، وقد تستعمل للتكثير كما في (( رُبَّ )) هاهنا ، والتحقيق فيه أنه ليس معناه التقليل دائمًا خلافًا للأكثرين ، ولا التكثير دائما خلافاً لابن درستويه وجماعة ، بل للتكثير كثيراً ، وللتقليل قليلاً ، فمن الأول قوله تعالى { ربما يَوَدُّ الذين كفرُوا لو كَانُوا مسلمين } (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرة )) ، ومن الثاني قول الشاعر :
أَلاَ رُبَّ مولودٍ وليسَ له أَب(4)
__________
(1) ينظر في رب : أمالي الشجري : 2/300 ، المقرب : 1/99 ، الجنى الداني : 176 ، وحروف المعاني : 266 ، وشرح الأشموني : 2/229 ، وأوضح المسالك : 2/145 .
(2) صحيح البخاري ، كتاب التهجد ، باب العلم والعظة بالليل .
(3) الحجر : 2 .
(4) عمدة القاري : 2/140 ، وشواهد التوضيح : 105 ، وعجز البيت : وذي ولدٍ لم يَلْدَهُ أبوان . أراد بالشطر الأول عيسى ، وأراد بالشطر الثاني آدم عليهما السلام ، ويَلْدَهُ : بسكون اللام ، وأراد : لَمْ يَلِدْهُ .(1/34)
ومن النحاة الذين استشهدوا بهذا الحديث على مجيء (( رُبَّ )) للتكثير ابن مالك وابن هشام ، ففي كتاب شواهد التوضيح ، قال ابن مالك : (( أكثر النحويين يرون أن معنى (( رُبَّ )) للتقليل ، وأن ما يصدر بها المضيُّ ، والصحيح أن معناها في الغالب التكثير ، نص على ذلك سيبويه، ودلت شواهد النثر والنظم عليه ، فمن النثر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرة )) ، فليس المراد أن ذلك قليل ، بل المراد أن الصنف المتصف بهذا من النساء كثير ))(1) .
وبين ابن هشام في المغني بعد أن ذكر الآية الكريمة { ربما يَودُّ الذين كفرُوا } (2) ، وحديث الرسول - عليه السلام - (( رب كاسية ... )) : أن الآية والحديث مَسُوقَان للتخويف ، ولا يناسب واحداً منهما التقليل .
3- وقوع جواب ( لو ) مضارعا منفيا(3) :
ذهب النحاة إلى أن : جواب ( لو ) إما أن يكون فعلا ماضياً أو مضارعًا مجزومًا بـ ( لم )، وإلى هذا أشار ابن هشام(4) بقوله : (( جواب ( لو ) إما مضارع منفي بلم نحو ( لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ )(5) ، أو ماض مثبت ، أو منفي بـ ( ما ) )) .
واحتج الإمام العيني على جواز مجيء جواب ( لو ) مضارعا منفيا بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : (( لَوْ كَانَ لي مثلُ أُحدٍ ذَهباً ما يَسُرُّني أَلاَّ يَمُرَّ عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيءٌ ، إلا شيء أَرْصُده لِدَيْنٍ ))(6) ، فبعد أن ذكر هذا الحديث قال :
((
__________
(1) شواهد التوضيح 104 .
(2) الحجر : 2 .
(3) موارد هذه المسألة : شرح الكافية الشافية 3/639 ، والمغني 358 ، ورصف المباني ص 358 .
(4) المغني : 358 .
(5) قال السخاوي في المقاصد الحسنة : 449 ، اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني والعربية من حديث عمر .
(6) صحيح البخاري ، كتاب الاستقراض وأداء الديون ، باب أداء الديون .(1/35)
قوله ( ما يسرني ) جواب ( لو ) ، ثم أورد قول ابن مالك رحمه الله في هذه المسألة قائلا : وقال ابن مالك الأصل في وقوع جواب ( لو ) أن يكون ماضيًا مثبتا ، وهنا وقع مضارعا منفيا بـ ( ما ) فكأنه أوقع المضارع موضع الماضي ))(1) .
4- حذف همزة الاستفهام :
أجاز الإمام العيني حذف همزة الاستفهام مع (( أم )) المتصلة ، واحتج لذلك بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، الذي رواه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إِنَّ اللهَ - عز وجل - وَكَّلَ بالرحم مَلَكَاً يقولُ : يا ربِّ نطفةٌ ، يا ربِّ عَلَقةٌ ، يا رب مُضْغَةٌ ، فإذا أرادَ أن يقضيَ خَلْقَهُ قال : أذكرٌ أم أُنْثَى ، شقيٌ أم سعيد ، فما الرزقُ والأجلُ ؟ فَيُكْتَبُ في بطنِ أمهِ ))(2) ، فقد رُوِيَ الحديث بروايتين الأولى ذكرت فيها الهمزة ( أشقي أم سعيد ) ، والثانية حذفت فيها الهمزة ( شقي أم سعيد ) ، قال العيني في معرض شرحه لهذا الحديث : (( فإن قلت ( أم ) المتصلة ملزومة لهمزة الاستفهام فأين هي ؟ قلت : مقدرة ، ووجودها في قرينها يدل عليه ، كما هو قول الشاعر :
بسبعٍ رمَيْنَ الجَمْرَ أم بِثَمَانِ
أي: أبسبع ))(3)
وما أجازه العيني هو الصحيح ، وذلك لورود الحذف في السماع ، ومنه قراءة ابن(4) محيصن { سواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم } (5) بهمزة واحدة ، ومثله قراءة أبي جعفر(6) { سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تَستَغْفِر } (7) بهمزة وصل في ( استغفرت ) .
ومن حذف الهمزة مع ( أم ) المتصلة في كلام العرب قول عمر بن أبي ربيعة :
__________
(1) عمدة القاري : 10/239 .
(2) صحيح البخاري ، كتاب الحيض ، باب ( مُخَلَّقَة وغير مُخَلَّقَة ) .
(3) عمدة القاري : 3/200 .
(4) المساعد على تسهيل الفوائد : 2/455 .
(5) البقرة : 6 .
(6) شواهد التوضيح : 78 .
(7) المنافقون : 6 .(1/36)
لعمُرك ما أدري ، وإِنْ كنتُ دارياً بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ ؟(1)
أراد : أبسبع
ومنه أيضا قول امرئ القيس :
تَروُح من الحي أم تَبْتَكِرْ ومَاذَا عليك بأن تَنْتَظِرْ ؟(2)
أراد : أتروح .
أما منهج بدر الدين العيني في الاحتجاج بالحديث النبوي في المسائل النحوية فيمكن ذكره في الأمور التالية :
1- من خلال الشواهد التي أثبتُّها في هذا البحث يتبين أن الإمام العيني جعل حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأصل الثاني في الاحتجاج النحوي ، ورفض أقوال بعض العلماء الذين وصفوا حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالضرورة ، لاصطدام النص الحديثي بقاعدة نحوية عندهم ، من ذلك قوله عن حديثه - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ يَقُمْ ليلة القَدْرِ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تَقدَّمَ من ذنبهِ )) : قوله ( غُفِرَ له ) جواب الشرط ، وهذا كما ترى وقع ماضيا ، وفعل الشرط مضارع ، والنحاة يستضعفون مثل ذلك ، ومنهم من منعه إلا في ضرورة شعر وأجازوا ضده ، وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا ، والجواب مضارعا ... وجماعة منهم جَوَّزُوا ذلك مطلقا ، واحتجوا بالحديث المذكور ، والصواب معهم لأنه وقع في كلام أفصح الناس ))(3) .
__________
(1) المساعد على تسهيل الفوائد : 2/455 ، وشرح ابن عقيل : 2/230 ، والخزانة : 4/447 .
(2) ديوان امرئ القيس : 154 ، تحقيق : ( أبو الفضل إبراهيم ) ، مصر ، 1958 .
(3) عمدة القاري 1/260 .(1/37)
ورفض رحمه الله تعالى أن يوصف حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة بالضرورة ، فقال في معرض رده على بعض النحاة ، وهو يتحدث عن قول أنس بن مالك - رضي الله عنه - : (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غَزَا قوماً لم يغزُو بنا حتى يُصْبِح وينظر )) ، الأصل في ( يَغْزُو ) إسقاط الواو علامة للجزم ولكنه على بعض اللغات ، وهو عدم إسقاط الواو ، وإخراجه عن الأصل ، ثم قيل هذه لغة ، وقيل: ضرورة ، ولا ضرورة إلا في الشعر ، ووروده هكذا يدل على أنها لغة ، وهي رواية كريمة ))(1) .
2- كان العيني كثيرًا ما يستأنس بالشعر العربي في مجال احتجاجه بالحديث النبوي في المسائل النحوية ، وقد أثبتُّ نماذج من هذا الشعرِ فيما مضى ، وأضيفُ هنا نماذج أخرى ، ففي شرحه لقول أبي الأسود : (( قدمتُ المدينةَ وقد وقعَ بها مرضٌ فجلستُ إلى عمرَ بنِ الخطابِ ، فمر بهم جنازة ، فأثنى على صاحبها خيرًا ... )) قال : (( قوله ( فجلستُ إلى عمر ) ، يحتمل أن يكون ( إلى ) هاهنا على بابه ، بمعنى الانتماء والغاية ، والمعنى : انتهى جلوسي إلى عمر - رضي الله عنه - ، والأَوْجَهُ أن يكون ( إلى ) بمعنى ( عند ) أي جلستُ عند عمر كما في قول الشاعر :
أَمْ لا سبيلَ إلى الشباب وذكره أشهى إِلَيَّ من الرحيق السلسل(2)
__________
(1) عمدة القاري 4/277-278 .
(2) عمدة القاري 7/116 .(1/38)
ومنها ما قاله لدى شرح حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهمَّ أسلمتُ وجهي إليك ، وفوَّضتُ أمري إليك ، وألجأتُ ظهري إليك ، رغبهً ورهبة إليك )) (( إن قلت : كيف يتصور أن يكون راغباً وراهبًا في حالةٍ واحدة لأنهما شيئان متنافيان ؟ ، قلت : فيه حذفٌ تقديري : راغباً وراهبا منك - فإِنْ قلتَ : إذا كان التقدير راهبًا منك ، كيف اُسْتُعْمِلَ بكلمة ( إلى ) ، والرهبة لا تُسْتَعْمَلُ إلا بكلمة ( مِنْ ) ؟ قلتُ : ( إليك ) متعلق برغبة ، وأعطى للرهبة حكمها ، والعرب تفعل ذلك كثيرا كقول بعضهم :
ورأيتُ بعلَكِ في الوغى متقلداً سيفاً وَرُمْحَا(1)
والرمح لا يتقلد ، وكقول الآخر : علفتها تِبْنَاً وماءً بَارِدًا(2) ، والماء لا يعلف ))(3) .
ومما استشهد به في الشعر قوله عندما شرح حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( اللهم اُشْدُدْ وطأتَكَ على مُضَرَ ، واجعلْهَا عليهم سِنينَ كسنيِّ يوسف )) ، قوله :
( كسني يوسف ) أي كالسنين التي كانت في زمن يوسف - عليه السلام - ، وجَمْعُ السنةِ بالواو والنون شاذ من جهة أنه ليس لذوي العقول ، ومن جهة تغير مفرده بكسر أوله ، ولهذا جعل بعضهم حكمه كحكم المفردات ، وجعل نونه متعقب الإعراب كقول الشاعر :
دَعَانيَ من نجدٍ فإن سِنينَهُ لَعِبْنَ بِنا شِيْبَاً وشَيَّبْنَنَا مُرْدا(4)
__________
(1) وفي رواية أخرى : ياليتَ بَعْلَكِ في الوَغَى ، انظر الإنصاف : 2/612 .
والبيت لعبد الله بن الزِّبَعْرَى ، وانظر الكلام على الشاهد في كتاب : ( الصحابي الشاعر عبد الله بن الزِّبَعْرَى ) لمحمد علي كاتبي ، ص 212 .
(2) وتمامه : حتى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاها ، انظر الإنصاف : 2/613 .
(3) عمدة القاري 3/73-74 .
(4) عمدة القاري 5/144 ، وانظر الشاهد في : شرح الكافية الشافية : 1/194 .(1/39)
3- وإذا كان من منهج الإمام العيني أن يجعل الحديث النبوي أصلاً من أصول الاحتجاج النحوي ، لكنه - فيما ثبت لَدَيَّ - لم يلتزم هذا المنهج في جميع الأحاديث النبوية ، التي تحدَّثَ عنها نحويًا ، فهو حيناً يتأول الحديثَ إذا اصطدم بقاعدةٍ نحويةٍ ، ومما يدل على ذلك الشواهد الآتية :
أ - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( نحنُ الآَخِرونَ السَّابقونَ يومَ القيامة ، بَيْد أنهم أُوتُوا الكتابَ مِنْ قبلنا ، ثم هذا يومُهُم الذي فَرضَ اللهُ عليهم ، فاختلفُوا فيه فهداَنَا اللهُ له ، فالناسُ لنا فيه تَبَعٌ ، اليهودُ غداً ، والنصارى بعد غدٍ ))(1) .
قال العيني : (( قوله ( اليهودُ غدًا ) فيه حذف تقديره : يعظم اليهودُ غدًا ، أو اليهود يعظمون غدًا ، فعلى الأول ارتفاع اليهود بالفاعلية ، وعلى الثاني بالابتداء ، ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ))(2) .
ب- وروى البخاري أن امرأةً قالت : (( يا رسولَ اللهِ أدرَكْتُ أبي شيخاً كبيرًا لا يَثْبُتُ على الراحلةِ ، أفأحجُّ عنه ؟ قال : (( نعم )) ))(3) ، قال العيني : (( قوله ( أفأحج عنه ) الهمزة للاستفهام ، والفاء عاطفةٌ على مُقَدَّرٍ بعد الهمزة ، والتقدير : أَنُوبُ عنه فَأَحُجُّ ، وإنما قدّرنا هكذا لأن الهمزة تقتضي الصدارة ، والفاء تقتضي عدمها ))(4) .
__________
(1) عمدة القاري 5/240 .
(2) عمدة القاري 5/242 .
(3) عمدة القاري 7/388 .
(4) عمدة القاري 7/390 .(1/40)
ج- وقال رحمه الله لدى شرح حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحرم (( إن مكةَ حرَّمها الله ولم يُحَرِّمْهَا الناس ... فإن أحدٌ ترخصَ لقتال رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقولُوا له : إنَّ اللهَ أَذِنَ لرسولِهِ ولم يَأْذَنْ لكم ... ))(1) ، قوله : ( فإنْ أحدٌ ترخص ) ارتفاع ( أحد ) بفعل مضمر يفسره ما بعده ، وتقديره ( فإنْ ترخص أحد )(2) ، ويظهرُ من قوله هذا أن الذي دفعه إلى تأويل الحديث الشريف هو اتباعه لمذهب البصريين في هذه المسألة ، إذ يرون أن الاسم المرفوع بعد ( إِنْ ) يُعْرَبُ فاعلاً لفعل محذوف يفسرهُ المذكور بعده(3) ، وتأول أيضًا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( وإن امرؤٌ قَاتَله أو شَاتَمهُ فليقُلْ إني صائمٌ )) ، فقال : (( قوله ( وإن امرؤٌ قاتله ) كلمةُ ( إِنْ ) مخففة موصولة بما بعده تقديره ( إِنْ قاتله امرؤ ) ، ولفظ قاتله يفسره ، كما في قوله تعالى { وإِنْ أحدٌ من المشركين استجارَك فَأَجِرْهُ } (4) ، أي استجارك أحدٌ من المشركين ))(5) .
د- ومن الأحاديث التي تعارضت مع قاعدة نحوية فتأولها الإمام العيني أَخْذَاً بمذهب البصريين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( يا نساءَ المسلماتِ ، لا تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شَاةٍ )) ، فقال : (( قوله ( يا نساءَ المسلماتِ ) هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، والموصوف إلى صفته ، وهو عند البصريين يقدرون فيه محذوفاً تقديره : يا نساءَ الأنفسِ المُسْلِماتِ ))(6) .
__________
(1) عمدة القاري 8/396 .
(2) عمدة القاري 8/370 .
(3) ينظر في هذه المسألة بتوسع في المصادر التالية : همع الهوامع 2/62 ، وشرح شذور الذهب ص 344 ، وتوضيح المقاصد والمسالك 1/140 .
(4) التوبة 6 .
(5) عمدة القاري 9/8 .
(6) عمدة القاري 11/25 .(1/41)
4- كان الإمام العيني يوجه الحديث النبوي عن طريق بعض الظواهر اللغوية كظاهرة الحمل على المعنى ، أو التناسب ، أو ظاهرة التضمين ، والشواهدُ على ذلك في كتابه كثيرة ، فمن الشواهد على الحمل على المعنى ما روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا وُضعَتِ الجنازةُ واحتملَهَا الرجالُ على أعناقِهِمْ ، فإن كانت صالحةً قَالَتْ : قَدِّمُوني ، وإنْ كانَتْ غيرَ صالحةٍ قالت : يا ويلَها أين يذهبُون بها ))(1) ، قال العيني : (( قوله ( يا ويلها ) معناها : يا حزني اِحْضَرْ فهذا أوانك ، وكان القياس أن يقال : يا ويلي ، لكنه أضيف إلى الغائب حملا على المعنى ، كأنه لما أبصر نفسه غيرَ صالحة نفر عنها ، وجعلها كأنها غيره ، وكره أن يضيف الويل إلى نفسه ))(2) .
ومن الحمل على المعنى ما قاله في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « ومَنْ قَتَل نفسَهُ بحديدةٍ عُذِّبَ بهِ في نار جهنم » ، وقوله : (( ( عذب به ) ، وأما تذكير الضمير فباعتبار المذكور ، إنما يعذب بها لأن الجزاء من جنس العمل ))(3) .
ومنه أيضا ما قاله في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ هَذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوةٌ )) ، قوله : (( ( خضرةٌ ) بتاء التأنيث ، والوجه فيه أن يقال : إنما أَنَّثَ على معنى تأنيث المشبه به ، أي هذا المال شيء كالخضرة ، وقيل معناه كالبقلة الخضرة ، أو يكون على معنى فائدة المال ، أي الحياة به والمعيشة خضرة ))(4) .
__________
(1) عمدة القاري 7/20 .
(2) عمدة القاري 7/21 .
(3) عمدة القاري 7/109 .
(4) عمدة القاري 7/294 .(1/42)
أما فيما يتصل بتوجيه الحديث عن طريق ظاهرة التناسب والتزاوج فمنها ما روى البخاري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (( وأما الكافرُ أو المنافق فيقولُ : لا أدري ، كنتُ أقولُ ما يقولُ النَّاسُ ، فَيْقال : لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ ))(1)، قال العيني في شرح هذا الحديث : (( أما قوله ( ولا تَلَيْتَ ) ، قال الخطابي : هكذا يرويه المحدثون وهو غلط ، والصواب ( اِيْتَلَيْتَ ) على وزن ( اِفْتَعَلْتَ ) ، من قولك ( ما أَلَوْتُهُ ) : أي ما استطعته ... وقال ثعلب : لا دريت ولا تليت ، أصله : ولا تَلَوْتَ فقلبت الواو ياءً لازدواج الكلام ، قلتُ - أي العيني - هذا أصوبُ من كل ما ذكروه في هذا الباب ، والدليلُ عليه أن هذه اللفظة جاءت هكذا في حديث البراء في مسند أحمد : (( ولا دَرَيْتَ ولا تَلَوْتَ )) ، فقلبت الواو ياء للمزاوجة ))(2) .
ومنها أيضا ما رواه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : (( مرُّوا بجنازةٍ فَأَثْنَوا عليها خيراً ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَجَبَتْ ، ثم مَرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شَرَّا ، فقال : وجَبَتْ ... ))(3) قال العيني : (( ( فأثنوا عليها ) وهو يستعمل في الخير ولا يستعمل في الشر ، وقيل يستعمل فيهما ، وقيل : استعمال الثناء في الشر لغة شاذة ، فإن قلت : قد عرفتَ أن الثناء لا يستعمل إلا في الخير ، وكيف وقد استعمل في الشر في الكلام الفصيح ؟ قلتُ - أي العيني - قد قيل هذا على اللغة الشاذة، والأحسنُ أن يقال : استعمل هذا لأجل المشاكلة والتجانس ))(4) .
__________
(1) عمدة القاري 7/55 .
(2) عمدة القاري 7/57 .
(3) عمدة القاري 7/113 .
(4) عمدة القاري 7/113-114 .(1/43)
وفيما يتصل بتوجيه الحديث عن طريق ظاهرة التضمين فإنني أذكر هذين الشاهدين ، فأما الأول : فقد روى البخاري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أمر ببناء المسجد كان يقول : (( اللهم لا خيرَ إلا خيرُ الآخرةِ ، فاغفرْ للأنصارِ والمُهَاجِرَة ))(1) ، قال العيني : (( قوله ( فاغفر للأنصار ) كذا في رواية الأكثرين وفي رواية المستملي والحموي ( فاغفر الأنصار ) بحذف اللام ، ووجهه أن يضمن ( اغفر ) معنى ( استر ) ))(2) .
وأما الشاهد الثاني فهو قول العيني في شرح حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهمَ لا مانعَ لما أعطيْتَ ، ولا مُعطيَ لما مَنَعْتَ ، ولا ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْك الجَدُّ )) : ( ولا ينفعُ ذا الجد منك الجد ) أي ولا ينفعُ ذا الحظِّ حَظُّهُ من الدنيا بذلك ، أي بدل طاعتك ، أو بدل حظك ، أي بدل حظه منك ، وقيل : ضُمِّنَ ( ينفعُ ) بمعنى ( يمنع ) ، قال ابن دقيق العيد : قوله ( منك ) يجب أن يتعلق بـ (ينفع) ، وينبغي أن يكون ( ينفع ) قد ضمن معنى ( يمنع ) وما قاربه ))(3) .
5- لم يكن الإمام العيني يكتفي بالاحتجاج بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسائل النحوية ، إنما كان يحتجُّ - أيضا - بآثار الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - وأقوالهم ، وكتابه ( عمدة القاري ) زاخرٌ بعشراتٍ من الشواهد والأمثلة ، أختار منها :
فقد أجاز مجيء الاسم بعد ( إلا ) مرفوعاً مع أن الكلام تامٌّ موجب ، واستدل عليه بقول ابن مالك ، روى البخاري عن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجاً فخرجوا معه ، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال : (( خُذُوا ساحلَ البحرِ حتى نلتقيَ ، فأخذُوا ساحلَ البحرِ ، فلما انصرفُوا أَحْرمُوا كُلُّهم إلا أبو قتادة ))(4) .
__________
(1) عمدة القاري 3/433-434 .
(2) عمدة القاري 3/438 .
(3) عمدة القاري 5/206 .
(4) عمدة القاري 8/354 .(1/44)
قال العيني : (( قوله ( إلا أبو قتادة ) هكذا هو بالرفع عند الأكثرين ، قال ابن مالك : حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكملاً معناه بما بعده ، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب ، وقد أغفلوا وروده مرفوعًا مع ثبوت الخبر ومع حذفه ، فمن أمثلة الثابت الخبر قول ابن أبي قتادة : (( أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم ))(1) .
واستشهد على جواز اتصال نون النسوة بالفعل مع ذكر الفاعل بقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري : (( إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبحَ بَغَلَسٍ ، فَيَنْصرِفْنَ نساءُ المؤمنين لا يُعْرَفْنَ من الغَلَسِ ، أو لا يعرفُ بعضُهنَّ بعضا ))(2) ، قال العيني : (( قولها ( فينصرِفْنَ نساءُ المؤمنين ) هو على لغة ( أكلوني البراغيث ) ، وهي لغة بني الحارث ، وكذا قولها : ( يَعْرِفْنَ بعضُهن بعضًا ) في رواية الحموي والكُشْمِيهَنِيّ ))(3).
وأجاز العيني دخول حرف العطف على الاسم الموصول ، مستدلاً على ذلك بقول أبي بكر - رضي الله عنه - في كتابه الذي وجهه إلى البحرين : (( هذه فريضةُ الصدقةِ التي فرضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ، والتي أمرَ اللهُ بها ورسولُهُ )) . فقال بعد أن أورد النص : (( قوله ( والتي أمر الله بها ) وقع هنا بحرف العطف ، ووقع في رواية أبي داود بدون حرف العطف ))(4) .
__________
(1) عمدة القاري 8/354 .
(2) عمدة القاري 5/237 .
(3) عمدة القاري 5/237 ، وينظر في هذا الاستشهاد ج 3/66-203-209-260 .
(4) عمدة القاري 7/269 .(1/45)
ومن آثار الصحابة التي استشهد بها على جواز حذف حرف العطف قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : (( صلَّى رجلٌ في إزارٍ ورداء ، في إزار وقميص ، في إزار وقَبَاء ، في سراويل ورداء ... ))(1) ، فقال لدى شرح هذا الأثر : (( إن قلت : كان المناسب أن يقول : ( أو كذا ، أو كذا ) بحرف العطف ، فَلِمَ ترك حرف العطف ؟ قلتُ : أُخَرِّجُ هذا على سبيل التعداد ، فلا حاجة إلى ذكر حرف العطف ... ويجوز أن يقال : حذف حرف العطف على قول من يجوز ذلك من النحاة ))(2) .
ومن احتجاجه بأقوال التابعين ما رواه البخاري قال : (( قال الحسن في الثياب ينسجها المَجُوسُ لم ير بها بأسًا )) ، وبعد أن أورد الإمام العيني هذا الأثر قال : (( الحسن هو البصري ، وفي بعض النسخ ( ينسجها المجوسي ) بالياء ، والجملة صفة للثياب ، والمسافة بين النكرة والمعرفة بلام الجنس قصيرة ، فلذلك وُصفتِ المعرفة بالنكرة ، كما وُصِفَ ( اللئيمُ ) بقوله ( يسبني ) في قول الشاعر :
ولقد أمرُّ على اللئيمِ يسبني ))(3) .
6- إلى جانب احتجاج العيني بالحديث النبوي في المسائل النحوية ، فإنه - رحمه الله - كان يحتج بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسائل اللغوية ، وللدلالة على ذلك أذكر بعض الأمثلة والشواهد :
روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وراءه الصحابةُ ذاتَ يومٍ ، فلمَّا رفعَ رأسَه من الركعةِ قال : (( سمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ )) ، قال رجل وراءه : ربَّنا ولكَ الحمدُ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، فلما انصرف قال : مَن المتكلمُ ؟ قال : أَنَا ، قال الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - : (( رأيتُ بِضْعَةً وثلاثينَ مَلَكَاً يبتدرونها أيُّهُمْ يكتبها ))(4).
__________
(1) عمدة القاري 3/311 .
(2) عمدة القاري 3/312 .
(3) عمدة القاري 3/307 .
(4) عمدة القاري 5/137 .(1/46)
قال العَيني في شرح هذا لحديث : (( البضع : هو ما بين الثلاث والتسع ، وقال الجوهري : إذا جاوزت العشرة ذَهَب البِضْع ، لا تقولُ : بِضْعٌ وعشرون ، قلتُ : الحديث يردُ عليه لأنه - صلى الله عليه وسلم - أفصح الفصحاء ، وقد تكلم به ))(1) .
وقال شارحاً قول أنس بن مالك - رضي الله عنه - : (( وحدثتني ابنتي أُمَينةُ أنه دُفِنَ لصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ البصرةَ بِضْعٌ وعشرونَ ومئةً )) ، قال الجوهري : (( تقول بضع سنين، وبضعة عشر رجلا ، فإذا جاوزت لفظ العشر لا تقول بِضْعٌ وعشرون ، قلتُ - أي العيني - الذي جاء في الحديث يرد عليه ، وهو سهوٌ منه ، وكيف لا ، وأنسٌ من فصحاء العرب ))(2) .
ومما احتج به أيضا في مسائل اللغة ما قاله العيني لدى شرح حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( يُخَرِّبُ الكعبة ذُو السُّويقَتْينِ من الحَبَشةِ ))(3) ، :
(( قالوا : الحَبَشُ جنسٌ من السودان ، وهم الأَحْبُشُ والحُبْشَانُ ، والحَبَشةُ ليس بصحيح في القياس ، لأنه لا واحد له على مثال ( فاعل ) ، وفي الصحاح : الحَبَشُ والحَبَشةُ جنس من السودان ، وقال ابن دريد : فأما قولهم : ( الحَبَشةُ ) فعلى غير قياس ، قلت - أي العيني - : إنكارهم لفظ ( الحَبَشَة ) على هذا الوزن لا وجه له ، لأنه ورد في لفظ الفصيح ، بل أفصح الناس ))(4) .
إذا كان علماء اللغة العربية قد جعلوا القرآن الكريم وكلام العرب حجة في قواعدهم النحوية والصرفية والبلاغية فإن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الأصل الثاني بعد القرآن الكريم ، فليس هناك أحد أفصح قولاً ، وأبين كلامًا ، وأعلى بلاغة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد وصف الجاحظ كلام الرسول الكريم فقال :
((
__________
(1) عمدة القاري 5/138 .
(2) عمدة القاري 9/170 .
(3) عمدة القاري 8/73 .
(4) عمدة القاري 8/73 .(1/47)
هو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه ، وكثر عدد معانيه ، وَجَلَّ عن الصنعة ، وَنُزِّهَ عن التكلف ، فكيف وقد عاب التشديق ، وجانب أهل التقعيد ، واستعمل المبسوط في موضع البسط ، والمقصور في موضع القصر ... ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة ، وَشُيِّدَ بالتأييد ، وَيُسِّرَ بالتوفيق ، ثم لم يسمع الناسُ كلاماً قطُّ أعم نفعًا ، ولا أَقْصَدَ لفظًا ، ولا أعدل وزنًا ، ولا أجمل مذهبًا ، ولا أَكْرَم مطلبًا ، ولا أحسن موقعًا ، ولا أسهل مَخْرَجًا ، ولا أفصح معنى ، ولا أبين عن فحواه من كلامه - صلى الله عليه وسلم - ))(1) .
أما الشبهات والتساؤلات التي ذكرها بعض النحاة من الخلف والمُحْدَثينَ حول قضية الاحتجاج بالحديث النبوي في المسائل النحوية فلا يُلْتَفَتُ إليها ، ويمكن حصرها في دعاوى ثلاث ، الأولى : دعوى رواية الحديث بالمعنى ، الثانية : دعوى اللحن والخطأ في الحديث ، الدعوى الثالثة : دعوى تدوين الحديث بعد فساد اللغة ، وسأحاول في نهاية هذا البحث أن أردَّ على هذه الدعاوى والتساؤلات بإيجازٍ لأثبت صحة المنهج الذي ذهب إليه الإمام العيني مع علماء السلف في جعل الحديث النبوي أصلاً من أصول الاحتجاج النحوي .
أولاً : دعوى رواية الحديث بالمعنى :
إن هذه الدعوى لا ينبغي أن نسلم بها على إطلاقها ، وذلك للأمور التالية :
__________
(1) البيان والتبيين 2/17-18 ، الجاحظ ، ط4/الخانجي ، مصر 1975م .(1/48)
أ- ذهب كثير من علماء الصحابة والتابعين إلى عدم جواز رواية الحديث بالمعنى ، وفي مقدمتهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ، فإنه كان لا يسمحُ بتقديم كلمةٍ على كلمة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مثال ذلك ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ ، شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج )) ، ولما روى رجلٌ هذا الحديث بتقديم الحج على صيام رمضان ، قال له ابن عمر : (( لا ، صيامِ رمضان ، والحَج )) ، هكذا سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(1) .
فعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مذهبه رواية الحديث باللفظ ، ولكي نعرف قيمة أحاديثه التي رواها ، فقد ذكر علماء الحديث أنها بلغت (2630) ألفين وستمئة وثلاثين حديثًا ، اتفق البخاري ومسلم على مئة وسبعين حديثًا منها(2) .
وكذلك كان بعض علماء التابعين ؛ لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى ، فالإمام مالك رحمه الله كان يتحفَّظ من الباء والتاء والثاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
ب- إن ورود الحديث الواحد في ألفاظٍ مختلفة قد يكون سببه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعيد الكلام ثلاثاً لقصد البيان وإزالة الإبهام ، فقد روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم بكلمةٍ أعادها ثلاثاً حتى تُفْهَمَ عنه(4) .
__________
(1) فتح الباري 1/65 .
(2) عمدة القاري : 1/130 .
(3) الكفاية في علم الرواية ص 275 .
(4) رياض الصالحين ، باب استحباب بيان الكلام .(1/49)
ج- إن بعض الصحابة والتابعين أجازوا رواية الحديث بإبدال كلمة بأخرى عند الضرورة ، ومع ذلك فقد وضعوا في ذلك ضوابط محكمة دقيقة ، فالإمام الشافعي - رحمه الله - أجاز للمحدث أن يأتي بالمعنى دون اللفظ إذا كان عالمًا بلغات العرب ، ووجوه خطابها ، بصيراً بالمعاني والفقه ، عالمًا بما يُحِيْلُ المعنى ، ومالا يحيله ، فإنه إذا كان بهذه الصفة جاز له نقل اللفظ ، فإنه يحترز بالفهم عن تغيير المعاني وإزالة أحكامها ، ومن لم يكن بهذه الصفة كان أداء اللفظ لازمًا ، والعدول عن هيئة ما يسمعه عليه محظورًا(1) .
ومن أبرز العلماء الذين ردوا رواية الحديث بالمعنى : البدر الدماميني فقال في شرح التسهيل رداً على أبي حيان ، ومدافعًا عن ابن مالك : (( قد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية ، وشنع أبو حيان عليه ... ، وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا ، فَصَوَّبَ رأيَ ابنِ مالك فيما فعله ، بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب ، إنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية ... ، ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يُدَوَّنْ ، وأما مادُوِّنَ وحصل في بطون الكتب فلا يجوز التبديل من ألفاظه من غير خلاف بينهم ، قال ابن الصلاح بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى : إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا ، ولا أجراه الناس - فيما نعلم - فيما تضمنته الكتب ، فليس لأحدٍ أنْ يغيِّر لفظ شيءٍ من كتابٍ مُصَنَّفٍ ، ويثبت لفظًا آخر ))(2) .
ثانيا : دعوى اللحن والخطأ :
__________
(1) الرسالة ، الشافعي ص744 ، 757 ، تحقيق د. أحمد محمد شاكر ، ط1/1942م مطبعة البابي الحلبي .
(2) خزانة الأدب - البغدادي 1/7 .(1/50)
ذهب بعض النحاة إلى أن من الأسباب التي تدفعهم إلى عدم الاحتجاج بالحديث الشريف في المسائل النحوية وقوع الخطأ واللحن فيه(1) ، وأن معظم رواته من الأعاجم ، وهذه الدعوى ينبغي ألا تكون مانعاً للاحتجاج النحوي بالحديث للأمور التالية :
أ - لقد بذل العلماء المسلمون جهوداً عظيمة في سبيل حفظ الحديث الشريف ، وبحثوا في ما يتعلق به رِوَايةً وَدِرَايةً ، وخطوا خطوات جليلة كفلت سلامةَ السُّنَّةِ من العَبَث ، ولعل من أهمها التزام الإسناد ، ودراسةُ حياة الرواة وتاريخهم ، وهكذا نشأ علم الجَرْحِ والتعديل ، الذي وضع أسسه كبار الصحابة والتابعين ، وألفت في الرواة مصنفات ضخمة ، حتى إنه لم يعد يختلط الكَذَّابون والضعفاء بالعدول الثقات ، وأصبح من السهل جداً أن يميزوا بين الخبيث والطَّيِّب في كل عصر ، فقدموا للحضارة الإنسانية أعظمَ إنتاج في هذا المضمار ، يفخر به المسلمون أبدَ الدهر ، يقول المستشرق الألماني ( شبرنجر ) في تصدير كتاب ( الإصابة لابن حجر ) : (( لم تكن فيما مضى أمةٌ من الأمم السالفة ، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الذي يتناول أحوال خمسمئة ألف رجل وشؤونهم )) .
ب- القول بأن أكثر رواة الحديث كانوا غير عرب ، لا ينهض حجة لرفض الاحتجاج بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسائل النحوية ، وذلك للأسباب التالية :
الأول : إن ما وقع من لحن أو خطأ أو تصحيف في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - قليل نادر ، بَيَّنَهُ علماء الحديث كما أسلفت فيما صنَّفوا من مؤلفات .
__________
(1) خزانة الأدب - البغدادي 1/4-6 .(1/51)
الثاني : الزعم بكون بعض رواة الحديث من غير العرب قد أدى إلى وقوع اللحن فيه ، يمكن الرد عليه ؛ بأن اللغة العربية مُلْكٌ لمن يتعلمها فيتقنها ، فإن أتقنها فليس هناك فرق بينه وبين العربي سوى النسب ، والنسب لا أثر له في اللسان ، كذلك فإن هؤلاء المسلمين الأعاجم من رواة الحديث كانوا أمراء المؤمنين في الحديث ، وقد وُصِفُوا بالضبط والدقة، وحملوا الحديث على أكمل وجه ، وأدَّوه كما حملوه ، فهذا هو الإمام البخاري محمد بن إسماعيل - رحمه الله - ( ت 256هـ ) أثنى عليه العلماء المسلمون ثنًاء عظيمًا ، قال عنه أحمد بن حنبل - رحمه الله - : (( ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل ))(1) ، وقال عنه ابن خزيمة : (( ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محمد بن إسماعيل ))(2) ، وقد أوتي - رحمه الله - حافظة عجيبة قلما نجد نظيراً لها عند العلماء ، ومن الشواهد على ذلك أنه قال : (( كتبت عن ألف شيخ وأكثرَ ،ما عندي حديثٌ إلا أذكر إسناده ))(3) .
الثالث : إن رواة اللغة أضافوا إلى الشواهد المنسوبة إلى العرب أشياء كثيرة ، فهذا أبو الطيب اللغوي في كتابه ( مراتب النحويين ) يتحدث عن خلف الأحمر فيقول : (( كان يُضْرَبُ به المثل في عمل الشعر ، فهو بذلك وَضَّاعٌ غير موثوق ، لا يُؤْتَمنُ ))(4) ، ومع وجود هؤلاء الرواة الوضّاعين فإن علماء النحو استشهدوا بكلام العرب ، وهذا هو المنهج السليم لأن وجود أمثال هؤلاء النفر لا يقدح في الكثرة الكاثرة من علماء اللغة الثقات كالأصمعي وأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد الأنصاري وغيرهم كثير .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 12/421 .
(2) سير أعلام النبلاء 12/431 .
(3) سير أعلام النبلاء 12/431 .
(4) مراتب النحويين ، أبو الطيب ، ص 47 .(1/52)
وعلى هذا فإن وجود بعض الوضّاعين في رواية الحديث - كذلك - لا يقدحُ في الاستدلال به في مسائل النحو ، علما بأن العلماء - كما أسلفت - قد ميَّزوا الحديث الصحيح من الموضوع ، وألفوا في ذلك مصنفات كثيرة .
ثالثا : دعوى تدوين الحديث بعد فساد اللغة :
زعم بعض النحاة أن الحديث النبوي لا يُحْتَجُّ به لتدوينه بعد فساد اللغة ، وهذا الزعم مردود - أيضا - للأسباب التالية :
1- لقد بُدِئَ بتدوين الحديث الشريف في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والأدلة على ذلك كثيرة ، منها ما رواه الدارمي في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : (( كنت أكتب كل شيء أسمعُه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أريد حفظَهُ ، فنهتني قريشٌ وقالُوا : تكتبُ كلَ شيءٍ سمعتَهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورسولُ الله بشرٌ يتكلمُ في الغضبِ والرضا ؟ فأمسكتُ عن الكتابة فذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فأومأَ بإصبعه إلى فيه ، وقال : (( اُكتب فوالذي نفسي بيدهِ ما خرج منه إلا حقٌ ))(1) .
وروى ابن حجر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : (( ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أكثرَ حديثاً مني ؛ إلا ما كان من عبدِ الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب ))(2) .
وقد سمَّى عبد الله بن عمرو هذه الصحيفة التي كان يدون فيها أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصحيفة الصادقة ، وذكر(3) ابن الأثير أنها كانت تضم ألف حديث ، ونقل الإمام أحمد بن حنبل محتواها في مسنده ، كما ضمت كتبُ السننِ الأخرى جانباً كبيرا منها .
__________
(1) سنن الدارمي 1/2125 وتقييد العلم ، البغدادي ص 74 وما بعدها ، حققه : يوسف العشي ، دار إحياء السنة المحمدية ، ط2/1974 .
(2) فتح الباري 1/217 .
(3) أسد الغابة 3/233 ، ابن الأثير ، القاهرة .(1/53)
2- وفي عهد الصحابة بدأ بعض العلماء من التابعين بتدوين حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أخذاً من أحد الصحابة مباشرة ، فهذا هَمَّام بن مُنَبِّه أحد أعلام التابعين يلقى الصحابي الجليل أبا هريرة - رضي الله عنه - ، ويكتب عنه كثيرًا من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويجمعه في صحيفة يطلق عليها اسم الصحيفة الصحيحة ، وقد نقلها الإمام أحمد بتمامها في مسنده ، كما نقل الإمام البخاري عددًا كثيرًا من أحاديثها في أبواب شتى ، ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف ، لأنها حجة قاطعة على أنه دُوِّنَ في عصر مبكر لأن هَمَّامَاً لقي أبا هريرة - رضي الله عنه - ، ولا شك أنه كتب عنه قبل وفاته ، علمًا بأن أبا هريرة - رضي الله عنه - توفي حوالي سنة 59 للهجرة ، ومعنى ذلك أن هذه الوثيقة قد دُوِّنَت قبل هذه السنة ، أي في منتصف القرن الهجري الأول .
3 - وفي عهد التابعين شاع تدوين الحديث وكتابته ، فهذا الحسن البصري ( ت 110هـ ) يقول : (( إن لنا كتباً كنا نتعاهدها ))(1) ، أما التدوين الرسمي للحديث فقد بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ، إذ كتب إلى عامله على المدينة المنورة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ( ت 117هـ ) يقول : (( اكتب إليَّ بما ثبت عندك من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإني خشيت دَرْسَ العلم وذهابه ))(2) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/74 .
(2) تقييد العلم ص 108 .(1/54)
يتبين مما سبق ذكره أن الأسباب التي ذكرها بعض النحاة في عدم احتجاجهم بالحديث النبوي في المسائل النحوية أسبابٌ واهية ، والمنهج الصحيح - كما أثبته الإمام العيني وغيره من علماء السلف والخلف - أن الحديث النبوي هو الأصل الثاني بعد القرآن الكريم في تقعيد القواعد النحوية والصرفية ، وهذا ما ينبغي أن يسلكه الباحثون المعاصرون ، لا سيما وكتب الحديث التي تضم مئاتٍ من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - بين أيدينا ، وفي مقدمتها صحيح البخاري ومسلم رضي الله عنهما .
مصادر البحث
1- إعراب القرآن ، أبو جعفر النحاس ، تحقيق : د- زهير غازي زاهد ، مطبعة العاني ، بغداد 1977م .
2- إعراب الحديث النبوي ، العكبري ، تحقيق : عبد الإله نبهان ، مطبعه زيد بن ثابت ، دمشق 1977م .
3- الإعلان بالتوبيخ عن ذم التاريخ ، السخاوي ، ط دمشق 1349هـ .
4- الاقتراح في علم أصول النحو ، السيوطي ، تحقيق وتعليق : د. أحمد محمد قاسم ، مطبعة السعادة ، ط1/1976م .
5- أمالي الشجري ، ابن الشجري - الهند 1349هـ .
6- الإنصاف في مسائل الخلاف ، أبو البركات ابن الأنباري ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الجيل ، 1982 .
7- البحر المحيط ، أبو حيان الأندلسي ، الناشر : مكتبة ومطابع النصر الحديثة ، الرياض .
8- البداية والنهاية ، ابن كثير ، تحقيق : د. أحمد أبو ملحم وزملائه - دار الكتب العلمية ، بيروت .
9- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، السيوطي ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، مطبعة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1384هـ.
10- البيان في غريب إعراب القرآن ، ابن الأنباري ، تحقيق : د. طه عبد الحميد طه ، مراجعة : مصطفى السقا ، الناشر : دار الكتاب العربي ، القاهرة 1969م .
11- البيان والتبيين ، الجاحظ ، ط4/ الخانجي - مصر .
12- تاريخ الأدب ، كارل بروكلمان ، ترجمة : السيد يعقوب بكر ، دار المعارف ، مصر ، 1977م .(1/55)
13- التبر المسبوك في ذيل السلوك ، السخاوي ، مكتبة الكليات الأزهرية .
14- التبصرة والتذكرة ، الصيمري ، تحقيق : د. فتحي علي الدين ، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، مكة المكرمة ط1/1982م .
15- تهذيب التهذيب ، ابن حجر العسقلاني ، ط1/ حيدر آباد .
16- مقدمة الجرح والتعديل ، أبو حاتم الرازي ، طبع الهند 1952م .
17- الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، دار الكتاب العربي ، 1967م .
18- جامع بيان العلم وفضله ، ابن عبد البر ، إدارة المطبعة المنيرية .
19- جمهرة اللغة ، ابن دريد ، دار المعارف ، الهند ، الطبعة الأولى ، 1344هـ .
20- حاشية ابن جماعة على شرح الجاربردي ، ابن جماعة ، دار الطباعة العامرة .
21- الحجة في القراءات السبع ، ابن خالويه ، تحقيق وشرح : د. عبد العال سالم مكرم ، دار الشروق ، الطبعة الثانية ، 1977م .
22- دراسات في العربية وتاريخها ، محمد الخضر حسين ، المكتب الإسلامي ، دمشق ط2/1960م .
23- الرحلة في طلب الحديث ، الخطيب البغدادي ، تحقيق : د. نور الدين عتر .
24- الرسالة ، الشافعي ، تحقيق : أحمد محمد شاكر ، ط1/1940 - البابي الحلبي .
25- رصف المباني ، المالقي ، تحقيق : د. أحمد محمد الخراط ، دار القلم ، دمشق ، ط2 ، 1405هـ/1985م .
26- سير أعلام النبلاء ، الذهبي ، مؤسسة الرسالة ، ط4/1986م .
27- السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث في النحو العربي ، د. محمود الفجال ، الناشر : نادي أبها الأدبي السعودي .
28- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ، مكتبة النهضة المصرية .
29- شرح التصريح على التوضيح ، الأزهري ، البابي الحلبي .
30- شرح الجاربردي ، دار الطباعة العامرة .
31- شرح شذور الذهب ، ابن هشام ، المكتبة التجارية ، الطبعة الثانية 1960م .
32- شرح ابن عقيل ، ابن عقيل ، دار الفكر .(1/56)
33- شرح الكافية في النحو ، رضي الدين الاستراباذي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2/1979م .
34- شرح الكافية الشافية ، ابن مالك ، حققه : د. عبد المنعم هريدي ، مركز البحث العلمي ، جامعة أم القرى .
35- شرح المفصل ، ابن يعيش ، عالم الكتب ، بيروت ، مكتبة المتنبي ، القاهرة .
36- شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح ، ابن مالك ، حققه : محمد فؤاد عبدالباقي ، عالم الكتب ، بيروت .
الصحابي الشاعر عبد الله بن الزبعرى السهمي ، شاعر مكة وابن سيدها ؛ محمد علي كاتبي ، ط1 ، دار القلم ، دمشق ، 1419هـ-1999م .
37- ظاهرة الشذوذ في النحو العربي ، د. فتحي الدجني ، ط1/1974م .
38- عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد ، السيوطي ، تحقيق : أحمد تمام ، سمير حلبي ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
39- عمدة القاري شرح صحيح البخاري ، العيني ، البابي الحلبي ، الطبعة الأولى ، 1972م .
40- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ابن حجر العسقلاني ، دار الريان للتراث ، ط1/1986م ، القاهرة .
41- فرائد القلائد في مختصر الشواهد ، العيني ، الطبعة الكاستيلية الزاهرة ، القاهرة .
42- الكتاب ، سيبويه ، تحقيق : عبد السلام هارون ، 1977م .
43- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، حاجي خليفة ، مكتبة المثنى ، بغداد .
44- الكشف عن وجوه القراءات السبع ، مكي بن أبي طالب ، تحقيق : د. محيي الدين رمضان ، مطبوعات مجمع اللغة العربية ، دمشق 1974م .
45- الكفاية في علم الرواية ، الخطيب البغدادي ، مطبعة السعادة .
46- المساعد على تسهيل الفوائد ، ابن عقيل ، تحقيق : د. محمد كامل بركات ، نشر : مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، مكة المكرمة ، طبع دار الفكر ، 1400هـ .
47- مسند الإمام أحمد ، طبع مصر .
48- معاني القرآن ، الفراء ، عالم الكتب ، بيروت ، ط2/1980م .(1/57)
49- مغني اللبيب ، ابن هشام الأنصاري ، تحقيق وتعليق : د. مازن المبارك ، محمد علي حمد الله ، مراجعة سعيد الأفغاني ، دار الفكر ، ط3/ط19م .
50- مفاتيح الغيب ، الفخر الرازي ، المطبعة البهية المصرية 1938م .
51- المقتضب ، المبرد ، تحقيق : محمد عبد الخالق عضيمة ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، القاهرة 1386هـ .
52- منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل ، محمد محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة التجارية الكبرى ، ط14/1964م .
53- الموجز في قواعد اللغة العربية ، سعيد الأفغاني ، دار الفكر ، ط2/1970م .
54- موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث ، د. خديجة الحديثي ، منشورات وزارة الثقافة ، العراق .
55- همع الهوامع ، السيوطي ، دار المعرفة ، بيروت .
56- واضح المسالك لتحقيق منهج السالك ، محمد محيي الدين عبد الحميد ، ط3/مكتبة نهضة مصر 1970م .
-(1/58)