البستان
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
تصميم الغلاف: شادي العيسمي
((
ملك حاج عبيد
البستان
مجموعة قصصية
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2002
الحيتان
قال السيد بسخرية:
-نبتت له أجنحة فظن أنه يستطيع أن يطير.
صمت برهة وراح يتفرس في وجوه رجاله ليرى آثار تهديده المبطن، ثم راح يتمشى في أنحاء القاعة، خطواته السريعة توحي بغضب مكبوت حاول أن يخفيه ولكنه تبدى في تجهم وجهه وارتجاف ذقنه، ولما تعب من السير جلس في صدر القاعة على الأريكة وراح يتأمل الرجال، ثم أومأ بيده إلى أحدهم فبرز رجل مربوع القامة مشدود العضل.
قال السيد:
-اقترب
اقترب الرجل فمال السيد على أذنه وراح يهمس له ثم قال بصوت عالٍ.
-انطلق على الفور
*** ***
الفجر يوشح أطراف السماء بالنور ويعكس على الرمال لوناً متوهجاً، في الأفق الغربي تلوح قافلة تشق طريقها في الصحراء. الجِمال تتهادى على الرمال مثقلة بالأحمال والهوادج وصوت الحادي يرنم:
كيف التلاقي ولا بالقيظ محضركم
منا قريب ولا مبداك مبدانا
قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا ... إن العيون التي في طرفها حور
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
من صدر شهاب انطلقت تنهيدة عميقة:
صرعتني والله يا عاتكة أيتها المرأة المتوحشة الجمال.
وغرق في العيون الحوراء والقامة الهيفاء.. هذا الغنج من أين أتيت به أيتها المرأة الساحرة؟ كان الهوى لـ "جلنار" فيكف ذهبت به يا عاتكة؟
عاتكة والنظرة العابقة بالرغبة التي تشعل بالقلب ناراً فيستحيل الجسد جمرة متوهجة تجد موتها وحياتها في هذا النثيث المحرق.
جلنار سماء زرقاء نقية، أحس نحوها بالحنان، أشفق على براءتها التي لم تغادرها، أما أنتِ أيتها الأرض الساحرة فيحار المرء في شجرك ومائك، في إشراقك وظلالك، في هذه النار التي تتوهج فيك.(1/1)
واستيقظ من خيالاته على صوت الحادي.
-وصلنا إلى الواحة.
لاحت في البعيد ذوائب نخل راحت تكبر وتتجسد جذوعاً وسعفاً وعذوق بلح، ثم تلألأ نبع ماء فأشرق في القلوب فرح تجلى بالتنهدات.
قال الحادي:
-هي المحطة الأخيرة قبل الخروج من البلاد.
وكأن الجِمال أحست بطراوة النسيم فنشطت وغذّت السير حتى إذا ما وصلت القافلة إلى الواحة أنزلت الأحمال عن الجمال، وأوردت الماء فبركت تجتر بهدوء، وانتشر المسافرون على أطراف النبع يشربون، ويغسلون وجوههم وأطرافهم، ثم اجتمعوا في حلقات، أخرجوا الزاد وانهمكوا في الطعام.
قالت جلنار:
-أشعر بالخوف.
قال نجم مهدئاً:
-الطريق آمن والمعبر صديق.
رمقته بنظرة ريبة.
فقال بصوت حاول أن يبعث فيه الثقة.
-كبرنا.
نظرت إليه جلنار تستمد منه القوة.. شباب.. وسامة.. غنى وهذا الومض المتراقص في العينين الذي سباها من النظرة الأولى فجعل القلب يخفق حتى يكاد يخرج من صدرها، واسترجعت كلام أبيها:
-ابنة شاه بندر التجار تتزوج ابن تاجر صغير؟
فأجابت الأم العارفة بهوى ابنتها:
-عندما تزوجتك كنت تاجراً صغيراً.
عادت جلنار من شرودها فالتقت عيناها بعيني نجم، ابتسم لها هذه الابتسامة التي تحبها فتجعله أجمل الرجال في عينيها هدأت مخاوفها، ولكن طيفاً عبر خيالها فاربد وجهها وكاد السؤال المر يطفر من شفتيها ولكنها ردته بعنف وكبرياء، ليست هي من يعاتب، ليست هي من تقر بأن عيني زوجها قد تطلعت إلى امرأة أخرى، ليست جلنار من تلوم على هوى امرأة لا تصلح أن تكون جارية لها.
وكأن نجم قد التقط إشارة الحزن من وجه زوجته فأراد أن يوجه تفكيرها بعيداً عما يكدرها فتساءل
-ترى ما الذي يفعله الأولاد الآن؟
وطار خيالها إلى البيت ريما ومنصور ومأمون، وارتسمت على شفتيها ابتسامة حنو وأحست بشوق جارف إليهم وكأنها ابتعدت عنهم سنوات لا أياماً.
قالت:
- ليتنا جئنا بهم معنا.
قال:
-سيتعبون.
فقالت في نفسها:
-أنا التي تعبت من الرحلات.(1/2)
وصلهما صوت المنادي قوياً:
-يا أهل القافلة تهيؤوا للرحيل.
نهض المسافرون، حزموا ما نشروه من أمتعة، حملوها للجمال وعندما انطلقت القافلة كانت أضواء الأصيل تغمر السماء بالحمرة.
*** ***
السماء المرصعة بالنجوم تشبه قلبك المملوء بالآمال يا نجم، هذا الكون لا يتسع لك، تحس نفسك قوياً، شامخاً.
وتتربع على الذروة، وترى الدنيا تحتك كفاً مبسوطة تنتظر عطاياك.
نجم. لماذا أسماك أبوك نجماً؟ أكان يُحسُّ بأنك ستحلق عالياً وترفعه معك ومن عليائك تنظر إلى والد زوجتك وتقول:
خفف من غرورك يا عم، أنت لا تستطيع أن تطاولني.
-ذات يوم قرأت حكمة تقول: "إذا أردت أن تكون قوياً فضع يدك في يد الأقوياء" ثم قرأت (الحياة بحر وعلى البحار أن يعرف مع أيِّ رياح ينشر أشرعته) وإليهما أضفت حكمتك التي تقول (بالمال تُفتح مغاليق الحياة وله تنحني الجباه) حكمتك شقت لك الطريق إلى القمة.
يا الله ما أجمل الحياة! ما أبهاها! أرى كل شيء متألقاً ساحراً مغوياً يقطر عذوبة ونشوة.
الحياة هي اللذة أما الأغبياء الذين يريدون أن يقوموا الأمور فإنهم يدارون خيباتهم وعجزهم عن اغتراف الملذات. أنت وسيم.. أنت ذكي يا نجم.. أنت قوي تشفق على الذين يدبون على السفح ويتحدثون عن الشرف والحق.
الحق أنت الذي تفرضه، هل رأيت حقاً صمد في وجه القوة والمال؟
*** ***
للصباح في الصحراء سحره، الرمال تغتسل بأنهار النور تتخلل ذرات الرمل فستضيء وتنبعث أنسام حلوة تتغلغل في ثنايا الروح نشوة وفرحاً.
عن يمين القافلة يعبر سرب من الطيور، ينظر إليه نجم مبتهجاً ثم يعدو إلى زوجته:
-انظري إلى السماء. الطيور تعبر عن يميننا.
يفتَّر الثغر الجميل عن ابتسامة عذبة، صباح وطيور تنسي تعب الطريق وتشير للأفق السعيد المنتظر. من بعيد يلوح بناء صغير، صوت المنادي يقول:
-تهيؤوا سنتوقف عند حرس الحدود.(1/3)
توقفت القافلة، أنيخت الجمال، ترجل الرجال، انتشر الحرس بين المسافرين، وسرعان ما أحاطوا بنجم وهودج زوجته قال آمر الحرس:
-أنزل زوجتك عن الهودج سنفتشه.
مندهشاً نظر إليهم وقال متلطفاً:
-ما فتشتم في يوم بضاعة لي.
أجاب الآمر:
-لا تتفاصح كثيراً.
مدت جلنار رأسها من الهودج شزرت الآمر وحرسه بنظرة غاضبة وقالت:
-ستندمون على تصرفاتكم.
رد الآمر بغلظة:
-اسكتي يا امرأة.
أحست بطعنة تخترق كبرياءها فصاحت بصوت عال:
-أيها الوقح أنت لا تعرف مع من تتحدث.
رمى الآمر نجماً بنظرة لاهبة وقال:
-أخرس زوجتك وأنزلها.
اندفع الدم في عروق جلنار قوياً فجعل النبض يتسارع والقلب يطرق بعنف أحست بدمها يلتهب فيحيل جسدها ناراً.
مد نجم يده إلى جلنار وساعدها على النزول من الهودج أخرج الحرس صندوقين مقفلين.
قال آمر المفرزة موجهاً كلامه لنجم:
-افتح الصناديق.
أحس نجم بثقل جسده، شعر بأن هوة سحيقة قد انفتحت وأنهم يدفعونه إليها بعنف، حاول بكل قواه أن يتشبث بحافة النجاة.
شحن صوته بكل ما يملك من قوة ورجاء وقال:
-أريد أن أتحدث مع قائد الموقع.
قال آمر المفرزة ناهراً:
-افتح الصناديق بسرعة وإلا كسرنا الأقفال واتهمناك بعرقلة عمل الحرس.
ذاهلاً أدار المفاتيح، وعندما ارتفع الغطاءان أشعّت سبائك الذهب، خفية تلاقت نظرات نجم وجلنار، بوهن أطرقا بقوة قال الآمر:
-خذوهما ومضبوطاتهما إلى القائد.
همس نجم لجلنار وهما يسيران إلى غرفة القائد:
-سيسوى الأمر.
عندما التقت عينا نجم بعيني القائد حاول أن يستجر ابتسامة ولكنها خذلته، جرب صوته أن ينطلق لكنه تراجع أمام الهيئة المتجهمة، بلع نجم خيبته.
- إنه يتجاهلني، في الأمر شيء غريب.
أفاق نجم على صوت القائد:
-إنكما متهمان بتهريب الذهب من البلاد مخالفين بذلك الأوامر السلطانية.
أجاب نجم:
-سيدي نحن لم...
هدر صوت القائد:
-وماذا نسمي إخراج خمسين كيلو غراماً من الذهب؟(1/4)
شعر نجم بالصعقة، ما أدراه بالوزن الحقيقي لما يحمل؟
عاود نجم النظر إلى عيني القائد يستجدي معرفة لكنه لم ير فيهما إلا الاستهانة وسمع صوته يقول:
-رحلوهما إلى سجن المدينة.
الشمس تسوط الصحراء بلهيبها والقهر يكوي القلب حتى الأعماق.
همس لجلنار السائرة بجانبه:
-لا تخافي سننجو من هذه الورطة.
نظرت إليه، وكانت نظرتها مفرغة هائلة الحزن، شعر بالخوف، عندما يستجوبونها ستبوح بما لديها، اقترب منها وقال بصوت خفيض.
-أنكري معرفتك بأي شيء.
أمام السجن افترقا كلاً إلى جهة، عندما نظر إليها أشاحت بوجهها.
*** ***
لأول مرة تدخل السجن، تعرف القاع، تجربة جديدة يا صاحب التجارب المتألقة، ينفتح الباب، يدفعك الحارس إلى الزنزانة ثم يغلق الباب خلفك، تحتاج لفترة حتى تعتاد الظلمة، ثم تميز أشباحاً مستندة إلى الجدران وتسمع لغطاً فتجيل عينيك فيما حولك.. تبدو السحن المشوهة فتحس بالنفور وبحركة لا إرادية تنفتل صوب الباب، تلصق وجهك بالنافذة ذات القضبان ولكن لا شيء إلا الممر الباهت وخطوات رتيبة ما أن تواجهك حتى يصيح صاحبها في وجهك:
-ابتعد عن النافذة.
تستدير إلى الداخل ترى التكشيرات مرتسمة على الشفاه الجافة، أيعقل أنك ستجلس مع هؤلاء تأكل معهم وتنام معهم؟ هب الرفض في قلبك إعصاراً فرجعت إلى النافذة ورحت تصرخ:
-أخرجوني من هذا المكان.
تسمع صوتاً لا تميز صاحبه:
-لا تثر غضب الحارس بضجيجك فقد ينكد حياتك.
تقف متردداً ثم تخضع لصوت العقل.
من سيخرجك يا نجم؟ الذين قد يخرجونك بعيدون وقد يمر شهر قبل أن يعرفوا بسجنك.
ابحث عن مكان تجلس فيه وتسند ظهرك للحائط لترتاح.. لتفكر بما حدث معك اليوم.
حديث آمر الحرس إليك لم يكن عفوياً كان عدائياً، كان يبحث عن شيء يعلم بوجوده... كانت بسماتهم تفترش وجوههم عندما يرونني فما الذي حدث الآن؟
في فكرك أومضت فكرة... ولكن أيعقل؟(1/5)
تستعيد كلامه الملغز، ونظراته المواربة قلت: لي أن أسير بالاتجاه الذي أريد، أصبح لي أصدقاء ومعارف أتراك أخطأت الحساب يا نجم؟
ضاعت منك خمسون كيلو غراماً من الذهب، صحيح أنها ليست كل ما تملك ولكن هي الضربة الموجعة لخطط المستقبل.
أنت الآن ملقى في السجن تنتظر العون يأتيك من الخارج، ولكن المصيبة كبيرة فهل سينفع العون؟ يأتيني وجه والد جلنار، أكاد أسمع صوته.
-كيف ورطت ابنتي أيها الندل؟
وأتساءل لماذا أردت لجلنار أن ترافقني في هذه الرحلة؟ دفعاً للشك على الحدود أم برهنة لها ألا وجود لعاتكة في حياتي؟ أم أن هاجساً كان في أعماقك بأن العملية ستكشف. وكنت تتمنى أن تقع جلنار لتذل والدها؟
-أستغفر الله ما هذه الأفكار الشيطانية التي تراودك؟ إنها زوجتك وأم أولادك، أنت لا تريد لها الأذى، ما كنت تعرف أنكما ستقعان في المصيدة.
أترى القصة قد عرفت، تناقلها أهل السوق، شاعت في المدينة، هل سمعت بها عاتكة؟
والأولاد هل يفهمون معنى أن أبويهما في السجن؟ وأهلي؟ سيصبحون هدفاً للشماتة. الأيام تتوالى في هذه الزنزانة المعتمة، رغم القرف اعتدت على هذه الروائح الكريهة والمناقشات التي غالباً ما تنتهي بالشجار.
رفضت الطعام في البداية، ولما عضّني الجوع التهمت ما قدموه لي دون أن أعرف ما هو. السجن يحط الإنسان إلى درك الغريزة، يجعل السجناء أسرى حاجاتهم وما عداها يبدو ترفاً بعيداً.
إذا أردت أن تذل إنساناً فاسجنه، عندئذ تدمر روحه وتسحب منه الإحساس بالحياة ولكن لا، لن أسمح للسجن أن يدمرني، سأخرج قوياً كما كنت، لا بل أقوى.
ولكن جلنار هل باستطاعتها أن تحتمل السجن؟ أشفق على رهافتها من هذه القسوة والبدائية.
*** ***
أنت الآن سجينة، جلنار ابنة شاه بندر التجار ملقاة في السجن بتهمة الخيانة والتهريب.
قلت له:
-لا تغامر.
قال:
-ألا تثقين بزوجك؟(1/6)
لم أعد أثق بك يا نجم، وصلتني الشائعات، فنغل الشك في قلبي ولكن أخاف أن أواجهك فتصعقني بحقيقة أتمنى الموت قبل أن أعرفها، وقرأ الاتهام في عيني فأغضى، وجهت حديثي وجهة عملية قلت له:
-إن علم لن يسكت.
قال:
-لكل شيء بداية، يجب أن أجرب.
شعرت بالخوف قلت:
-لن أرافقك.
قال:
-أتفاءل بوجودك.
تتفاءل بي أم تريد أن تتخلص مني ليخلو لك الجو معها؟ هي الآن طليقة تنعم بما أغدقته عليها من مال وأنا سجينة! السجن للرجال فهل سمعت عن امرأة سجنت؟
سيصل الخبر إلى المدينة، تتلقفه الأسماع المتعطشة للفضائح، تلوكه الألسنة، يعرفه أولادك وأهلك، جلنار في السجن أين يخبئون عيونهم من الناس؟
ريم يا حبيبتي المسكينة ماذا تفعلين الآن؟ أرى نظرتك الحزينة أرى الذل في جبينك الناصع، منصور ومأمون صغيران ولن يفهما الأمر، أما أنت فستجرح روحك حتى الأعماق.
ساعدني يا رب لأحتمل الزنزانة والوحدة والظلمة الزاحفة، ساعدني لأطرد هذا الخوف من ثعبان يختبئ، من عقرب يلطي في زاوية من هذا المكان المريع.
في مثل هذا الوقت كان بيتي يغرق بالأنوار، الخادمة تشعل الشموع فتتراقص الأضواء ناعمة، تكسو البيت بغلالة من نور وجمال... في مثل هذا الوقت كان الأولاد يزقزقون حولي، يدخل نجم يتواثبون عليه، يداعبهم ثم نجتمع للعشاء.
يتحرك الباب، يصر، تدخل حزمة من الضوء، أرى ظلاً، هل سيدخل الحارس إلي؟
حارس وسجينة، وكدت أصرخ رعباً لملمت جسدي، تضاءلت، تمنيت لو أن في الأرض حفرة لأغور فيها، أحسست بقلبي يتوقف عن الخفقان، غمرت رأسي بين ركبتيَّ.
جاء صوته:
-هذا عشاؤك.
رفعت رأسي، رأيت الظل ينسحب، قرب الباب كان هناك صحن، ثم انغلق الباب وغاب الضوء.
شمس تطلع وأخرى تغيب وأنا غارقة في غيابة بئر مظلم.
يا رب نجني لأطيعك، يا رب امسح عني الخوف والحزن، اغمر قلبي بعطفك، أنا الخاطئة الضعيفة، البائسة.. سأتوب عن ذنوبي وأتعبد لك... ما أتفه مباهج الدنيا إذا ما قيست بآلامها؟(1/7)
الوهن يستوطنني، أحس أنني عاجزة عن الحركة وأن رأسي يدور... وأنني أهوي في مكان عميق.
ريم أعطني يدك ساعديني، يا أبي إني أغرق في نهر من الطين.. ظلال تتراقص أمامي، أصوات تعبر سمعي:
-لم تأكل منذ دخلت السجن.
يد تمسح على رأسي، تحدق بي عينا امرأة.
-يا أختي إنك تقتلين نفسك.
قلت:
-أريد أن أموت.
جاءني صوتها حانياً:
-وتتركين أطفالك؟
غرقت في ضباب ناعم خدر، كنت أغيب وأنأى.
عندما فتحت عينيَّ وقعتا على أسامة وزيد فانهمرت الدموع من عيني، أشحت بوجهي جاءني صوت أسامة.
-لا تخافي يا جلنار لن نتركك.
قال زيد:
-سأطلب أن أسجن بدلك فتعودي إلى أطفالك.
خجلت أن أنظر إليهما، دار أسامة حول السرير واجهني:
-كل ما أطلبه منك هو أن تتماسكي، لن يهدأ والدك حتى يخرجك من السجن.
غرقت في بكاء هستيري وكنت أصرخ:
-دعوني... أريد أن أموت.
قال زيد:
-ابكي.. اصرخي، أخرجي هذه الثورة من أعماقك ثم أصغي إلينا.
قلت:
-أشعر بالغضب، بالخديعة، بالخذلان، أحس أنني أصبحت خارج الحياة وأنني وحيدة وسط صحراء تعصف بي رياحها... وأنني عطشى... يتراءى لي أطفالي فأركض نحوهم لكنهم يبتعدون، ساقاي ما عادتا تقدران على السير، أشعر أن في رأسي فراغاً يدوم فيفقدني عقلي.
رأيت عيون شقيقي مخضلتين بالدموع.. أمسكت بيد أسامة وقلت:
-يا زيد. أعطني يدك. إنني أنهار.
*** ***
ترجل والد نجم عن حصانه أمام القصر، اقترب من الحارس وقال:
-قل للسيد: والد نجم يريد مقابلتك.
لم يبد على الحارس أنه سمع، أعاد والد نجم كلامه فرمقه الحارس بابتسامة كسلى، ثم قرع جرساً فجاء حارس آخر، قال الأول:
-أطلب الإذن لوالد نجم بالمثول أمام السيد.
هل مضت ساعة على وقوفك أمام بوابة القصر يا أبا نجم؟ سبحان مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء.(1/8)
بالأمس كان يدور في الشوارع يطلب من الناس أن يحدو لهم نعال أحصنتهم والآن يطلب الناس الإذن للمثول أمامه، بالأمس كان يتلقى رفسات الجياد، الآن يرفس الناس بسطوته وجبروته.
طال الوقت، حميت الشمس، تعاظم القهر، كاد يستدير ليعود إلى بيته ولكن وجه ولده حال دون الرجوع، لعله يضرب... يهان.. وزوجته يا للعار أصبحت سجينة.
لعنك الله يا نجم، لعن الله طموحك القاتل، هذه النار المتوقدة في أعماقك كنت أعرف أنها ستحرقك.
قلت لي في طفولتك:
-سأصبح أغنى رجل في البلد.
فتح الحارس الباب مواربة قال...
-تقطع الطريق وتسلك هذا الممر الطويل، هناك حارس سيوصلك إلى السيد.
أتأمل ماحولي مذهولاً، أتظن نفسك غنياً يا أبا نجم، هنا الثروة والغنى، أي جنيِّ قد هندس هذا القصر، البناء الشامخ، الشرفات والأفاريز والزخرفات، وهذه الحدائق والمدرجات... معذور عندما دار رأسه، من يصمد أمام الإغراء؟
أدخلت بهواً هائل الاتساع، ثم انفتح باب قاعة فيه، بان السيد جالساً في صدر القاعة وحوله رجال كان ابنك واحداً منهم.
وقفت متصاغراً وقلت:
-نجم في ورطة.
لو أنصفت لقلت:
-أنت من أوقعته بها.
لكن الكياسة أملت عليك أن تقول:
-أنت صديقه وأخوه الأكبر فساعده على الخروج من محنته.
استمعت إليه يتحدث عن التجارة والأعمال المشروعة وعن جزاء الذين يخرجون عن القوانين السلطانية ويخربون الاقتصاد، انفعل وهو يدافع عن المصلحة العامة.
استمعت إليه، تأملته، لقد أتقن فن الفصاحة والتمثيل إلى جانب التهريب واللصوصية.
نظراتك تقول:
-ألا تخجل.
ونظراته تقول:
-أنت تعرفني، ولكن هل تجرؤ على التصريح؟
من وراء قناع الود تبادلتما سهام كراهية وسخرية، ثم جاء صوته:
-لا تخف يا أبا نجم سأبذل كل ما أستطيع.
وتساءلت إن كان سيبذل كل ما يستطيع لإبقائه في السجن أم لإخراجه منه؟
*** ***
جاء الرسول إلى والد جلنار، انتظر حتى انصرف الزبائن من المتجر ثم همس في أذنه.
-يريد عشرة آلاف دينار.(1/9)
علت الصفرة وجه الأب وتمتمت شفتاه.
-إنه مبلغ كبير.
قال الرسول بخبث:
-هل تتركها في السجن؟
نظر الأب في عيني الرسول وتساءل في سره:
ما المبلغ الذي سيصل إليه وما المبلغ الذي ستقتطعه لنفسك؟
ثم حاول أن يقنع نفسه بأن المبلغ يجب أن يتناسب مع مكانة المتوجه إليه ومع حجم الاتهام.
لكن حذره قال له: لا أحد موثوق فاطلب الأمان.
قال وهو يؤكد على كلامه:
-سأدفع نصف المبلغ الآن، والنصف الآخر عندما تصبح في بيتها.
*** ***
في قاعة المحكمة وقف نجم وإلى جانبه جلنار، عندما نظر إليها أبوها لم يعرفها وهمس: هل يعقل أن ثلاثة أشهر تغير الإنسان إلى هذه الدرجة؟ كم عانيت أيتها الشقية.
أما هي فقد أجالت نظرها في القاعة وعندما اطمأنت إلى وجود أبيها وأخوتها.
أغضت ولم تترك لعينيها أن تلتقي بعيونهم.
والد نجم أرسل رسالة لابنه بعينيه تقول:
-لا تخف.
ساد الصمت وانطلق صوت القاضي:
-هو الوطن أمانة في أعناقنا، هي البلد يجب أن نحرص عليها كما نحرص على أرواحنا، لكن الشيطان يزين للبعض أن يضيع الأمانة، أن يهرب أموال الوطن، أن يدخل إليه الموبقات، أن يفسد أجياله.
عندها ستتدخل العدالة لتعاقب المسيء فيعود إليه صوابه ويكفر عما جنته يداه.
هز الناس رؤوسهم موافقين فتساءل والد جلنار إن كان المبلغ قد وصله فلمَ يقول هذا الكلام الخطير؟!
تابع القاضي.
-تقرير الضبط الوارد من مركز الحدود يقول إن خمسة كيلو غرامات من الذهب قد وجدت بحوزة المتهم نجم الزمان الساطع مخالفاً بذلك قوانين البلاد التي تمنع إخراج الذهب.
صعق نجم الدين وتساءل ضبطوا معي خمسين كيلو غراماً فكيف أصبحت خمساً؟.. من أخذ الباقي؟ أين الباقي.
كاد يصرخ:
-معي خمسون كيلو غراماً.
لكنه لم يجرؤ على الكلام.
وتابع القاضي كلامه:(1/10)
وباعتبار أن سجل المتهم نظيف ولم يسبق له القيام بأية مخالفة فيحكم بالسجن لمدة ستة أشهر تحتسب منها الشهور التي قضاها بالسجن ويخلى سبيله بكفالة مالية قدرها عشرة آلاف دينار.
أما المتهمة جلنار زوجة المتهم نجم الدين وباعتبارها في عصمته فهو وليها المسؤول عن تصرفاتها وبذلك تكون خالية المسؤولية من عملية التهريب فتبرأ وتسقط عنها كل التهم المنسوبة إليها.
*** ***
بعد أيام كان نجم الدين يتجه إلى قصر السيد يحمل له ماسة ثمينة وعباءة من القطيفة.
عندما دخل إلى القاعة الكبيرة ابتسم السيد ابتسامة عريضة وقال:
-أهلاً بعودتك إلينا.
((
البستان
تنطلق زقزقة العصافير صادحة فتجيبها نسمات الأصيل منداةً بعطر الشجر والزهر، أرفع وجهي إليها، تداعبني، تتسلل إلى داخلي، أطلق تنهيدة راحة:
-الحمد لله الذي وهبني القدرة لأصنع حياتي كما أحب.
أسرح نظري في البستان، أرى النخيل والأعناب، الرمان والتفاح، التين والزيتون، يسحرني نوّار اللوز، تفتنني أزهار البرتقال، تسبيني أزهار الدرّاق الوردية، تحلق الروح في سماء رحبة صافية... تطوف بفكري خيالات بعيدة...
تلوح لي البلاد التي عشت فيها، بيوت القرميد الضائعة وسط الشجر، الطرقات المحفوفة بالخضرة، النهر عميق الزرقة، الجسور والقناطر والروعة تحف الشاطئين. تتراءى لي الحارات والبيوت والوجوه، تصل إلي روائح السرو والحور والسنديان.. الأشجار القرمزية وقد تألقت تحت الشمس وألقت ظلالها القانية على الأرض والوجوه... أسترجع صوت أبي يأتيني من الزمن البعيد:
- اذهب إلى بلاد السعد وعد إلينا طبيباً.
ذهبت إليها وعدت منها عالم نبات مفتوناً بالطبيعة، ويترجع في سمعي صوت أستاذ كنا نسميه عاشق الطبيعة وهو يقول بتبتل:
-الأرض هي كنزنا الذي لا نعرف كيف نثمره، لو حكموني بالعالم لوحدته وجعلت الخضرة شعاراً له، لو عرفنا كيف نزاوج بين التراب والماء لصنعنا جنة على الأرض.(1/11)
أين أنت الآن يا عاشق الطبيعة؟ ليتك تزورني لترى جنتي.
أدخل الحديقة، تهب علي الروائح الشذية، يأتيني وجهه:
-ازرعوا الورود والأزهار، تأملوها، تنشقوا عطرها عندها تصفو القلوب ويغادرها الشر.
أقف بنشوة أمام أحواض الزهر ومشاتل التهجين، يضحك لي بياض الفل والزنبق تستبيني حمرة الجوري.. تتألق أمامي أزهار البنفسج، تتساقط عليَّ نجوم الياسمين الأبيض، تسطع أمامي شموس الياسمين الأصفر الصغيرة.
من كل البلاد جئت بشتلات النبات، انتخبت، هجنت، جئت بالجديد، هو الجمال الغريب تولده من تمازج الأنواع فيسطع في عينيك سحراً... الزنابق السوداء، الفل الأرجواني...
النباتات البرية التي استأنستها فخرجت برونق يفتّح الروح.. أصبحت الحديقة جزيرة عجيبة، يتناقل الناس أخبارها، ولا يعرفون أسرارها.
تهفو النفس إلى رشفة قهوة، لو يخطر لسعاد أن تأتي ومعها القهوة.
أنادي:
-سعاد أنجديني.
تطلُّ عليَّ من الشرفة بوجهها المشرق وتقول:
-لحظات.
أتأملها تعبر الحديقة إليّ بثوبها الوردي. عشر سنوات مضت على زواجنا، جاءنا ياسر ويامن وراما.. ثلاثة أولاد وما زال قلبي يخفق لمرآها.
عندما وصلت إليَّ احتضنتها لكنها تخلصت من يدي وانفلتت إلى النافورة.
سألتني عاتبة:
-لماذا لم تشغّلها؟.
قلت:
-حتى يحضر الوجه الحسن.
قالت مداعبة:
-استحِ كبرنا على المغازلات.
جلسنا نرتشف القهوة، تساءلت:
-لماذا نحب هذا المذاق المر؟.
قالت:
-شوك الورد يزيد من جماله.
ابتسمت وقلت:
-ما أعظم حظي، لقد جمعت زوجتي الجمال والذكاء.
نظرت إليّ هذه النظرة العميقة وابتسمت ابتسامتها الساحرة التي أحب وقالت:
-أما أنت فقد جمعت زلاقة اللسان وحب الخضرة ولزوم البستان.
قلت:
-أفضل ما في العمل بالبستان أنه لا يربطك بأحد، بل يعطيك الحرية لتعملي كما تحبين.
عندما انتهينا من ارتشاف قهوتنا، رأيت ياسر يدخل الحديقة مسرعاً، وقف أمامي يلهث وقال:
-هناك رجل يطلبك.(1/12)
تبادلت مع سعاد نظرةً ثم غادرت الخميلة باتجاه مدخل البستان، كان هناك رجل يمسك بلجام حصانه، ما إن رآني حتى سألني:
-هل أنت أحمد الخضر؟.
هززت رأسي بالإيجاب.
قال:
-السيد يريد رؤيتك.
أصابتني الدهشة. ما علاقتي بالسيد والسادة؟ لقد اعتزلت الوظائف السلطانية، وتركت المدينة إلى البستان وهجرت الناس.
سألته:
-ماذا يريد مني؟
أجابني دون اهتمام:
-عندما تراه اسأله، إذهب إليه غداً في الحادية عشرة صباحاً.
نظرت إليه أستوضحه، لكن وجهه كان أصم خالياً من أي تعبير أو رغبة في الحديث.
كدت أقول له:
-أنا لم أحدد الموعد وبالتالي لست ملزماً به.
لكنه أدار عنق حصانه وغادر دون أن ينتظر إجابتي أو حتى يلقي عليّ تحية الوداع، رجعت إلى مجلسي منزعجاً، فسألتني سعاد:
-من الزائر؟
عندما أخبرتها بدا القلق في وجهها وقالت:
-يبدو أن المتاعب تطرق بابنا.
قلت محاولاً أن أخفف عنها:
-لا تهولي الأمر.
قالت:
-سيرته لا تطمئن.
حاولت أن أصل ما انقطع من حديثنا قبل أن يأتي الزائر ولكن ظلاً أسود سقط بيننا فانسحب كلُّ منا إلى داخله.
كان نومي قلقاً ولكن عندما انبعث صوت الديك، استيقظت ناسياً همَّ الأمس، هي اللحظة الزرقاء الجميلة التي تسبق طلوع الشمس، تمليت السماء طويلاً، كان القمر الشاحب ينسحب ببطء، مخلياً الكون لسيدة النور.
جاءتني رائحة الشجر والأرض وزقزقة العصافير فانتشيت باليوم الجديد، لكن طارئ الأمس داهمني فهمست:
-اللهمَّ اصرف عنا بأس الحياة وضرَّها.
قالت لي سعاد بصوت حاولت أن تبث فيه المرح:
-لا تنسَ عند عودتك من مقابلته أن تمرَّ بالمدينة وتأتينا بحاجيات الأولاد.
عندما أشرقت الشمس، ركبت حصاني، عبرت منطقة البساتين فلاحت لي الأراضي قاحلة حيناً، مهملة حيناً آخر، سمعت الأرض تئن. ساءلت نفسي:
-لماذا أرضنا تعاني اليباس ونحن نملك الخصب والماء والقدرة؟ لماذا تهلك مواسمنا وتبور آمالنا؟(1/13)
وقلت لنفسي لو امتلكت أمر هذه الأراضي لجعلت الخضرة تضحك فيها ولكن الذين يملكون لا يقدّرون ما يملكون...
وتراءت لي صورة أرضي عندما اشتريتها قفراً يابساً لا شيء فيها إلا الأحجار وأشجار الشوك.. أعطيتها عشرين سنة من حياتي فأصبحت جنة.
ما أغلى البستان على قلبي، لكلِّ شجرة فيه ذكرى ولكلّ جدول قصة، وابتسمت لصورته تعبر خيالي...
هل سيطول الطريق؟ ما زالت المسافة بعيدة حتى أصل المدينة ثم أعبر إلى ضاحيتها الشرقية.
قال الذين سألتهم عن القصر:
-ستراه من مسافة بعيدة إنه أعلى بناء في الضاحية.
في الموعد المحدد كنت أمام بوابة القصر، عبر بي أحد الرجال إلى الحديقة ثم إلى بهو كبير، منه دخلنا إلى صالة واسعة.
في صدر القاعة رأيت رجلاً بدا لي أنّه يكبرني بسنوات، لم يكن مخيفاً كما سمعت عنه ولكن النظرات الصقرية للرجال الذين يحيطون به جعلتني أحس وكأنني وقعت في حضن شجرة شرسة الأشواك.
عندما رآني أشار عليّ بالجلوس وقال:
-أهلاً بصاحب اليد الخضراء.
لما استقررت في مقعدي قال ببشاشة:
-سمعت ببستانك الجميل وحديقتك العجيبة.
ابتسم وقال:
-يقولون إن أفضل الثمار وأغرب الأزهار موجودة لديك.
قلت وقد استشعرت الخطر:
-بستاني وحديقتي هما مصدر رزقي.
قال بهدوء:
-عندما يخلص الإنسان في عمله يغرقه الله بنعمه.
تساءلت من الغارق في النعمة أنا أم هو؟
بغتة طرح عليّ سؤاله الصاعق:
-أريد أن أشتري بستانك فكم تريد ثمناً له؟
انطلق مني الرفض عفوياً قاطعاً:
-مستحيل، لن أبيعه أبداً.
قال متذمراً:
- وما وجه الاستحالة؟
قلت:
-إنك لا تعرف ماذا يعني لي هذا البستان، إنه تعبي وعمري، ومكافأتي، هو كل ما أملك في هذه الحياة.
قال:
-تستطيع أن تشتري غيره.
قلت:
-ولماذا لا تشتري أنت غيره؟
بدا الانزعاج على وجهه وقال بصوت راح يعلو:
-أقول لك أريد بستانك فتسألني لمَ لا أشتري غيره؟ هل ستملي عليّ ما أفعله؟.(1/14)
ذهلت لمنطقه، إنه بستاني وأنا الذي أقرر إن كنت سأبيعه أم لا. لا يحق له أن يطلب مني ما لا أريد.
قلت:
-إنه بالنسبة إليك بستان ولكنه بالنسبة لي حياة.
قال بصوت حاول أن يدخل عليه شيئاً من الهدوء:
-أنت لا تملك حس الواقعية، تتحدث عن البستان بشعرية تليق بعاشق، أنا لا أطلب منك أن تقايضني على زوجتك، إنه مجرد أرض.
ثار الدم في عروقي، ما علاقة زوجتي بالموضوع، أهو تهديد لي بأنه يستطيع أن يصل إلى زوجتي.
قال وقد لحظ انفعالي:
-هوّن عليك، فكّر بالأمر ثم أعطني الجواب.
قلت:
-الأمر لا يحتاج إلى تفكير وقد أعطيتك جوابي.
قال بضيق واضح:
-لا تكن عنيداً، من الخير لك أن تبيع.
تمنيت لو أنَّ لي القدرة لأصفع هذا الوجه المتغطرس، لكنني ضبطت نفسي، تأملته بنظرة حملتها ما استطعت من مقت واستدرت على أعقابي.
عبرت البهو الكبير والحديقة، وبثوانٍ كنت على ظهر حصاني أعدو به عدواً إلى البستان.
استقبلتني سعاد ملهوفة، فرأيت الحزن قد ران على وجهها.
خيّم القلق على البيت أياماً ثم رحل عنّا، عدنا إلى سيرتنا الماضية ولكن في بعض الأحيان يطفو في ذهني خاطر أسود يكدرني فأبعده عن ذهني.. واشتغل مع سعاد والأولاد في البستان، أتأمل الأزهار، أشعر بحنو تجاه هذه الكائنات اللطيفة التي تمتعنا بألوانها وشذاها، وأفرح لكل برعم يظهر على سوقها، أرى فيه معجزة الحياة تتحقق أمام ناظري.
صباح أحد الأيام كنت منهمكاً بتفريع إحدى الغرسات عندما رأيت رجلاً يقف فوق رأسي، أجفلت منه، داخلني الغضب.
قلت مؤنباً:
-كان باستطاعتك أن تستأذن قبل الدخول إلى البستان.
رمقني بنظرة ساخرة تقول: نحن لا نأخذ إذناً من أحد، تذكرت المقولة "كلب الأمير أمير" وانتظرت أوامره.
قال:
-السيد يطلبك يريد أن تكون عنده في السادسة مساءً.
ثارت كبريائي، من يظنني؟
قلت:
-لديّ مشاغل تمنعني من الذهاب إليه.
قال باستخفاف:
-باستطاعة مشاغلك أن تنتظرك.(1/15)
مشى دون أن ينتظر مني رداً، أفهمني بما لا يقبل الشك ألا مجال للمناقشة أو الاعتراض.
السيد أصدر أمراً وعليّ أن أنفذه، لسنا إلا خدمه المنذورون لأوامره... لماذا؟ ما الذي أعطاه هذا الحق؟.. سلطته.. ماله المسروق؟.. حقارته؟...
إنه لا يتورع عن أي عمل، وتواردت إلى ذهني قصص الغصب والنصب.. تراءت لي صور القهر والإذلال..
صررت على أسناني حتى كادت تتكسّر، كنت أسمع قصصه سماعاً، وها أنا سأصبح واحداً من أبطالها.
ثار الرفض في قلبي، ملأني قوة، لن أذهب إليه وليفعل ما يشاء.
عندما حدّثت سعاد عن الموعد الذي سأخلفه اكفهر وجهها.
قالت:
-أنت لا تستطيع أن تواجهه.
قلت:
-أنا إنسان ولي كرامة.
قالت:
-لا تسلم نفسك للغضب وحاول أن تقنعه.
أحاول أن أقنعه؟! لديه قناعة واحدة أنه يستطيع أن يمتلك ما يريد!.
في العصر جاء أخي الأكبر زائراً، عندما سمع بالقصة قال مشفقاً:
-أنت في مأزق، مؤكداً أنه سمع بصيت بستانك وحديقتك، ليتك اكتفيت بالشجر دون الحديقة، هي التي لفتت الأنظار إليك.
قلت:
-سبحان الله، وهل يعاقب الإنسان على براعته في عمله؟!
نظر إليّ عميقاً وقال:
-اذهب إليه ولا تجعله يحقد عليك فحقده قاتل.
مسربلاً بالحكمة والهدوء، ذهبت إليه عندما رآني تجاهلني في بادئ الأمر، راح يتشاغل بالحديث مع من حوله، ثم التفت إليّ وكأنه يراني لأول مرة وسألني دون اهتمام:
-أنت صاحب البستان؟
عندما أومأت برأسي سألني:
-هل فكرت بالعرض.
نسيت الوصايا وسمعت صوتي يقول:
-العرض مرفوض رفضاً قاطعاً.
ابتسم وكأنه يريد أن يلقنني حكمةً وقال:
-لا شيء في الحياة قاطع، كل الأمور قابلة للتعديل.
قلت:
-إلا إذا كان الأمر يتعلق بالكرامة.
قال:
-وما علاقة الكرامة بالموضوع، البستان ملكية قد تباع وقد تبدّل.
قلت بإصرار:
-لن أبيع ولن أبدّل.
نظر إليّ متأملاً وقال بين السخرية والجد:
-إذن سأعهد إليك بأحد بساتيني وستجعله صورةً مطابقة لبستانك.(1/16)
أومضت في ذهني فكرة الخلاص، لاح لي عرضه طوق نجاة ينشلني من ظلمة الخوف، قلت مغالباً الفرح الذي كاد يغلبني.
-لك الوعد مني بألاّ تفرّق بين البستانين.
نظر إليّ وقال دون اهتمام:
-سنرى.
خرجت من عنده فرحاً، ولكن الهواجس قتلت فرحي، ماذا لو كان اقتراحاً تعجيزياً، ماذا لو اتخذ من إشرافي على بستانه وسيلة لإذلالي؟! وتراءت لي صور التلذذ بالتعذيب فشعرت باليأس يكاد يخنقني.
انتظرت منه إشارة البدء بتنفيذ المشروع ولكن الإشارة لم تأتِ.
قالت لي سعاد:
-لعله نسي الموضوع، مؤكد أن مشاريعه قد صرفته عن هذه النزوة.
وتمنيت من الله أن يصرف فكره عني لأعيش في أمان، ولكن الله لم يستجب لأمنيتي...
ذات صباح رأيت أشجار الحور التي تسور الطرف الغربي للبستان مقطوعة وممددة على الأرض. قالت سعاد:
-هو الانتقام.
قلت:
- لا. إنها رسالة.
سألتني:
-وإذا استمر في رسائله.
قلت:
-أجيب.
قالت:
-وهل يستطيع المسمار أن يتصدى للمطرقة؟
كان السؤال موجعاً مثيراً للكبرياء، أن تتلقى الصفعات على وجهك ولا تستطيع أن تردها، فالذين يصفعون يملكون كل شيء، وأنت لا تملك إلا أفكاراً باتت مضحكة عن الحقوق والعدالة والمساواة، معادلة ظالمة ولكنك محكوم بها، اخبط رأسك بالجدار واشتم فأنت عاجز، أنت لا تملك إلا روحك، حريتك تكمن في طريقة مغادرة الروح للجسد، وما عداها سراب.
بعد أيام جاءني رسوله يطلب مني الذهاب إلى السيد فوراً.
قلت لسعاد:
-لن أذهب.
سألتني:
-وهل تعتقد أنه سيتركك وشأنك؟
قلت:
-ليفعل ما يريد.
قالت:
-قد يقتلك.
قلت:
-لا أحد يستطيع أن يسلبنا القدرة على الموت دفاعاً عن كرامتنا.
اتسعت حدقتاها، نظرت إليَّ بألمٍ وقالت:
-لا تتحدث عن الموت، ليست حياتك وحدك التي قد تنتهي ولكن حياتنا جميعاً، نحن بحاجة إليك وليذهب البستان إلى جهنم، نستطيع أن نشتري أرضاً ولكننا لا نستطيع أن نعيد إنساناً إلى الحياة.(1/17)
في اليوم التالي جاءني الرد عنيفاً، قطعوا أربعين شجرةً من أشجار التوت، رأيتها نازفة فاقدة الحياة.
بعد يومين وصلوا إلى الحديقة وأحواض الزهور، اقتلعوا الغراس التي قضيت سنين أهجّنها وأستنبت مواليدها.
قالت سعاد:
-غداً سيحرق البستان.
قلت:
-لا. إنه يريده سليماً.
قالت:
-إذن سيصل إلينا.
أجفلت لسماع كلماتها، وتراءت لي سعاد مخطوفة، والأوغاد يعبثون بها، بدا لي ياسر ويامن مذبوحين مقطوعي الأوردة، بدت لي راما وقد قصت جدائلها وتمزقت ثيابها.
شعرت بنبضات قلبي تتسارع وبالدم يكاد ينفجر من عروقي، إنه لا يتورع عن فعل أي شيء كي يصل إلى ما يريد أو ما يتمنى، أما نحن فليس لنا حتى أن نحافظ على ما حصلنا عليه بعرقنا ودمنا وسنوات عمرنا.
إنه يقول لي:
-هدمت أسوارك ودخلت بستانك، ووصلت إلى قدس أقداسك، فأشهر سلاحك بوجهي يا صاحب الكرامة.
أنت وحدك من يحمل السلاح، أما أنا فقد جردت من كل سلاح، أنت من يحيط به الحرس والأعوان، وسآتيك فرداً لا أحد يجرؤ على الوقوف معه.
قال أخي الصغير:
-سأذهب معك.
قلت:
-احفظ حياتك لبيتك وأولادك.
امتطيت حصاني وانطلقت إليه هائجاً، رحت أكيل الشتائم والبذاءات للدنيا كلها، لزمن النحس، للسفلة الذين يذلون الناس.
أفرغت ما بداخلي فشعرت بالراحة، تلبستني حالة من الهدوء والاستهانة بكل شيء.
عندما دخلت إليه استقبلني بابتسامة متشفية.
قلت له:
-وصلتني رسائلك فماذا تريد؟
قال:
-البستان.
قلت:
-لن أبيع.
قال:
-رغماً عنك ستبيع، سأدفع لك ثلاثين ألف دينار ثمناً له، اذهب إلى بيتك وعد صباحاً بسند التمليك لتتم الصفقة، واحمد ربك أنّك تعاملت مع إنسان كريم.
وتساءلت في سري إن كنت أنت كريماً فمن اللئيم؟ أية دناءة تسكن أعماقك أيها الإنسان الغبي؟ ألا تفكر بيومٍ قد تقف فيه أمامي كما أقف أمامك، فكيف تتوقع مني أن أعاملك؟
خرجت من القصر يلهبني القهر والغضب، أطلقت العنان لجوادي يسرح بي وصرخت بصوت ملأ الفضاء:(1/18)
-لن أنصاع له ولن أذل أمامه.
سأترك هذا البلد، فأرض الله واسعة، لست أول من رحل ولن أكون آخر الراحلين...
مرٌ طعم الهزيمة، قاتلةٌ هي الإهانة جارحٌ للقلب أن تُذلّ ولا تستطيع المواجهة.
في البيت وجدت أبي وإخوتي الثلاثة مع سعاد والأولاد، كان القلق يطل من عيونهم، عندما رأوني انطلقت تنهدات الراحة، لكن فرحتهم سرعان ما انسحبت عندما تفرّسوا في وجهي.
قلت:
-سأغادر البلد، في هذه الليلة سأرحل ولن أوقّع صك المذلة.
تمتم أبي بصوتٍ حزين:
-اللهم أعوذ بك من الهم والحزن وقهر الرجال.
قال أخي الأكبر:
-إن رحلت سيضايقون زوجتك وأولادك ويأخذون البستان غصباً، وافق على البيع، خذ الثمن وارحل حيث تشاء.
التف حولي الأولاد تعلقت الصغيرة بعنقي وقالت:
-بابا أرجوك لا ترحل.
نظرت إلىَّ سعاد، توسلت عيناها:
-لا تتركنا.
قال إخوتي:
-نبيت الليلة عندك، وفي الصباح نذهب معك إليه، سيعوضك الله خيراً عما بعت.
تأملتهم طويلاً، ثلاث شجرات سنديان صلبة نبيلة، ولكنها لا تستطيع أن تتصدى للإعصار.
أمام إخوتي وتحت نظراته الشامتة وأنظار رجاله الصقرية، وقّعت سند البيع...
شعرت أن جزءاً من قلبي قد جزَّ وأنني أصبحت عرضةً لهجمات المصائب.
كنت أحس البستان حصناً وسنداً وأملاً، الآن أحس بالضياع.. أن تملك، ألا تملك.. أن تحب، أن تكره، أن تشعر بالكرامة، أن تشعر بالهوان.. فقدت الإحساس بمعاني الأشياء... أية قيمة لمشاعرك.. لكرامتك.. لأحلامك إذا كنت لا تستطيع أن تدافع عنها؟
وجاءني صوته الوقح:
-ألن تبارك لي بالبستان؟
صوبت إليه نظرة تمنيت لو أنها قاتلة، وقلت في سري:
-لعنك الله، وجعل ما غصبته مني لعنة تلاحقك حتى يوم مماتك.
خرجنا من القصر كمن يحمل نعش عزيز، كان الصمت يخيّم علينا، والحزن يرين على الوجوه.
قال أخي الأوسط:
-لا تحزن ما زلت تملك الشباب والقوة.
قلت:
-هي الروح انكسرت.(1/19)
أطلق تنهدة وأظلنا صمت عميق.. خرجنا من قصره إلى الأرض الخلاء.. لا شيء في هذا الفضاء إلا وقع حوافر جياد الفرسان المهزومين.
وسط الصمت تناهى إلينا صوت عدوٍ يأتينا من الخلف، عندما التفتنا رأينا سبعة رجال ملثمين يمتطون جيادهم سرعان ما شهروا سيوفهم وأحاطوا بنا، تفرّست في عيونهم.. هذه النظرات الصقرية أعرفها مهما تقنّعت... وكالومض سرى في خاطري ما يريدون... خمسة منهم أحاطوا باخوتي وانفرد بي الباقيان.
أحدهما وضع طرف السيف على عنقي وقال:
-أخرج الكنز.
الثاني لم ينتظرني بل مد يده إلى جيب صداري حيث وضعت كيس النقود، وبحركة غريزية امتدت يدي تمنعه، لكن السيف غاص في لحم العنق وجاءني صوته حانقاً:
-لا تتشاطر، حركة أخرى وتذهب إلى الجحيم.
من صداري أخرج كيس الدنانير وقال:
-ظننت أنك ستنعم بالكنز أيها المغفل؟
قبل أن يفكوا الحصار عنا نخسوا جيادنا بسيوفهم فنفرت وألقتنا عن ظهرها، ضحكوا كثيراً لسقوطنا ثم انطلقوا يعدون.
غارقين بالقهر مسربلين بالذل امتطينا جيادنا، كل منا كان يحاذر أن ينظر إلى الآخر لئلا يرى ظل الهزيمة في العينين.
ولكن من أعماقي انطلق الرفض وسمعت صوتي ملء الفضاء:
-لا بد أن أستعيد بستاني ذات يوم مهما كان هذا اليوم بعيداً.
((
لأرى ملامحك
في وجوههم
الجبل لعنة تسحق أنفاسي، الغيوم تخنق السماء، والحر يحرق دمي، المطر سياط تلدغني ذراته الحارة المغبرة.
الوجوه حزينة، طوفان كآبة، كأن صاعقة قد انقضت على المدينة.
أسرع... أسرع...
-لا توجد طائرة إلا في الغد.
أتأمل وجه الموظف بغباء...
"من ذهب لا يعود"، تلسعني العبارة... أركض... أنتزع أقدامي... ألهث... تموت دموعي.. أختنق... أصرخ....
-ألا رحمة في السماء؟.
عمل رديء سأرد عليه بأردأ منه.
أبي.. يا من حملته في قلبي حباً وإيماناً، أصحيح أنك قد رحلت؟.
"-أي قفر هي الحياة؟ أية وحشة هي؟
-لا تدعي اليأس يتسلل إلى قلبك".(1/20)
أحمل يأسي جرحاً ينزف، أحمل عجزي غلاً في القلب.
سأذهب إليه، مخطئة أنا، ما الفاصل بين الصواب والخطأ؟.
أستعيد صوته:
-تعال إلي.
-أنت منحل.
-الأخلاق موضة قديمة.
قذر يتمسح بأقدام التقدمية.
ها أنا ذاهبة إليه، ليتني لم أعرفه، وتسقط دموعي في قلبي: "أبي أأصدق أنني لن أراك؟".
رغم هذه القصة، سأعود إليه وتتهلل ابتسامته، أرمي شهادتي بين يديه، وأنكمش أمامه طفلة لا تعرف إلا حبه.
لعبنا معاً، ضحكنا معاً، كتبنا الواجبات معاً ولكنه لم يستطع أن ينتزع نبتة حزن أينعت في قلبي، أكبر وحبه يكبر معي، وأنظر إليه والناس يتوافدون على بيتنا ليفض خصوماتهم وأسأله:
-كيف تستطيع أن تستمع إلى خلافات الناس ومشكلاتهم.
فيجيبني بصوته الهادئ العميق:
-لا تعيشي في أسوار نفسك، افتحي قلبك للناس فيفتحوا قلوبهم وستجدين حتى عند أسوئهم بقعة ضوء، اكشفي عنها وسيذكرك عمره.
-في مدينة البؤس لا أريد أن يذكرني أحد.
-مدينتنا بائسة.
-بائسة هي كل مدننا، لماذا لا نتركها؟.
-نتركها؟ لمن؟ نرحل عنها فنغترب ونغربها، لا تهربي من واقعك، ستسافرين لإتمام تعليمك، مدينتك بحاجة إليك.
يا حبيبي كيف رحلت عنها وهي بحاجة إليك، من أجل أحلامك درست.
أسافر.. أفتقده... أشعر بغربة قاتلة... أقول أريد أن أعود فيقول: لن تعودي حتى تنتهي أيام الدراسة".
عدت وقلت له:
-لا أريد أن أفقدك، كفاني من فقدت.
قال:
-هاجري من أحزانك إلى أحزان الآخرين.
وأحاول فأخيب، وأحاول فأكفر، وأعود إليه فأجد في البيت زوجة، وأرجع فأرى في البيت أولاداً... أعاود السفر، أبحث عن قلب ألجأ إليه فأخفق، وأبحث فأضل، وأبحث عن الفرح فلا أجد إلا الحزن.
-ابتسمي الناس لا يحبون الحزانى.
علاء لا يحب الحزن، ولكنني ذاهبة إليه بشقائي بفاجعتي.
"شقة الأعزب لا تدخل أبداً".
سأنسى وصاياك يا أبي، لا أتحداك ولكنني أتحدى ظلم الحياة.
علاء هل سيفهمني؟ هل يمسح دموعي؟.(1/21)
طرقت الباب، فتحه علاء، نظر إلي واجماً، أدخلني صالوناً صغيراً.
-هل أنت متألمة؟.
-أرجوك لا تعزيني.
-أتدخنين؟.
-لا.
الصمت... الصمت...
وجهه أسمر لاح ذات مساء، كنت حزينة، أبحث عن رابطة، عن شيء يشدني إلى عالم الفرح... أبي مشغول بأحلامه وأعماله... صديقاتي لا أشعر بأية رغبة في رؤيتهن... الدراسة أكره حتى أن أفكر بها.
وجاء في صوته:
-أتسمحين لي بالسير معك؟.
صوت "سامح" الوجه الذي أحب، العينان العميقتان، لشد ما أفتقده، التفت، لم يكن هو ولكن كم يشبهه؟!.
كل يوم أقطع الطريق وحيدة... ماذا لو سار معي؟.
مشى إلى جانبي، تحدثنا عن الشعر... فلسطين... الموت... الحياة...
ثلاث ساعات ونحن نتحدث هل أصدق؟ الزمن البطيء القاتل، أبهذه السرعة يمر؟ أيها الإنسان الساحر من أين أتيت؟.
-من صحراء بعيدة.
-وأنت؟.
-من بلاد بعيدة.
غريبان التقيا على أرض غريبة... حدقت فيه بالظلام، هذا الطول الفارع، هاتان العينان السوداوان، هذه اللهجة البدوية أية وعود تحمل؟.
ستكون لي قصة مع هذا الشاب... وشق السماء برق أنار وجهاً سأميزه عن كل الوجوه... وولد الفرح في قلبي، تمدد في عروقي، وانهمر المطر فركضنا نحتمي تحت أغضان شجرة.
ضحكت... ضحكت من قلبي... لأول مرة لا أشعر بالحاجز بيني وبين العالم، لا أحس بكثافتي... أنساب بتلقائية.
لا أعرفه... لا أعرف من يكون، ولكني فرحة معه.
مددت يدي لأودعه فقال:
-حبيبتي... متى أراك؟
حدقت فيه مستغربة:
-ما أسهل ما تقول هذه الكلمة!
-أكان يجب أن أموت لأقولها؟.
أنا لم أقلها لمن أحببت وهو من يدري؟... ربما قالها لألف فتاة زرعها على ألف رصيف، كنت أنظر إليه يبتعد... ينأى... ينطفئ.... عادت إليَّ الوحدة وهو يواعدني، زحف إلي الحزن في لحظة فرح.
"-أبي إنني بحاجة إليك.
-مهما عمرت سأرحل، تعرفي على الإنسان... ابحثي عنه ولو خلف أكثر الأقنعة صفاقة، مدي له يدك وستسعدين".(1/22)
الإنسان ما يهمك بحثت... تعبت... نفذت إلى القلوب وما رأيت الإنسان.
"علاء" يا من لجأت إليك، هل ستفهمني؟.
غاب في الداخل، تأملت البيت، خيمة في الصحراء... البداوة تتلامح حتى في الستائر الجديدة، واللوحة التجريدية.
يا سراب أصالة، يا من ركضت إليه بأشواقي، لقد ابتلعتك المدينة، زيفتك، جئت بإحساس شاعر، لكنك انقلبت تاجراً بارع المساومة:
"الكهف غائم والموجودون أشباح غارقة في نور خافت، يتعانقون، يغيبون عن الوعي في قبلات طويلة... موسيقا صاخبة... عيناه المرحتان تحاولان أن تتصيدا عينيَّ، شعرت بالإهانة، هذا المكان لم يخلق لي، الحب ليس بحاجة إلى الخفاء، أتوق إلى النور.
-قذرون لا أستطيع أن أنظر إليهم.
رمقني بنظرة شك وتجهم.
-كاذبة.
-وقح.
-أشك ببراءتك ولكنني سأقول إن الفنادق غاصة بآلاف الفتيان والفتيات الذين يمارسون الحب.
-لماذا تقول لي هذه الأشياء؟ من تظنني؟.
نهضت واقفة، أمسك يدي وقال:
-أرجوك اجلسي.
-نحن مختلفان، يجب أن لا نلتقي.
-نحن متشابهان ولكنك لا تعين ذاتك.
-وأنت الهادي الذي سيفتح لي مغاليق ذاتي؟
نظر إلي ضاحكاً فنظرت إليه متحدية.
-تصبحين حلوة عندما تغضبين
-لا تغازلني.
-أحبكِ، أريد أن أعرفك، تشبهين بطلة قصة أكتبها.
-لست موديلاً لأقف أمامك.
يجب ألا أراه... يجب ألا أراه... أية سخافة هي علاقتي به؟.
إنه يشبهه... السمرة الداكنة... العيون اللامعة... اللهجة العذبة...
"سامح" كان عميقاً... هادئاً... أما علاء فهو عاصفة تدمر نفسها... "سامح" أحببته بعمق لكنه غبي حطمني بغبائه... وهذا فاجر عابث...
أتمنى أن يتوب وأنتظر أن يتوب.
-تعالي إلي نحن في القرن الحادي والعشرين.
-سآتيك عندما ترسل مركبتك للقمر.
-تعالي وسأرسلها للقمر.
أكرهه... أحبه... ما يربطني به هو لحظة صدق وأمان وجدتها في صحبته، أتمنى عودتها... أنتظر عودتها... لم يبق لي سواها معبراً إلى ما هو حولي.
-هل كنت تحبين أباك كثيراً؟.
-..........(1/23)
-هل تعانين من عقدة أليكترا؟.
تمنيت لو صفعته... هذا المجنون لماذا جئت إليه... يبدو بعيداً... غريباً... الأحبة رحلوا، لا وجه مضيء يسكن قلبي... وحيدة أنا ضائعة أنا...
العينان اللتان تخزنان الحب... البسمة المضيئة وسط أحلك الظروف... الصوت الواثق المطمئن، السفلة يملؤون العالم وأبي يموت... حكمة؟.... حياتي مملوءة بالحكم لماذا لا يفسرها الرب إن كنا نفهمها، ولماذا يطرحها علينا إن كنا لا نفهمها.
ماتت أمي... قالوا حكمة... قلت حكمة غبية أرفضها.
ليتني أستطيع أن أبكي... ليتني أستطيع أن أفعل أي شيء.
-أنت على وشك الانفجار، يجب أن تتقبلي موته، كلنا سنموت
أنتظر معجزة... أنتظر كارثة... أنتظر شيئاً... لا أنتظر شيئاً.
غارق في دخان سيجارته، صمته يميتني، وكلامه يقتلني، أريد الرحيل.
"-لا توجد طائرة إلا في الغد".
لماذا أتيت؟ شقة العازب لا تدخل... لا أخشى عليك، إنني أثق بك... الإيمان... الأخلاق... الموت... علاء... السفر... فنجان القهوة... يا عالمي المجنون... سأجن.
-اقرأ لي قصيدة لك.
وبدأ مطلعاً فظيعاً فصرخت:
-هذا ليس شعراً، هذا هذيان.
-بقي العالم مليون عامٍ حتى اكتشف ما حوله.
-أتظن نفسك نبي هذا العصر.
الكلمات تتسرب إلى ذهني... تركض... تضحك... تنفجر مقهقهة.. ليته يصمت.
الوجه الحبيب، الجسد الملفوف بالكفن... حفرة تردم وينتهي كل شيء... امتلأت عيناي بالدموع... انحدرت.
وصل إلي صوته:
-تعالي لأريك مكتبتي.
تبعته دون وعي... أريد أن أتحرك... أن أصرخ... أن أمنع نفسي من البكاء... من باب الغرفة لمحت سريراً... تراجعت إلى الوراء.
-لا أريد أن أرى شيئاً.
شعرت بيده تلف خصري، التفت إليه مجفلة، ابتسم:
-اشتقت إليك، من زمن لم أرك.
-أرجوك لا تلمسني.
أخذني إلى صدره فشعرت بالعزاء... انساحت دموعي، كدت أقول له:
-أحبك يا علاء.
فجأة شعرت بيدين مسعورتين راحتا تضغطاني، تسحقاني، وفم ملتهب يطوف على وجهي، جنون وقسوة تلفني.(1/24)
-اتركني أرجوك.
ازداد ضغطاً.
-اتركني، سأختنق.
في شفتي انغرست مسامير نار أحرقت وجهي وفي أذني تهدج صوته:
-أشتهيك.
أبعدته وبكل حزني صرخت:
-سافل، أكرهك وأحتقرك.
ركضت إلى الباب، استقبلني الطريق بإسفلته الملتهب، كنت أركض ودموعي تتراكض على خدي وقلبي ينتفض في صدري.
"أيتها المدينة كم أكرهك بسمائك الرمادية الغبية وأناسك السفلة".
قضيت أسوأ ليلة في حياتي... في الصباح كانت الطائرة تحلق بي، عندما تأملت المدينة الغارقة في الضياء شعرت بشيء موجع يتحرك في قلبي... لقد زرعت في جنباتها أربع سنوات من عمري، وتخيلت نفسي لاهثة على أرصفتها يتقاذفني المطر ولفح الشمس وتتوارد إلى ذهني الجامعة بقاعاتها ومقاصفها... والرفاق بودهم وبجفائهم... أيامي المشحونة بالانفعالات وأيامي الخاوية.
"سامح" بعينيه العميقتين، و "علاء" بعينيه اللامعتين... لحظة مشرقة... ولحظة يائسة.
-حاقدة عليه، لن أغفر له.
-في حياتنا لا متسع للأحقاد.
وأعفو... وتبتعد المدينة... وأكتشف أنني أحببتها، لقد أصبحت جزءاً من قلبي... وأقطع صحاري وبحاراً... وتلوح لي مدينتي وأتخيل نفسي طفلة تقف على تلالها مع أعز إنسان يقول:
-فقرنا أسود، بيوتها كهوف، والطريق طويلة.
وفي القلب ينتفض شعاع نور يخترق الظلمة فأصرخ:
-أريد أن أراك ولو مرة واحدة.
ويلوح لي الوجه الذي أحببته فوق ما يحمل القلب من حب وأسمع صوته من وراء الغيب يقول:
-ستريني في وجهك وفي وجوه إخوتك، وفي المدينة عندما تضحك بيوتها للشمس.
((
مواسم الضحك
قرع الجرس قبل ربع ساعة من موعد الانصراف ليبدأ الاجتماع، وفرحت سأوفر على نفسي بعض الكلام، خمس حصص قد استهلكتني.(1/25)
دخلت القاعة وقد تصدرتها خارطة الوطن العربي الكبير، وتوافد المدرسون والمدرسات، وكالعادة قام الحاجز بينهما وارتفعت الضحكات التي تنطلق لمجرد تغيير الجو، تفتت الجمع بأحاديث ثنائية يتهامس بها كل جارين، وتقلصت الثنائية إلى فردية، وزحف الملل إليّ حتى قبل أن يدخل المدير، لكن فراشة زاهية تسللت إلى المكان يقولون: إن الفراشة فألُ خير.
رحت أرقب الجناح الزاهي وهو يطوف أرجاء الغرفة.
انتبهت على قرع المنضدة إيذاناً بالبدء، واستجمعت قدرتي على التركيز، بتواضع ابتسم المدير وحيّانا وبقي ربع ساعة وهو يقنعنا بأننا زملاء وأنه لا يشعر بأي استعلاء علينا، وبعد أن خيل إليه بأن الرهبة زايلتنا أحس بالرضى.
حدقت فيه بالزملاء، بالقاعة، ....،....، في العام الماضي في المكان نفسه الوجوه نفسها كان هناك اجتماع.
سنة مرت، انسلخت، هل شعرت بها؟ هل عشتها؟ أعلى هذا المنوال ستثبت حياتي، من البيت إلى المدرسة، النادي، البحر، الصديقات.
وتكر السنون، عشر سنوات، عشرون، نكتهل... نمضي... ننتهي...
هل أستطيع الاحتمال؟...
أتيت وكنت رغبة وحماسة، أريد أن أحل في الأذهان أحرقت نفسي لأدخل قبساً في قلوب متعطشة.
كل جديد وله حلاوته ثم يصبح واقعاً، يضغطنا يسحقنا ولا نستطيع زحزحته.
أحببت طالباتي، أحببت زملائي، أحببت مديري، الحياة عطاء تفاعل، تغيير...
تغيرت كثيراً... أكره الجميع. احتقر الجميع، ولا أشعر أنني ظلمت أحداً باحتقاري.
مديرنا العظيم ماذا يريد أن يقول لنا؟.
يتنحنح، يخرج كلماته بهدوء، ضحكته المواربة يحاول أن يظهر بها بمظهر الإنسان العميق، ماذا يريد منا؟ لماذا يجمعنا في كل مناسبة، هل سيستعرض أمامنا موهبته الإدارية؟ أم أنه سيطلب إلينا أن نثقف أنفسنا لنصل إلى مستواه.
ويسحب من سيجارته نفساً عميقاً كأن هموم العرب تثقل كاهله، لقد فتح فمه كم هو معجب بصوته، تذكرته وقد دخل مرة إلى صفي، ارتبكت الفتاة وهي تقرأ نصاً، فقال بتواضعه الجم:(1/26)
-ابنتي ما هكذا يقرأ الشعر، أعطه شيئاً من ذاتك.
وبصوت حنون راح يقرأ، ولعلع صوته في الغرفة... وصل إلى مسمعه فانتشى، وبان التأثر في وجهه. يا مديرنا المسكين حتى أنت تبحث عن البديل! والآن ستجرب علينا صوتك مرة أخرى، ماذا تملك؟ إننا مكلفون بالإصغاء... مجبرون.
-نشكر جهودكم يا زملاء، لقد كانت نتائج العام الماضي مشرفة، كانت نسبة النجاح في مدرستنا أعلى نسبة بين المدارس.
النرجسي المجنون هل يضحك على نفسه أم علينا؟ هل يصدق حرفاً مما يقول، عندما يوجد الإنسان المتواضع سأركع أمامه واعتبره نبياً.
اختنق صوتي وأنا أشرح مات قلبي وأنا أعطي ولكن النتائج كانت تثير الجنون.
عندما يوجد العطاء لا يوجد من يتقبله، وعندما يوجد من يتقبل لا يكون هناك عطاء مصادفة؟ سوء توقيت؟. ماذا؟.
لا أؤمن بالمصادفة هناك خطأ ولكن أين هو؟.
وهدر الصوت:
-اتحاد الطلبة...، الخروج من الحصص... توزيع المنهاج...
العلامات... التوقيع...
هل هناك من يتابع هذا السيل من الكلام؟.
الفراشة أين أضعتها؟ وبحثت عنها كانت تقف على حافّة الكأس أمام المدير ثم ارتفعت إلى خارطة الوطن العربي وأخذت تنتقل بين أرجائه، ترى أي بشرى تحمل له؟.
تأملت مضيق باب المندب سقطرى أين هي؟ لم أسمع بها لو لا أن إسرائيل تريدها لئلا يستخدمها الفدائيون قاعدة بحرية.
ماذا نفعل لأجلها؟ هل نعطل؟ هل سنقوم بمسيرة؟ نستنكر الأمر ببرقية؟... ثم نذهب إلى البحر ما أمتع هذا؟ من يريد جزيرة أيضاً؟.
لدينا الكثير، كم جزيرة ستنبت في بحارنا وكم من متع سوف نجني.(1/27)
استحالت الفراشة مركبة فضائية حطت في جزيرتنا العربية... وتوافد أخوتنا السماويون يعمرون الأرض يغمرونها فرحاً، نحن لا نعرف الفرح والأرض تريده، ليأت القادر على العطاء لا فرق بيننا إننا أبناء كون واحد، تباركت يا أرض الله، تباركتم يا أخوتنا في الكون، من قال إننا لا نرحب بكم؟ نحن لا نحمل تعصباً، نعطيكم وعداً مسبقاً بأننا سنؤمن بكل العقائد التي لم تولد بعد، انتظروا قليلاً لنألف وجودكم بيننا، أنكون ملكيين أكثر من الملكيين أنفسهم؟.
أنكون ثوريين أم نكون قانعين؟ الحد الأعلى أم الحد الأدنى؟.
من يريد أرضاً؟... جزيرة...؟ بحراً؟...
... هاجرت الفراشة إلى البحر، وصلتني نسماتُه عذبة ساحرة، شمس الخريف تغري بنزهة في القارب، الشمس تغوص وراء الأفق، وشعرت بالغصة تملأ حلقي. اليوم الذي مضى لا يعود.
كانت السماء تندف ثلجاً ناعماً، فئة قليلة تلك التي تسلقت الجبل بذلت جهداً خارقاً ولكن القمة كانت تغريني، عندما وصلتها انطرحت على الأرض لاهثة كان قلبي يخفق بعنف شعرت أن للأرض قلباً دافئاً ينبض أيضاً.
أحسست باتحادي العميق مع الأرض، إنني جزء حي من هذا العالم، إنني ألتصق بالأشياء أحسها، حتى لو قذفت في الفضاء وتمزقت أشلاء سأحس اندماجاً مع الوجود، الأشجار تخفق في قلبي والندى يغسل دمي، وبكيت تأثراً.
وصل الرفاق وبدأنا نتقاذف الكرات الثلجية، نضحك من أعماقنا... نتراكض... أسرعنا إلى الأستاذ نريد ضربه، رمقنا بابتسامة وقور فارتدت أيدينا.
سنذهب رحلات مع طلابنا، سيحاولون ضربنا، وسنردهم بابتسامة رصينة. الحياة قاسية؟ أم حلوة؟....
إن أبطأت تسئمنا، وإن أسرعت تجرحنا، أصحيح أنني عشت هذا العمر؟ لكأنه عمر إنسان غيري.
واندفعت أغنية كالصاروخ من النافذة المجاورة؟
الحب يتدفق والنجوم تتلألأ والأشواق تنسكب والوفاء والعتاب(1/28)
لماذا يكذبون؟ من الذي يتجرأ على الحب لترجمه الألسنة والحجارة من يتجرأ على قول الحق؟... تهاوت الحجارة... ماذا سيحدث لو نشرنا ما في نفوسنا... سفلة منافقون
الحياة معادلة تافهة ولكن يجب أن نتوازن لنستطيع السير، إلى أين؟.
إلى ميسلون أم إلى القدس؟.
الألم دون مقابل، الصبر دون أمل، لا خصب ولا عطاء، الموسم يهلك قبل أن ينضج، ليتنا خلقنا أرواحاً تحتمل لا تتألم لا تأكل.
يا لحماقتي، لا نأكل؟ أية مأساة ستكون حياتي بدون طعام، الطعام يا سلوتي في عالم لا سلوى فيه، يا بديل كل ما طمحت إليه وكل ما أحببته، يا لحظة التناولِ المقدسة أية كآبة هي الحياة بدونِك؟.
لا أحد يأخذ علينا هذه المتعة لا أحد يتشكك في شرعيتها.
وعادت الفراشة تتجول في فضاء الغرفة، لماذا لا تهرب بجلدها؟ أعيرينني جناحيك لأهجر هذا العالم.
راحت تدور، تناسقت حركاتها في انسجام رائع مع اللحن، ثم استحالت الفراشة راقصة تتثنى بخفة ودلال، تنتقل برشاقة وبراعة، الجميع يصفقون يرقبون الحركات بشغف، الأكف تلتهب تطلب إليها رقصة أخرى.
اشتد الحماس، الجميع ربطوا خصورهم، راحوا يتلوون، ضحكوا بكوا، تداعوا على الكراسي لم يبق إلا الفراشة.
وانطلق نهيق حمار أجفل الراقصة فأعادها فراشة جزعة، وعادت إلى كأس الماء حوّمت فوقه ثم سقطت، يجب أن تنتحري حرقاً أو غرقاً، تملكين الشجاعة لتتعجلي النهاية أحسدك.
واختار حذائي هذه اللحظةَ بالذات ليضغط على قدمي،
-الدراسة يجب أن تقترب بالتطبيق العملي... زيارة الآثار ضرورية.
أتمنى زيارة لآثار العالم كلها، ولكن حتى الآن لم أزر آثار مدينتي، تذكرت أن الرومان كانوا يعيشون في بلدنا، قلعتهم لا تزال رابضة في منتصف المدينة وقد امتلأت بملايين الخفافيش والثعابين.(1/29)
أين ذهب الرومان؟. ربما حلت أرواحهم في الخفافيش، وتناهى إلى سمعي الحفيف الكريه لملايين الأجنحة تخيلتها تتجمع من كل أقطار الأرض، تنبثق من كل الدهاليز تنبع من صنابير الماء، تهاجمنا أسراباً، تحتل بيوتنا... تنقر عيونَنا... نتناثر جثثاً. والدناصيرُ، والأشجارُ المتفحمةُ كلهم سينهضون؟ أنستطيع الصمود؟.
راح حذائي يؤلمني بشدة، المدير ما زال يتكلم، رق صوته قليلاً.
-ما هي اقتراحاتكم؟.
يسألون عن اقتراحاتنا، فاجأني الضحك، لماذا لا تتنزل علينا اقتراحاتنا كما يتنزل كل شيء؟.
-زملائي: نوقف الاقتراحات ولنذكر أن واجبنا الأول هو بناء جيل عربي
جيل! ضحكت، تصورت أن أساتذتنا قد أخذوا على عاتقهم بناء جيل عربي واع لقضاياه، تصورت أنني أنا من هذا الجيل، الجيل الذي لا يعمل إلا بإرادته.
"إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون" نظرت إلى مدرستي بتحد لن يكون إلا ما أريد، لماذا يوهنون عزيمتنا؟.
الأرض صلبت والآمال ابتسمت والشمس سطعت.
كانت المدينة بحراً يموج، يمده زخم هائل من البشر، الوجوه مشرقة، الفرح يتلألأ في العيون.
تدفقي يا أرض اللهب... وأشرقي يا دولة العرب...
وحدةُ العرب لن تموت...
وإني أتحداك باسمها يا فناء... يا فناء.
وإليها أسرع الفناء، سكت الناس، ماتت الآمال.
وستبقى هذه الجمهورية عوناً لكل أمل عربي... ولكل فجر عربي... ويغص الصوت.
صمت الصوت، وغاب الوجه، وأجهشنا بالبكاء.
تتجمع الدموع في العينين، أغيبها بابتسامة، الحزن هو الحقيقة والابتسامة قناع، ننزع الأقنعة يهلكنا الحزن.
جيلنا يا سيدي إما خائب وإما لص أو مهرج، جيلنا انطفأ، سحقت روحه، لكنه يبتسم، تتسع ابتسامتي تنفجر ضحكة... أضحك... أضحك.. أضحك ماذا لو مت من الضحك، كنت أناقش أتحمس، أتأثر أبكي، تساقطت دموعي ضحكاً، سأموت من الضحك.
البعض يموت حزناً والآخر حباً، وأنا ضحكاً، لم يقتلوا روح الإبداع فينا، ما زلنا قادرين على العطاء.
((
السماء والرماد(1/30)
أسرع ... أسرع، ساقاي تتخشبان، قلبي يكاد يتوقف، يجب أن أصل قبل أن يرتفع الضباب.
هذه الرؤيا ليتها تتكرر ثانية ... الحديقة الساحرة محفورة في قلبي، أحملها وشماً رائعاً ... النخلات السامقة بفروعها المتدلية، المدرجات السندسية بخضرتها النضرة، والمقاعد الخشبية التي حال طلاؤها فأعطاها القِدم لوناً مميزاً والنهر الرقيق ينساب بهدوء، والضباب أزرق ساحر ينبع من الأرض يغلف سوق النخل، يوشح الحديقة بهالة قدسية وجمال.
هزني المنظر، شَعرت وكأن تياراً يسري منه إلي، ذابت قوقعتي، تكسرت، احتويته بعيني وقلبي وحواسي، اجتاحني التأثر، كدت أبكي، تمنيت أن أصلي.
في كل يوم أركض لأرى الحديقة، لكن الشمس تسبقني، الندى يجف والضباب الأزرق يتبدد والأيام رمادية كئيبة.
لماذا آمل وفي كل يوم أخيب، ليت الرؤيا تعود ولو مرة واحدة لأوقن أن ما رأيته كان حقيقة.
الباصات اللاهثة، الركاب المزدحمون، المقهى العجوز والموظفون المسرعون يتبادلون تحية الصباح على الأرصفة وكأن العصا تقرعهم.
الشوارع أنهار تسيل بالناس، إعلانات السينما، صفارة الشرطي، وهذا المغرور الذي يلاحقني بسيارته.
هذا هو عالمي اليومي، أما الرؤيا فتخادع، تغيب وكأنها لم تكن.
لماذا تختفي من حياتنا الأشياء الجميلة؟... لماذا اختفى؟ لماذا انتهت القصة؟..
قال:
ـ أنت مراهقة أمامك الكثير حتى تصبحي ناضجة.
وقلت:
ـ أنت تافه.
أسرع والسيارة تسير الهوينى، عيناه تخترقانني، ابتسامته الوقحة تجرحني.
"كان وسيماً رائع السمرة، عيناه كهفان عميقان مسحوران، هذا المغرور يشبههه، الرأس المعتد، الفودان الأبيضان، القامة الطويلة، شهقت عندما سكنوا الشقة المقابلة لنا ظننته هو ثم اكتشفت أنه يشبههه فقط".
يبدو أنه زوج سعيد، أراه في الأصائل على شرفتهم يحادث زوجته، يحتسيان القهوة، ابنتهما في العاشرة تقفز حولهما، وابنهما في الشرفة الثانية يغازل ابنة الجيران.(1/31)
تعرفت على زوجته عند الحلاق، كانت حاملاً أعطيتها دوري، شكرتني برقة آسرة ودعتني لزيارتها:
ـ سيدتي أنت رقيقة وزوجة محبة ولكن زوجك سافل.
"كنت أحبه أتمنى أن يكون لنا بيت جميل صغير كبيتكم، حلمت بغرفه وأثاثه وأركانه، لكن البيت تقوض، ومن أحببته ذهب، وزوجك يلاحقني ينتظرني في الشرفة حتى أنزل من البيت، ويبدأ بمطاردتي، من الثامنة إلا ربعاً حتى أصل عملي، قلت لعل طريقنا إلى العمل واحدة، غيرت مواعيد خروجي، لكن لم أفلت، بدلت طريقي، عرفه، أصبحت المطاردة جزءاً من هذا الجحيم اليومي، "تعالي أوصلك إلى دائرتك".
أشحت بوجهي، حزينة، بائسة أنا، مقطوعة الصلات بالأشياء، لا أنتظر شيئاً، لا أتمنى شيئاً، لا شيء يستقطب اهتمامي.
حتى الكلام فقدت نعمته، الصمت نعمة النعم، أما الاستماع فقد أصبح مصدر خجل لي، الكلمات تستحيل أحرفاً مقلوبة هازلة، فتفجر في ضحكات بلهاء.
هذه بداية الدمار، أمامي الجنون أو الانتحار، أخاف الظلمة والديدان، ولاح لي الجنون شراعاً أخضر في بحر الرماد.
مشاعر جديدة، وخيال متوثب ـ تجربة، تغيير للوجوه اليومية.
"كنت أحبه لكنه تزوج أصبح له صبي، منذ أيام رآني، سلم علي فبكيت، سألتني زميلتي: لماذا لم تقبليه، عندما أراد أن يخطبك.
قلت لها:
ـ إنه لا يعجبني إنني أحبه فقط".
الحب والإعجاب والاحترام، هذه السخافات فقدت معناها، أحلم برحلة هرب، سآخذ سيارة وأذهب إلى الغوطة.
أجلس تحت الشجر أتمرغ على العشب وأرى المدينة منبسطة تحت الجبل أطير إلى القمة، أبحث عن مغارة أختبئ بها ثم أعاود الطيران، أحلق في الآفاق البعيدة.
ـ لماذا لا تصعدين، أوصلك إلى عملك فقط.
تمنيت لو صفعته على وجهه، ابتسم، مد يده بوردة.
ـ خذيها قطفتها من أجلك.
رأيت زوجته وهي تلوح لي من الشرفة وعلى رأسها وردة مماثلة، ربما كان هو الذي قطفها ورشقها في شعرها. أيها المنافق.
أسرعت، وأسرعت، الإخلاص في العمل.... التقيد بالدوام... كل يناضل من موقعه.(1/32)
المكتب السخيف شوقي إليه لا يقاوم، الخزانة والسجلات، وجوه المراجعين باص الساعة الثانية، قد أموت لغرامي بها.
أريد أن أهرب إلى الجحيم، سآخذ إجازة وأسافر.... سأهرب.
لم أعد أستطيع السير، شلت أعصاب ساقي، تمنيت أن أبكي بصوت مرتفع، مقهورة حتى الموت.
باب السيارة مفتوح، خطوة سأكون بداخلها، أغمضت عينيّ سأهرب.... سأسافر..... انتهت إجازتي.
سيعتبرونها إجازة بلا راتب ليعتبروها إجازة مرضية ليعتبروها إجازة شيطانية، أليس للشيطان علينا حق؟. البساتين وندى الصباح وسقسقة الجداول ورعشة الأشجار والأرض النضرة سيقول لي إنه أحبني منذ أول مرة رآني فيها وأن في حياته فراغاً، إنه ضائع يتمنى قلباً يلجأ إليه، زوجته لا تفهمه، أولاده لم يعودوا بحاجة إليه، وأنا الفتاة التي ستفهمه.
ضحكت ألا يعرف أنني غير قادرة على الفهم، تبلدت، تجمدت، انتهيت... أيها السافل رأيتك مع زوجك البارحة، ضوء الطريق خافت، يدك في يدها، وأنتما تتحدثان ضاحكين وأنا جالسة وحيدة، لم أقل للإنسان الذي أحببته لقد أحببتك. الحياء والوقاحة، الفضيلة والرذيلة، ما الحدود بينهما؟
العوالم تتداخل، الحواجز تشف، ما كنا ننكره بالأمس أصبحنا نُقرّه اليوم، ضياع الإيمان سبب الفساد؟... الضياع سبب المأساة.
خطوة وسيكون اليوم مميزاً، الأشجار، والطريق والندى، والسيارة تختلط برأسي، أتحرك بدون دافع، أنحني، يبتسم، أستجمع يأسي وبشماتة ساخرة أسأله:
ـ تكسي..؟
نظر إليّ بعينين مذهولتين، أغلق الباب وانطلق.
تذكرت الرسول(ص) وهو يوصي بالجار، تذكرت حباً مضى وأياماً شاحبة، ولحظة إشراق ولدتها حديقة ضبابية، ركضت لأراها، وصلت إلى مشارفها ولكن سبقتني الشمس وارتفع الضباب، وعادت الأيام رمادية.
((
السؤال
خيول جامحة ترمح في عروقي، حوافرها تدق قلبي، دوي الدم في رأسي وجسدي أحس به حاراً ينبثق من مساماتي.(1/33)
عاصفة تلفني تدور بي في سماء الخوف تلقيني في شوك القلق فأحس لذعه في جسدي... واقفة إلى جانبه ذاهلة.... شفتاي تتحركان لا أعرف ماذا أقول.
ـ صلاح يجب أن ننصرف بسرعة.
نظر إلي مستغرباً.
ـ الحفل في أوله، لدينا وقت طويل قبل أن نفكر بالانصراف.
لماذا أتيت؟ لو أنني ادعيت المرض واعتذرت عن الحضور لما حدث ما حدث.
ما كان يجب أن أتركهما وحيدين في البيت، من يدري أية رغبات تضج في جسديهما. لا تتركي النار قرب البنزين وأنا قد تركتها.
إنهما في سن الاشتعال فماذا يفعلان الآن؟...
مؤكد أنهما... لا.... أنا أعرف "سلافة"... وأنا التي ربيت "عمار" مستحيل... إنهما فوق الشكوك...
برد أمان ينزل على قلبي... تكاد النار تخمد... لكن شرارها ما يلبث أن يشتعل....
بين الاشتعال والانطفاء أتقلب فأحس بأنني متعبة وأنني غير قادرة على الاستمرار في الدور الذي أقوم به:
ـ صلاح بوسعك أن تبقى وسأنصرف.
سألني عاتباً:
ـ ماذا حدث يا سلمى؟...
أأقول له إن النار تحرقني؟ أأقول إن الخوف يتآكلني؟...
لا أدري متى انتهى الحفل... ركضت إلى السيارة ركضاً... لحق بي صلاح...
نظر إلي بعمق وقال:
ـ يجب أن تتخلصي من هذه الأوهام.
لا رغبة لي في الإجابة، كل ما أتمناه أن أصل إلى البيت وأرى سلافة.
من الشارع، رأيت الصالون مضاء، إذن مازالا ساهرين، ولكن ما أدراني ما الذي حدث في غيابنا؟....
اضغط زر المصعد... ما أغباه هذا البطيء التافه... متى يصل؟...
يأتي صلاح، أقفز إلى المصعد قفزاً، هل مضى دهر قبل أن يصل إلى الطابق السابع؟....
أِفتح حقيبتي... أبحث عن المفتاح، تتوه يدي ولا تهتدي إليه، من الداخل أسمع نقاشاً وصوت سلافة يختنق بالبكاء... إذن لقد حدث ماكنت أخشاه...
يمد صلاح يده بالمفتاح، يفتح الباب.... أراها جالسة محمرة العينين وأراه جالساً مقابلها ساكناً... شارد النظرات.
يدق قلبي بعنف... بعنف لقد وقعت المصيبة.
ـ ماذا حدث لماذا تبكين؟(1/34)
ـ كنا نشاهد برنامجاً تلفزيونياً عن الانتفاضة.
قال صلاح:
ـ ولكن زمناً طويلاً قد مر على بدء الانتفاضة ما الجديد الذي أثاركما اليوم؟
قالت سلافة:
ـ رأينا الآن أربعة جنود صهاينة يطاردون شابين فلسطينيين... أمسكوهما وراحوا بالحجارة يكسرون أيديهما وأرجلهما.... صرخاتهما الموجوعة ما تزال ترن في أذني.
قال عمار:
ـ البارحة قرأت أنهما هاجموا جنازة أحد الشهداء، انهالوا على المشيعين ضرباً، أوقعوا الشهيد على الأرض وراحوا يدوسون عليه....
برقت عينا سلافة وقالت:
ـ ما أمر الظلم!... كيف نثبت للعالم أننا أصحاب حق؟...
"أستعيد وجه أحمد وهو يشتعل انفعالاً:
ـ كيف نثبت للعالم أن الشمس تطلع من الشرق؟".
قال صلاح:
ـ يا صغيرتي منذ الأزل والعالم غارق في الظلم، لا يكاد ينهض من كبوة حتى يقع في كبوة.
قالت سلافة:
ـ.... يا عمي إنهم أطفال.... أشعر بالخجل، وأنا أنظر إليهم، ولا أستطيع أن أقدم لهم شيئاً.
قال صلاح:
ـ كل بلد يريد أن يتحرر لابد أن يدفع الضريبة.
قالت سلافة:
ـ وإذا كانت الضريبة أكبر من أن يتحملها بلد واحد؟...
قال صلاح وهو ينسحب:
ـ سيكون أمامنا وقت طويل لنتناقش.
دخلت وصلاح غرفة النوم وهما لا يزالان ساهرين...
يغرق صلاح في النوم، وعبثاً أحاول أن أنام.
لم تره... لم تسمع صوته.... ولكن ما رأيتها إلا رأيت ائتلاق عينيه وما سمعتها إلا سمعت صوته.
ست عشرة سنة ما أسرعها، البارحة كانت سلافة طفلة، والآن هي صبية أخاف عليها الوقوع بالخطيئة فتواجهني بهذا الوعي المتفتح.
أغمض عيني أسترجع الحلم يوماً بيوم... لحظة بلحظة...
أضواء وزغاريد... زهور... صديقات... أقارب.... أمي وأخوتي يحيطون بي وأنا جالسة إلى جواره.
يهمس لي:
ـ أما زالت أمك غير راضية عن زواجنا؟
أقول له ضاحكة:
ـ اسكت قد تسمعنا وتغير موافقتها.
أربع سنوات من الحب والشوق والمكالمات المسروقة واللقاءات الخائفة...
رفض من أهلي وإصرار منا، قال لي:(1/35)
ـ سأتزوجك رغماً عن العالم كله.
ماكان أروعه حبيباً وخطيباً وزوجاً... هل كان رجلاً أم طيفاً... أقول له:
ـ أنا حامل.
يطير من الفرح يقول:
ـ ليس لي إلا أخ واحد لذلك سنملأ البيت أولاداً.
يودعني يتأملني ونظرة حب تملأ عينيه، يقول:
ـ لن يستغرق الاستنفار أكثر من يومين.
كنت قد اعتدت الاستنفار ومبيت أحمد في الثكنة فهل كان لوداعه في ذلك اليوم طعماً آخر أما أنا التي أسقطت عليه بعد ذلك ما حدث؟
ضمني إليه، قال وهو يبتسم:
ـ لا تقلقي سأعود.
وقفت في الباب أنظر إليه، وهو يهبط الدرج، قبل أن يغيب نظر إلي هذه النظرة الطويلة...
أذهب إلى المدرسة في دوام مابعد الظهر أكتب على السبورة تاريخ اليوم كان "السادس من تشرين 1973".
في الساعة الثانية دق جرس طويل وقيل لنا: "اصرفوا الطالبات لقد بدأت الحرب".
أحس بالزهو أحمد مع طيارينا وسيعود إلي مرفوع الهامة... وعاد إلي... مكفناً بالعلم.
تحدثوا كثيراً عن بطولته، ولكنني كنت أحس بأنني لا أعي ما يقولون، وأنهم يتحدثون عن إنسان آخر أما أحمد فلابد أن يعود...
يدخل البيت بقامته الشامخة بوجهه الحلو... بابتسامته الرائعة.... بحبه الغامر... بكيت كما لم أبكِ في حياتي... أدمنت البكاء.
وأنا ألد سلافة رأيته ينحني على سريري، أحسست به يمسك يدي، سمعت صوته يقول:
ـ إن كان صبياً نسميه "خالد" وإن كانت بنتاً نسميها "سلافة".
جاءت سلافة، أصبحت كل شيء في حياتي، هي الماضي وهي المستقبل...
حبي لسلافة لم يكن حب أم لطفلتها، ولكن ذوبان في ماض ما حمل لي إلا الحب، والوفاء لإنسان لم تداخلني لحظة حزن معه.
كيف أنساه بسنيَه السبع والعشرين، بشبابه الرائع، بحماسه المتدفق... عروسان لم يمضِ على زواجهما أشهر وبلحظة يخطف مني؟!...
أراه في عينيها في ضحكتها، أجاهد لئلا أرى نظرة تحمل حزنها، أخاف عليها، أرعاها زهرة حب غالية.(1/36)
سلافة في سنتها الأولى تناديني ماما... تدرج إلى حجر أبي تداعب وجهه وتقول: بابا... أضع لها صورة أحمد قرب سريرها أقول:
ـ هذا أبوك يا حبيبتي.
تتأمله تقبل الصورة وأنا أريد للصورة أن تنزرع في قلبها... أحدثها عنه... وسامته... شجاعته أرسمه في ذهنها مثالاً.
تكبر سلافة أقرأ في دفترها:
ـ أحبك يا بابا... فلماذا لا تأتي إلينا؟
ما أمر الحياة بعده... كان الروح وكان الإحساس... كان اللون وكان الضوء... بعده كل شيء فقد معناه.
يتقدم إلي خطاب تقول أمي:
ـ تكفيك خمس سنوات ترمل... نحن لن ندوم لك يا سلمى... يجب أن تفكري بالمستقبل.
وأقول: حياتي منذورة لذكراه ولابنته... أرفض أي منطق وأنتظر شيئاً خارقاً يعيد إلي "أحمد" لنستأنف الحياة معاً.
عشر سنوات وأوقن أنه لن يعود... جاء "صلاح" وكان السؤال المحير: هل أستطيع أن أتقبل رجلاً غير "أحمد"؟...
قال صلاح بصوته العميق الهادئ:
ـ ظروفنا متشابهة كلانا فقد شريكه من الممكن أن نكون عائلة.
ثم أردف:
ـ منذ زمن وأنا أسمع عنك، أسرني وفاؤك وتفانيك في رعاية الصغيرة، أتمنى أن تكوني زوجتي وأماً لابني. أسترجع صوت "أحمد" والغضب يتوهج في عينيه والتحدي ينطلق من صوته.
ـ أهلك لا يستطيعون الوقوف في وجهنا. سأتزوجك رغماً عن العالم كله.
أقول لصديقتي:
ـ ما أبعد الفرق بين الرجلين!..
تقول:
ـ لا تنسي قالها أحمد وهو في الخامسة والعشرين، أما صلاح فإنه في الأربعين لكل سن منطقه فلا تلتفتي للوراء.
صلاح في الأربعين وأنا؟... أصبحت في الثانية والثلاثين... أقوم إلى المرآة... أرى شعرات بيضاء تطل من خصلاتي... أتحسس تجاعيد خفيفة راحت تزحف إلى وجهي.
ـ ماذا تريدين أكثر؟ السن المناسب، المركز المرموق، الدخل الكبير، غداً تصبح "سلافة" صبية، أنتما بحاجة إلى رجل يرعاكما.(1/37)
تزوجت "صلاح" وجئت إلى باريس حيث عمله، استطاع بصبر وأناة أن يكسب إعجابي ومودتي وأن يكسب "سلافة" فيصبحان صديقين: أما "عمار" فقد أحببته، أحسست به يفتقد الأمومة فغمرته بها.
ائتلف الصغيران، عاشا منسجمين، ثم جاءت السن الخطرة، سن الاشتعال وأنا لا أستطيع أن أمنع نظرة عين أو نبضة قلب... سلافة في الرابعة عشر وعمار في السادسة عشرة..
أصبحت في حالة توتر دائمة لا أهنأ إلا إذا كنت معهما، أخاف أن أتركهما وحيدين فتقع الكارثة.
قالت أمي:
ـ الأفضل أن ترسليها إلينا لتدرس المرحلة الثانوية في دمشق.
هل اطمأن قلبي؟ كيف له أن يطمئن وهي بعيدة... أذهب إليها أراها ثم أعود...
غابت سنتين ورجعت لزيارتنا صبية رائعة... وعاد إلي القلق وعاودت الحصار... في النهار معي وفي الليل لا أغادر البيت... سهرة الليلة فجرت مخاوفي.
يطلع الصبح علي دون أن أنام... أخرج إلى الشرفة.... أتأمل المدينة التي لا تزال غارقة في النوم.
يا الله... سبع عشرة سنة مرت وما أسرع ما تمر السنون... أشعل سيجارة... أنفث دخانها...
قبله ما عرفتها... بعده أصبحت السيجارة صديقة أيامي.
أحس بحركة ورائي، ألتفت، تقبلني سلافة، تسألني:
ـ متى استيقظت؟
أداري عيني المحمرتين وأقول:
ـ قبلك بقليل.
تقول:
ـ إذن تشربين القهوة معي.
أنظر إليها وهي قادمة تحمل الصينية بيديها:
ـ ماما. لم أستطع النوم، قضيت الليل ساهرة.
تأملتها حانية وقلت:
ـ لم يا سلافة؟
ـ أسئلة كثيرة تواردت على ذهني، لماذا نعيش؟ لماذا نموت؟ ما الذي نفعله بحياتنا؟ هل لحياتنا قيمة؟ هل هناك شيء أغلى من حياتنا نهبه هذه الحياة؟...
ـ ما الذي أثار هذه الأسئلة؟
قالت بصوت عميق:
ـ مشاهد الانتفاضة البارحة.
سكتت ثم استأنفت:
ـ لا أريد أن أفتح جراحك ولكنني أعرف أن حباً كبيراً قد جمع بينك وبين بابا، وأعرف أنك لأجله رفضت الزواج مدة عشر سنوات.... قد أكون واهمة ولكنني أحس بأنك لم تحبي عمي صلاح كما أحببت أبي.(1/38)
حاولت أن أبتسم فخرجت ابتسامة واهنة:
ـ ماذا تريدين أن تقولي يا سلافة؟...
ـ أريد أن أقول ما بقلبي... سامحيني يا ماما، رغم حديثك الرائع عن بابا لم أستطع أن أمنع نفسي من لومه، لماذا مات؟ لماذا تركنا؟ كان شاباً يحبك... يحب الحياة....
صمتت ثم استأنفت:
ـ عشت حياتي مزهوة بأن أبي قد قدم للوطن ما لم يقدمه إنسان ولكن صدقيني أن الحزن لم يفارقني.... أحببتموني كثيراً ولكن لا شيء استطاع أن يعوضني عنه، ولم أستطع أن أنساه.
كم افتقدته وكم تمنيت أن يكون إلى جانبي يضعني على حجره... يمسح على شعري... ينتظرني أمام باب المدرسة يمسك بيده القوية يدي... كنت أريده إنساناً لا صورة وذكريات.
غامت عيناها بالدموع:
ـ ماما أنت لم تقصري أعطيتني فوق ما تستطيعين ولكنني كنت أريده معنا، كنت دائماً أتساءل عندما يواجه الإنسان الموت ألا يكون هناك مجال للاختيار الآخر؟... أن يعيش.... يعود لبيته... لزوجته... للطفل الذي ينتظره... يتمتع... يسعد... وإذا فوت على نفسه هذا الاختيار، وقبل أن يغمض عينيه ألا يحس بالندم؟... سأطلب السماح من بابا لأنني عشت حياتي عاتبة عليه، ولكن البارحة، وأنا أمام التلفزيون أحترق من القهر والعجز، عرفت جواب السؤال الذي حيرني طوال عمري فغفرت له وأحببته أكثر، وعرفت أنني لو خيرت لما اخترت إلا طريقه.
رفعت عيني إلى وجهها المتألق فرأيته في عينيها... عرفت أن الأصالة لا تموت، وأن الكبرياء ما تزال في أعماقنا ولو اجتاحتنا رياح السموم.
((
الانهيار
ندى:
الوجه قد يخفي أما القلب فعنده الجواب ليتنا ننفذ إلى الأعماق ليسكن هذا القلق الذي ينهش الصدر ويحيل الحياة إلى أسئلة موجعة.
أبتسم بمرارة أستعيد صوته "من يسر في النور لا يقع"، كل منا قد مر بتجربة أنضجته، حبنا ليس عبث مراهقة، ولكنه حب مبني على أسس متينة".
عمار... نبيل... جرح من كان أبلغ؟، قصتان خائبتان في خمس سنوات.(1/39)
لماذا يطفو وجه نبيل الآن؟... لماذا يلح؟... أتمنى أن أراه وأصرخ في وجهه: "لقد دمرت حياتي"، أحببت كل شيء فيه حتى فلسفته العابثة.
"حياتنا نعيشها مرة واحدة فلنستمتع بها حتى آخر لحظة فيها".
أحبه ويقول إنه يحبني، معاً في المحاضرة، في المقصف، .... في الشارع... وتطير حولنا الشائعات وتصل إلى أهلي.
سنتان وأنا غارقة في الأحلام، ونبيل غافل لا يشير بكلمة واحدة إلى المستقبل، وعندما ألحت أمي عليَّ لإيجاد شكل رسمي لعلاقتنا، صارحته فانفجر ضاحكاً:
ـ ماذا يا ندى.
ـ إذن ماذا تسمي علاقتنا؟ تسلية؟...
ـ لا... حب.
ـ أي حب هذا؟...
ـ هناك فرق بين الحب والزواج، الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون حب، أما الزواج فمسؤولية يجب أن لا يقدم عليها الإنسان إلا إذا كان واثقاً أن باستطاعته أن يتحملها.
ما زال أمامي ثلاث سنوات للتخرج، ثم ما قيمة الطبيب إذا لم يختص؟ نحن لا نزال طلاباً نأخذ مصروفنا من أهلنا، هل أقول لوالدي:
ـ"أرجو أن تزيد مصروفي أريد أن أتزوج".
ـ أنت لا تحبني يا نبيل، كنت بالنسبة لك الغبية التي رضيت أن تخرج معك، وسمحت للشائعات أن تلوكها.
ـ ألم تكوني سعيدة؟
ـ كنت غبية.
بين الحزن والكبرياء تمضي أيامي... يجب أن أصمد، أكره الضعف في الآخرين فكيف أسمح به لنفسي.
أرسم ابتسامة على وجهي أرفع رأسي، أغرق في دروسي، أجتاز امتحان النصف الأول من السنة بامتياز، علاماتي تفوق علامات نبيل، تلتقي نظراتنا، ارفع رأسي بشموخ، هذا أول الغيث يا نبيل، وسترى من تكون تلك التي تخليت عنها.
بدأت فترة التمرين بالمستشفى، كنت أظن أن الأطباء العاملين سيقدمون لنا كل عون ويجيبون على أسئلتنا ولكنني فوجئت بأنهم يتهربون منا، وكل منهم يحيلنا إلى الآخر... فوضى... عبث.... إهمال، استهانة بأرواح الخلق، وهذا الطبيب الأشقر يقابل أسئلتنا بابتسامة ساخرة.
اسأله:
ـ ألم تكن طبيباً متمرناً؟..
ـ ولكنني كنت أستخدم عيني لا لساني.(1/40)
قلت لزميلاتي: هذا طبيب مغرور، قلن: يحق له ألا ترين وسامته.
تجنبته ولكني كنت أحس بسخريته حتى دون أن أتحدّث معه، كنت على وشك المشاجرة معه، عندما رأيت عمار داخلاً الغرفة بقامته الفارعة وسمرته الداكنة وشاربيه الأسودين.
تدخل لفك النزاع:
ـ لا تغضبي، طلال يحب المزاح.
ـ بل تنقصه روح التعاون، لقد كنتم طلاباً مثلنا بحاجة إلى من يأخذ بيدكم.
ابتسم برصانة ثم أردف ضاحكاً:
ـ سأكون في خدمتك في أي وقت تشائين:
توطدت الصلة بيني وبين عمّار، إليه كنت أتوجه بأسئلتي وكان سعيداً يتولى الإجابة والإرشاد.
اهتمامه لم يعد يخفى عليّ، يستقبلني بلهفة ويحدّثني بود.
ودون شعور مني رحت أقارن... نبيل شعلة حياة وصخب وفوضى، عمار كان الهدوء والاتزان.
ما الذي شدّني إليه؟... انجذاب الضد إلى ضدّه أم الرغبة في إثبات الذات؟..
اهتمامه راح يجذب عواطفي إليه، لهفته عليّ أثارت عواطفي فتوجهت نحوه، فتحت له قلبي، حدّثته عن نفسي وأهلي... كان يصغي إليَّ بسعادة، أصبح يعرف أدقّ جزئيات حياتي.
حتى عندما ترك والدي الوظيفة الحكومية وعمل في إحدى الشركات أخبرته وأذكر تعليقه:
ـ دخلتم يا ندى عالم البرجوازيين، وأصبحت أخاف عليك من التغيير.
بدأت مرحلة جديدة من حياتي قلت: هي مرحلة السعادة، حب عمار كان واضحاً، وتفوقي الدراسي ملحوظاً وأهلي راحوا يعيشون فرحة الغنى الجديد.
استبدلنا بسيارتنا القديمة سيارة جديدة، غيرنا أثاث بيتنا، كثرت أسفار والدي إلى أوروبا وزادت هداياه، وذات يوم فاجأنا بأنه سيصحبنا إلى فرنسا وإسبانيا.
وجه عمار رافقني أيام الرحلة كلها، عدت إلى دمشق فكان أول ما فعلته أن اتصلت بعمار.
وجاء صوته فرحاً:
ـ يجب أن أراك الآن يا ندى، لا تعرفين مدى شوقي إليك.
قال لي:
ـ سأعترف بأنك أعز إنسانة لدي، هذا الشهر الذي غبت فيه عني أشعرني بمدى حبي لك لقد أصبحت جزءاً غالياً من حياتي.
هل تقبلين دعوتي إلى فنجان قهوة في التوليدو؟...(1/41)
في الطريق من المستشفى إلى المقهى كان سعيداً، مرحاً.
ـ أتمنى أن أركض في الشارع كالأطفال.
بدأنا نركض، ثم توقفنا، ضحكنا من أنفسنا.
ـ تصور لو أن أحداً ممن يعرفنا رآنا نركض كالمجانين.
في المقهى الهادئ حدثني عن بلدته الصغيرة، وبيئتها المحافظة، قال بحزم واختصار إنه قرر ترك البيت إثر خلاف مع أهله وجاء ليعيش في دمشق وحيداً.
عمل ودرس وأحب وخاب، وتخرج أدى الخدمة العسكرية، تعاقد مع مركز جراحة القلب لمدة ثلاث سنوات، وبعدها سيذهب إلى فرنسا ليكمل اختصاصه.
ظن أنه يستطيع أن يتابع الرحلة وحيداً ولكنه بحاجة إلى من يشاركه الطريق، وعندما عرفني أحس أنني قد أضأت حياته، وأعطيته السعادة والأمان اللذين يتوق إليهما، فقد وجد في بساطتي وقلبي المفتوح المملوء فرحاً ملاذاً جعل للحياة معنى جميلاً.
والآن وهو يفاتحني بحبه متأكد من أنه يضع ثقته في إنسانة جديرة بالثقة، بعد أن هزته تجارب مضنية مر بها أضافت إلى شكه بالآخرين قاعدة من الواقع لا التخيل...
وفجأة باغتني بالسؤال:
ـ وأنت ألا توجد في حياتك قصة ماضية؟
فوجئت، شعرت أن قلبي قد وثب من موضعه وأن وجهي قد اشتعل، التقت نظراتنا، لابد وأنه قرأ الجواب، لا أستطيع أن أنكر:
ـ كان في حياتي، أما الآن فلا يوجد.
ـ من؟..
ـ زميل، ظننت أنني أحببته ثم اكتشفت أنني مخطئة.
هل رأيت نظرة شك؟.. هل رأيت تصديقاً؟ وسقط بيننا صمت قطعه قائلاً:
ـ ليس هناك شجرة لم تهزها الريح، ما يهمنا هو الحاضر، ولكن لا أحب الاختلاط بالزملاء.
عبرت بيننا سحابة صمت، فضحك يقول:
ـ من أجلك أيضاً لئلا تنشغلي عن دروسك، أريدك أن تتخرجي بأسرع وقت فأنا أريد أن أذهب إلى فرنسا لأختص.
قلت سعيدة:
ـ وأنا يا عمار أعد الاختصاص هدفاً أساسياً في حياتي.
ـ التقت أهدافنا، حددي لي موعداً للقاء أبيك، ولكنني سأصارحك بأنني لا أستطيع أن أوفر لك المستوى المادي الذي تعيشين فيه.
قلت بصدق:(1/42)
ـ لم يكن المال أساس السعادة، لا أريد منك إلا خاتم الخطوبة.
أومضت في وجهه ابتسامة، وقال:
ـ نقية أنت يا ندى، وهذا ما أحببته فيك.
عدت إلى البيت مرحة ثم أحسست بحزن، لو أن هذا اللقاء كان مع نبيل... لو أن نبيل هو الذي قال إنه يحبني ويريد أن يتقدم لوالدي.
أنبت نفسي وأبعدت نبيل عن خاطري، عمار هو من يحبني فلماذا أركض وراء سراب ماض؟...
وافق أهلي عليه ولكن أمي رفضت أن تكون الهدية مجرد خاتم، خاصة أن خطيب ابنة خالتي قد قدم لها في الأسبوع الماضي خاتم سوليتير بمئة ألف ليرة.
انكمش عمار... لمحت استياءً في عينيه، لكن الخطوبة تمت، بدأ يتردد علينا، كان يحاول أن يتحرر من خوفه وحذره.
رغم انشغالي به، حافظت على تفوقي. لم يبق إلا سنة ونصف للتخرج.
قلت لعمار:
ـ لا أريد أن أتخرج بدرجة امتياز، ليس في الصف إلا منافس واحد.
سرحت، قلت وكأنني أسترجع ماضياً:
- من السنة الأولى ونحن نتبادل المواقع، مؤكد أنني سأتفوق عليه، بل يجب أن أتفوق.
أأنا التي أوحيت له بالفكرة أم أن تحرياته كانت قد بدأت قبل أن أنطق هذه العبارة، أحسست بالانزعاج بادياً في وجهه، استأذن في الانصراف على أمل أن نلتقي غداً في مقصف الجامعة.
ذهبت إلى المقصف انتظرته، ولكنه لم يأتِ، قالت لي إحدى زميلاتي إنها رأته جالساً ثم انصرف مسرعاً.
ذهبت إليه .. في المستشفى، نظر إلي بلؤم.
سألته مندهشة:
ـ ماذا حدث؟.
جاءني صوته يرعد:
ـ أنت لا تحبينني، ما زلت تحلمين بهذا الزميل الذي تريدين منافسته، قولي لي عندما تغمضين عينيك بمن تفكرين؟
صرخت في وجهه:
ـ لا أسمح لك أن تهينني بهذا الشكل، لست ربي لتحاسبني، ما بيننا مجرد خطوبة والأفضل أن نفترق.
في اليوم التالي اتصل بي، اعتذر، قال إن فرط حبه لي يجعله دائم الشكوك.
وغفرت له، لكن شيئاً بيننا قد انكسر، نظرته لم تعد كما كانت، داخلها شك واتهام، حتى في لحظات الصفاء كان تعساً معذباً.(1/43)
شيء في أعماقه يتآكل، يجعله على الدوام متحرقاً، أحس عينيه معي في كل مكان، أحس بثقل نظراته، يتبعني حتى قاعة المحاضرة... في الممرات... في المقصف، لم يعد لدي شك بأنه يراقبني، أحياناً أضبطه فيتعلل بأسباب أتظاهر بتصديقها.
أحسست بالتعب، تمنيت هواء جديداً أتنفسه، ووجوهاً غير التي أعرفها، أحس أبي بعذابي، عرض علي أن نقوم برحلة إلى إيطاليا، وبعدها أفكر بهدوء إن كنت سأستمر أم لا.
في إيطاليا نسيت عذابي، وتساءلت هل أنا سعيدة لأنني ابتعدت عن عمار؟.. إذن لماذا لا أنهي العلاقة؟
ولكن عماراً لو كان معي هنا بعيداً عن الجامعة وعن دمشق ألن يتغير؟... لو خرج من جو الشكوك المحموم ألن يستعيد صفاء نفسه؟... ربما كان بحاجة إلى تغيير.... إلى ثقة وعلي أن أعيد الثقة إلى نفسه.
بهذا القرار عدت إلى دمشق، متزنة، قوية، إن رأى أن نكمل الطريق، فسأسير معه، وإن رأى أن نفترق فلقد أخذت شحنة من الراحة تكفيني لمواجهة هذه الأزمة.
استقبلني بفرح، حدثني عن انتظاره وحبه، قلت لقد عاد عمار كما كان... الطيب المحب... لكنه سرعان ما خيب ظنوني، هاهو الغضب يشتعل في نفسه ثانية....
ـ ما الذي تريده أمك من الحديث عن خطيب ابنة أختها؟ أتظنني غبياً لا أفهم... قولي لها كفاها تجريحاً أنا لا أستطيع أن أصبح مثله.
لماذا تتلذذ والدتك بتعذيبي؟ ووالدك لا هم له إلا الحديث عن الدخل في السعودية؟...
أهلك يريدون أن يبعدوك عني، وأنت يا ندى تغيرت، قولي إنك تحبينني بلا بيت ولا سيارة ولا رصيد في البنك، رصيدي هو حبي فلماذا لا تفهمينني؟...
صمت برهة ثم حدق إلي بعمق:
ـ يجب أن نتزوج يا ندى، ليس شرطاً أن تصبحي طبيبة، أحبك لذاتك اتركي الجامعة.
توهجت نظراته:
ـ يجب أن تتركيها، اختاري بيني وبينها.
وراح يهزني من كتفي، أحسست أنني أمام إنسان مجنون، كان أقصى ما أتمناه أن أهرب من أمامه.... خلعت خاتم الخطوبة وانطلقت أجري بكل قوتي.(1/44)
منهكة، مصعوقة، خيل لي أنني أتعامل مع إنسان انبعث من أعماق القرون.
خمسة عشر يوماً، والتفكير يقتلني، ولكن سرعان ما استعدت نفسي، عمار كان غلاً وأنا قد نزعت هذا الغل، يجب أن أكون سعيدة، ولكن لماذا وجهه يطفو في أعماقي؟... يجب أن أغيِّب هذا الوجه؟...
يجب أن أبتعد عن طريقه... الحياة معه شائكة: علي أن أنجو بنفسي قبل أن يدمرني... الحياة حرة طليقة فلماذا أرضى بقيوده؟..
جاءني شاحباً، حزيناً، ومكابراً أيضاً:
ـ لو أنك تحبينني حقيقة لما رفضت هذا الطلب، لو عرفت أن دافعي إليه هو الحب لقبلت، أحلم ببيت صغير هادئ، بزوجة تحبني وترعاني وتعوضني سنين الحرمان كلها، أحلم بأطفال صغار يملؤون حياتي فرحاً وأملاً... لا أريد شيئاً يشغلك عني، لا الدراسة، ولا العمل، عندما أطلب منك أن تعملي فأنا أقدم لك البرهان على حبي، أي رجل ذلك الذي يرضى أن تذهب زوجته إلى العمل؟...
أريدك لي وحدي، أحس بأنهم يسرقونك مني، أهلك وزملاؤك ودراستك، أما أنت فلسوء حظي لا تفهمين هذا الحب التعس، ولكنك تجرين وراء الأضواء البراقة، التفوق... الاختصاص.
كان يتحدث بانفعال... وجهه محمر وعيناه غاضبتان.... شفتاه تختلجان ويداه ترتجفان...
حدقت إليه، من يحمل هذا الحب أيقسو هذه القسوة، وأنا هل أحببته؟...
شعرت بأنني أحبه وأنني قادرة على التخلي عن جامعتي وأهلي ومستعدة للذهاب معه إلى أقاصي الأرض. أحببته، أشفقت عليه من نفسه، كنت أقول له: إن كنت ترى سعادتك في أن أتخلى عن دراستي فأنا مستعدة للتخلي عنها.
ولكن في اللحظة التالية أومض الرفض في ذهني، تعب السنين، سهر الليالي، هل أهجرها من أجل خيال رومانسي يبحث عن حنان قديم مفقود، قد أستطيع أن أعوضه وقد لا أستطيع.
ولمح الحدة في عيني فقال:
ـ لقد رسبت في امتحان الحب، ولكن يبقى أن أحترم رغبتك في متابعة الدراسة فلن أسمح لنفسي أن أحرمك هذه الأمنية، على شرط أن نعقد القران، عندئذ سأحس بالأمان.(1/45)
لماذا ترصدتني المشكلات، أبي يريد مؤخر الصداق خمسمئة ألف وعمار يريده مئة.
قال:
ـ أبوك لا يريد أن نتزوج لذلك يطلب هذا المبلغ.
ـ هذا المبلغ لن يقدم ولن يؤخر، إنني أحبك يا عمار وعندما سنتزوج لا شيء يفرق بيننا.
ـ ولا أهلك؟.
ـ لا أحد، أرجوك اتركني لدراستي.
كلما ازداد تعلقه بي كلما ازدادت شكوكه، يجب أن يكون معي دائماً، وإذا لم يستطع فيجب أن يتأكد أنني لست مع الآخرين، حتى أثناء مناوبته كان علي أن أرابط في البيت لأرد على تلفوناته المتكررة ليتثبت من وجودي.
كنت أتساءل هل هذا حب أم استعباد؟ هل أنا سعيدة أم تعيسة؟ أحياناً أحسه طفلاً سريع الاقتناع وأحياناً أحسه جبل عناد لا يتزحزح.
متألمة من تصرفاته، مشغولة بالدراسة، حالمة بالتفوق.
جاء إلي:
ـ أعرف أنني أتعبك لذلك قررت أن أذهب إلى السعودية، أحقق رغبة أهلك وأريحك.
كنت أعارض فكرة ذهابه إلى العمل في السعودية ولكن عندما عرضها وافقته عليها، سأضمن لأعصابي أن ترتاح سنة، أتخرج فيها وبعد ذلك نسافر إلى فرنسا.
قال:
ـ لا أعرف كيف ستمضي هذه السنة دون أن أراك، لو تعرفين ما الذي تعنيه لي يا ندى، أنت الأم والزوجة والحبيبة والعائلة، أنت العالم كله.
في المطار شد على يدي بقوة، تأملته وهو يصعد درج الطائرة بقامته الطويلة، برأسه الشامخ المتكبر، بنظراته الحزينة، فشعرت بالأسى يعتصر قلبي.
بعد أيام شعرت بالراحة؟، يجب أن اعترف بهذه الحقيقة، أحسست نفسي طليقة، قوية، أقبلت على الدراسة بشوق، زرت الأقارب والصديقات، تسكعت في الطريق.
عادت إلي بهجة افتقدتها زمناً طويلاً.
ولكن في مكان ما كانت صورة عمار الحزينة تعاتبني.
كتبت إليه رسالة حدثته عن دمشق والصديقات والدراسة، جاءني رده واستطعت أن ألمح اليأس في كل كلمة من كلماته، العمل الذي وعد به في جدة ضاع من يده، يعيش في بلدة نائية على حدود اليمن، الجو لا يطاق، الوحدة تقتله.(1/46)
شعرت بأنني مسؤولة عما يعانيه لولاي لكان الآن في فرنسا...
حاولت في رسائلي أن أبث في نفسه التفاؤل، أن أنقل إليه شيئاً من المرح.
وعندما قال والدي إنه سيذهب إلى السعودية في مهمة، طرت من الفرح، وقررت أن أفاجئ عماراً بعزمي على الذهاب إليه وقضاء عطلة الربيع معه.
وجاءتني رسالته صارخة الفرحة.
بدأت أنتظر قدوم العطلة، اشتريت ثياباً جديدة، وهدايا، وعندما تحدد يوم السفر أبرقت إليه أن ينتظرنا
استيقظنا صباح السفر على صراخ والدتي متواصلاً وعندما فحصها الطبيب قال يجب أن تجرى لها عملية الزائدة حالاً وإلا ستنفجر.
نقلناها إلى المستشفى وأجريت لها العملية، ورغم ذلك كنت أفكر بعمار، حاولت أن أتصل به لكن الهاتف معطل، أرسلت له برقية ولكن أملي بوصولها قبل ذهابه إلى جدة كان ضعيفاً.
كنت أراه بعيني خيالي جالساً في المطار يقتله الانتظار، ثم يتحرق غضباً، أسمع شتائمه تنهال على رأسي ورأس أهلي، أرى عينيه الملتهبتين وارتجاف فكه.
أعرف ما الذي تعنيه له هذه الزيارة، وأعرف ما الذي يعنيه إلغاؤها.
وأخيراً قدرَّ لي أن أتصل به، كان صوته جافاً تقطر منه القسوة والمرارة، شرحت له الظروف حاولت أن أقنعه وظننت أنني فعلت، ثم أرسلت له رسالة حاولت أن أهدئ فيها أعصابه وأعده بزيارة مقبلة ولكن رسالته جاءت مفاجأة لي:
"لا تظني أن باستطاعتك أن تخدعيني بكلامك الرقيق، لقد اكتشفت حقيقتك، لست إلا صورة للكذب مع طلاء البراءة".
والدي هو الذي قذفه إلى المنفى ومرض والدتي ليس إلا حيلة خبيثة اخترعتها لتمنعني من رؤيته وأنا ما أزال أحب نبيل، لذلك فرحت بذهابه لنعيد علاقتنا السابقة.
وإننا أناس تافهون لا نهتم إلا بالمال، أما العواطف الصادقة فهذه لا نستطيع أن نفهمها.
ذهلت... هذه الأحقاد أين كانت مدفونة، هذا السيل من الاتهامات أي عقل ممسوس قذفه، أهذا هو الإنسان الذي سأربط مصيري به؟(1/47)
ثرت عليه أجبته برسالة صاخبة ثم أشفقت عليه، قلت سأتحدث معه فربما استطعت أن أزيل هذه الأوهام من رأسه.
اتصلت به قالوا غير موجود، وراح الرد يتكرر
آخر مرة قال لي زميله إنه لا يريد أن يتحدث معي وإن كنت أريد أن أخبره شيئاً فباستطاعته أن ينقله إليه. كتبت إليه طلقني يا عمار، لا داعي للاستمرار في رحلة الشقاء هذه.
رد علي بعبارة واحدة. "لا تدعي هذا الحلم يراودك".
ما الذي تريده مني يا عمار؟ "أن أضيعك كما ضيعتني".
وسطنا صديق والدي في جدة ليقنعه بالطلاق لكنه أعلن تمسكه بي وقال: ما حدث سحابة صيف مرت في علاقة حب وسرعان ما تنجلي.
قلت لعله أدرك خطأه، اتصلت به، سمعت صوته:
ـ الحمد لله على سماعي صوتك يا عمار.
ـ عن أي عمار تتحدثين؟ عمار مات منذ زمن طويل.
نعم مت يا عمار، أمام قسوتك تتراجع كل الصور الجميلة ولا يبقى إلا عينان متقدتان بشرر ينبثق من أعماق دفينة، يرعبني، وأتساءل كيف استطعت احتماله طوال هذه المدة.
اتصالات صديق والدي تعلن أن عماراً يتلاعب به وأن زيارته له ومناقشاته معه قد أتعبته لذلك فهو يعتذر عن إتمام المهمة، ويطلب من والدي أن يسافر إليه.
قال والدي:
ـ أعرف ماذا يريد إنه يسخر مني، يأخذني إلى السعودية ثم يرفض الطلاق.
أرسلت له هدايا الخطوبة، ورسالة قصيرة حازمة أتمنى فيها أن يراجع الماضي وعندئذ يعرف أنني لم أسئ إليه أبداً، فلا داعي لأن يشقيني بلعبة الانتقام.
رد علي برسالة حب ساخرة وذيلها بإمضاء مجنون ندى.
كتبت إليه: أرجو أن تحترم ما بيننا ولا تجعلني ألجأ إلى المحكمة.
رد علي: سأجعلك تسكنين المحكمة أو تأتين إليَّ في قنفذة وترين الجحيم الذي قذفتموني إليه.
تخرجت، فرحة صغيرة تسللت إلى قلبي، وحزن كبير يسلب مني كل أمل بالسعادة.
سنة وأنا أذهب إلى المحكمة، تعرفت بقصص وقضايا وغدوت قضية من هذه القضايا.
وذات يوم وصلتني ورقة طلاقي ورسالة حزينة تقول:
سامحيني يا ندى عذبتك كثيراً ولكن هذا قدرنا.(1/48)
الورقة في يدي وسؤال يلح علي: لماذا حدث ما حدث؟.
عمار:
الليل يغمر الكون بسكون عجيب، يثير في النفس حس الحزن والعدم، يصفي النفس، يجعلها مرهفة إلى حد البكاء.
شريط حياتي يمتد أمامي رقعة سوداء، تتخللها بعض بقع فرح، وأتساءل: إذا كانت حياة الإنسان جهمة موحشة إلى هذا الحد فلماذا يعيش؟.
يقولون أنت في عنفوان شبابك، الثلاثون هي سن القوّة والبناء
لماذا كانت بالنسبة لي هي سن الانهيار والموت؟.
من الماضي تنبثق صور تجعل القلب يرتجف أمام هذا الانبثاق الحار فإذا بالكيان يتضعضع وإذا بالحاضر يتطاير وكأنه غبار ولا يبقى إلا هذه الذكريات وكأنها الحقيقة الوحيدة التي عمرت حياتي.
طفل يعدو في الحقول، يقفز خلف القبرات، يتسلق أشجار التين... يركض في الطرقات المغبّرة فيتعفر حتى رأسه، يخاف أن يعود إلى البيت بهيئته الزرية، يذهب إلى البستان يقفز في ماء البركة، لا يعرف أنّ الآبار جافة وأن الماء لا يحتمله، يصطدم بالقاع، يشجّ رأسه، تغرق ملابسه بالدماء.
أعدو إلى البيت مجنوناً تتلقفني أمي بحضنها، يأخذني أخي إلى الطبيب ليخيط لي الجرح، أعود إلى البيت بضماد كبير يحيط رأسي.
يراني أبي، أظنّ أنه سيقبّلني ولكنه يغرقني بنظرة نارية وسيل من الشتائم...
تصرخ أمي:
ـ هذا حرام.
ـ الحرام أن تربيه ولداً أخرق. أريده رجلاً.
في تلك اللحظة كرهت أبي، تمنيت أن أهرب من البيت فلا أرى وجهه، وحتى الآن مازلت أكرهه. بين القسوة والحبّ يمضي العمر، يتفتح الجسد، تغزل العيون صوراً وأحلاماً... تهفو النّفس، تحلم... يتجسّد الحلم في زهرة ندية نبتت على حدود الصبّار والغبار...
في حيّ واحد كبرنا، تآلفت أرواحنا... انتشرت قصتّنا بين الأصدقاء والصديقات طرقت مسامع الأهل فمنعوها من رؤيتي...
رائعة كانت هذه اللقاءات المسروقة... حلاوتها تجرح النّفس وتقول كل ما عداها سراب.(1/49)
عيناها الخضراوان وعد بحنان لا ينضب... وجهها العذب... كلماتها القليلة الخجوله... بسمتها الرائعة. تضحك الأحلام وتعبس الأيام... الزهرة الندية كانت مطمح شباب البلدة، كنت أرى النظرات تلاحقها أينما سارت فأشعر بالدم يغلي في عروقي ولكنني ما ظننت أنّ الإعجاب سيتعدّى حدود النظر، كنت موقناً أنّ بثينة لن تكون لغيري أبداً.
خطبها والدها لابن عمّها... بكت. قلت سأتقدّم لخطبتك.
صرخ والدي في وجهي غاضباً:
ـ أتريد أن تخطب؟.
طلبت منها أن نهرب، رفضت ثمّ اقتنعت، انتظرتها، لكنّها لم تأت.
وسمعت الزغاريد تأتي من بيتهم فجننت، تشردت في شوارع البلد الليل بطوله، وعندما طلع الصباح رحلت من المدينة.
وحيد في دمشق... متعب جائع. أبحث عن عمل... من عمل إلى آخر، من قسوة إلى قسوة، وأسمع صوت بائع الجرائد ينادي: نتائج الثانوية، آخذ الجريدة، أرى اسمي وأعرف أنني سأغدو الطبيب الذي حلمت به.
في الكلية رأيت رفاقاً من بلدي نقلوا إلي أخبار البلدة والأهل.
ـ أمك يكاد حزنها يقتلها.
تمتلئ عيناي بالدموع:
ـ وبثينة؟.
ـ تعسة في زواجها.
لماذا تبعثين الآن أمامي يا بثينة، بعد اثنتي عشرة سنة تنفضين عنك الغبار، تهرعين للقائي مشرقة ناضرة.
كيف عشت هذه الأعوام الطوال؟ عبثاً أحاول أن أنبش عن حدث مميز يعلق بالقلب.
غرف المحاضرات والأساتذة... الزملاء... العمل... الدراسة... الإرهاق... الخوف من الآخرين.
وذات يوم لمحتها... ركضت وراءها... وقفت أمامها مشدوهاً، كدت أناديها.
ـ لماذا غبت عني كل هذه المدة يا بثينة؟
ولكنني عدوت وراء سراب، كانت تجري وراء السيارة الفارهة والعريس الغني.
ابتعدت، قرفت... كيف سمحت لنفسي أن أقارن بينهما.
أغلقت قلبي لكن ندى اقتحمته بشخصيتها القوية، أحببتها، ظننت أنها أحبتني، أردتها أن تكون لي وحدي طلبت منها أن تقطع علاقتها بالزملاء.
ـ يا زميل. افتح عينيك جيداً وتأمل ما حولك فقد تغير العالم.(1/50)
متوحد... كنبتة صبار في ربوعك يا دمشق، لا القلب ينبض ولا النفس تهفو...
تخرجت بدرجة امتياز، أديت خدمة العلم، تعاقدت مع مركز جراحة القلب...
عمل مستمر... وإحباطات... ومرارة وحلم بالاختصاص والهرب إلى عالم جديد...
عدة آلاف من الليرات كانت جنى الأيام الطويلة.
الحلم يطاردني يملأ حياتي إلى أن اعترضت ندى طريقي.
أذكر أول مرة رأيتها فيها، كانت واقفة مع طلال في ممر المستشفى تقول غاضبة:
ـ تذكر أنك كنت طالباً محتاجاً للمساعدة.
رمقها بنظرة الاستخفاف المعروفة التي تعني أنه يرسم للإيقاع بها، لا أدري لما أشفقت عليها وخفت أن تقع، فوسامته وخبثه كفيلان باجتذاب أية فتاة وبعدها تصبح رقماً يضاف إلى مغامراته.
تدخلت لفض النزاع، وقلت إني مستعد لمساعدتها، التفتت إلي وألقت على مسامعي كل شكاوى الطلاب المتمرنين من أطباء المستشفى الممارسين.
كانت تتكلم بانفعال وحماسة طفلية، عيناها تلمعان، ووجهها لدهشتي كان خالياً من المكياج يتألق بحمرة قانية وشعرها مربوط إلى الخلف يتربع على قمة رأسها ثم ينزل على شكل ذيل حصان يهتز مع كل حركة من حركاتها فيعطيها مسحة من براءة طالما افتقدتها.
وجدت نفسي مضطراً للوعد بمساعدتها لأوقف سيل كلامها المتدفق.
مندفعة... عفوية.. متحمسة... صاخبة.. بدأت آلفها، أحب حديثها الممتع القادر على إحالة أبسط حادثة إلى قصة مشوقة.
تسللت ندى إلى حياتي حتى أصبح لقائي بها يومياً، حدثتني عن نفسها وأهلها، والديها اللذين يكدحان في التدريس ليتعلم أولادهما، أخويها اللذين يغاران منها لأن لها وضعاً متميزاً في البيت.
وصفت غرف البيت، أثاثه، متى يتناولون الطعام، متى يشربون الشاي.
أصبحت أعرف هذا البيت وأتمنى أن أزوره، وأعترف بأنني بدأت أحلم ببيت مماثل.
ذات يوم جاءت ندى مزقزقة:(1/51)
ـ لقد جاءتنا فرصة العمر، سيستقيل أبي من التدريس ويمسك حساب شركة كبيرة، وقد تترك ماما العمل وتتفرغ للبيت، سيقفز دخل أبي إلى خمسة عشر ألف ليرة في الشهر، عدا المهمات التي سيوفد بها إلى الخارج... يا إلهي كم أنا سعيدة.
بدأت أحوال ندى تتغير، اختلفت ملابسها تصفيفة شعرها، زحف المكياج إلى وجهها، ولكنها بقيت المرحة دائماً والقريبة من القلب.
عندما قالت إنها ستسافر في رحلة إلى فرنسا، شعرت بانقباض، غيابها أشعرني بمدى حاجتي إليها وعرفت أنني أحببتها وأنها مسحت القتامة من حياتي ولكن لابد لي من معرفتها أكثر.
ذهبت إلى الجامعة أراقبها من بعيد، انزعجت وأنا أراها تتحدث مع هذا وتمزح مع هذا تقهقه في المقصف مع زميلاتها.
ـ يجب أن تبتعدي عن الزملاء.
ـ لم يا عمار؟
ـ لأنني أحبك، وأتمنى أن نقطع طريق العمر معاً.
فرحة بريئة أطلت من عينين قرأت فيهما الحب، فشعرت بقلبي يتفتح... يمتلئ فرحاً ونوراً.
تمنيت لو ركضت عانقت الشجر والسماء والقمر... فرح كطفل.. منطلق كفراشة... قوي كمارد.
ـ ندى لا أستطيع أن أعدك بالكثير، لا أملك إلا مرتبي، وأنتم أصبحتم أغنياء، فهل سيعجزني أهلك بمطاليبهم.؟
ـ لا أريد إلا خاتم الخطوبة.
دخلت البيت الذي طالما تخيلته، بيت مترف متألق، رجل تجاوز الخمسين أبيض الشعر مهيب، وامرأة في الخامسة والأربعين من العمر، عصرية المظهر من تسريحة شعرها حتى طلاء أظافر قدميها.
تذكرت بيتنا وأمي بثوبها البسيط... شعرت بضيق، تلفت أبحث عن ندى.
لا أدري ماذا قلت ولكن أحسب أنني سمعت أن والدها قد وافق وأن والدتها تتحدث عن خاتم "سوليتير" وحفل في الميريديان وحسبتها مجنونة تهذي، وعندما ودعتهم لم أكن متأكداً مما سمعته، كنت محرجاً منهكاً، وتمنيت هواء جديداً يعيد إلي قواي.
جاءت ندى في اليوم التالي مستبشرة:
ـ بابا وافق، ماما تطلب منك أن تحدد موعداً لشراء هدايا الخطوبة.(1/52)
في السوق اكتشفت أن دراستي وشهادتي وطموحي لا تساوي شيئاً في ميزان الذهب.. النقود التي جمعتها بتعبي طارت، ولم أجن إلا نظرة امتعاض من أم ندى.
حفلة وصور وأناس لا أعرفهم يدخلون ويخرجون ويتفحصونني، وأحس بالعرق يغمرني، ولا أعرف علاقتي بكل ما يجري.
أخذت أتردد عليهم وشعور من السعادة والقلق ينتابني... أمها لا تنقطع عن حكاية الخطاب اللطيفين الذين يغرقون خطيباتهم بالهدايا، أما أبوها فحسابات الشركة كانت تأكل عقله، هذه الصفقة لو تمت لكان.. أشعروني بأنني صفقة خاسرة أبرمتها ندى دون مشورتهما.
لم أعد أحب الذهاب إلى بيتهم، أتمنى أن أسير في مكان مفتوح أتحدث معها وحدها، وبدأنا نخرج معاً، نجلس في الكافيتريات، نتقابل في المقصف.
ذات يوم كنت أنتظرها في المقصف، وعندما لاحت، راح الطالبان اللذان أجلس وراءهما يتحدثان:
ـ أنظر، هذه ندى، لا تضيع الفرصة أبداً، كانت واقعة في غرام نبيل، وعندما ذهبت إلى المستشفى كانت تخطط للإيقاع بطلال، الآن سمعت أنها خطبت لطبيب آخر.
ـ لم تكن تحب نبيل، ما بينهما كان زمالة.
ـ نعم... لقد كادت تنهار لأنه لم يخطبها، ألا ترى؟ المنافسة القوية القائمة بينهما تقول مازال في القلب بقية.
نهضت مجنوناً وانصرفت قبل أن تبصرني، خرجت إلى الشارع وغضب هائل متفجر يملؤني، هكذا إذن ترسمين الخطط وعندما فشلت مع طلال لجأت إلي، ما أحببتني ولكنك أردتني رداً لكرامتك الجريحة، واجهتها بالحقيقة، فرنت إلي بعينيها الصافيتين:
ـ إنني إنسانة يا عمار، لي قلب، من حقي أن أحب، أما أحببت في ماضيك؟.
ـ أنا أحببت وحبي ما يزال سكيناً مغروسة في القلب، حبيبتي كانت وردة نقية سرقوها مني وقتلوها بزواج الإكراه وحبيبك عابث تسلى بكِ فترة وانتقل إلى غيرك، وطلال كازانوفا المستشفى سعيت وراءه، ثم أتيت أنا الغبي لأخطبك، قولي لي عندما تغمضين عينيك بمن تفكرين؟.
صرخت في وجهي بغضب:(1/53)
ـ يكفي يا عمار لا أسمح لك أن تهينني بهذا الشكل، لست ربي لتحاسبني، ما بيننا مجرد خطوبة والأفضل أن نفترق.
كانت تصرخ بشكل هستيري، تركتني في غرفتي مبهوتاً، هذه أول مرة أراها ثائرة.
نظرت إليها تعدو في حديقة المستشفى والمطر ينهمر، ثم تنقذف في سيارة تنطلق إلى الشارع، أحسست ألماً يعتصر روحي، كنت حزيناً على نفسي وعليها، أتراني ظلمتها، أم أنها أرادت أن تغطي الحقيقة بهذه الثورة.
تمنيت أن أكون مخطئاً وأن تكون بريئة، قضيت ليلتي مؤرقاً أفكر كيف سأتأكد من براءتها.
اتصلت بها اعتذرت، وسمعت صوتها المختنق على الهاتف يؤكد أن لا أحد سواي في قلبها.
مرة ثانية سأضعك يا ندى تحت المراقبة، ولكن المراقبة هذه المرة ستكون أصعب لأنها تتوقعها.
أصبحت أداوم في الجامعة، أتنقل من قاعة إلى أخرى وأحاذر أن تراني، ذات يوم فاجأتني اخترعت لها كذبة، ابتسمت بشك وكانت حزينة.
قالت لي:
ـ إنني متعبة بحاجة إلى استجمام، سأذهب مع أهلي في رحلة إلى إيطاليا.
شعرت بالراحة، بعدها عني سيعطيني الفرصة لأفكر بهدوء.
مر الأسبوع الأول، جاء الثاني، أحسست أنني أفتقدها وأنني ضائع بدونها.
عندما جاءت كانت نضرة مشرقة، أحزنني هذا وأفرحني، تمنيت أن تكون حزينة لبعدها عني.
جاءتني بقميص وزجاجة عطر:
ـ هذه اشتريتها لك من روما.
ـ تذكرتني هناك؟
حدقت إلي ولم تجبني.
ـ أما زلت غاضبة مني؟.
ـ لا تعد إلى ذلك الموضوع.
بذلت ما في وسعي لأسترجع ندى إلي، ولكن هل باستطاعتي أنا أن أرجع كما كنت؟ في صدري شك لا يهدأ وخوف.
بدأت أحاديث أمها عن شراء بيت وسيارة، وأنا لست سمساراً ولا تاجراً من أين تريدني أن آتي بما تريد؟ وجاءني الجواب عرضاً بريئاً من الأب:
ـ من يرد أن يبني حياته فليذهب إلى السعودية.
ما الذي أفعله في السعودية؟ أجمع مالاً لأشتري بيتاً وسيارة وخاتم ماس؟.
لابد أنهم يدبرون أمراً ما، يحاولون إبعادي عنها تمهيداً لإقناعها بإنهاء الخطوبة.(1/54)
أحبتني ابنتهم وهما لا يزالان مدرسين، والآن لم أعد مناسباً.
ولكن ندى التي تعرف كم أتوق للاختصاص أيهون عليها أن أضحي بحلم العمر من أجل تفاهات أهلها.
ليتني أستطيع أن أعرف أعماقك يا ندى.
ـ لو تعرف يا عمار كم أحبك، سأتبعك إلى آخر الدنيا، أعيش معك في أبعد قرية نبدأ حياتنا من الصفر.
يومها صدقتها فقد لمست في نفسي وتراً حساساً، ولكن في اليوم التالي جاءتني مصعوقة:
ـ لو ترى بيت ابنة خالتي يا عمار... هل تصدق أن الثريا التي في غرفة الضيوف من الكريستال الخالص، ثمنها مئة ألف ليرة سورية.
لو تستقرين على حال، لو أعرف على أي أرض تسيرين، لابد أن أهلها يقفون وراء تقلبها.
ـ ندى يجب أن نتزوج.
ـ أرجوك لا تزد متاعبي، لم يبق إلا سنة للتخرج.
ـ أحسُ أنك تبتعدين، أريد اقتناعاً بأنك لي ولن يسلبك مني أحد.
تنظر إلي بدهشة:
ـ ما هذه الأفكار يا عمار؟.
ـ إن كنت تحبينني حقاً دعينا نتزوج، إنني بحاجة إليك لتكوني بجانبي، لا أريدك طبيبة أريدك زوجة، لا تهمني شهادتك، يهمني قلبك، من الأغلى لديك أنا أم الشهادة؟.
نظرت إلي بملء عينيها وتهدج صوتها:
ـ أنت تمزح لا أستطيع أن أصدق، أيعقل أن أترك الجامعة لأتزوج؟.
ـ بل إني أعرض عليك اقتراحاً في غاية الجد، إن كنت تحبينني اتركي الجامعة، نذهب إلى فرنسا أو السعودية، أعصابي لم تعد تحتمل.
أشاحت عني بوجهها، فانتابتني حالة هياج، رحت أهزها من كتفيها:
ـ أنا أو الجامعة.
خلعت الخاتم وضعته أمامي وانطلقت تجري.
شعرت بأنني ظلمتها، سلبتها بريق فرح كان يسكن عينيها.
رجعنا... أحسست شيئاً موجعاً وعذاباً في آن واحد يشدني إليها:
ـ لعلني في لحظة غضب لم أستطع التعبير عما أريد، أريد إحساساً بأنك لن تضيعي مني تعالي نعقد القران وسأسافر إلى السعودية مرتاح البال. لا أحد يستطيع أن ينتزعك مني.(1/55)
طبيب له خبرة خمس سنوات كان المفروض أن يكون قد أشرف على إنهاء الاختصاص ولكنه ذاهب إلى السعودية ليرضي طموحات أهل خطيبته.
أخطو أول خطواتي خارج المطار تلفحني جهنم بنارها، ينسكب العرق من ظهري... يسري إلى ساقي. من الوزارة آخذ قرار تعييني في "قنفذة".
طريق وعرة منحوتة وسط جبال سوداء أعادت إلى ذهني بدايات البشرية.
أحس انقباضاً يغمر نفسي، أتمنى لو ارتمي في ظل شجرة، أعب الهواء رطباً ندياً.
دمشق تبتعد... تلوح معالم المدينة... تبدو المقبرة.
يستقبلني زميلي في المستوصف فرحاً.
ـ لماذا تأخرت يا رجل تكاد الوحدة تختفي...
ـ كيف تقضي أيامك؟.
أنشد بصوت بادى المرح:
ـ ضجر كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
ـ أحس أنني لا أستطيع الاحتمال.
ـ ستعتاد كل شيء بدءاً من الحر حتى البرامج التلفزيونية المملة.
الأيام تتتابع بإيقاع قاتل... ما معنى هذا الموت البطيء؟ يجب أن أعود...
تستقبلني ندى ببرود، لم أجئها بذهب ولا مال... تقرضني أمها بنظراتها الساخرة، يلوي أبوها شفتيه لصهره الخائب.
تتلألأ باريس في ناظري، مكاني هناك وليس هنا.
تصل رسالة ندى، أقول لن أفتحها، ولكن بلهفة أقرؤها، التهم سطورها... تفوح منها رائحة حياة، أحس الغضب يغادرني، يحل مكانه حنو ولهفة، يطالعني وجهها طيباً.
رسائلها أصبحت وسيلتي للحياة، ويوم سمعت صوتها على الهاتف أحسست تيار فرح قد انتشر في كياني،خطاباتها، هواتفها كانت تحمل لي الإحساس بأن هناك قلباً ينتظرني ويحبني.
وجاءتني أحلى بشرى ستأتي إلى السعودية مع والدها في عطلة الربيع. كصحراء قاحلة كانت حياتي، فإذا بنهرٍ دفاق يجتاحها فيعطيها الري والنشوة. طويلة هي الشهور التي تبقت، طويلة أيامها وساعاتها.. لم يبق إلا شهر وبدأ العد التنازلي، في كل يوم أستيقظ من النوم لأشطب من التقويم رقماً.
يا إلهي لم يعد باستطاعتي أن أنتظر، ما كنت أعرف كم أحبك يا ندى وكم أفتقدك.(1/56)
وصلت إلي برقية تقول: "انتظرنا في المطار يوم الأحد الساعة الرابعة مساءً. قادمون على الطائرة السورية".
يا يوم الأحد متى تجيء؟ جاء الأحد وذهبت إلى جدة، في الثانية كنت داخل المطار.
بقيت ساعتان، ساعة، وعندما حطت الطائرة رحت أحدق، ثقبت وجوه المسافرين بنظراتي ولكن ندى لم تكن بينهم.
سألت عن طائرة أخرى جاءني الجواب بالنفي، مكثت الليلة في جدة يداعبني الأمل بأنها ستأتي غداً.
جاء الغد ولم تأت، تلقتني الصحراء فشعرت بأنها ابتلعتني، امتصت مني كل حس، إلا حس صفعة تلقيتها على وجهي بكف لئيمة.
هكذا إذن، يحلو لها أن تتلاعب بعواطفي، فتنتني بمجيئها حتى إذا أشعلتني فكرة اللقاء نكثت، عندئذ ينفذ صبري وأنزل إلى دمشق لرؤيتها.
أكاد أسمع ضحكة أمها الساخرة:
ـ لا تبدي له اهتماماً، عندئذ سيجري وراءك.
لماذا كذبت علي؟ لو لم تعدني بالزيارة ما أحسست بهذا الألم.
لماذا لم تأت، جاء الجواب برقية تقول: "اضطررنا لإجراء عملية الزائدة الدودية لوالدتي يوم السفر، حاولت الاتصال بك ولكن الخط معطل، سأكتب رسالة عاجلة".
الغبية تظن أني سأصدقها... مرضت أمها... ضحكت، تخيلت وجهها المصبوغ وقد زالت عنه المساحيق، ليتها تموت.
أعرف أنها حيلة اصطنعتها لترى كيف ستتصرف ندى هل تتركها وتسافر أم تبقى إلى جوارها وندى قد اختارتها.
هدوء غريب يتلبسني... يسيطر علي.. فراغ يلف عقلي ووهن يعتري جسدي.
مذهول، منوم، استيقظ فأتناول طعاماً لا أحبه، أرى أناساً، أسمع كلاماً ولكن لا شيء يعبر إلى نفسي.
وجاءت رسالتها تحاول الاعتذار بكل ألوانه، وكنت أحسها كاذبة، لعلها الآن مع نبيل تستعيد أيام الماضي، نبيل ينتمي إلى عائلة غنية، لقنته الدرس أفهمته أن هناك من يحبها ويرغب فيها ولما فهم عادت إليه.
تكثر رسائل ندى وتبتعد هي.
يأتي صوتها عبر الهاتف فأغلق السماعة في وجهها.(1/57)
تتصل، تبعث لي الرسائل، تحاول أن توقظ نائماً في أعماقي ولكن كيف لها أن تفعل؟ شيء تكسر في أعماقي تناثر، أحس خواء بداخلي.. مفرغ.. أجوف.. مكسور.
أسمع صوت زميلي يتمتم:
ـ المسكين مريض.
المسكين أنا، المريض أنا، أنا من يشفق عليه الناس وستصبحين المسكينة يا ندى، ستحزنين على نفسك ويحزن عليك الناس.
سأترك البلد وأهاجر عصفوراً طليقاً، أحقق كل ما أريد وأتركك للوحدة، شائكٌ هو الدرب الذي دفعتني إليه ولكنني سأسير حتى نهايته.
أفيق من شرودي على صوت زميلي يقول:
ـ زائر لك يا عمار.
رجل أصلع بنظارتين يقول:
ـ أنا صديق والد ندى وقد اتصل بي وطلب مني أن أحدثك بشأن الطلاق.
أتأمله ساخراً وأكتم ضحكة في أعماقي.
أقول له:
ـ من قال أني أريد طلاقها؟ إني أحبها، لم يبق إلا شهور وأعود إلى دمشق لنتزوج.
حدق فيّ غير مصدق:
ـ تصرفاتك معها، رسائلك الغامضة، رفضك الحديث معها؟.
ـ سحابة غضب وانجلت.
مكوك الوالد يأتي مجهداً، يحاورني، يحاول إقناعي وأنا أٍسخر منه ومن العينين الغبيتين والكرش البليد.
ـ لقد أتعبتني معك، هل تعرف المشقة التي أتكلفها للحضور إليك؟.
ـ لماذا تتعب نفسك، قل لوالدها أن يأتي إلي.
سأرغمه على المجيء إلى المنفى الذي قذفني إليه وسأرفض الطلاق.
قال زميلي وهو يخرج:
ـ اشترِ نفسك من هذا الحقد وخل سبيل الفتاة إنك تقتلها.
بعد ساعات سمعت أصواتاً ولغطاً، أطللت من النافذة رأيت حشداً أمام المستوصف صاح بي أحدهم:
أسرع يا دكتور... زميلك الدكتور محمود انقلبت به السيارة.
كان محمود غارقاً في دمائه، نظر إلي ثم أسلم الروح بين يدي.
في المقبرة المجاورة واريناه، تلة تراب تقول هنا يرقد إنسان كان اليوم يحيا يتكلم يحلم يملأ الدنيا بصخبه أعود إلى البيت أرى سريره ثيابه أكاد ألمحه، أسمعه، تعتريني رعشة أخرج إلى الشرفة أعود إلى الغرفة.(1/58)
استلقي على سريري، أحس إبراً تلسع جنبي، أتقلب، أشعر أنني سأجن يصل إلي أذان الفجر، أحس بالهدوء يغمرني ثم أروح في إغفاءة...
أراها محمولة على الأيدي مضرجة بدمائها، أنحني عليها تفتح عينيها تواجهني نظرات عتاب قاس، تحرك شفتيها أسمعها تقول:
ـ قتلتني يا عمار.
تغمض عينيها، أحس أنها قد انتهت أصرخ بها:
ـ لا تموتي يا ندى.
أهزها، تتلطخ يدي بدمائها.
أحس بقلبي يطرق بعنف، أشعر بيد تحبس أنفاسي، أنتفض، أصرخ. استيقظ، أرى أشعة الشمس تملأ الغرفة.
أخرج إلى المقبرة... أجلس أمام قبره... هنا النهاية.. نهاية كل شيء.
هذا المكان ليس لي، هذه الميتة ليست لي، هذه الحياة ليست حياتي...
أحتاج نهر ضياء يغسل روحي يعطيها النقاء.
أسافر إلى جدة، أحصل على استقالتي.
أبرق لندى "سامحيني يا ندى عذبتك كثيراً ولكن هذا قدرنا".
وأحس هماً ثقيلاً قد انزاح عن صدري وأنني غدوت طائراً طليقاً وأمامي تنفسح الآفاق.
((
الحب والسفر
حائرة، مترددة، لا أعرف إن كنت أريد ذهابه ولكنني واثقة أنني لا أحتمل ابتعاده، يقول إنه سيغيب سنة ولكن ما الضمان؟ الجميع يقولون سنة وتمتد السنة سنوات.
لماذا يريد الذهاب؟ لقد وصلنا إلى بر الأمان، كافحنا سنين حتى أمنَّا حياتنا اشترينا بيتاً جميلاً أثثناه، ولكن كلما وصل الإنسان إلى مكان تطلع إلى الأعلى.
ـ يجب أن تفكر بالأولاد؟ هذا المولود الجديد يجب أن نؤمن مستقبله
ـ أمن أجل الصغير ستذهب؟
ـ من أجلنا كلنا
أداعب الصغير، أتأمل عينيه الزرقاويين الصافيتين، ضحكته البريئة، يرمقني بنظرته الوادعة، أضمه إلى صدري:
ـ أيها الغالي أحبك.
كان ماجد يقول لي:
ـ لدينا طفلان، استطعنا إلى حد ما أن نضمن مستقبلهما لماذا نرهق أنفسنا بطفل قد لا نستطيع القيام بواجباته؟
ـ أريد ابنة تؤنسني عندما يكبر الصغيران.
ـ هذه أنانية منك، نحن لم نعد صغاراً أنا في الثامنة والثلاثين وأنت في الثانية والثلاثين، سيكون الفرق بيننا وبين الطفل كبيراً(1/59)
فكر قليلاً ثم قال:
ـ لو حدث لي مكروه هل سأترك الصغير لإخوته يربونه؟
أجبته بحدة وخوف:
ـ لا تتحدث بهذه الطريقة
أنظر إليه بحنو، أتأمل القامة الفارعة.. الشعر الذي شاب مبكراً...
كبرت يا ماجد قبل الأوان.. هي حياة الكدح سرقت منك الشباب فظننت نفسك أكبر من أن يأتيك طفل جديد.
ولكن عندما جاء طارق طار ماجد من الفرح كأنه لم يكن أبا من قبل، يحمله، يدور به في المنزل:
ـ انظري كم يشبهني، هذا وجهي وهاتان عيناي الآن أحس بمعنى الأبوة الحقيقية، عندما جاء حسام وياسر كنت مزهواً لأنني أصبحت أباً، أما طارق فأحسه لصيقاً بقلبي.
فكرة السفر تعصف برأس ماجد، أحاول أن أثنيه ولكن عبثاً، يحضر الأوراق، يذهب إلى دمشق يقدم طلب إعارة إلى الجزائر والخليج وموريتانيا.
ـ في أية إعارة قبلت سأذهب.
ـ كنا نعيش بأمان، فجأةً تستحوذ عليك فكرة السفر حتى تكاد تسلبك منا
ـ لم أعد أقدر على الوقوف الطويل والدروس المتتابعة، الصغار يكبرون ومصاريفهم تزداد، يبدو أن الفترة الماضية قد استنفدت طاقتي وأنا الآن مطالب بأعباء أكبر
نظر إلي تأملني وقال:
ـ أنت أيضاً يجب أن تتركي العمل لتتفرغي للبيت والأولاد.
وأنا أيضاً يجب أن أرتاح.. أحس بالتعب... الوظيفة.. والبيت.. والأولاد...
ـ ماجد لماذا لا تفكر بمشروع تجاري؟
ـ التجارة تحتاج إلى إنسان عايش السوق وأصبحت لديه خبرة. هل باستطاعتي بعد ستة عشر عاماً من التدريس أن أحصِّل هذه الخبرة؟
ـ وأنا هل أستطيع أن أتحمل مسؤولية ثلاثة أولاد في غيابك؟
لم يمض على ذهابه لتقديم المسابقة إلا يومان وها أنا ضائعة، أدور في البيت أنشغل بالصغير، أفض اشتباكات حسام وياسر التي كثرت في غيابه
أفتقده، أحس بالوحشة في غيابه، كانت له سفرات قصيرة أما الآن فيجب أن أوطن نفسي على غيابه سنة ومن يدري كم سنة ستجر وراءها، يتناهى إلى سمعي حوار حسام وياسر
ـ عندما يعود بابا سيشتري لنا سيارة(1/60)
أضحك من أعماقي.. الطائران الصغيران نما ريشهما وهاهما يحلمان بالطيران، حسام على أبواب المراهقة وغداً يلحق به ياسر، هما الآن أحوج ما يكونان إليك يا ماجد.
أدعو الله في سري ألا يقبل بالإعارة، أستعيد صوته: "لدي ثقة بأنني مقبول، رأيت المتقدمين، معظمهم خريجون جدد لابد أنهم يفضلون من لديه خبرة"
أسمع المفتاح يدور في الباب، يهتف الأولاد:
ـ جاء بابا
أهرع إليه أسأله:
ـ ما لأخبار؟
ـ قبلت في إعارة الخليج والسفر سيكون بعد شهر
تسمرت في مكاني ذاهلة.
-ألا تفرحين؟
ترقرقت الدموع في عيني وقلت:
-ليس في السفر ما يفرح
قال مازحاً:
- مازال الوقت مبكراً على الدموع
ما أسرع مامر الشهر.. جلسنا في الشرفة وقد انبسط البحر أمامنا مضاء بنور القمر.. ماجد يتكلف الفرح ولكنني كنت أحس القلق في اختلاجات صوته، في نظراته، في حديثه مع حسام وياسر، أما طارق فلم يبرح حضنه.
انسحب حسام وياسر إلى النوم وبقينا وحيدين.
-هذه أول مرة نفترق فيها يا ماجد.
رد علي مبتسماً:
-ابتعد عن زوجتك تحبك أكثر
قلت:
-أحببتك وسأحبك دوماً فلا داعي للبعد سرح بعيداً
-أتصدقين أن اثنتي عشر عاماً مرت على زواجنا؟ يا الله.. أنظر الآن أمامي، أرىشاباً وصبية يسيران على الشاطئ، يحلمان بالزواج، بالبيت، يخططان للمستقبل.. فجأة أصبحنا عائلة.. أولادنا على عتبات الصبا.. وأنا الذي ما كنت أطيق ابتعاداً عن البلد أفكر بالسفر.
شعرت بالغصة في حلقه، ينهض.. يدور في البيت يتفقده..
أقول له:
-أصبحت الساعة الثانية وستنهض في السادسة، خذ قسطاً من الراحة.
لم ننم هذه الليلة، كنا مشدودين إلى بعضنا حباً وخوفاً.. رغبة في الحياة والأمل.
يطلع الصباح.. أنهض من السرير أغلي له فنجان قهوة:
يرشفها يقول وهو يرتدي ثيابه:
-انتبهي إلى نفسك وإلى الأولاد يذهب إلى حسام وياسر يُقبّلهما وهما غارقان في النوم يقف أمام سرير طارق، حانياً، مشفقاً..
-لو يفتح عينيه لحظة لأراه قبل أن أذهب
-سأوقظه
-لا(1/61)
كأن يداً قد أيقظت الصغير، فتح عينيه وقعتا على وجه أبيه، يغمض عينيه تارةً، يفتحهما تارةً أخرى، ثم استيقظ تماماً وبدأ يناغي، حمله ماجد، ضمه إليه، أبعده ليتأمله، يد الصغير تمتد إلى وجه أبيه تتحسسه، تداعبه، يزقزق: بابا.
أرى وجه ماجد وقد احمر ونفرت عروق رقبته، أرى نظرة حب وحزن، أرى دموعاً ترقرقت في العينين فاستدار لئلا أراها، كدت أتعلق برقبته وأقول له:
-لا تسافر
لكن من الشارع زعق بوق السيارة خرج ماجد إلى الشرفة والصغير بين يديه سمعت صوته في هدوء الصبح يقول:
-الله معكم، لن أسافر
أخرج إليه غير مصدقة:
-ماذا تقول؟
-لن أسافر
أركض إليه وأعانقه وأحسن أنني أسعد امرأة في العالم.
((
حب وحزن
سحب سلك الهاتف، حمل الجهاز، وضعه في الخزانة، أقفل عليه وخرج من الباب، سمعت المفتاح يدور في القفل.
من يصدق أن هذا الرجل القاسي هو من أحببت؟ لو أننا نعرف ما الذي تخبئه لنا الأيام فهل باستطاعتنا أن نتقي آلامها.
ليتني أستطيع أن أنفذ إلى أعماقك يا سامح لأرى أين يكمن الحب وأين تكمن الكراهية؟
هل أحببتني أشك في ذلك.. كنت بالنسبة لك صفقة.. ربما كنت بحاجة إلى امرأة أية امرأة وكنت أنا المرأة التي وضعتها الظروف في يدك.
خادمة أنا تنظف البيت.. تطبخ.. تطعمك.. تغسل صحونك وثيابك، وفي الليل يجب أن تنام معك.. عشرة أيام مضت بيننا، لا كلمة.. لا نظرة.
هذا الوجه المتهجم العابس.. هذا الوجه الحزين الباكي.. هذا الوجه المحب.. هذا الوجه المبغض.. ياذا الوجوه أين وجهك الحقيقي؟
(السيارة تقطع بنا شارع الخليج، وأنا مختنقة بالدموع.. لا أريد أن أبكي أمامه ولكن الدموع غادرة...
-لماذا تبكين؟
-طلقني يا سامح.
أجفل، اكتسى وجهه بالشحوب، استدار إلي، واجهتني نظرة مندهشة
-ما الذي تقولينه يا علا؟
-أريد الطلاق.
-إلى هذا الحد تكرهينني؟
-بل لأني أحبك.
نظر إلي متسائلاً، قلت:(1/62)
-دعنا نفترق قبل أن تفسد الكراهية قلبينا، لقد أحببتك لكنني لا أستطيع نسيان إهانتك.
-كانت غلطة.
-ولكنها فادحة، كلما استرجعتها كدت أصاب بالجنون.
أوقف السيارة بجانب الطريق.
أسند رأسه إلى المقود وانخرط في بكاء عميق.
-أنت المرأة الوحيدة التي أحببتها، لا أتصور حياة لا تكونين فيها.
-يا سامح أنا انسانة معتزة بكرامتها
-دعينا نبدأ من جديد.
-أنا لم أخطئ في حقك لأبدأ من جديد، أنت الذي أسأت وجرحت وما فكرت بالاعتذار.
-بين المحبين لا يكون اعتذار، انسي القصة يا علا وأعدك بألا تتكرر ثانية؟
وهل يخطر بباله أنني اسمح للثانية بأن تقع؟ مازالت الأولى تكوي روحي وتلهب كبريائي.
أمسك يدي رفعها إلى شفتيه، قبلها، نظر إلي نظرته العميقة:
-هل سامحتني؟
شيء في داخلي يرفض السماح، يعلن العصيان، ونبع حب يكاد يشق قلبي يقبل الغفران.
-يا علا. مازلنا عروسين لا تدعي الكبرياء تحطم حياتنا.
وتقفز إلى ذهني عبارته الجارحة شخصيتك هذه سأحطمها. كبرياؤك هذا كان عليك أن تنسيه في اللحظة التي دخلت فيها إلى بيتي"
-أين شردت؟ إني أحبك وها أنا أعدك ببداية جديدة ألا تغفرين؟
ضمني إلى صدره رفع وجهي إليه، لكنني عرفت أنني فقدت شيئاً لن ألقاه أبداً)
يدق جرس الباب أقوم على رؤوس أصابعي، أنظر إلى العين، أرى الجارة، أستحث صوتي لأستنجد بها، لأقول لها تحدثي معي فقد نسيت الكلام، لكنني خجلت من نفسي، لا أريد أن تعرف أنني سجينة.
عاودت القرع ثم يئست فانصرفت، ورحت أدور في البيت، أجلس، أقوم، أفتح التلفاز، أقرأ الجرائد، أستلقي، أشعر برأسي يدور، يندفع القيء إلى حلقي.. أهرع إلى الحمام أفرغ ما في جوفي.
(-سامح. أتمنى أن يصبح لدينا طفل
ناولني الحبة وقال:
-لقد فكرت بالأمور واتخذت القرار. لا أريد أطفالاً قبل ثلاث سنوات.
أحسست بوادر حمل فاربد وجهه.. راح يسوق السيارة بجنون، لم يترك مطباً إلا اجتازه بأقصى سرعة، وعندما تأكد من ذهاب الحمل عاودته الطمأنينة).(1/63)
زواجه مني كان مشروعاً وضع له بنوده، الالتزامات نصيبي والاستحقاقات نصيبه، سهرات حتى منتصف الليل. خمر وشلة رفاق مترفين يحاول بمرتبه البسيط أن يجاريهم في نمط حياتهم، وكان علي أن أمد له ظهري جسراً ليعبر إلى عالمهم.
هل ألومك يا ليلى؟ لا.. أنا الملومة، أنا التي أحببته، سحرتني القامة الشامخة والعينان السوداوان والنظرة العميقة.. استمعت إلى صوته العريض الهادئ يتحدث عن المثالية والأخلاق قلت: هذا فارسك، لكن يبدو أنني فتنت بالصورة وخدعت بالجوهر.
أستعيد صوته:
-جئنا إلى الكويت لنعمل، مرتبك تضعينه مع مرتبي، نصرف ما نصرف وندخر الباقي.
-أساهم معك في المصروف ولكن أريد أن يكون لي وفري الخاص.
-أنت لا تثقين بي
-كيف لا أثق بك وأنا سأربط حياتي ومصيري بك؟
-خيبت أملي، كنت أظن الزواج يعني أن يغدو الاثنان واحداً لكنك ترينه اتحاد مصالح، تدفعين لي ثمن سكنك وطعامك ونومي معك وتوفرين الباقي.
أحسست سوطاً لاهباً يقع على وجهي.. لم أصدق ما سمعت.. سألته عما قال، فأعاد الكلام كلمة كلمة.
شعرت بدمي يغلي في عروقي.. أأنا من توجه لها هذه الإهانة؟
كل ما أحمله له من حب وشوق، كل الأحلام التي جنحتني، وكل الآمال التي أظلتني لا تعني له إلا انتظار النوم معه، وبعدها سأدفع له؟!.
نصل حاد انغرز في قلبي فنزفت كبريائي، نظرت إليه رأيته قبيحاً، بذيئاً، سوقياً.
نهضت غاضبة
-أعدني إلى سكني.
قطعنا الطريق صامتين، لم يحاول حتى أن يسترضيني بكلمة واحدة، وما كنت قادرة على أن أنظر في وجهه، ولا أن أسمع صوته، هذه هي النهاية.
عددت نفسي سعيدة الحظ لأني كشفته قبل الزواج، في الزواج لا رجعة، الخطوبة فترة اختبار ولقد سقط فيه مؤكد سيتصل بي غداً ويعتذر لي، لن أقبل أعذاره، سأقول له:
-تعال خذ خاتمك، لست العاشقة مسلوبة العقل...(1/64)
لماذا خرجت معه عندما جاء؟ لماذا قبلت دعوته حتى دون أن يعتذر.. كان يجب أن أتنبأ بأن من يتفوه بهذا الكلام قادر على أن يأتي بأسوأ التصرفات.
كان يجب أن أرفض دعوته، ولكن في مكان قصي من قلبي كنت ِأنتظر هذه العودة.
أسترجع سؤال والدي: كيف وقعت بحبال سامح؟
أدور في أنحاء البيت، لم يبق شيء لم أفعله، جربت ثيابي، أحذيتي، عطوري، أفتح أدراجي، آخذ ألبومات الصور، هذا البوم الزفاف تنطلق مني ضحكة ساخرة.. كنت غبية.. كنت مغفلة.. كنت حالمة هذه هي الصور الأولى وأنا أنزل من السيارة.. الثانية أمام الفندق مع الفرقة الموسيقية، أتأمل سامح، الآن أستطيع أن أفسر نظرته الغامضة، يمط شفتيه ليبدو مبتسماً ولكن ظلال قسوة وغضب توشح الابتسامة، أرى والدي إلى جانبي وعلى وجهه ابتسامة ممزوجة بالحزن والإشفاق.
أسترجع مشاجرتهما:
-تريد مهراً وشقة في القاهرة، وتأثيث بيت في الكويت من تظنني؟
-أريد ضماناً لابنتي.
-أنت لا تثق بي، إذن لا داعي لإتمام هذا الزواج.
لو أنني في تلك اللحظة أخبرت والدي بأن سامح لن يؤثث لي شقة في الكويت أكان الزفاف قد تم؟
أهو الحب الذي دفعني أم الرغبة، ما الفرق بينهما؟
يومها كانا متحدين، الآن أعرف أن بينهما فرقاً، كانت الرغبة ريحاً قوية تدفعني وما كان لي أن أستدير لأواجهها.
أقلب الصفحات، هذه صورتي صبيحة الزفاف، التقطها لي في شرفة الفندق، ابتسامة حب وحياء ودهشة من دخل عالماً ما كان يعرفه.
هنا أتناول الإفطار ساهمة، لقد ألغي مشروع شهر العسل:
-علينا أن نضغط المصروف.
عندما رأى العتاب في وجهي قبلني وقال:
-أيامنا ستكون كلها عسلاً، سأعوضك برحلة في المستقبل .
وكنت أعرف أن لكل شيء موسماً وأتساءل لم يفوت علي موسم فرحي؟
هذه صورتي بعد أن عدنا إلى الكويت، فاجأني بالكاميرا وأنا واقفة أغسل أطباق الطعام.
ابتسم بمرارة كم تفانيت في خدمته، أردت أن أعوضه عن سنين الوحدة التي عاشها.(1/65)
كنت أعد له الغداء حتى قبل أن أخلع ملابسي، نتناول الطعام، ننام، ما يكاد يفتح عينيه حتى يكون فنجان القهوة إلى جانبه.
(كنت نائمة، أيقظني، قال لي بلهجة آمرة
-أريد فنجان قهوة
للحظة لم أصدق سمعي، كنت أقول له: كيف تجرؤ على إيقاظي، لم لا تصنع القهوة بنفسك؟
ما أقدمه أقدمه بوحي من حبي له، ولكنه يعتبر هذا الحب والتفاني جزءاً من واجب الزوجية
عليه ألا يخطئ بالحب وحده أستشف ما يريد وأتمنى أن أسعده به، لكنني لا أحتمل أن أؤمر.
جاء الضيوف وكنت محبطة، أروح وأغدو بين الصالون والمطبخ أقدم الضيافة، عندما جلست كانوا يتحدثون مع سامح عن أحد معارفهم الذي يستولي على مرتب زوجته
قلت:
-أنا لا أحترم الرجل الذي يفكر بمال زوجته.
بعد أن انصرف الضيوف طلب مني حقيبة يدي، عندما أعطيتها له، أخرج منها بطاقة البنك ووضعها في جيبه وقال:
-سآخذها حتى لا تتفلسفي كثيراً في طرح آرائك. نظرت إليه مستفهمة فقال وصوته يقطر غضباً:
-هل نسيت ما قلته عن الرجل الذي يفكر بمرتب زوجته؟
تأملته دهشة، أهذه هي الطريقة التي سيكسب بها احترامي؟!
الباب يطرق... أنظر من العين... إنها جارتي وقد رجعت من القاهرة، أعيد النظر يطالعني وجهها مبتسماً.. في عينيها كلام كثير وأنا بحاجة إلى الكلام فقد نسيته تعاود قرع الباب مرات، أأقول لها دعينا نتحدث من وراء الباب، فقد أقفلت الباب على نفسي وأضعت المفتاح ولكن أي تعليل سخيف هذا؟ الأفضل أن ألزم الصمت.
(-اشتقت لأهلي أريد أن أسافر
-لا داعي لسفرنا يجب أن ندخر
-لقد وعدت أهلي بأن أنزل إليهم كل صيف
-وعدتهم وتراجعت، هل أنا الوحيد الذي يتراجع في كلامه؟ هل نسيت أن والدك لم يكن يريد مهراً ثم طالبني به، وجعلني أكتب شيكاً له بعشرة آلاف جنيه وجعل نفسه وكيلاً على سحبه؟
لم أشأ أن أطور الجدل، لكنه كان يريد أن يجرني في الكلام.(1/66)
-أهلك يظنونني مليونيراً ويعتقدون أن مرتبك يفعل المعجزات، ربما يخطط والدك لشراء عمارة أو باخرة باسمك.
ابتلعت السخرية وسكت ولكن للمفارقات سخريتها الخاصة، في اليوم التالي عاد من العمل عابس الوجه وألقى إلي برسالة من أبي، عندما قرأتها لم أشك لحظة بأنه قرأها قبلي.
كان أبي يطلب مني أن أرسل له القسط الأول من ثمن أرض كان قد اقترح علي شراءها قبل زواجي.
شعرت بالرعب، توقعت منه ثورة عاتية ولكنه لدهشتي لم يتكلم.
استيقظت في الصباح فلم أجده في السرير، ولكن رائحة البيت كانت تعبق بالدخان، عندما خرجت إلى الصالون رأيته جالساً محمر العينين وقد امتلأت المنفضة إلى جانبه بالسجائر.
-ما بك يا سامح؟
نظر إلي نظرته الجامدة وقال بصوت جاف:
-هاتي ورقة وقلماً.
جئته بها، قال بصوت حاول أن يضبط نبراته:
-اكتبي إلغاء توكيل والدك.
بسحب النقود من البنك.
-لماذا؟
صرخ بصوت كالرعد:
-لا أريد مناقشة فقط اكتبي
كتبت ما أملاه علي صامته، ما كان يجب أن أناقش، فكرة الديمقراطية التي تربيت عليها في بيتنا أفهمني بما لا يقبل الشك بأنها مرفوضة عنده.
حزن ومرارة ودهشة وتحسب لرد فعل والدي، ثم غمرتني لا مبالاة امتصت كل الانفعالات.
شعرت بأنه يريد أن يسلبني إرادتي أن يرعبني، أن يمحو شخصيتي ويسيرني بالغضب والصوت الراعد، "كان يريد أن يقطع رأس القطة في اليوم الأول" لست في نظره إلا قطة غبية أمشي حسب أوامره، وأتوقف حسب نواهيه.
كان ذلك مؤلماً ولكن كيف أتصرف ولم يمض على زواجي إلا ثلاثة أشهر، ولست بالمستهترة التي تهدم بيتها بيدها فأنا التي اخترته، سأحني رأسي للعاصفة ريثما تمر.
وكأنما أحس بأنه وصل إلى غايته فأعلن الرضا، قدم لي خاتماً ذهبياً تعويضاً عن حقي المسلوب.
تأملت الخاتم الهزيل وقلت ساخرة، ما أكثر ما تأخذه وما أقل ما تعطيه.
مكافأة لي على قبولي الاستلاب وفي نوبة من نوبات كرمه القليلة قال:
-أنت طيبة يا علا. ولأجلك سنسافر إلى القاهرة.(1/67)
طيور فرح خفقت في قلبي خفقاً عنيفاً، تصاعدت الدموع إلى عيني، كدت أندفع إليه أقبله، كدت أنسى إساءاته، ولكن لا، يجب أن أحافظ على وجهي خالياً من الانفعال وأن أكتم فرحتي وإلا سيدرك مدى لهفتي للسفر فيتخذ منه أداة لإذلالي.
أشرقت القاهرة في عيني.. أشعت ضياء، عاودني الفرح، أزهر في قلبي الشوق إلى أمي وأبي وأخوتي.. بيتنا وشرفتنا وشارعنا.. شعرت بالقاهرة تنبض في قلبي ذكريات وأفراحاً، رحت أعد الأيام المتبقية ولكن..
قبل السفر بأسبوع قلت له:
-أعطني بطاقة البنك أريد ن أشتري بعض الثياب قال لي بلا مبالاة:
-عدلت عن السفر.
نظرت إليه وأطلت النظر، أريد أن أعرف مكمن الخطأ، لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟ لماذا يعذبني؟
هل هو مريض؟ إن كان مريضاً فأي شقاء ستكون حياتي معه؟ وإن كان يريد مزيداً من فرض شخصيته فأي إنسان تافه تزوجت؟
لأحفظ كرامتي ولأفوت عليه فرصة الفرح لحزني تظاهرت بعدم الاهتمام، ولكن بعد أيام اكتشفت بطاقات السفر في جيب سترته.
لم أشر إلى هذا الاكتشاف بينما راح هو يدفعني دفعاً كي أطلب منه السفر، لكنني صممت أن أخيب أمله وأن أتظاهر بأن الأمر لا يعنيني، بل أوحيت له أني أفضل البقاء لأنني سأستغل الصيف في رسم بعض اللوحات.
رحت أتابع مناوراته التي يقوم بها كي أرجوه أن نسافر فيستجيب لرغبتي ويظهر بمظهر الكريم العطوف، يخادعني وأنا عارفة بالحقيقة فأروح أراقب انفعالاته المزيفة فأقرف منه وأرثي لنفسي.
لم أشعر بالأمان إلا بعد أن أقلعت الطائرة، كان مشدود الأعصاب، قليل الكلام، لكن قبل أن نصل بقليل داخله الرضا فقال:
-لقد أساء والدك بتصرفاته، ولكنني لن أفتح معه هذه الموضوعات، سأنسى كل شيء عدا أننا سنسعد بإجازتنا.
عندما عانقت أمي وأبي في المطار أحسست بفرح طفلة عادت إلى جناحي أبويها.. يا الله ما أصدق حب الأهل! ها أنا أعود إلى البيت الذي نشأت فيه، أمي بنظراتها الحانية وأبي بعينيه المحبتين وإخوتي بمزاحهم ومداعباتهم.(1/68)
ولكن وجه أبي حزين، عندما انفردنا طالعتني في عينيه نظرة عتب مر:
-ما معنى أن تسحبي التوكيل مني؟ أصحيح أنك لا تثقين بي، إن كنت طلبت هذا المبلغ من سامح فقد طلبته ضماناً لحقوقك ومستقبلك.
كدت أندفع إلى أبي أقبل يديه وأستغفره، وأحدثه عن معاملة سامح لي، كنت سأبرر تصرفاتي وأكسب تعاطفه إلا أنني آثرت الصمت، لكن دموعي كشفتني.
قال أبي وهو يتأملني:
-هذا الرجل غامض، وأنا أخاف عليك منه، لقد سحبت المبلغ قبل أن يصل إلى إلغاء التوكيل.
أومضت في خيالي عينا سامح الغاضبتين، وأرعد صوته في أذني، فقلت خائفة:
-لم فعلت ذلك يا أبي؟
برقت في عينيه نظرة دامعة وقال:
-ألهذه الدرجة تخافين على مشاعره؟ ومشاعري ألا تعني لك شيئاً؟
حزنك يحرقني، أنت الأغلى ولكن اترك لي فرصة لأستأنس زوجي.
يحدثونني لا أسمع، يسألونني لا أجيب، كدت أقول لهم لقد سقطت في حفرة لا قرار لها وأنا الآن أتردى ولا أعرف إلى أين سأصل.
وتلتقط أمي إشارات سقوطي فتسألني هامسة:
-هل أنت سعيدة مع سامح؟
أزوِّر ابتسامة وأقول:
-نعم
لا أستطيع النوم ولا أريد للفجر أن يأتي.. في رأسي دوي وفي قلبي حزن وخوف.. استيقظت في الصباح مورمة الوجه موجوعة الجسد.
عندما جاء سامح في الصباح ورآني هتف بصوت عال تقصد أن يسمعه أهلي:
-ماذا حدث لك؟ عندما جئت كنت في أحسن حال
قلت وأنا أتحاشى النظر إليه:
-مجرد أرق وصداع من تعب السفر
قال مداعباً:
-هيا نذهب إلى الشيراتون فقد يذهب عنك التعب
ما كدنا نستقر في مقاعدنا حتى سألني.
-هل وصل إلغاء التوكيل إلى والدك؟
قلت دون أن أنظر إليه:
-نعم ولكنه كان قد سحب المبلغ.
كأن قنبلة انفجرت في عينيه ويديه وجسده، كان صوته يرعد في كافتيريا الفندق:
-لا لست الغبي الذي يظن، أنا ابن شوارع، أنا ابن كلب، سأسحب المبلغ من عينيه وبأقذر الطرق .
ما خرج من فمه كان شيئاً لا يصدق، ذهلت وأنا أسمع هذا السيل من البذاءات، كان الناس ينظرون إلينا بفضول واستغراب(1/69)
-أرجوك يا سامح اسكت نحن في مكان عام.
-ليسمعني الناس جميعاً. أريد أن يعرفوا من هو أبوك.
-أرجوك دعنا نغادر.
طوال الطريق واسطوانة الشتائم تتكرر، فقد أي منطق، لم يعد إلا فماً يقذف كلاماً متكرراً معاداً.
لم أره على هذه الحالة أبداً لم يكف لحظة عن الكلام في السيارة.. على الدرج.. أمام أهله.
دخلنا إلى غرفته وسط نظرات أهله المستغربة، أغلق الباب، أدار المسجل وتابع الكلام، رجوته أن يصمت فأنا أكاد أجن.
عندما سكت راح في سبات عميق، أما أنا فقد اعتراني صداع قاتل، كنت أحس طبولاً تدق في رأسي وأسمع صياحاً وضجيجاً، ثم شعرت بحالة من الوهن جعلتني عاجزة عن الحركة.
استيقظ من النوم، خرجنا لنشرب الشاي مع أهله، عندما رن جرس الهاتف ركض إليه، رفع السماعة وقال:
-علا نائمة
نظر إليه الجميع مندهشين.
قلت له:
-إنهم أهلي فلماذا تتصرف بهذه الطريقة؟
رد علي :
-أنا حر في تصرفاتي.
أيظن أنني ضعيفة إلى هذا الحد؟ أيظن أن باستطاعته أن يعصب عيني ويقودني كما يريد.
عليّ أن أستعيد ذاتي، أن أقول له توقف فأنت لا تستطيع أن تنزع الروح مني، نزلت من البيت دون أن يراني وذهبت إلى أهلي.
قلت لأبي:
-الآن أعرف أنك كنت على حق، أنت الوحيد الذي استطاع أن يعرف سامح فلم وافقت على الزواج؟
من عينيه أطلت نظرة عتاب، لكنه قال:
-علينا أن نفكر بالحاضر
قلت:
-أريد الطلاق
قالت أمي:
-لا تتعجلي .
لكنه لم يترك لي فرصة التفكير، في الصباح جاء شرطي يستدعيني إلى المخفر ليواجهني الضابط بتهمة النشوز وأنني مراراً رفضت العودة إلى بيت الزوجية.
قال أبوه:
-ابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها .
الحب الذي حملته لسامح أصبح جلسة صلح يتحدث فيها الجميع وأنا أستمع إلى مصيري يقرر.
كل الأحاديث دارت حول إزالة سوء التفاهم، أما النقود التي تسببت في المشكلة فقد تقرر أن يشتري بها والدي شهادات استثمار باسمي وتبقى لديه.(1/70)
ودعت أهلي وأنا أحس بأنني لم أرهم وأن الإجازة قد ذهبت شجاراً وعتاباً ومصالحة.
عدت إلى الكويت محبطة.. ولكن ما أعجب تقلبات النفس؟!
ما إن دخلت إلى بيتي حتى شعرت بأنني قد اشتقت إليه كثيراً وأنه هو مستقري وأماني، وأن ما جرى في القاهرة كان زوبعة مضت، أما سامح فبدا كأنه يعيد أيام شهر العسل، توقف عن سهراته المتأخرة، في المساء إما أن نخرج معاً أو يمكث في البيت لمشاهدة التلفزيون.
كادت الطمأنينة تعود إلي لولا بعض لحظات أراه فيها شارداً فأسرع إليه أداعبه لأخرجه من شروده الذي يخيفني.
ذات ليلة لم يعد، قلقت عليه، خفت أن يكون قد وقع له حادث.
انتظرته حتى شارفت الساعة على الثالثة صباحاً، عندها فتح الباب مترنحاً، كانت عيناه محمرتين ورائحة الخمر تنبعث من فمه عندما التقت عيوننا بادرني بالقول:
-يجب أن أستعيد شهادات الاستثمار من والدك. من المفروض أن تبقى معي.
-أرجوك لا داعي لفتح الموضوع ثانية
-سنفتحه ثانية وثالثة ورابعة، يجب أن تعرفي أن أباك قد أخطأ في حقي
-وأنت ألم تخطئ في حقي وحقه؟
-كفي عن غبائك
قلت وأنا أؤكد على كل كلمة أنطقها:
-سامح. لا تتحدث معي بهذه اللهجة.
نهض من مقعده، جاء إلي. وقف أمامي.... نظرت إليه مستغربة..
على وجهي تلقيت الصفعة الأولى، استدار رأسي فأعاده بالصفعة الثانية، كان وجهي يستدير إلى الجانبين وكانت الصفعات تتوالى.
-عندما تتحدثين معي يجب أن تكوني مهذبة، لا ترفعي صوتك في وجهي.
تولاني الذهول، لم أستطع فهم ما حدث، كنت أراه وأسمعه ولكنني أتخيل أنني أشاهد شريطاً سينمائياً لقبو تعذيب وأن شخصاً معتوهاً يضرب امرأة، وأتساءل من هذه المرأة؟ ولم لا تحاول أن ترد الضربات؟(1/71)
وأراه يتضخم ويتضخم ويملأ الصالة وأسمع ضجيجاً في أذني يجعلني غير قادرة على استيعاب الكلمات وأتساءل من هذا الرجل الذي يتكلم، فكان وسط كلامه يوجه إلي لكمات تعيدني إلى مواجهته... كانت الصدمة مريعة لو لا ألم الضربات ما كنت أصدق أن ما حدث حقيقة.
قضيت الليلة أبكي وقضاه يدخن... هذه الليلة كانت الحاسمة في حياتي... روحي مسحوقة بوطأة عذاب ثقيل..
"زهرة البيت أنت يا علا" وتضمني أمي إلي صدرها "آخر العنقود وأغلى الجميع" ويحتضنني والدي زهرة البيت يا أمي تداس.. أغلى الجميع أصبحت رخيصة ومن يدوسها؟ الرجل الذي أحبته!
في الصباح ذهب إلى عمله ولم أكن أستطيع النهوض، كانت الإهانة تسحقني، كنت خجلة من نفسي، عندما نظرت إلى وجهي في المرآة انفجرت بالبكاء، كأنني رأيت إنساناً غالياً علي فأشفقت أن يراني بهذا الهوان..
أهذا الذي وعدني بالسعادة؟
-لقد أحببتك يا علا... أحلم بحياة حلوة معك وأعدك أننا لن نتفرق أبداً
-أحبك عدد ذرات الرمل
-هذا شعر
-أحبك حتى أموت
أخذني بين ذراعيه، داعب شعري قبلني، أسندت رأسي إلى كتفه، أنه جزء مني وأنا جزء منه... كف تهوي.. طلقني.. يبكي.. يضمني إليه
-لا أستطيع أن أعيش دونك.
مترددة.. آملة.. مددت يدي لآخذ بيده علنا نصل إلى بر الأمان..
قلت للحزن ارحل عني.. قلت للخوف انتهت أيامك، أقول للطمأنينة عودي إلى قلبي فقد طهر الألم قلب من أحب.. أقول يا شمس الفرح أشرقي في سمائنا..
أضاءت السماء.. ولكن فرحي لم يكتمل.. بقعة غريبة ظهرت في أفقنا.. راحت البقعة تكبر.. غيوم رمادية ظللت السماء.. صمت مرعب حجب الفرح.
هي العاصفة أحس بتحرك ريحها رغم خفوته..
سهراته عادت وامتدت حتى الفجر، روائحها تملأ أنفي، عطور عندما يذهب وخمر عندما يرجع.
قال لي دون مقدمات وهو يغادر إلى سهرته
-لقد كنت محقة في طلب الطلاق، يجب أن نفترق كنت أتوقع مفاجأة، ولكن لم تكن هذه هي المفاجأة التي أتوقعها.(1/72)
الآن يريد الطلاق؟ أبعد أن تصافينا يريد الطلاق؟ أهي صحبة السوء التي يرافقها أم هي إحدى تجليات شخصيته الغريبة.
أتكون كرامته قد آلمته لأنه بكى أمامي فظن أنني سأستغل ضعفه وأفرض عليه شروط حياة جديدة؟
أهي محاولة ضغط لأقدم مزيداً من التنازلات المادية؟
نظرت إليه كان كمن ينتظر مني أن أسأله تفسيراً، أن أرجوه متابعة حياتنا معاً، أن أبكي أمامه وأرفض الطلاق فنتساوى على مستوى الكرامة، في عينيه انتظار ويقين بأن ما يتوقعه آت، وبأن القطة ستموء وتتمسح بقدميه وتطلب منه فتات الرضى.
عندما تأملته لم أجد أمامي "سامح" وإنما وجدت جلاداً قاسياً ينتظر التوسل من الضحية.
قلت:
-كما تريد.
قال غاضباً:
-أبهذه السهولة تبيعنني؟
-أنا لم أبعك، طلبت الطلاق لأنك آذيتني بتصرفاتك، أنا لم أسئ إليك فلماذا تطلب الطلاق؟
قال الكبرياء:
-امرأة تطلب الطلاق مني ليست جديرة بي.
قلت:
-الأفضل أن نفترق احمرَّ وجهه، ارتجفت شفتاه، قال بصوت عالٍ:
-إذن عليك أن تتنازلي عن كل حقوقك.
ضحكت ساخرة:
-أهذا هو ما يشغلك؟ كما تريد يا سامح.
-اطلبي من والدك أن يسلم أخي عشرة آلاف جنيه بدلاً من التي اشترى لك بها شهادات استثمار.
قلت بهدوء:
-سأقول له.
قال وصوته يتقد بالغضب
-إذن تريدين الخلاص مني؟
حملت نظراتي كل ما أملك من عتب ونظرت إليه، ثم قمت إلى الهاتف لأتحدث مع أبي، ما أن وصل إلى صوت والدي حتى قام سامح إلي خطف السماعة من يدي وراح يصيح:
-عليك أن تسلم عشرة آلاف جنيه لأخي وأي تخلف سيعرض ابنتك للخطر؟(1/73)
صعقت، اجتاحني رعب، تجمدت، أهذا الواقف أمامي هو زوجي أم رجل عصابة؟ لعله سيضع السكين على عنقي ويجعلني أصرخ ليسمعني أبي، من يدري لعله يقتلني حقيقة لو خطر لوالدي أن يعانده أغلق الهاتف في وجه أبي وأنا ذاهلة.. لم يكن باستطاعتي أن أنظر إليه، كنت أحسه مخيفاً.. مستحيل أن يكون هذا الإنسان طبيعياً.. مستحيل أن يكون إنساناً واحداً.. اجتاحني الرعب لعله في نوبة من نوبات فصامه يقتلني.
يدخن.. يقوم.. يجلس.. يدخل.. يخرج وأنا مذعورة، أتظاهر بمتابعة التلفزيون وقلبي يكاد يتوقف.
دخل الغرفة لينام فتنفست الصعداء، كدت أتسلل على أطراف أصابعي لأهرب من البيت لكن صوته وصل إلي:
-تعالي
-لا أحس بالنعاس
هدر صوته:
-بل ستأتين.
خائفة ذهبت إليه، كان مرعباً.. قاسياً.. في كل لحظة أتوقع أن يخنقني وكان الذعر يجمدني.
غرق في النوم.. وغرقت في البكاء.. يجب أن أهرب إلى أي مكان إنني أعيش مع وحش.
في الصباح خرج وسمعت المفتاح يدور في القفل، هرعت إلى حقيبتي أبحث عن مفتاحي، ولكن عبثاً لقد أخذه. اتجهت إلى الهاتف لأتصل بأهلي ولكن الهاتف لم يكن موجوداً.
أموت في وحدتي وأكره أن أراه داخلاً ففي مجيئه يكمن الرعب.
-إلى متى سيستمر سجني؟
-إلى أن أشاء.
عشرة أيام والباب مقفل علي، أتمنى أن أصرخ أن أطلب من الناس إنقاذي فأنا أكاد أجن.
السجن إذلال للإنسان وقتل لروحه فمن المجرم الذي اخترع هذا العقاب؟
الآن أعرف ما الذي تعنيه الحرية وما الذي يعنيه السجن، وأقول أيها الناس افتحوا أبواب السجون وأطلقوا أولئك التعساء.(1/74)
أنظر من النافذة، الشوارع خالية والغبار يلف المدينة ينفذ من الشقوق، يدخل رئتي.. أكاد أختنق تعاودني ذكرى أيام بعيدة. القاهرة.. شباب وأمنيات وصديقات وزملاء ومستقبل حلو يكاد يشرق.. كانت الآفاق مفتوحة.. دراسات عليا.. ومنصب أستاذة في كلية الفنون فلماذا جئت إلى الكويت أهو إغراء المال؟ أهو إغراء التجديد؟ أهي الرغبة في كشف المجهول؟... أي مجهول تعس ذلك الذي كشفته؟
ضيق يخنقني.. صداع يفجر رأسي.. وهن يسيطر علي.. أتساءل كيف يصبر المسجونون على هذا العذاب الذي لا يطاق؟
في العصر يدق الباب، أنظر من العين، أرى ليلى وزوجها.
أصرخ بأعلى صوتي:
-ليلى أنا مسجونة، أريد الطلاق.
جاءني صوت زوجها
-متى يعود؟
قلت خائفة:
-لا يعود إلا في الليل، أرجوكما لا تتركاني.
قالت ليلى:
-سنعود إليك عندما يأتي.
في الثانية عشرة رجع وبعدها بقليل جاءت ليلى وزوجها قالت:
-أين كنتما تختبئان؟ منذ وصولنا من القاهرة ونحن نحاول الاتصال بكما ولكن عبثاً.
قال سامح:
-الهاتف معطل.
قلت لهما محاولة كسب الوقت:
-سأذهب معكما، فأنا أريد الطلاق قالت ليلى بحزم:
-خذي ثيابك وتعالي معنا.
صرخ سامح كالمجنون:
-بأي حق تتحدثين، إنها زوجتي ولن أسمح لها بمغادرة البيت.
قلت بإصرار:
-لا آمن على نفسي معك، أريد الذهاب.
التفت إلى ليلى وزوجها قلت:
-لقد ضربني وسجنني ومنعني من أي اتصال مع الآخرين.
صاح في وجهي:
-من حقي أن أضربك، من حقي أن أفعل ما أريد، أنا الرجل في هذا البيت.
قال زوج ليلى بهدوء:
-إذا كنت مصراً على بقائها فسنذهب جميعاً إلى المخفر وتكتب تعهداً ألا تؤذيها.
لمحت في عينيه غضباً هائلاً، توقعت أن ينقض على زوج ليلى، لكنه اكتفى بقذف فنجان الشاي الذي كان بيده إلى الحائط. تطايرات الشظايا وأصابنا الرذاذ.
نهض من مكانه وهو يصرخ
-أخرجا من بيتي.
قال زوج ليلى:
-لن نخرج حتى تقطع لنا عهداً بألا تسيء إليها.(1/75)
تعهد بأن لا يؤذيني، ولكن ما الذي يضمن لي عهده وهو الذي ما صدق أبداً، فكيف سيبر وقد جرح وأهين؟
أغلقت الباب خلفهما وتشاغلت برفع الفناجين وتنظيف الأرض من الزجاج وبقايا الشاي وكنت ألحظه بطرف عيني ففي كل لحظة أتوقع أن ينقض علي ويقتلني، ولكن لا.. لن يفعلها، إنه حريص على نفسه، ليلى وزوجها شاهدان، سيتورط، وسيحرم من حياة الليل التي يعشقها ومن السهرات التي ذهبت بعقله.
دخل الغرفة لينام وبقيت جالسة في الصالون، أخاف أن أنام، وأخاف أن أسمع نداءه.
تمددت على الأريكة أرهف سمعي لألتقط أية إشارة تنبئ عن قدومه.. لا أدري متى أغفيت.
في الصباح استيقظت على صوته يقول لي:
-ارتدي ثيابك
-لماذا؟
-لأطلقك في المحكمة.
أنا التي أريد الطلاق، ولكنني شعرت بشيء ينهار في داخلي.. خذلتني ركبتاي.. لا أتمنى أن أنتهي من ارتداء ثيابي.. إنها الخطوة التي لا رجعة عنها.. أنظر إليه، أتأمله، بعد اليوم لن أراه.. هذا البيت لن أعود إليه.. لن يكون لي.. وكأنني ما عشت فيه أحلى أيامي وأتعسها.
ذهبنا إلى ليلى وزوجها، أخذناهما معنا إلى المحكمة ليكونا شاهدين وقفنا أمام القاضي فراح يتحدث عن أبغض الحلال إلى الله وعن إعطاء فرصة لمراجعة النفس والصلح.
بقيت صامتة فسألني:
-أما زلت مصرة على الطلاق؟
هززت رأسي بالإيجاب قال:
-هل تنازلت عن حقوقك بإرادتك؟
قلت
-نعم عن كل الحقوق سألني مشفقاً:
-ألهذه الدرجة ترغبين بالطلاق؟
رغماً عني انهمرت دموعي وقلت:
-نعم
-لا تبكي يا ابنتي ورددي ورائي: أنا علا...
التفت إليه وطلب منه أن يلقي يمين الطلاق سكت.. اغرورقت عيناه بالدموع قال:
-أنا أحبها، ولا أريد الطلاق.
للحظة أبرق شيء في داخلي.. أومض فرح.. ثم رأيت يده مرفوعة. تذكرت أيام الإذلال والسجن.
فتلبسني الهمود سمعت القاضي يقول:(1/76)
-لقد جئتما وقد اتفقتما على الطلاق وهي تريده، طلقها الآن وإن كان في نيتك أن تحسن معاملتك معها عودا إلي وسأعقد قرانكما ثانية: بمهر جديد ومتأخر صداق جديد، يا بني إن للناس كرامات وحقوقاً.
أخرج من المحكمة... أحس الشمس كاوية تحرق روحي أسير إلى جانب ليلى وزوجها، أتلفت حولي أترى الناس يعرفون أنني أصبحت مطلقة؟ مطلقة في الرابعة والعشرين من عمرها: مطلقة بعد سنة من زواجها..
لا أطيق هذه الكلمة ولا أتمنى سماعها.. تمنيت أن ألقي بنفسي في حضن أمي وأبكي.
قلت لليلى:
-أريد أن أسافر إلى مصر.
قالت:
-لا وقت لديك، لم يبق لافتتاح المدارس إلا أسبوع .
أأعود إلى المدرسة لأصبح حديث الموسم وتنهال علي الاتهامات والنصائح؟
قالت ليلى بهدوء:
-لا تنساقي وراء عواطفك، أنت في الكويت قبل أن تتزوجي، جئت إليها بمحض إرادتك فلا تغادريها بتأثير الطلاق.
سكن المدرسات الذي كنت أقطن فيه مغلق.. أمامي أسبوع لا أعرف أين أقضيه وكأن ليلى أحست بحيرتي فقالت:
-ستبقين عندي.
شعرت بالخجل إنها قريبته فكيف أكون ضيفتها؟
قالت لي:
-أحس بالذنب فأنا التي عرفتك إليه.
قلت:
-لست ملومة يا ليلى أنا التي أسأت الاختيار.
بعد يومين يأتيني صوته على الهاتف باكياً
-ارجعي يا علا فأنا أحبك.
وأبكي معه، وأكاد أذهب إليه.. أتذكر يده المرفوعة.. أحس بالصفعات على وجهي فأقول: -لا
يرسل لي ثيابي وأوراقي وبطاقة البنك.. أتأمل هذه الورقة الصغيرة سبب البلاء.
وأقول:
-يا الله ما الذي فعله المال بالإنسان!
أذهب إلى البنك، أسأل عن رصيدي، يقول لي الموظف:
-لم يبق لك إلا خمسة عشر ديناراً.
الآن أقف عاجزة عن الفهم والحركة، بأي حق يبيح لنفسه أن يأخذ تعب سنة كاملة؟
أهو المال المسؤول عن هذه الدناءات أم هي النفس التي تملي هذه الدناءات؟
أتساءل عن بيوت الأقارب والصديقات على أي أساس تقوم؟
أكاد أسأل ليلى هل يستغلك زوجك؟ هل تدفعين له ثمن نومه معك وثمن إنجابك لأطفالك؟(1/77)
ليلى تهرب بنظراتها مني.. الناس يخجلون من تصرفاته، وهو ألا يحس بالخجل من نفسه؟ رواتب سنة كاملة مقابل عشرة آلاف جنيه اشترى لي بها شهادات استثمار.. خرج من المعركة بلا خسارة، ولكن أنا ما الذي يعوضني فقد أخذ قلبي وجسدي وأحلامي ومالي.
أحمل حقائبي وأعود إلى سكن المدرسات.. الجميع حولي يصخب.. يضحك.. يتحدث عن متعة أيام الإجازة، وأنا أحس بنفسي منفية إلى عالم بعيد أفتح فمي أقول كلاماً.. تتسع شفتاي ترسمان ابتسامة.. وأعرف أنني لا أشعر بما حولي.. ولكنني أتحرك وأتحدث بحكم العادة، كل الأشياء الجميلة غابت.. لم يبق لي إلا كلمة مطلقة.
يا براءة الأيام الراحلة عودي.. يا صفاء النفس.. يا صدق الضحكة تنطلق من القلب هل ترجعين؟ أقول للزمن أعد لي سنة عمري الضائعة.. مازلت هذه الصبية المندفعة التي تتلهف لمعرفة أسرار الحياة.
أريد أن أغوص على هذه الأسرار لأعرف لماذا أخفقت؟ لماذا انطوى شراعي في بداية الرحلة.
هل سيقدر لي أن أبحر ثانية فأعرف شواطئ وشموساً.. وأقماراً وأناساً؟ هل سأرتاح على صدر إنسان فينسيني عناء تجربتي؟!.. هل أستطيع أن ألغيها.. أن أمحوها من حياتي.
تجربة قصيرة ولكنها اختزلت حياة كاملة فهل أنا نادمة؟
أتساءل أيهما أفضل للإنسان أن يبقى على شاطئ الحياة متأملاً أم أن يخوض غمارها؟
هل أنا نادمة؟ هل أبيع هذه المعرفة بسلام الجهل؟
لا لست نادمة عرفت الحب حتى منتهاه، عرفت توهج القلب في الفرح وانطفاءه في الحزن، عرفت الخوف والاستلاب، وعرفت الرفض والكبرياء.
عرفت ما يضيِّع الإنسان من عمره سنوات حتى يعرفه.
تجربتي دخلت قلبي وعقلي ودمي، أصبحت جزءاً مني، وأنا إنسانة معتزة بنفسي وسأعتز بتجربتي فقد علمتني كيف اختار
((
أربعة وجوه للحب
1-حلم.
2-الومض.
3-أوديب والعشيرة.
4-الوشم.
الومض(1/78)
كنت أقلب الصحيفة أحاول أن أدفع بها سخافة الانتظار في قاعة المسافرين عندما انسابت إلى أنفي هذه الرائحة المميزة.. غرقت في خضرة الشجر.. وشدو العصافير.. وغناء الجداول.. والضياء.. والسحر.. والقمر..
رفعت عيني ولكنها تخطتني.. أمعنت النظر إليها، إنها هي.. القامة الممشوقة، المشية الواثقة، الثوب داكن الخضرة الذي يلف جسدها، تبعتها بعيني تسير وسط المقاعد إلى أن وصلت إلى كرسيٍّ خال فجلست.
بارحتني الطمأنينة فغادرت مكاني أحوم حولها، وأحاذر أن تقع عيناها علي.
أتأمل وجهها بسمرته الدافئة والعينين الخضراوين المشعتين، أحس أسىً شفيفاً يتمشى في ملامحها.
غارقة في صمتها، بين اللحظة والأخرى تنظر إلى ساعتها وترسل نفثات من نفاذ صبرها المعهود وأكاد أسمع صوتها الغاضب "لا تدعني أنتظر، قلت ألف مرة إنني أكره الانتظار".
تتحدث إلى جارتها مرة، تشرد أخرى، وأنا أرقبها، أتمنى أن أتشرب كلامها "أيتها الإنسانة الغريبة: لقد أحببتك".
عشرة أعوام منذ افترقنا، وهاأنذا أراك اليوم فتعيدين إليَّ الصبا واللهفة والشوق.. أستعيد صوتها:
-صحيح أننا متحابين ولكن يبدو أن المستقبل لن يكون لنا، ما نختلف فيه أكثر مما نتفق عليه.
-نتقارب.
-شيء ما يبعدني عنك، كنت أظن حبنَا مطلقاً، ولكن في لحظة أحسست أن ما بيننا قد انتهى وأنك لم تعد هذا الإنسان المميز، ولكنك رجل كباقي الرجال.
أيتها المجنونة! وهذا الذي تزوجته أليس رجلاً كباقي الرجال؟.
نسمع إعلان التوجه إلى البوابة، تدب الحركة في القاعة، الجميع يسرع وهي تسير متباطئة وكأن ما يجري لا يهمها. تتقدمني، أكاد أحاذيها فأتأخر، يفصل بيننا بعض المسافرين.
ندخل الطائرة، تقدم بطاقتها للمضيفة، يا لغبائي لو جئت خلفها فربما جلسنا في مقعدين متجاورين وابتسمت للفكرة الطريفة.
جلست في مقعدها، مررت من جانبها، حاولت أن أتلكأ، تمنيت أن تتلاقى نظراتُنا ولكنها لم تنتبه.(1/79)
كان مقعدي على الطرف المقابل يتأخر عن مقعدها بثلاثة صفوف، فرحت لأنني أستطيع أن أراها. ترى ما الذي تفعله في باريس؟ ولماذا لم يرافقها؟.
أتأمل وجهها:
-أتعرفين أن أول ما جذبني إليك طرفُ وجهك الجميل؟.
-ثم صدمت عندما رأيت وجهي؟.
-كانت أجمل صدمة.
تنطلق ضحكتُها صافيةً.
-وأنا أول ما أحببته فيك حديثك الجذاب.
-وعندما تعرفتِ إليَّ أُصبتِ بالخيبة؟.
تمعن النظر في وجهي تقول بين المزاح والجد:
-هناك بعض الصحة فيما تقول.
ونمضي في علاقتنا عصفورين صغيرين يحلمان، سنتان من الحب ثم كان قرارها بالانفصال.
انسحبت متمسكاً بكرامتي، ولكن لأعترف بأن جُرحي كان مؤلماً، سافرت، ثم تزوجت، أصبحت أباً، ويرف علي وجه رنا وسامر فابتسم.
الطائرة تحط في المطار، أخرج إلى ليل عذب النسيم، تسبقني إلى شباك موظف الجوازات، أراها تسرع في الجهة المقابلة، عندما خرجت إلى قاعة الحقائب كانت قد غادرت.
أصل إلى البيت، يستقبلني هتاف الصغيرين وعناقهما، أسلم على زوجتي ساهماً.
الصغيران يعبثان بالهدايا، زوجتي تقيس الفساتين التي جئتها بها وتسألني عن أحدث الأزياء التي رأيتها في باريس.
وأنا مشغول بفكرة تلح عليّ، لو أنني حادثتها، لو أنني نظرت في عينيها، لو سألتها عن قرار القطيعة، رغبة جامحة تدفعني للحديث معها، لسماع صوتها..
أغافل زوجتي، آخذ دليل الهاتف، أبحث عن اسم زوجها، أتسلل إلى الصالون، أضرب الرقم يأتيني صوت طفلة.
بصوت مرتعش أسأل:
-هل جاءت ماما من السفر؟
-نعم وصلت من حوالي ساعة. من الذي يتحدث؟
-أعطني إياها من فضلك.
أسمع صوتها ينادي:
-ماما. هناك شخص يريد الحديث معك.
-...
-لم يقل اسمه.
من الطرف الآخر يصل إليَّ صوت رجولي نزق:
-من المتكلم؟
تعالت اللهجة غاضبة متوعدة، ومن غرفة النوم تناهى إليّ وقع أقدام زوجتي وصوتها يسأل:
-مع من تتحدث في هذا الوقت المتأخر؟
وضعت السماعة بهدوء وفي قلبي انطفأت هذه الومضة التي أضاءت لي الذكريات.
حلم(1/80)
أوقف السيارة تحت الشجرة، عن يميني الحديقة والبحر وعن يساري موقف الباص، ما الذي جاء بي إلى هنا؟ المغامرة؟ الحنين؟.
انتظار حلم ينبثق من ثنايا الغيب؟ هل أراها؟ ما الذي تحمله لي رؤيتها؟ هل ستعرفني؟ تبتسم وتسلم؟ تنظر إليّ وتمضي؟ أما زالت ابتسامتها حلوة؟ يا لعينيها الخضراوين والظلالِ التي تتراقص عليها! أما زالت لها هذه النظرة الضاحكة الحيية؟.
الباص يروح ويجيء، يصعد إليه أناس وأنا أبحث بينهم عنها، يغاويني البحر، أتأمل صفحته الرائعة وشمسُ الأصيل تنسكب عليها..
ما زال البحر هو البحر ولكني أنا من تغير، كنت في الثانيةِ والعشرين من عمري أصبحت اليوم على أبواب الثلاثين.
لست حزيناً، أستطيع أن أعد نفسي محظوظاً، غمر الحب حياتي منذ طفولتي وحتى الآن، بعض آمالي تحققت وبعضها على طريق التحقق.
أردد لنفسي أنا سعيد فالحياة تبتسم لي، تعطيني ما أريد فماذا أريد من فتاة الموقف؟.
التفت من تأملاتي مذعوراً فربما فاتتني المراقبة، ربما جاءت ومضت، متحدياً الشرود ثَبْتُ نظراتي على الموقف....
لو رأيتها هل أعرفها؟ هل تزوجت، وأصبح لديها أولاد؟ ساءتني الفكرة، عنفت نفسي، ماذا كنت أتوقع منها، أن تنتظر وعد نظراتي؟.
أنا تزوجت وأصبح لدي أولاد فلماذا أنكر عليها ما أبحتُه لنفسي؟..
هل كان حباً؟ أحاول الآن أن أسميه، أن أفسر ماهيته فيتأبى علي.. قلبي كان مشغولاً فكيف تسللت إليه؟.
منذ الصغر أحببت "سوسن" مشيت معها في الشوارع، كتبت لها رسائل الغرام اختلسنا المواعيد، كان كل منا يعرف أنه للآخر، كان القدر يدفعنا إلى بعضنا البعض وكنا نحب هذا القدر.(1/81)
وأنا غارق في حبي التقيت بها "فتاة الموقف"، كنت أقضي خدمة العلم في اللاذقية، أمام الحديقة هنا كنت واقفاً أنتظر الباص الذي يقلني إلى الثكنة، لمحتها قادمة، قامة ممشوقة، وجه أسمر تسطع فيه شمسان خضراوان، تلاقت نظراتنا وطال اللقاء فاحمرَّت وأغضت، أحسست حضورها مضيئاً.. شعرت أن كل شيء قد غدا متألقاً.. البحرَ.. الشمسَ.. وجوهَ الناس، أحسست بفرح هادئ رقيق يتسلل إلى قلبي، كأن نبعاً رقراقاً راح يروي أعماقي.
ما جرؤت على الكلام معها ولا الاقتراب منها، أراها كل يوم أنتظرها كل يوم.. حضورها العذب كان يكفيني، أُقارن بينها وبين "سوسن" فأرى الفارق ما بين النهر الصاخب وبين النبع الهادئ، حبي لـ "سوسن" كان حباً قدرياً، كل منا منذور للآخر فلماذا تأتي "فتاة الموقف" لتلقُي بظلها على هذا الحب؟.
في إحدى المرات انتظرت ولم تأتِ، أصابني الضيق، لقاؤها أصبح جزءاً هاماً من يومي، لا أستطيع أن أتصور أن يمضي هذا اليوم دون أن أراها.
جاء الباص فلم أصعد، ليكن ما يكون، سيعاقبني الملازم/؟ ليعاقبني ولكن يجب أن تأتي أن تتلاقى نظراتنا وعندئذٍ يؤذن ليومي بأن يسير راضياً، مضت خمس دقائق دون أن تأتي، مضت عشر.. في الدقيقة الثانية عشرة كانت تركض إلى الموقف ركضاً، تلاقت نظراتنا طويلاً فابتسمت، هل كانت تحية؟ اعتذاراً؟ حباً؟.
أأحبها؟ أنا لا أعرف عنها شيئاً.. اسمها.. صوتها.. أهلها.. بيتها.. ليتني أعرف كيف أناديها.
وحققت لي المصادفة أمنيتي عندما جاءت إحدى صديقاتها وهمست:
-مرحباً ردينة.
وانطلقتا تتحدثان، عرفت اسمها.. سمعت صوتها.
يا الله ما أجمل هذا الاسم "رمح رديني يغوص في القلب كما العينان الخضراوان".
لا. يجب ألا أنساق وراء أوهامي "سوسن" هي حبي فماذا أسميك يا "ردينة"؟ الطيف؟.. الحلم.. الغموض الذي يأسرنا ونتشوق له ونتمنى لو نسير إليه ولكننا نسير في خط حياتنا الذي رسمناها؟.(1/82)
أنهيت خدمة العلم وعدت إلى بلدي لأدرّس فيها وعندما قرأت على طلابي بيت مالك بن الريب:
تلفت من يبكي علي فلم أجد
1@سوى السيفِ والرمح الرديني باكيا
أحسست بغصة، أتراك تبكين فقدي؟ أتراك أحببتني، علقت علي الآمال ثم غادرتك دون كلمة وداع؟.
تزوجت "سوسن" وجاءني "غزوان" و"بانا" حياتي سعيدة، فلماذا تلوح لي العينان الخضراوان؟.
لماذا أعود إلى اللاذقية بعد غياب خمس سنوات أتعلل بواجب عائلي وفي أعماقي الحنين المخبأ.
أين تراك الآن؟ في البيت؟ في زيارة لإحدى الصديقات؟ في نزهة مع زوجك؟ أتكون الحياة قد قذفتك خارج البلد؟.
البحر يغاويني ولكنني في انتظار وعد غامض بعيد، وعد لم تقطعه ولم أطلبه ولكنه يمكث في ثنايا القلب واثقاً أنه سيتحقق.
الشمس في سيرها الدامي إلى البحر وأنا في انتظار "ردينة" ستغيب الشمس فهل يغيب الحلم؟.
الباصات تأتي وتروح والناس على الموقف يتغيرون و"ردينة" في مكان ما من هذه المدينة، ليتني أعرفه لأذهب إليها.
غابت الشمس فهل أبقى واقفاً بانتظار المستحيل؟.
متباطئاً أدير المحرك، رغماً عني تسير السيارة، أغادر شارع الملتقى..
من بعيد ألمحها، أحدق إليها، إنها هي تتهادى أمامي بثوب أخضر.. أوقف السيارة تتعالى أبواق السيارات ورائي، أسمع صيحات الاحتجاج ولكن ماذا يهم إنه حلمي يمشي أمامي.
أسير بين السياراتِ، أتلقى النظرات والصرخات الغاضبة، أصل إلى الجزيرة التي تفصل بين الاتجاهين.
تنفتح الإشارة في الشارع أمامي، تتدفق السيارات سيلاً، أحس بقهرٍ.. بغضبٍ.. فأصرخ بصوت عالٍ:
-ردينة.. انتظريني.
ضاع صوتي في زحمة الشارع، امتصته الضوضاء، كررت النداء ولكنها لم تسمع..
ركضت على أرض الجزيرة، بمحاذاتها.. أناديها.. ألوح لها.. لم تلتفت بل انعطفت إلى أحد الشوارع.
عندما توقف نهر السيارات، عبرت الشارع، ركضت وراءها، بحثت عنها أمام الفترينات في المخازن في العبارات.. ولكنني لم أرها.
أوديب والعشيرة(1/83)
لا. جو الشركة لم يعد يطاق.. لا همَّ لها إلا مضايقتي. وكأنها تحس النقص في أعماقها فتعوض بالانتقام من الآخرين.
تسعة من حملة الشهادة الجامعية، وهي لا تحمل إلا الثانوية العامة ولكنها الرئيسة.
إنها تملك ساقين جميلتين وتنورة قصيرة،.. يقولون بالتنورة القصيرة تستطيع أن تصل إلى كل شيء، فما ذنبي إذا كنت أحب ارتداء الطويل؟!..
في داخلي بركان يغلي.. كل يوم ممارسة تضغط على أعصابي.. لست أتباهى ولكنني أحب عملي وأذلل أمام الناس عقبات الروتين.
أُفاجأ أنها في تقريرها عني تتهمني بالتهرب من العمل وعرقلة أعمال الناس..
ثرت في وجهها.. كدت أقذف بكل ما أعرفه عنها.. ولكنني تماسكت، قلت أخرج من الإدارة في إجازة فربما هدأ الغضب.
اليوم هو الثامن عشر من كانون الأول سأرسل لـ "أندريه" بطاقة تهنئة بالعام الجديد..
سيفرح بالبطاقة وأنا هل سأفرح بقدوم العام الجديد؟ سأصبح في الرابعة والثلاثين من عمري، شعرت بغصة صغيرة ثم رفعت رأسي، الرابعة والثلاثون سن النضج فلم الحزن؟.
توقفت أمام إحدى المكتبات أتأمل الكتب المعروضة في الواجهة.. أحسست كتفاً تلامس كتفي، نظرت، إنه هو..
وقف كل منا يحدق بالآخر، شعرت في داخلي خواء ثم ثار الغضب.. أدرت له ظهري ومضى كل منا إلى طريقه.
يا الله.. اليوم ألتقي به! منذ خمسة عشر عاماً لم أره، الآن ينبعث أمامي بعينيه السوداوين بطوله الفارع بنظرته العميقة.
أي كلام يقال؟ أي عتاب.. ما بيننا حب وجرح وكبرياء.. ما بيننا كان نبض الروح.. كان فرح الحياة..
من يعيدني خمس عشر سنة إلى الوراء؟.
كانت الحياة سهلاً أخضر أركض فيه.. أتمرغ في عشبه، أتفيأ شجره، أقطف ورده.. أحلم وأحلم..
كانت الأحلام تطير بي إلى سماوات بعيدة كان هو نجمها.
كان القلب أخضر غضاً، فارتسمت في الأعماق عيناه وملامحه وصوته.. أرقبه، أوقت دراستي مع جلوسه في الشرفة.. هو الحب يطرق قلب صبية التاسعة عشرة فتشرع له أبوابها.(1/84)
كان قد تخرج طبيباً وكنت في سنتي الجامعية الأولى.. كان ينتمي إلى عائلة ثرية وكنت أنتمي إلى عائلة متوسطة الحال.
لا أنسى الصعقة التي أصابتني عندما دخل كافتيريا الجامعة، توجه إليَّ سلَّم عليَّ وجلس معي..
كان قلبي يطرق بعنف حتى ظننت أنه سيخرج من صدري.
سنة ونحن نلتقي، عرفت عنه كل شيء.. يتمه المبكر.. عدد إخوته، حبه الكبير لأمه فقد كان أصغر الأولاد وأقربهم إلى قلبها.
عرفتُّهُ على أهلي أصبح يزورنا في بيتنا.
قرأ السؤال في عيونهم، ثم ماذا؟.
جاء مع أمه ثم كان الغياب.. لم أعد أراه في شرفة ولا في طريق، أجلس ساعات في كافتيريا الجامعة أنتظر فربما..
ذات يوم جاء إليَّ يقول:
-ما زال الطريق أمامي طويلاً، سأذهب إلى فرنسا لأختصّ، لا يدري الإنسان ما الذي تخبئه الأيام لن أرهنك لمستقبل غامض.
وكنت أقول له:
-أيُّها المجنون هل أنت جاد فيما تقول؟ سأنتظرك مهما غبت، أو أسافر معك وأكمل دراستي هناك.
منعني كبريائي من الكلام.
أعرفه.. شفتاه تقولان كلاماً وقلبه يخبئ كلاماً آخر، وأنا أحاول أن أصدق. هي أمه.. لم أعجبها.. لست من العشيرة، فكيف تتقبلني.. وأوديب لا يستطيع ابتعاداً عنها.
كيف يمحى أمامها.. كيف ينسى ما بيننا؟.
***
أحببته بكل ما في الصبا من عنفوان، وجرحت بكل ما في الصبا من كبرياء..
الآن وقد رأيته يطوف في قلبي حنين.. تتوارد إلى ذهني الصور والأصوات.. اللقاءات.. والأمنيات..
ابتسم بحزن، لأعترف أنه كان شهماً، كان باستطاعته أن يستغلني.. عواطفي كانت مجنونة، كنت مندفعة إليه بصبوة الروح ولهفة القلب وشوق الجسد، حبي كان جارفاً وما أصعب أن تعود الأنهار إلى منابعها أن تكبح بالسدود، أية قسوة تعادل قسوة الهجران؟!.
تركنا الحي فتباعدت الأخبار، أطراف حديث كنت أسمعها عنه وعن إخوته، عرفت أنه سافر إلى الخارج ليتم دراسته ثم انقطعت الأخبار.(1/85)
الآن أراه.. أحدق إلى ظهره.. هذا الرجل كان يجب أن يكون زوجي يجب أن نكون معاً وحولنا أطفالنا.
***
خرجت من الدائرة أروِّح عن نفسي فإذا بالذكريات تصفعني.
بنزق أدخل إلى المكتبة أقلِّب بطاقات المعايدة، أيُّها الأقرب لذوقك يا "أندريه"؟.
أذكر ابتسامته العريضة، وجهه الأشقر، عينيه الزرقاوين.. ابتسم لذكراه تعاودني.
وصلت إلى السوق، استعرضت الواجهات، دخلت بعض المخازن، اشتريت بعض الأشياء لا رغبة فيها ولكن تنفيساً عن القهر الذي أحسه.
ما زال لديّ بعض الوقت قبل أن أعود إلى المؤسسة، دخلت شوارع فرعية لأطيل الطريق وأحتمي من الشمس وأهرب منه إن كان يلاحقني.
عندما خرجت من الشارع الرئيسي كان أمامي! لا. هذا جنون.
نظراتي عبرته سريعاً، لا فرح، لا حزن، لا خفقة قلب، كأنني أرى جداراً كأن هذا الإنسان ما كان في أحد الأيام دنياي.
وصلت إلى الشركة في حالة من الذهول والهدوء.. هو هدوء العاصفة، صورته كانت غائبة منسية فما الذي جاء به الآن؟.
لو أدرك الأحمق عمق جرحي فهل كان قد جرحني بهذا الغباء؟.
أحببته صادقة، حبه أغلق الباب أمام جميع الزملاء، ما استطاع أحد أن يتعدى حدود الزمالة.
حبه كان يسد عليّ المنافذ.. ثقافته.. رهافته.. عمقه.. أين أجدها.
قالوا متكبرة فليقولوا، متعجرفة فلأكن.
كنت واثقة أنه سيعود إلي ذات يوم، من أين تنبع هذه الثقة؟.
من أعماق الرغبة أم من رحم غيب خفي يكتب مصائر الناس فينساقون وراءه دون أن يدروا؟!.
بيتنا الصاخب المكتظ دائماً بإخوتي وأقاربي والأصدقاء والزوّار يشعرني بعدم الاستقرار، أريد بيتاً مستقلاً.. أكون فيه سيدة الوقت، أتمنى انعتاقاً من البيت والعمل.
عندما جاء "أندريه" كخبير زائر لشركتنا أعجبت بوسامته، اتقاني الفرنسية جعله يتوجه إليّ بكل أعماله.(1/86)
ببساطة طلب مني أن نذهب خارج المؤسسة لنتناول فنجان قهوة، وببساطة لبيت الدعوة، هل سأخاف من أهلي أم أخاف ممن سيراني معه، أصبحت في الثلاثين من عمري، من حقي أن أخرج مع من أرتاح إليه.. أن أسيِّر مستقبلي بالشكل الذي أريده.
نقاط التقاء كثيرة كانت بيننا، الأدب.. الموسيقا.. حب الانطلاق..
أعجبني ولأعترف بأنه أيضاً كان طريقاً للخلاص من الوظيفة ومن ضجيج البيت.
خلسة وجدته يتسلل إلى وجداني، أفكر به، تأتيني هواتفه من فرنسا نسمة عذبة تقول لي الحياة جميلة لا حدود لعالمها الرحب.
سنتان وهو يتردد على المؤسسة والود ينمو بيننا.. كاد الود أن يصبح حباً، قلت لأهلي بأنني سأتزوج وأرحل إلى فرنسا.
استنفرت العشيرة كلها، لم يكن من خارج العشيرة فقط بل من خارج الدين.
قال:
-أعلن إسلامي ونتزوج.
قال أهلي:
-يُسلم؟ لماذا؟ من أجل شقرتك؟ الشقراوات يملؤون فرنسا هؤلاء الأجانب لا تدرين ما الذي يدور في رأسهم.
في رأسي نبتت فكرة التحدي، أذهب إلى فرنسا وهناك نتزوج بعيداً عن البلد وعن العشيرة.
استهوتني الفكرة، عشت معها بكل مشاعري، مكالمات "أندريه" كانت تزيدها تأكيداً، تستنفر كرامتي.
أنا امرأة لها كيانها.. لها فكرها، هي التي تختار، لم أجد من العشيرة من أراه رفيقاً لدربي ماذا لو كان فرنسياً؟.
وتألقت أمامي باريس بأضوائها ومعالمها.. حياة جديدة.. ناس جدد.. شعرت بفرح بهواء نقي يملأ رئتي.
في لحظة الاختيار تراجعت، أمي وأبي وإخوتي وبلدي في كفة و"أندريه" في كفة أخرى.
ماذا لو تكشف لي عن عكس ما عرفته؟ أكون قد خسرت الطرفين.
رغم شوقي للمدن المتألقة البعيدة بدت لي باريس صحراء مقفرة وأنا وحيدة، أكان حباً؟ أكان رغبة بالهرب؟ ماذا كان؟.
مرّت سنة، عبر في حياتي كثير من الشبان ولكن ما وجدت في أحدهم صفة مما أحب، تساءلت هل الزواج يكون من أجل الزواج أم الزواج هو ارتباط مع إنسان تجد نفسك فيه؟.
أين أجد نفسي؟.(1/87)
الأيام تعبر بي مملة، لا شيء إلا البيت وضجيجه ومضايقات رئيسة الدائرة التي لا تنقطع.
وفجأة لاح "خلف" في سمائي، سمعت لهجته الحلوة، اللهجة العراقية المميزة.. التفت وجدت أمامي نخلة باسقة وعينين سوداوين فيهما ابتسام وفي أعماقهما شجن عميق شدَّني إليه، ابتسم فابتسمت له، حوّلت الزميلة معاملته إليّ، جاءني، تحادثنا في أمور العمل، عرفت أنه يعمل في انجلترا وهو حاصل على الجنسية الإنجليزية وقد جاء موفداً من الشركة التي يعمل فيها.
ماذا أحببت فيه؟ اللهجة؟ الغربة؟ الشجن؟ شيء عميق شدَّني إليه وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد.. قليل كلامه ولكن هو الكلام الذي ينفذ إلى أعماق القلب.
يغيب ثم يعود، لكنه يبقى في القلب، تأتيني هواتفه وفاكساته فأشعر أن الحياة حلوة كريمة.. وشديدة الغموض.
قلت لأهلي:
-أريد أن أتزوجه.
قالوا:
-مشرد لا وطن له.
قلت:
-أريد أن أكون وطنه وفرحه.
حدثني عن حياة حلوة تجمعنا، نعيش في انجلترا، نعمل معاً وفي المساء نعود إلى بيتنا، وتراءت لي بلاد الثلج والضباب..
كنت مفتونة بشيء غامض يناديني، شيء يقول لي حياتك ليست هنا، عندما تسافرين تنفتح أمامك الآفاق، تعيشين البهجة الحقيقية، تعيشين في قلب الحياة.
غاوتني فكرة السفر، امتلكت عليّ نفسي، كنت أحلم بالضباب والعشب الأخضر والبيت الدافئ.
صورة الريف الانجليزي وبيوت القرميد لاصقة في مخيلتي فهل تصبح حقيقة؟.
هي الأحلام تجمل حياتنا وإلا ما استطعنا الاستمرار.
لم يعد يأتي، تباعدت مكالماته... انقطعت... آخر رسالة لم أجد فيها نبض المحب الذي عرفته بل كان يدعوني لزيارة انجلترا كما لو أنني فتاة أوربية.
أهذا ما أنتظره؟ أن أزور انجلترا، عندما أريد أن أزورها أستطيع أن أزورها وحدي دون دعوة من شاب أعزب.
أين الرغبة في الارتباط والاستقرار؟ أهم أهلي تدخلوا من ورائي وجعلوه يبتعد؟ أم هو الذي ابتعد من تلقاء نفسه، وخاف على حياة الحرية التي يعيشها أن ينغصها الزواج؟.(1/88)
ولكن لم قال ما قال وكتب ما كتب؟... لم وعد إن لم يكن يستطيع الوفاء؟.
انتهى الدوام وخرجت من الشركة شاردة، عندما أردت عبور الشارع تلفت فوجدته على بعد أمتار في سيارته، توقف ريثما مررت، نظرت إليه لم يكن باستطاعتي حتى أن أبتسم، هززت له رأسي شاكرة وعبرت.
أمعقول أن أصادفه ثلاث مرات في يوم واحد؟ أهي إشارة من القدر.. تلتقيان تطويان صفحة الماضي ثم تعودان؟ لم أجرؤ حتى على الفرح.
استيقظ جرحي القديم فاستنهض كبريائي... أيها الجبان ضيعت من عمري خمسة عشر عاماً... أيها الجبان سرقتني من الحياة فبنيت حولك سوراً من وهم.
أكرهك... أكره حتى وسامتك وأناقتك... أيها الفارغ المغرور... يا أوديب الهرم أما استطعت أن تتخلص من سطوتها؟.
غضب... قهر... حيرة... عدت إلى البيت مضطربة حانقة... ما الذي ألقاك في طريقي ثانية؟ لماذا عدت؟ كنت قد ألقيتك في أعماق ذاكرتي فلم تعترضني الآن؟.
الآن أكتشف أنني لم أنسك وأن رؤياك تبعث في نفسي مزيجاً مراً من حنين وقهر وحب وكراهية.
الآن أكتشف أنك حبة الرمل التي سكنت لؤلؤتي وأنني لا أستطيع انتزاعك مهما حدث.
مرٌّ أن يعرف الإنسان داءه ولا يستطيع علاجه... مرٌّ أن يكون هذا الجبان قد جرحني وأهانني وأنني ما زلت أحبه.
أروح وأغدو وأسائل نفسي ما الذي كان يعنيه "أندريه" ما الذي عناه "خلف"؟ الآن أحس بأنني لم أحبهما، ما كانا إلا وسيلة لغاية تسكن في أعماقي، أن أذهب خارج البلد، علني ألقاه في مكان ما... في زمان ما.
أريد أن أعرف أخباره، أريد أن أتحدث معه أن أعرف ماذا فعل خلال هذه السنوات الطويلة.
هل استجاب الله لأمنيتي؟ بعد أسبوع رأيته عندي في الشركة.
تلاقت نظراتنا فابتسم، رغماً عني ابتسمت اقترب مني:
-كيفك؟.
رددت بلهجة محايدة:
-الحمد لله.
-ما أخبارك؟.
-كما تراني أعمل في هذه الشركة.
نظر إلى يدي وقال:
-وأخبارك الأخرى؟
أجبت ساخرة:(1/89)
-لا شيء جديد، مؤكد أن الأخبار لديك، ذهبت إلى فرنسا، تخصصت، تزوجت أصبح لديك أولاد.
ابتسم ابتسامة هي مزيج من المرارة والشجن:
-أتممت الدراسات العليا في دمشق وسأذهب إلى فرنسا لأكمل الاختصاص، لم أتزوج وليس عندي أولاد.
الآن ستذهب؟ إذن أين كنت طوال هذه السنوات في أية قوقعة كنت متخفياً، أصبحت يا أوديب في الرابعة والأربعين من عمرك ولم تسمح لك بالسفر أو الزواج؟
عندما انسحبت من حياتي تعللت بالسفر والاختصاص، كنت تكذب علي ورغم إحساسي بكذبك حاولت أن أصدقك ولكن الآن أحس بأنك قد طعنتني بوقاحة.
نظرت إليه ساخرة وقلت:
-ظننتك قد أكملت اختصاصك منذ أحد عشر عاماً.
سألني بأسى:
-هل تشمتين بي؟.
قلت وأنا أؤكد على كل كلمة من كلماتي:
-بل أشفق عليك.
هل طعنته؟ مؤكد... أغضى.. احمرَّ وجهه.. نظر إلي بعتب... استأذن وانصرف.
هل كنت قاسية عليه؟ قسوتي هل عادلت قسوته؟ ضحكت ساخرة ما أمرّ أن نقيس العواطف بمقياس المعادلات.
لماذا يتحول الحب إلى قسوة؟ لماذا تتحول المشاعر الحلوة والأحلام إلى سخرية وعتب.
من يقول سنلتقي هذا اللقاء الغريب نتبادل الطعنات المغلفة بالكلمات؟.
لماذا جاء؟ ما الذي كان سيقوله لي؟ أأنا التي أغلقت أمامه باب الكلام؟.
هل كان سيعترف بذنبه، هل سيقول لي أعرف أنني خرّبت حياتك وأنك لم تستطيعي أن تمنحي الحب لإنسان كما منحته لي، اغفري لي فأنا لم أخذلك وحدك بل خذلت نفسي.
ليتني لم أرد عليه بهذه الفظاظة... ليته يعود...
سيعيد إلي سنوات الانتظار، يعيد إلي صباي وبراءتي وأحلامي وتوهجي.
عودته تقول لي حياتك لم تكن سراباً بل انتظاراً لالتئام الروح.
لو يستدير سأقول له:
-عد فقد غفرت لك.
أكاد أناديه ولكن الباب يواريه.
هل يعود، ليته يعود....
يا الله لماذا يعيش بعض الناس على حافة الحياة ينتظرون ما لا يجيء؟
الوشم(1/90)
من وادٍ بعيد يأتيني الصوت عميقاً، أفتح عيني يتوضح رنين الهاتف، أتجاهل الصوت لكنه يتواصل، ليت الرنين ينقطع، ليته يتوقف قبل أن أصل، في قلبي نبت الخوف وفي نفسي اشتعل الفضول ثم استيقظ الهاجس القديم.
قلقة أنهض، خائفة آملة أرفع السماعة، يأتيني الصوت نائياً أقول:
-من؟
-ألم تعرفيني؟
إنه هو النبرة المميزة رغم اللكنة التي تشوبه، إنه هو ويريد اعترافاً مني بأني ما زلت أحفظ صوته، ولكن لا لن أمنحه هذا الوسام.
-تحدث أكثر لأعرفك.
-من تتصورين أنه يتحدث معك في مثل هذا الوقت؟
-أما زلت تحفظ فرق الوقت؟
-لا. أعرف إنه الليل.
-من أين تتحدث؟
-من دمشق.
استيقظت تماماً ولكنني كنت عاجزة عن الاستيعاب.
-ماذا تفعل في دمشق؟
-جئت لأنجز بعض الأعمال ولأراكِ.
استغرقت في الضحك سألته:
-أما زلت تذكرني؟
-وهل نسيتيني أنت؟
أجبته متقصدة أن أزعجه:
-ربما يحتاج الأمر إلى تفكير.
قال:
-لا تتحدثي معي بهذه الطريقة، وصلت البارحة مساءً، قضيت هذا اليوم وأنا أهتف إلى الأرقام التي أعطيتني إياها، أرقام أهلك وأصدقائك وعملك، كلها تغيرت.
قلت:
-بعد خمس عشرة سنة تتغير الأشياء.
-وفري النقاش حتى نلتقي وسأشرح لك كل شيء.
هل بقي هناك ما لم يشرح، علمت ما حدث وأخمن ما لم أعلم، وأعرف ما سيحدث .
جاءني صوته:
-أين ذهبت؟ اسمعيني، أنا مرهق، أرجوك لا تتعبيني، يجب أن نلتقي، بعد أسبوع سأزورك.
أتلمس الطريق إلى فراشي، أتمدد، أوحي لنفسي بأن لا شيء مهم قد حدث، أغمض عيني لأنام يبتسم لي النوم ويقول:
-قد يضحك الإنسان من الآخرين فهل يضحك من نفسه؟
أنهض من سريري، أشعل الضوء، أخرج إلى الصالون.
أجلس على الكنبة، أتساءل بحنق لماذا تجيء؟ ماذا تريد؟ غلقت عليك أقفال الذاكرة فلماذا تعود؟
أقوم إلى المطبخ أغلي فنجان قهوة، أقترب من النافذة أرقب طلوع الفجر، أرى الظلمة تتراجع أمام النور وأرى الصور تنسل من الأعماق، أباعدها ولكنها تأتيني هادئة ناعمة تقول:(1/91)
-قد تشغلنا الحياة ولكنها لا تمحو الذكريات.
سحابة خدر تلفني تحملني إلى عالم ينبثق أمامي بحلاوته بأحزانه بخيباته، أعترف لنفسي بأنه رغم كل سلبياته بقي الأغلى على قلبي وأنني لم أنسه بل غيبته وأنه كان معي في لحظات ضيقي وأنني كنت أحس به قيمة أصالة تسندني كلما غدرت بي الأيام. يا الله ما الذي يحمله هذا القلب وما الذي يظهره وما الذي يخفيه، كيف نحب من جرعنا المرارة ثم مضى وكأنه بريء من كل ذنب.
هاتفه المسائي أصبح أهم جزء من يومي، أنتظره بفرح، بشوق، إنه يعيد إلي نكهة أيامي الماضية، أسترجعها بأحداثها، بدقائقها.. أعيشها أحسُّ بنبضها.
هاتفه كان نافذة إلى العالم الذي عشته معه باندفاع الصبا بطيبته وحماقته.
نتحدث دون مرارة، إننا نتحدث عن ماضينا كما نتحدث عن إنسان غالٍ علينا هو الوحيد الذي بقي لنا ممن عرفنا وأحببنا.
يقول لي:
-بعد ثلاثة أيام تنتهي زيارتي، سأزورك غداً، سأصل إليك بالقطار في الساعة الثانية عشرة ظهراً.
تفاجئني الزيارة وكأنه لم يتحدث عنها وكأني لم أكن أتوقعها..
كنت قد قنعت منه بالصوت بالذكرى، ولكنني لم أهيئ نفسي للقائه.
بفتور أقول:
-سأنتظرك.
كنت قلقة، متوترة، ليته يعدل عن الزيارة وسأقبل أي اعتذار.. لا أريد أن أراه.. لا أحب أن أراه.
في الصباح ذهبت إلى العمل، كنت ساهمة لكني أجبرت نفسي على الاستغراق في العمل، أنظر إلى الساعة مراراً، أحس أنني لا أستطيع تحمل أحاديث الزملاء ولا ثرثرتهم.
في الحادية عشرة استأذنت وانصرفت.
أوقفت سيارة أجرة.. أصعد إليها.. السيارة تقطع المدينة وأنا أتلبس البرود والحياد.
أصل إلى المحطة.. أسمع صوت القطار قادماً.. يتدفق المسافرون من المقطورات، أبحث عنه بينهم.. أراه.
أحس بأنني فقدت توازني، أحس بأنني أعيش عالماً غير عالمي.(1/92)
يراني يتقدم نحوي فأتوارى خلف أحد الأعمدة، يتوقف، أرى المسافرين ينفضون من حوله، يبقى وحيداً في بقعة فراغ، وكأنه طفل يبحث عمن ضيعه، أخرج من وراء العمود، أتقدم إليه، نتوقف على بعد خطوات وكل منا يتأمل الآخر.
ما زال يحمل هذا الوجه الطفولي ولكنه ازداد بياضاً، الشعر غزاه الشيب، القامة امتلأت، النظارات أصبحت أكثر سماكة فبأي عين تراه يراني بعد خمسة عشر عاماً؟
يسرع نحوي يصل إلي، يمد يديه يريد أن يحضنني، أبعده عني:
-أتظن نفسك في انجلترا؟
بين الخيبة والفضول يتراجع مندهشاً ثم يستعيد ابتسامته:
-لو تعرفين كم اشتقت إليك.
بحثت في نفسي عن الشوق فلم أجده.
متجاورين نسير ولكنني أحسه بعيداً، أتساءل أليس هو الإنسان الذي كان في أحد الأيام فرحي وحلمي؟ أما كان تاريخي ومستقبلي؟ أليست هواتفه هي التي أرجعت لي الماضي وأضاءت أيامي؟.
نجلس في المطعم أستمع إليه يتدفق حديثاً وانفعالاً، يحدثني عن المتاعب التي واجهها في انجلترا عن الأيام الصعبة التي عاشها حتى حصل على الجنسية ونال الدكتوراه، عن المعركة التي خاضها ليحصل على عمل.
أنظر إليه يتحدث ويضحك ويشير بيديه، لقد تغير.. تغير كثيراً.
أرقبه بوجه محايد بعيد عن أي انفعال.
يحدق إلي يتراجع حماسه، يقول:
-أعرف أنني قد خربت حياتك.
أقول في سري:
-لست وحدك من يحمل الذنب، أسباب كثيرة أدت إلى خرابها.
قال:
-أنت لا تصغين إلي، أرجوك، ابقي معي، انظري إلي.
قلت له ضاحكة:
-أستطيع أن أفكر بخيبتي أستطيع أن أتحاور معها عبر وسيط ولكنني لا أستطيع أن أراها مجسمة أمامي.
قال معاتباً:
-أجلت أعمالي، أحرقت يومي لأراك فلماذا تقسين علي؟
ضحكت، يظن أنه قدم تضحية عظيمة ولأجلها يجب ألا أكون قاسية.
قال بحزن:
-أعرف أنني أسأت إليك ولكن ها أنا أعود لنسترجع ما فات.
ضحكت ساخرة:
-يقولون لا حساب للزمن عند المتخلفين، وهنا أنت الآن آت من قلب التمدن لترفع راية التخلف.
قال جاداً:(1/93)
-الآن فقط صفيت حسابي مع الزمن، سأسافر إلى لندن أقضي هنالك ستة أشهر ثم أعود إلى بلدي، إليك، نقضي ما تبقى من العمر معاً.
قلت:
-خذلتك الحضارة فحننت إلى وشم البداوة.
راح يتأملني وكنت أتشاغل بتأمل نقوش الطاولة.
قال:
-سمي علاقتنا كما تشائين حباً، صداقة، ما بيننا شيء عميق لا تطاله الأيام.
يحين وقت عودته.
في محطة القطار يقول:
-سأراك بعد ستة أشهر.
وأنا أعرف أن سنين كثيرة ستمضي قبل أن يعود.
يصعد القطار يقف في النافذة يلوح لي ترتفع يدي تلوح له، يتحرك القطار وأنا ما أزال مسمرة في مكاني... يغيب القطار.
أتمتم:
-أيها الحالم الأحمق يا من تعيش خارج الزمن أتظن نفسك ستعمر مئة عام؟ أيها الحالم الأحمق لقد كنت أكثر حماقة منك عندما أفسحت لك مكاناً في حياتي.
((
الفهرس
الحيتان ... 3
البستان ... 3
لأرى ملامحك في وجوههم ... 3
مواسم الضحك ... 3
السماء والرماد ... 3
السؤال ... 3
الانهيار ... 3
الحب والسفر ... 3
حب وحزن ... 3
أربعة وجوه للحب ... 3
الومض ... 3
حلم ... 3
أوديب والعشيرة ... 3
الوشم ... 3
الفهرس ... 3
(
كتب للمؤلفة
*-الخروج من دائرة الانتظار ، رواية.
*-قال البحر مجموعة ، قصصية.
*-الغرباء مجموعة ، قصصية.
*-حكايات الليل والنهار ، مجموعة قصصية.
*-غربة ونساء مجموعة ، قصصية .
((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
البستان: قصص / ملك حاج عبيد– دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2002 – 216 ص؛ 20سم.
1- 813.01 ح ا ج ب
2- العنوان ... ... ... ... 4- حاج عبيد
ع- 2483/12/ 2001 ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/94)