بسم الله الرحمن الرحيم
قالت شهر زاد:
بلغني أيها الشعب السعيد بدينه المجيد على امتداد الكون البعيد، البعيد أن حكاية بدأت بين ترابين ذرات وحصى، أودية وجبال، وزرع ونخيل، ومنازل ورحيل ولما كان من قرب بينهما، ووصال لا يقطع ودهما فقد تشابكت أصابعهما، وفاضت بالعشق قلوبهما، واعتنقا الدهر واعتنقهما، ولاكتمال هذا الود حكاية بدأت باتفاق في الخلق والتكوين، وبقرب في المكان والزمان، وتكللت بعقد وقران ثم فراق وموت ولقاء يتجدد وفراق يقفز عليه وعود وابتعاد، ثم مجد وعز ونور وضياء.
فكيف بدأت الحكاية:
اعلم أيها الشعب رفع الله بالحق راياتك، وأيدك بالنصر على أعدائك، وألزمك كلمة التقوى وأنت أحق بها: أنه في سابق الزمان في جزيرة العرب واد بين تلال وجبال شامخة بشموخ أحجارها التي تاهت على جبال الدنيا فخرًا وعزة وإباء، رقدت بين جنباته مدينة بسيطة البنيان، لا قصور فيها ولا حدائق حيوان، ولا مياه جارية ولا جنان، ولا مدارس ولا معاهد إلا فصاحة وحكمة الإنسان، وبناء واحد من حجر يتوسطها يطوف به الناس ما تعاقب الحدثان، وقوافل تجارة تخرج منها وتدخلها في الليل والنهار تحمل الطعام واللباس وكل ما يمكن أن ينفع الإنسان.
أما القرى كانت كنيتها فهل في اجتماع للقرى تم تتويجها بتاج الأمومة المقدسة؟ أم ستارًا من القدسية والضياء انهمر من السماء عليها فأبصرته القرى وأذعنت بالفضل لها!؟(1/1)
وماء طاهر مبارك أخرجه الله تعالى لأم صالحة وزوج نبي كريم ولله خليل، وابن إمام كاد العطش أن يفتك به وبأمه حين كانت أم القرى واديًا غير ذي زرع، وما كان لهذه البلدة أن تعمر وللبيت أن تقوم أركانه إلا بتدبير حكيم، يترك الأب الزوجة والولد في هذا الوادي حيث لا إنسان ولا ماء، وينفد الزاد، وبنقرة من جناح جبريل - عليه السلام - ينبع الماء وتبدأ معه الحياة، وتخشى عليه المرأة من الضياع فتحيطه بكفيها تردد على ذراته: زمي زمي فتستجيب الذرات ويسمى الماء «زمزم».
بها قوم شرفوا بشرف بيتها، وتقاسموا شرف الدهر بخدمة بنيانها وزواره، والتفتوا إلى التاريخ إلى حيث إبراهيم وإسماعيل وإذعانهما لربهما فاستلهموا منهما مجد الريادة في البناء وحجابة هذا البنيان، فالتفت إليهم التاريخ معظمًا وممجدا، ووقفت العرب على مدرج الدنيا تقلدهم زعامة جزيرتهم.
وعلى الرغم مما كانوا عليه من العظمة والوقار إلا أن كائنات وحشية كانت تحيط ببلدتهم بل وقد تخللت حياتهم ودخلت بيوتهم وأسواقهم، ومدت مخالبها إلى بنيانهم المقدس، البعض منهم خافها ورهبها فمجدها وعظمها بل وأكثر من ذلك عبدها، والبعض الآخر ائتلف وجودها وإن لم ينكرها، وقلة تغاضت عنها ولم ترهبها وعدتها خرافة وإن كانت لم تقتنع بتلك المخاوف منها.
أول تلك الكائنات وحش شرس له أسرة وأولاد، تجذر في المكان وملأت ذريته الأفق ومد أذرعه في كل مناحي الحياة، يدعى وحش الوثنية والجهل، الشياطين أصوله وفروعه، والأصنام أذرعته وضلوعه، والكهانة والعرافة والربا دروعه، يحدد لهم مسار حياتهم في حلهم وسفرهم، وبيعهم وشرائهم، وسلمهم وحربهم.
والثاني غول فتاك، مخالبه حادة وبطنه كبير، لا يشبعه طعام ولا يرحم كبيرًا ولا صغيرًا، إنه غول القحط والجفاف يمتنع القطر بالسنوات، ولا أنهار ولا عيون فتجدب الأرض، ويجف الضرع، ويصارع الإنسان والحيوان والنبات من أجل البقاء.(1/2)
ومع ما هم فيه من صعوبة هذه الحياة وفساد بعض جوانبها إلا أنهم كانوا للخير سابقين، وللمكرمات فاعلين، فيهم من إكرام الضيف والوفاء بالعهد وصدق الحديث ونصرة المظلوم ما جعل منهم حديث للركبان، ومقصدا لمن جار عليه الأهل والإخوان فعرف الناس لهم فضلهم، وزادهم على ذلك شرف جوارهم.
ومن بين أولئك القوم أسرة خيرة، في الزعامة رائدة، وفي الخير سباقة، وللسؤدد دائمًا وأبدا متطاولة، جدهم عمرو واسمه الآخر موسر، شرفه كبير، عمر اسمه بفعال الخير، وأخذ من الموسر صفة اليسر والتيسير فأغرق المعسرين بفضل يساره، فكان أول من أطعم الثريد لزوار البنيان حين أجدبت أم القرى فهشم الخبز لهم فسمي من يومها هاشمًا، «عمر ويسار وهشم».
ثم اعلم أيها الشعب: أطال الله عمرك، ويسر لك الخير من أقصاك إلى أقصاك، وهشم رءوس أعدائك، ورفع بالحق راياتك أن هاشمًا هو أول من سن رحلتي قريش «رحلة الشتاء والصيف».
وفيه يقول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
فغدت قوافلهم تقطع جزيرة العرب من شمالها لجنوبها بل وتخرج إلى الشام من حدودها تخفف بما تحمله من وطأة غول الجفاف، وانقطاع الماء الذي به تكون أسباب الحياة.
ولبداية حكاية لقاء الترابين، وعشق المكان للمكان حيث مسرح الأحداث أنه اتفق لهاشم أن خرج متاجرًا إلى الشام فقدم مدينة يحيط بها النخيل في حوائط وبساتين لترابها المبتل بماء قنواتها رائحة الطين، ورائحة أخرى تعلو على الطين يجدها الساكن فيها والقادم إليها فيعرف رائحة الطين، وكل ابن آدم يعرفها لأن أصله يعود إليها فهو في حقيقته قبضة تراب معجونة بالماء صارت طينًا يشمها في كل عصر فيحمله الحنين إلى بدء التكوين ويحكي له حكاية اعتناق الماء والطين، ولكن رائحة أخرى تعلو على الطين فيها نسمات الروح والروحانية يجدها فتحمله إلى الأعلى لتنزعه من ثقل الطين ولا يُعرف لها تفسير؟(1/3)
لا بنيان مقدس يتوسطها، ولا ماء مبارك، ولا إبراهيم ولا إسماعيل، ولا تاريخ مجيد مكتوب لها ولكن شرفًا إلهيًا ينتظرها، ونطفة مباركة من صلب إبراهيم وإسماعيل؟؟!
تسكنها قبيلتان خرجتا من اليمن هائمتين بعد انهيار سدها «مأرب» فاختارها القدر واختار لها؟؟! وأخلاط من يهود قدموا باحثين عن الأمان من ضغط الرومان حين احتلوا فلسطين، وقبلها حين احتلها بختنصر والبابليون والآشوريون، فانتشروا في ربوع الحجاز وشمالها وتوطنوا هذه المدينة، وطابقوا وصفها وصفًا ورد في كتبهم لقدر ينتظر العالم فسكنوا أطرافها ينتظرون، وللإنسان قصة عظيمة مع أنشودة الانتظار، ينتظر الرزق والمطر، ينتظر الولادة والوفاة، ينتظر اليسر يهزم العسر، ينتظر الصبح يطارد الظلام، ينتظر العمر ليكون له شأن.
ولقد انتظر اليهود كل هذا وزادوا عليه بالعلم الأكيد يلقنهم إياه الأحبار، ويرددونه الليل والنهار على مسامع القبيلتين ليؤكدوا لهم علمهم فهم أهل كتاب اختارهم القدر لمناصرة القادم من المجهول ويحاربونهم معه؛ لأن غول الجهل والوثنية يغتال فيهم حكمة الإنسان فماذا كانت تخبئ الأقدار للفريقين؟
اسمها يثرب؟ من اللوم والتعيير؟ أو من فساد الشيء؟ هكذا عرفت لمن سكنها ومن زارها فهل سيبقي لها الدهر اسمها أم أن اسمًا آخر ينتظرها؟ ومتى يتغير اسم المدن؟ ومن يغيره؟ ملوك ودول؟ أم أحداث وشعوب؟ أو هو التاريخ يصنع الحدث ويُصنع له فيتغير وجهه ويقلب هو كل شيء فلا يعود يعترف بالخرائط والمسميات، وتموت مع ذلك حقائق وتحيى أخرى.
ثم اعلم أيها الشعب السعيد ذو الرأي السديد بسداد دينك العظيم الذي علمك أن تنحني للحق وتعترف بسلطانه أن أحد التبابعة «ملوك اليمن» زار هذه المدينة قيل محاربًا ومؤدبًا لبعض ساكنيها، وقيل مارًا في طريقه إلى غيرها فأعلمه بعض أحبار يهود أنها مهاجر لنبي خاتم آن أوان ظهوره، فكف عنها وبنا دارًا للنبي الموعود، وتمنى لو عاش لحين ظهوره للإيمان به ومناصرته.(1/4)
وإذا كان التبع قدم المدينة في أول الزمان فإن أول حكايتنا تقف بنا عند هاشم بن عبد مناف الذي تزوج بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وأقام عندها ثم خرج إلى الشام وهي عند أهلها وقد حملت، كان قدر هاشم ينتظره بغزة من أرض فلسطين فمات بتلك الأرض المباركة يقارب جسده ترابًا حوى خليل الله إبراهيم الذي ترك بضعة منه بأرض العرب «إسماعيل» رضيعًا وشابًا ونبيًا وذرية تنتشر من بقعة عند البيت الأمين، لله هذا التراب في افتراقه وتلاقيه!! تحمله ريح القدر عودة وإيابًا؟؟
وقدر آخر ينتظر سلمى وجنينها لقد ولدت طفلاً برأسه شيبة فأسمته شيبة، وهل يشيب الوليد؟
يضرب الشيب رأس ابن آدم علامة لتقدم العمر به وبداية لضعف يرسم خطى النهاية، نهاية البقاء في هذه الدار. وأنت أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، تراه نور المؤمن ودرجة من التقدم في صف الإيمان تعدك لآخرة حسنة فتنال وقار الشيب ووقار الإيمان فشيبتك اصطبغت وأنت على هذا الدين ذو يقين.
فماذا كانت تعني شيبة وليد سلمى؟ أهي نور في غرته يبشر بمقدم نور؟ أم استعداد للتجارب التي سوف تمرسه سنوات عمره القادم؟ أم الهيبة يا شيبة تسبقك إلى الدنيا لمكانة تنالها بعظيم فعالك وعظيم أولادك؟
ربت سلمى ابنها الذي ما عرف أباه في بيت أبيها فنشأ في يثرب لا يشعر به أحد من أفراد أسرته بمكة إلى أن سمع به عمه المطلب بن عبد مناف الذي آلت إليه سقاية ورفادة زوار البيت العتيق بعد أخيه هاشم حتى سمته قريش الفياض لسخائه وما أعظم الأخوان – هاشم والفياض -!!(1/5)
رحل المطلب إلى يثرب يطلب ابن أخيه فلما رآه فاضت عيناه وضمه، وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت فقال: «إنما يمضي إلى ملك أبيه، وإلى حرم الله، فأذنت له» لم يطمع المطلب في السيادة لنفسه ولبنيه ويتجاهل ابن أخيه فالحق عنده أن لهذا الابن حقًا من ميراث أبيه في الزعامة ولابد أن يبحث عنه ويرده إليه، فأي أخيار هم أهل هذا النور؟!
قدم المطلب مكة مردفًا شيبة على بعيره وتوسط الناس فقالوا: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم، فأقام عنده حتى ترعرع إلى أن هلك المطلب بردمان من أرض اليمن فولي بعده عبد المطلب، وناصره أخواله من بني النجار فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم.
فماذا وقع لشيبة من أمور قلدته شرف السيادة والرئاسة؟
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أن الشرف تاج عظيم يحتاج إلى قلب على الأخطار جسور، ونفس متطلعة إلى ذروته محلقة إلى الأفق البعيد تسابق إليه النسور والصقور، وقدم راسخة في الأرض، وباع يضرب الشرق والغرب ولقد اجتمع ذلك لشيبة «عبد المطلب».
ثم اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أن النوم مملكة وسلطان تخرجك من عالم اليقظة بالقلب والعقل والجوارح إلى عالم آخر فيه من اليقظة والغفلة، ومن الحقيقة والخيال، ومن الماضي والحاضر والمستقبل ما لا تجد له تفسيرًا إلا عند الواحد الأحد، فيه من عالم الملائكة والإنس والشيطان، فيه مما نعانيه من فرح وكدر الحياة، وفيه مما تخبئه الأقدار ولم يخطر يوما لنا ببال.(1/6)
ومن ذلك ما حصل لعبد المطلب إن في داخله مما سمع ووعى ولم تعييه بقايا من كلام عن ماء مبارك يدعى زمزم أخرجه جبريل - عليه السلام - للمرأة الصالحة ورضيعها كما مر بك في بداية الحكاية حين أراد الحكيم المدبر لأم القرى أن تحمل شرف وقدسية لقب الأم، وأن قبيلة جرهم حين أجبرت على الجلاء عن مكة سدت بئر زمزم بعد أن دفنت به كنوز الكعبة والحجر الأسود، واجتمع ذلك كله في وعي وحنايا روح عبد المطلب وسمع هاتفا يهتف به ليحفر البئر، ويحدد له موقعها ويصفه له، لم تكن رؤياه إلا فيضًا من الرحمن فحفر وأخرج المدفون، وأقام سقاية زمزم للحجاج، ولما بدت البئر نازعت قريش عبد المطلب وقالوا له: أشركنا، قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به، فخرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد، وفي الطريق نفد الماء حتى أيقنوا بالهلاك، وقاموا يحفرون قبورهم استعدادًا للموت؟ ولكن حافر بئر الحياة التي أحيت إسماعيل وأمه وبعثت الحياة في الوادي الجدب غير ذي زرع فسكنه الناس ذلك الماء الذي تشربه، أيها الشعب السعيد بدينه المجيد طعام طعم وشراب سقم، حافر بئر الحياة يرفض حفر قبره ويضرب جمله ينهضه، وهذا هي يده تضرب في جذور المجد كل ميت وحي تضرب الأرض فتخرج الماء والكنوز، ويضرب جمله فيندفع من تحته الماء، إذن لا موت يا عبد المطلب الآن، ولا محاكمة لكاهنة بني سعد، ولا إشراك لك فيما ضربت يمينك، بل العود إلى مكة مسلمين لتخصيص السماء لك.
ونذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة؟؟!!
وأمر آخر جرى مع عبد المطلب بدأ حين حكم الأحباش اليمن وسمعوا عن العرب وحجهم البيت وتعظيمهم له، فرأى أبرهة الحبشي أن يصرفهم إلى كنيسته التي بنى في صنعاء، ثم سار إلى مكة ينوي هدم الكعبة بيت الله وتقدم جيشه أفيال يقودهم فيل، وفزعت العرب وقريش مما تناهى إلى سمعهم، فتفرقت قريش في الشعاب، وتحرزوا في رءوس الجبال خوفًا من الجيش.(1/7)
أما عبد المطلب فقد افتقد إبله فقيل له: إن الجيش القادم لهدم البيت استولى عليها، فذهب إلى رب الجيش «أبرهة» يستنقذ إبله، فلما دخل على أبرهة استعظمه لهيبة جللته وجلال كساه، وظن أنه قادم إليه يفاوضه بشأن هدمه للبيت، ولكن الرجل المهاب فاجأه بطلب الإبل، وتروى الحكاية أنه استصغره بعد أن استكبره، ونفر منه بعد أن تقرب إليه، فماذا تعني إبل سيد ذهبت إذا كان معتقده وما يقدس سيتحول إلى كومه من تراب؟ لا سيما وأن شرف السيد مربوط ببقاء البنيان!.
ولعلك أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، تستغرب طلب السيد كما استغربه الطاغية أو قد يدخل عليك من التساؤل والعجب ولو القليل، ولنستمع إلى جواب عبد المطلب على سؤال الطاغية حين تعجب منه وقال: عن الإبل تسأل؟ وبيتكم وكعبتكم أيها الشيخ الذي خدعنا مظهره؟ قال: أما الإبل فأنا ربها «سيدها» وللبيت رب يحميه!! تلك بصيرة عبد المطلب وخبرة شيبة الذي شيبته التجارب، وعقيدة حفيد إسماعيل وإن ضلت به وبقومه الطريق فأشركوا بالله ولكنهم بسلامة الموروث بعظمة رب البيت يحيون.
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
لله در عبد المطلب في بيئة وثنية تعبد فيها الأصنام، ويدرك أن الله لا يرضى عن عباد الصليب المثلثين له، لقد فهمها على حقيقتها، إنهم آل البيت، والبيت بيت الله، وأولئك آل الصليب، والله لا يجتمع بصليب ادّعى أهله أنهم صلبوا عليه ابنه «عيسى» - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا -.
عبأ أبرهة جيشه، وهيأ نفسه لدخول مكة ترتفع هامته بما هو مقدم عليه، ومع ذلك هيأ صحف سجلاته لتدخله التاريخ منتصرًا على العرب هادمًا لبيتهم الذي عظموه، فأي شأن لأمة وثنية ملأت أصنامها ذلك البنيان ومزق الجهل أركان حياتهم، فما قيمة بنيان بني على التوحيد ثم أحيط بمظاهر الشرك؟(1/8)
وعبأ التاريخ سجلاته وهيأ صفحاته وبرى أقلامه وأوقفها صفًا تنتظر البداية لترسم على تلك الصفحات النهاية وتشبثت أصابعه بها، واستنهض الدهر كل غافل، وأوقف كل مسرع، ونبه كل مشغول بشأنه، وتسارعت الأنفاس ورافقتها دقات القلوب، وزاغت الأبصار، وشلت الأطراف عن كل حركة إلا عن تقليب الكف على الكف فلا حول ولا قوة ولا قدرة على القادم، والتفت العالم في لفتة فريدة إلى أم القرى إنسه وجانه وحيوانه ونباته حتى غول الوثنية زاغت عيناه الجاحظتان متوقعا النهاية، وغول القحط يتأمل شتات القوم بعد الهدم ويراقب من بعيد.
ولكن عبد المطلب ومن على معتقده كان على يقين جعله يقلب بصره في السماء ينتظر أمرين؟ القادم من الغيب من صلب ابنه الذبيح عبد الله الميت تاركًا زوجه حاملاً ولم يبق على خروج المولود إلا القليل، والقادم من الغيب يحمله رب البيت لهادميه؟ الفيل!
أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أتدري ما حل بالفيل؟
قيل: أن رجلاً من اليمن صاحب الجيش في طريقه إلى الحجاز ممن رافقوهم أدلاء في الطريق حتى إذا آن أوان توجيهه صوب البيت رفع أذنه هامسًا فيها يقول له: أمدرك أنت ما يوجهونك إليه ولماذا؟ هذا بيت الله يريدونك أن تتقدمهم لهدمه، فإياك وما يريدون. فيصغى الفيل ويفهم، وعن المهمة ينصرف ويستدبر، فإن وجوهه إلى الجنوب أو الشمال قام وهرول، وإن صرفوه إلى الكعبة برك وأصم أذنه عن أوامرهم، وإن ضربوه يحركوه تبلد، لم يكن الفيل بحاجة إلى همس الرجل لأن أوامر أخرى تلقاها وما كان عليه إلا أن ينفذ.
وللحيوان إدراك للخالق وتقديس لما خلق، وتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير من أدقها حجمًا إلى أعظمها، وسبحان من سبح كل ما خلق بحمده وعرفه لا يشرك به شيئًا.
اتحدت قبائل العرب لتدفع عن البيت؟ لم يئن وقت اتحادها، إنها تحتاج إلى قوة جبارة خارقة لكل تصور حتى يُجمع شتاتها!!
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد وربه العزيز أن لله جنودًا لا يعلمها إلا هو؟!(1/9)
لقد أرسل الله تعالى طيرًا أبابيل مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب من أفراد الجيش أحدًا إلا قُطّعت أعضاؤه وهلك، وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل ليشهد الجميع نهايتهم ويتناقلوها.
وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك، ومع انصداع قلبه انصدع جبروت الطغيان.
أما قريش فرأت ما حل بالجيش فعادوا إلى بيوتهم آمنين، وأما العالم فالتفت إلى البيت معظمًا ومقدسًا وللقادم مترقبًا فما كانت السماء تصدر أوامرها لجنود لا تعرفهم الأرض إلا لأمر جلل ولمكان عظيم وآت أعظم!
وأما التاريخ فكلت يمينه وبرت أقلامه واستعار أخرى، ونفدت كلماته ومفرداته، وجمله وعباراته ولكنه أدرك أن أمامه أمة حان نهوضها من غفلتها، وقدرًا ينتظره العالم حال الوقوع ومن للأحداث والأقدار إلا التاريخ تصوغه ويصوغها؟؟
أدرك شهر زاد النعاس، واستأذنت الشعب السعيد بدينه المجيد في أن تغفو ويغفو معها؛ لتكمل الحديث في الليلة القادمة ولكن الشعب متيقظ القلب والعين، رافضًا النوم فلم يعد للراحة والنوم قيمة، ولا بأس من أن يواصل ليله بنهاره لقد أيقظت فيه الحكاية بداية الحكاية العظيمة، إن الشعوب تمل النوم والغفلة فتوقظ ماضيها ليوقظ حاضرها فيسهر كلاهما ليولد مستقبل أفضل!
واستجابت شهر زاد لرغبة الشعب فقررت السهر معه تروي له بقية الحكاية.
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد أنه كما عاد عبد المطلب وقريش آمنين عاد منتظرًا يطيب له الانتظار، يقتله الانتظار كما قتل الموت بعضا من مشاعر أبوته.
في ذاكرة عبد المطلب وذاكرة شهرزاد فتى محبوب لوالده اسمه عبد الله من بين عشرة من الأبناء تتمناه كل فتاة، وعلى جبهته نور لم يكن له تفسير فلا إيمان لنقل أنه نور الإيمان ولكنه منبع الإيمان لما سيكون.(1/10)
نذر أراد أبو الفتى الوفاء به قال: لئن رزقت عشرة من الأبناء يمنعوني لأذبحن أحدهم، وتقع القرعة على الابن الحبيب فيحزن الأب ثم تفديه مائة من الإبل في مقارعة بينه وبينها وينجو الفتى الذبيح!!
فتاة طاهرة في بيئة وثنية ولكنها من فضليات الفتيات يقع عليها الاختيار لترافق الفتى حياته.
خير وخيرة من أخيار، وعرس يشهده أهل البيت الأمين، وزواج عمره أيام؛ ليموت الشاب مودعًا نوره لدى الشابة، ومع ولادتها أنوار وأحداث تقلب العالم ليشهد الانقلاب الكبير، يتيم ما كاد أن يكون نطفة حتى فقد أباه، وبشارة للجد الفاقد بولادة الحفيد.
جد كريم عطوف وسيد شريف يرى في حفيده عوضًا عن الابن المفقود، يتلقفه بعد مولده ليطوف به البيت الحرام شكرا للرب وتبريكا للمولود، واسم يطلقه عليه لم يكن منتشرا بين العرب... محمد... محمد؟؟!!
ما الذي جعل الجد يطلق على حفيده هذا الاسم الذي لم يكن شهيرا بين العرب؟ يتبادر إلى الذهن أن يطلق عليه اسم أبيه عبد الله لتجدده البنوة بالكلية كيانًا واسمًا محمد؟؟ أكان عبد المطلب يحمد المنعم باسم الحفيد؟ أم كان يعلم مما بشر به في رحلاته من أهل العلم أنه يحمل في تقاسيم وجهه علم النبوة الخاتمة الحامدة المحمودة؟
بنوة ونبوة هكذا فهمها عبد المطلب بنوة العوض للابن الشاب، ونبوة البشارة التي بشره بها أهل العلم ليكن محمدًا!
لقد شارك الأعمام أباهم فرحته بمقدم الوليد فأعتق عمه أبو لهب جاريته «ثويبة» حين بشرته بالقادم، كانت أول من أرضعته وشاركه عمه حمزة لبنها، فهو عمه وابن خالته فأمهما أختان، ورضيعه، وللغيب رؤية أخرى تنتظرهما برباط آخر.(1/11)
وامرأة أخرى ينسج لها القدر حكاية، «بركة» جاريته وبعض إرثه من أبيه وحاضنته، ولنساء البيت الهاشمي أصيلات من عرقه ومنتسبات إليه شأن مع هذا الطفل القادم في تلقيه بعد مولده وحين يحبو ويدرج ويستقيم على ساقيه، وحين يشب ويبلغ الرجولة إلى الكهولة والموت، لقد تحولت الدنيا حوله لتتمثل امرأة صدرها واسع وحضنها دافئ وهذا شأن النساء نذوب في أطفالنا ويذوب أطفالنا فينا فلا يعود ثمة انفصال وإنما امتزاج وإحاطة ونسج ونسيج فكيف الحال بهذا الطفل الذي يصبح مهده العالم قلب امرأة تحويه ليحمل هو في المستقبل قلبًا للعالم يحميه.
واعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد أن مما اعتاده العرب في أبنائهم أن يطلبوا لهم المراضع في باديتهم لتصح أجسادهم وتستقيم ألسنتهم، ومن عجيب ما حصل لذاك المولود! أن امرأة تدعى حليمة من بني سعد قدمت مكة مع صويحباتها تلتمس رضيعًا وقد أنهكها وقومها الجدب، هزلت أتانها وعجفت شاربها فما تبض بقطرة لبن، لها طفل رضيع لا ينام الليل ولا ينيم من بكائه من الجوع، عزفت كل المراضع عن اليتيم «محمد» فما عسى أن تصنع أمه وجده؟! وكرهت أن ترجع لقومها بلا رضيع فاتفقت وزوجها على العود إلى ذلك اليتيم لأخذه عسى الله أن يجعل لهم فيه بركة، وكان لها ما تمنت، فما وضعته في حجرها حتى أقبل عليه ثدياها بما شاء من اللبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي أيضًا، وحفلت الشارب «عنزة» فحلي زوج حليمة وشربوا وشبعوا وهو يقول لزوجه: تعلمي والله يا حليمة «لقد أخذت نسمة مباركة».
نشط الشعب السعيد بدينه المجيد وانتصبت قامته يحسن الاستماع إلى شهرزاد، ونشطت أتان حليمة تسابق مثيلاتها بعدما أبطأها الهزال، ومع قدوم المرأة وزوجها باليتيم على أرض مجدبة أربعت الأرض والمنازل، واستحال الجوع إلى شبع والجدب إلى ري.(1/12)
وحرصت الأم المرضعة على أن تعود به إلى أرضها بعد السنتين في أول زيارة لأمه وبلده لما كانت ترى من بركته، وأشارت؛ ليقوى جسمه أكثر ويشتد عوده بعيدًا عن وباء الحضر، وتعود به سنتين أيضا ليتم أربع وترجعه إلى أمه لأن حادثة أفزعتها وخافت على ابنها تلك حادثة شق الصدر وإخراج حظ الشيطان منه وأنى لحليمة أن تعلم حقيقة ذلك؟!
ومن صدر الظئر الحنون الذي غمره بحبه وعطفه وملأه هو بعذوبة الطفولة وزاده بلمسه النبوة التي جنحت به عن عالم الأطفال معتاد إلى صدر الأم الفاقدة للزوج، البعيدة عن الابن الوحيد، يعود ليلتقي بها فيتدفق نهر أمومتها ليلتقي بجدول طفولته الرقيق حين تعتنقه فيجد ريحها وتجد ريحه ويذوب الاثنان في عالم من المشاعر العذبة واللقاء الحميم ليعلو الإحساس بالاثنين ويغيب مع ذلك كل ما في الوجود، وذلك شعور تعرفه الأمهات!
لقاء يا آمنة أم استعداد لفراق؟؟
ذبلت زهرة بني زهرة لتقضي في طريق عودتها بالطفل الذي ما تجاوز الست سنوات بعد زيارة لقبر الزوج بيثرب وتدفن بالأبواب بين مكة و «يثرب» يولد في مكة ويموت والده بيثرب ويدفن بها، وتموت أمه في طريقها إلى مكة لتدفن بين المدينتين، أكانت أقدار الأسرة بين المدينتين؟ وأقدار العالم والبشر بين مدينتين؟؟(1/13)
يمر هاشم بيثرب في طريقه متاجرًا إلى الشام، ويتزوج بسلمى ويتركها مغادرًا لإكمال رحلة التجارة على أمل العودة ولكنه لا يعود، وتنجب شيبة ثم يحمله عمه المطلب إلى ملك أبيه في مكة فيشرف به قومه ويكسوه القدر جلال المكانة والتشريف، ويلتقي غصن هاشم بزهرة بني زهرة ويذهب الشاب إلى أخوال أبيه قيل متاجرًا في طريقه إلى الشام، وقيل أرسله أبوه يمتار لهم من تمر يثرب ولتمر يثرب مذاق خاص يعرفه العرب، وبركة وشفاء لعجوته تأتي بها أخبار الغيب مستقبلا، ثم تودع مكة يثرب الأب الشاب الفقيد، وتستدعي يثرب الأم الشابة وفاء لذكرى الزوج لتصحب الأم الولد تعرفه قبر أبيه وخؤولته لتوصله بما انقطع بينهما من أبوة وبنوة، ولذرات التراب وحصوات الطريق رغبة في احتضان أم الصبي الموعود، اقتطعت يثرب أبا الصبي واحتضن الطريق أمه ليكونا والدنيا على موعد مع الموعود، لقد استنهض الدهر مدينتين وطريقًا بينهما ليشهدا أول الحكاية وجذرها وامتداد أحداثها إلى البعيد القريب.
حين حملت آمنة بالطفل رأت نورًا يخرج منها تضيء له قصور الشام، ولكن آمنة لم يقدر لها أن تحيا النور الذي حملت بين أحشائها وتلك حكمة الله.
إن في يتمه حكمة إلهية تؤهله لأبوة عالمية لأيتام العالم على اختلاف المكان والزمان فهو قدوتهم، ولن تحتاج مراكب المجد للآباء حتى يمتطيها الأبناء، إن في اليتيم صقلاً للنفس يبعدها عن الدلال ورفاهية المشاعر فيصلب العود ويستقيم.(1/14)
كان الطفل محمد حين ماتت أمه وشهد الموقف يبلغ من العمر ست سنوات حين انطلقوا من مكة إلى يثرب كانت يداها تحيطه وصدرها يضمه وتلامس كفاها جلده تطعمه وتمسح على رأسه، ويدير بصره فيما حوله فيرى امتداد الطريق واتساع الأفق ومشاعرها تملئ كل ذلك، ويرى جده يعينه في ركوبه ونزوله وعيناه وعينا أمه تتبادلان احتضانه كمهد وثير فكيف الحال وقد مرضت الأم وتهاوى جسدها الغض وألح الموت يطلبها فخبت أنفاسها التي كانت تعانقه عدد الثواني وحبات رمل الطريق، ورأى كفي الجد العطوف تتلقاها لتواريها عن عينه وتغيبها التراب مهدًا ليس بوثير! إن دموعه البريئة سألت الجد فغمرت دموع الجد الغزيرة الطفل تهون عليه وتغسله لتزداد هالة النور في عيني الطفل الحزين ويكتم وجده ليستدعيه يومًا حين تستوقفه قافلة الحياة أمام ذلك القبر الذي ضم أحن صدر تمناه وأبى القدر أن يديمه عليه.
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد وبرفق يحمله هذا الدين لأيتام العالم في العناية بهم وترقيق القلب المسح على رءوسهم علاج لمن أعيته قساوة قلبه.
اعلم أن الجد العطوف عاد بمحمد يتيم الأبوين إلى مكة ليزداد حبه له وحنوه عليه، عاد يؤكد على الأعمام: بروني في ابن أخيكم، وأفسحوا له في فراشي الذي تضعوه في ظل الكعبة والذي لم يكن يجرؤ أحد منهم على الجلوس عليه، أما محمد فليجلس عليه؛ دلال الجد وحنوه على الحفيد وانتظار لما ستأتي به الأيام يقول الجد: دعوا ابني فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلسه على الفراش ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع، ولسوف تأتي الأيام بأعظم من ذلك الفراش ليجلس عليه محمد، لا عرض ولا أسرة ولا بلاط وإنما ليكون ملكًا إلهيًا لا يسند فيه ظهره إلى الكعبة ويستظل بظلها وإنما يستقبلها من جهاتها جميعًا ويستقبلها معه الإنس والجان وهذا يا عبد المطلب، هو الشأن المنتظر؟!(1/15)
ثم اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد أن عبد المطلب سرت عليه سنة الله في خلقه فلا بقاء ولا خلد لأحد وإنما كل شيء هالك إلا وجه الواحد الأحد، ولما حضرته الوفاة عهد إلى ابنه أبا طالب بكفالة محمد فهو أخ أبيه لأم وأب، فأصبح في كفالة عمه يكلؤه ويحفظه وكذا زوجه فاطمة بنت أسد، يومًا ما سيكافئ إحسانها بقميصه يكفنها فيه وينام في قبرها قبل أن ينزلوها إياه، والعم صنو الأم وما أكثر ما شارك أبناء عمه الكثير، عيشهم الشديد وطعامهم الزهيد فرفع يده عنه استحياءً وقناعة قلب ونزاهة نفس ومع ذلك فقد كان حسنه وصفاؤه ينم عن أنعم عيش!
في عام من أعوام مكة التي كان غول القحط ينسب مخالبه في معاشهم وتفترس أنيابه قوتهم قالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأن وجهه شمس غلب شعاعها الأفق، فالتحف الكون نورها، حوله غلمان يبدو بينهم كلؤلؤة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء بادرة على إقبال الحياة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق وأغدودق، وانفجر الوادي وأخضب النادي والبادي.
وجه صبوح تعلوه أنوار، صاف كسماء يوم صائف، ويسأل سائل غريب قادم إلى مكة: من الطفل وما شأنه؟ ويستشرف له قادم مختلف، وينشد عمه أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامي عصمة للأرامل
من أعلم أبا طالب أن ابن أخيه ملجأ وغياث لليتامى، عصمة للأرامل؟ وهو اليتيم الذي يبحث في بيت عمه وبين أبنائه عن مكان؟ أكان يقرأ الغيب في ذلك الوجه الأبيض المنير؟! أم أن الغيب حين أنزل المطر حتى انفجر الوادي وأخضب الوادي والنادي دل على الموعود؟ طفولة بريئة فاقدة للوالدين والجد، عفيفة في البيت الذي استقبلها ومشاركة في مسؤولياته.(1/16)
حين أراد عمه أبو طالب السفر في تجارة إلى الشام ورأى نظرات الطفل الواجدة تودعه رق له وأخرجه معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، وكان لا يكلم من نزل عليه من المارين به فلما نزلوا عليه في تلك المرة نزل من صومعته، وصنع لهم طعامًا دعاهم إليه كبيرهم وصغيرهم وعبدهم وحرهم، لقد رأى ذلك الطفل ينزل في ظل شجرة وتهصرت أغصان تلك الشجرة حتى أظلته وأظلت الشجرة غمامة كانت تظل الطفل، وضع الطعام وأقبل الناس عدا الطفل الذي كانت عينا الراهب تراقبه فأصر على حضوره الطعام، ثم جعل يلحظه لحظًا شديدًا وينظر إلى أشياء من جسده وقد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه يسأله فقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى – وتلك آلهة قومه – إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فرد الطفل: «لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما» فقال الراهب: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال: «سلني عما بدا لك»، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره فكان ما يخبره يوافق ما عند الراهب من صفته، كما رأى خاتمًا بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، ثم التفت إلى أبي طالب يسأله عن قرابته له وعن أبويه وأشار عليه: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرًا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعامين، قال أبو طالب: فما أعلمك بذلك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجدًا، ولا تسجد إلا لنبي، ودليل بحيرا خاتم بين كتفي الغلام، فأسرع به عمه إلى بلاده.(1/17)
فطرة سليمة لا تعرف إلا واحدًا أحدًا أشهدها على نفسها حين كانت ذرًا { ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف: 172] ولكن الفطرة تتناولها شوائب التربية وإرث الآباء، ومع وثنية القوم وتعدد أصنامهم فقد توحد الخالق في نفس الطفل!
جده إبراهيم - عليه السلام - في طفولته كان أبوه آزر صانع أصنام يجبره على النزول بها إلى السوق ليبيعها، عبد يبيع ربه الذي صنع؟؟!! فكان ينادي عليها من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه.
وحفيد إبراهيم يوسف - عليه السلام - وهو طفل أيضًا عافت نفسه عبادة جده لأمه صنمًا فخطفه من أمامه ليلقيه في مزبلة { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } [يوسف: 77] أي سلسلة في الحق موحدة هي جذور محمد؟ وأي خاتم بحث عنه بحيرا ووجده؟
أيها الشعب السعيد بدينه الخاتم، ورسالته العامة للناس، المكملة للشرائع الناسخة لها؟ خاتم وختم وسجل نبوة يُطوى، يبدأ بأبي البشر آدم - عليه السلام - وتتابع الرسل والرسالات ويتسع جلباب النبوة لعدد من الأنبياء والرسل لا يعلمهم إلا هو تعالى إلى أن يشاء الرب عز وجل بالخاتمة معنى وواقعًا تعيشه الشريعة والناس فيما بقي من حياة الأحياء، ويختم بين كتفي الطفل بختم يغلق بعده سجل النبوة ويظل شرعها واقعًا إلى أن تطوى الأرض ومن عليها ويغلق سجل البشرية.
«ثمال اليتامى عصمة للأرامل» ويؤكد بحيرا بما أبعد من ذلك رحمة للعالمين، أهل العلم عرفوه بصفته وإن أنكروه بعد بعثته، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأهله وأهل الخبرة عرفوه من نور في وجهه، ووقائع تحيطه وتلك عبرة المتوسمين، والكائنات تعرفه؟! يسجد له الحجر والشجر وتظله الغمامة وأغصان الشجرة، بين مكنونات الكائنات ومكنونات النفوس إحساس وهمس ونظرات وسؤال مضمونها: من يكون؟ ومتى يمكن الإعلان؟(1/18)
عفة في النفس وفطرة سليمة تأبى العيش دونما أن يكون لها في الحياة دور، بل وتسعى لنفسها ولغيرها لذا لابد للفتى أن يعمل وما الذي يمكن أن يعمل؟
في داخله من اتساع الأفق وعمق الوجدان ما يزيد على اتساع الكون وترامي أبعاده وعمقها، وهالة من الصمت المتأمل الطويل ذلك الصمت الذي يعزله عن العالم حوله ولا يعزله، يعزله صمت التأمل عن كل خطأ ونقيصة فيصمه وتغشيه غشاوة البصير وليس الأعمى إنه السامع الرأي، ولكنه المتجاهل الصاد عما يدنس الفطرة، ولا يليق بمثله أن تدنس فطرته!
ولا يعزله فهو الخبير بمجتمعه بأدق دواخله، بخير يعيشه ذلك المجتمع ويحث عليه، وبشر ينحرف به عن الجادة ويحتاج معه إلى الدليل، وإن الدليل مخبوء تحت صفحات القدر كلما مضى زمن كُشفت صفحة إلى أن يكون الجلاء.
ولن يتناسب في بيئة مثل هذه ومع فتى صموت ناطق إلا مهنة الرعي ابتداء رعي الغنم ولا أودع من الغنم حيوان يرعى، تنقله خفة البحث عن الحياة بضعف وإصرار، ويتربص به الذئب ليفترس القاصية، وتنطلق عين الراعي إلى الأفق تحيطه وتوجهه، وعصاه تقوده وتحرسه، مهنة تؤهل الفتى تزيد من صمته وتأمله، وتعوده سياسة العامة وقيادتهم، ومعرفة حاجتهم والرفق بهم وتميل بهم نحو التجمع وتقف عصاه لذئبهم بالمرصاد؟؟!!
ثم اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد الذي خصك واختصك بحرمة الدم والإنسانية فكان زوال الدنيا أهون على ربك من أن يراق دمك، ولعرضك ودينك وعقلك ولمالك حرمة فكم أنت كريم على ربك الكريم، عزيز على صاحب العزة!! وكذا خص الزمان والمكان بحرمة، إن للبلد الأمين حرمة الحرم، وحرمة الأشهر الحرم.
ولما كان للفتى محمد خمس عشرة سنة تزيد أو تنقص دارت حرب بين كنانة وقريش من جهة وقيس عيلان من جهة سميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم اشترك فيها محمد يرد على أعمامه نبل عدوهم إذا رموهم به، لم تكن حربًا حارب فيها ولكنه شاركهم الدفاع عن المقدسات؟!(1/19)
ولد في عام دافع الرب فيه عن قداسة البيت ثم شارك قومه في حرب لنفس الهدف، ولقوم محمد والعرب عامة في ذلك الزمان روح الحمية الجاهلية تثيرها العصبية للدم والقرابة ولكنهم ولمكارم أخلاق لديهم تجاوزها حين تداعت الأحلاف من قبائل قريش ومنهم «زهرة وهاشم» فتعاقدوا وتعاهدوا على نصرة المظلوم من أهل مكة وغيرهم من سائر الناس يقومون معه على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته وتشهد دار عبد الله بن جدعان هذا الحلف لسن الرجل وشرفه فيهم، وأصل الحدث أن رجلاً من زبيد قدم ببضاعة إلى مكة اشتراها منه العاص بن وائل وحبس عنه حقه، ولما ضاقت بالرجل الحيلة صعد جبل أبي قبيس ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، والشعر صوت العرب وحاديها، شعورهم في أفراحهم ومواجعهم، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ فكان الحلف، «حلف الفضول»، لا يبقى لمظلوم عند ظالم فضل من حق!
هؤلاء هم أهل الفتى لهم في كل زمان وأحداث موقف السادة الكرام يرفضون الحيف ولا يقبلون بأقل من قيادة الناس إلى كل خير وفضيلة، ولا يخالفهم فتاهم في أمرهم هذا.
ثم اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، وليعلم شبابك خاصة، أن الشباب قوة وفتوة، ورغبات وغرائز، وكد وجد ولا خمول ولا كسل، وإنما تطلع وطموح، وأبصار تترقب القادم، وأعناق تتطاول إلى الغد وعقول تجمح وتشتد.
والنفس راغبة في المزيد فأي طريق أيها الشباب السعيد بدينه المجيد تريد؟(1/20)
اعلم أن الشاب محمد بلغ من العمر الخامسة والعشرين فسارت له الدنيا مقبلة عليه إقبالها على الشباب أمثاله في كل وقت فأرهقها عفة وطهارة وما أرهقته، وحبسها عنه وما في أشراك نزواتها حبسته، وألزمها نوازع النبل والعلو مما ألزمته شهواتها ولا قيدته، يفوق كثيرًا من أقرانه جاه وسيادة ووسطية عشيرة وقوة بدن وفورة طاقة ومع ذلك فهو العظيم الذي عف وعاف كل نقيصة، ومع انعزاله عن القوم إلا أنه كان ومضة نور شفافة يدرك اختلافها الجميع فهو صادق المقال، عف اليد، مؤتمن، فهو في قومه الصادق الأمين؟ ألم يكن جده موسر وهاشم والآخر فياض؟ إذن لا غرو أن يرث الأبناء جلال الأجداد ويزيدون عليه!
وامرأة من فضليات النساء في قريش، تاجرة وذات مال وشرف، تستأجر الرجال للمتاجرة بمالها وتضرب لهم بشيء منه حيث ترتحل قوافل قريش شامية يمانية في رحلة الإيلاف ولا ينبغي لمرأة أن تتعرض لعذاب السفر، وتكشف ما بينها وبين الرجال من حجاب، حجاب الستر في قرارها وإن لم يكن الخمار والتغطية؟!(1/21)
لقد علمت هذه المرأة وتدعى خديجة بنت خويلد بصدق الرجل وأمانته، وكرم أخلاقه، فبعثت إليه تعرض عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام متاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، يرافقه غلام لها يقال له ميسرة، فقبل منها العرض، وخرج مع غلامها حتى قدم الشام، لقد رأى الغلام من أمر محمد الكثير؛ رأى شمائل كريمة في حسن معشر وصدق حديث وعفة يد، رأى رجلاً يحمل خلق أمة، ويحمل تميزًا لا مثيل له سحابة لا تفارقه تظلله منذ أن بدأ معه الرحلة إلى أن عاد، ووجهًا لا تغيره أشعة شمس، ولا اختلاف طقس، وحمل ذلك كله إلى مولاته خديجة، وأيدت بركة الربح الذي عاد به كلام الغلام، فوجدت فيه ضالتها المنشودة، كانت ثيبًا لها أولاد، ومن العمر بلغت الأربعين، يحرص السادة والرؤساء على الاقتران بها فلها من الشرف والعقل والنسب والثروة والجمال ما يرغب الرجال فيها ومع ذلك فقد رغبت في الشاب الصادق الأمين وبعثت تخبره برغبتها فوافقت رغبته، وبعث بأعمامه إلى عمها خاطبًا، أما من حيث الشرف والسيادة فهو الذروة وإن كان في المال قلا ولكن المال كما قال عمه أبو طالب حين وقف خطيبًا في حفل الزواج: ظل زائل وعارية مسترجعة.
وفي بيت يضم فاضلاً وفاضلة وغرسًا كريمًا أينعت الأغصان لتزهر بالثمار فولدت له زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ومن البنين القاسم وعبد الله، لقد كانت ثمار البنات في إيناع ونضج، أما البنين فماتوا في صغرهم، وما أجمل كلمات للرجل المتطهر من أدران الجاهلية حين يرزق ببنت يقول: «هي رياحنة أشمها ورزقها على الله».(1/22)
وخارج ذلك البيت المنير بربه وربته وبرياحينه الصغار تتسع الهوة بين الرجل وبين قومه في شتى مناحي الحياة، والكون كله في ترقب وانتظار؟! ويدهم مكة سيل عرم ينحدر إلى البيت فتتصدع جدرانه ويتهاوى البنيان لقد لاقى السيل بناء أضعفه امتداد الزمان حتى أوشكت الكعبة على الانهيار، فقرر القوم تجديد البناء على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، وبدأ الهدم أحد السادة الوليد بن المغيرة حتى إذا استيقن القوم بنجاته تبعوه ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم ثم أخذوا في البناء وجزأوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها وتوالى البناء حتى بلغ موضع الحجر الأسود واختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليال أو خمس، واشتد حتى كاد أن يتحول بين القوم إلى حرب تطحنهم في أرض الحرم، إلا أن أحد حكمائهم عرض عليهم أن يحكموا أول داخل عليهم من باب الصفا فارتضوه، وشاء الله أن يكون الداخل محمدًا فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعة أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذ أوصلوه إلى مموضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه كما فعل من قبل جده إبراهيم.
تلك حصافة الرأي ونجاح الفكر يغلب به الشاب الكبار!
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد أطال الله أعمار أجيالك وجعلها في حسن عمل، وقرن لها الصحة بالتقوى، وعمرها بما يضيء آخرتها، وجعل الدنيا في يدها وليس في قلبها أن محمدًا قاربت سنة الأربعين وهي سن النضج وتمام الرجولة ومع شغب الطفولة ومسئوليات الأسرة وإدارة تجارة الزوجة زاد عمق التأمل عند محمد وحببت إليه العزلة والخلوة فعمد إلى غار في جبل يبعد عن مكة نحو ميلين، يدعى غار حراء في جبل النور مساحته صغيرة ولكنها تفي بما كان يحتاجه الرجل فماذا كان يفعل فيه وكم من المدة تكفيه؟(1/23)
كان يحمل معه زاده الزهيد «ماء وسويق»، يقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير.
إن الابتعاد عن صخب الحياة وشواغل الأرض وهموم المعاش يحمل الروح لتنطلق فيما وراء الوجود؛ تبحث عن الحي الموجود فكل ذي عقل وبصيرة يعلم أن الأوثان لا تحمل إلا حقيقة واحدة ألا وهي الجهل والعمى الذي ينبئ بسوء منقلب ومصير.
لقد قلب محمد بصره في الأفق البعيد كما قلبه جده إبراهيم - عليه السلام - فالله لا يمكن أن يكون كوكبًا ولا قمرًا ولا شمسًا كما أنه لا يمكن أن يكون صنمًا ولا وثنًا، فأين هي الحقيقة التي تقودنا إلى الحق المبين؟
قضى محمد على حاله تلك ثلاث سنوات ولما تكامل له أربعون سنة بدأت آخر صفحة من صفحات الغيب تنجلي لتكون نهاية البداية الطبيعية للرجل وبداية النهاية لأوضاع قائمة ظلمت البشرية فيها نفسها حين حادت عن الخط الذي رسم لها ونكست فطرتها، ونكثت بعهدها الذي عاهدت { ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف: 172] صفحة الرؤيا الصادقة مثل فلق الصبح تلوح بما بعدها وماذا بعدها؟
يا أيها الشعب الذي ما كان ليسعد بدينه المجيد ولا يوفى بالغرض الذي خلق له الإنس والجان وما كان لك أن تبلغ البلاغ وتنتهي إلى منتهاك لو لم تقلب آخر صفحات الغيب المكنون.
يا أيها الشعب صه لأنفاسك احبسها فلا تعلو على أي صوت ولا همس.
يا أيها الشعب إن القادم أمر جلل لقد دبرت السماء للقاء بالأرض في صلة الموصول بين رب الأرباب ورسوله جبريل إلى القابع في الغار متأملاً.
يا أيها الشعب قف صفوفًا وغض البصر ثم اهْوِ إلى الأرض ساجدًا لقد آن أوان الاتصال.
يا أيها الشعب استنهض جوارحك في خشوع ولتهتز كل شعرة فيك وتخضع فالساعة ساعة خضوع واسمع فإن الآتي هو القلوع، قلوع يرحل بك من عالم الطين إلى عالم الروح، ومن عالم الظلمات إلى عالم النور.(1/24)
جبريل - عليه السلام - زعيم ومبعوث له في كل زمان ومع كل رسول دور ينفذه، يبعث مبشرًا برحمة تلحق المؤمنين، وبنصر يسوقه للصابرين، ويبعث مدمرًا للطغاة والمتجبرين، يعرف خالقه تمام المعرفة إنه ممن يسبحون الليل والنهار لا يفترون، غضب لربه الأعلى حين هذى فرعون بقوله: أنا ربكم الأعلى، فشهد هلاكه وصادق عليه، ووقف في السماء ينادي إبراهيم حين ألقاه قومه في النار: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فرد الخليل: أما لك فلا؟ حسبنا الله ونعم الوكيل، فشهد نجاته صادق عليها.
جبريل نزل على محمد يغطه ثلاثًا ويقول: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } [العلق: 1-3] رجف فؤاد محمد، واهتز جسده، وخشي على نفسه، فنزل من الجبل ودخل على زوجه خديجة يقول: «زملوني زملوني»، فزملته الصالحة حتى ذهب عنه الروع، فلما علمت الخبر قالت: «كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
هكذا فهمت المرأة الصالحة أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، لقد أحسنت الاختيار حين بعثت إليه تخبره برغبتها فيه زوجهًا، لقد قاسته رجلاً مختلفًا عن كل الرجال الذين عرفت والمتقدمين لخطبتها فثقلت كفته لديها، وعرفته زوجًا لخمس عشرة سنة فكان ميزانه عندها ما قالت ووصفت، وإن امرأة بحكمتها ورجاحة عقلها تعلم أن من كانت له صفات زوجها في بيئتها الذي عرفت لن يكون شخصًا كبقية الأشخاص وإن هناك لأمر ما تستشعره بدخيلة المرأة الفطنة وآن الأوان لظهوره وما كان منها إلا أن أخذته لابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرءًا تنصر في الجاهلية، كتب من الإنجيل ما شاء الله له أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي.(1/25)
قالت: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك! فأخبره محمد بالخبر فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة! يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك، فقال: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
لم يعد محمد كما كان وإنما عاد بلقب رسول الله، وبصلاة وسلام من الرب تعالى ومن كل الشعب السعيد، - صلى الله عليه وسلم - .
وتتابع الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد فتر أيامًا، وبدأ في تلقي الأوامر: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [المدثر: 1-7].
كم هي أوامر بسيطة في ظاهرها، عميقة في غايتها، قوية في حقيقتها وآثارها، إنها انقلاب الأوضاع بالعودة إلى الغاية الحقيقية والمثلى التي من أجلها خلق الإنسان، إنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي يستحق التعظيم والكبرياء فهو الأكبر على كل ما سواه حين ضلت البشرية بعبادة غيره، إنها الثياب تتطهر والقلوب تتزكى وتطهر من أدران الجاهلية، إنه البذل يا محمد والتضحية والجهد يتبعه الجهد حتى يتحقق للناس الهدف الذي من أجله بُعثت فتبلغ الغاية وذلك هو البلاغ ولكن لن يكون الأمر سهلاً ميسرًا فكم من جاحد ومعاند ومستهزئ ومخالف وأكثر من ذلك مقاتل، لسوف يلتف حول الدعوة الكثير ولسوف يعمل على القضاء عليها وعليك الكثير، وعليك بسلاح الصبر والثبات، فالقادم الكثير الكثير.
{ قُمْ فَأَنْذِرْ } إنها أولويات الدعوة ومواد التبليغ وزاد المبلغ لينال مجازاة الله في الآخرة على جهد عظيم سيبذله ليتحقق النجاح الأمثل للدعوة.(1/26)
ومع { قُمْ... } قام محمد - صلى الله عليه وسلم - ليستمر قيامه حوالي ربع قرن قيامًا لا قعود فيه، لا راحة ولا استكانة وإنما عبء وأعباء وقيام يتلوه قيام.
ولكن اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أن غول الوثنية ربت مخالبه قلوب العرب فتشبثت بها أيما تشبث، وأنشب أنيابه في عقولهم وشتى مناحي حياتهم ومع قيام محمد - صلى الله عليه وسلم - سوف يرفع برأسه إلى الأعلى ويتضخم أكثر فأكثر لأن خطرًا يهدد حياته أطل ولا بد له من صراع لا يكل فيه ولا يمل.
{ قُمْ فَأَنْذِرْ... } بدء القيام كان في بيت المرأة الصالحة خديجة رضي الله عنها ومنذ هذه اللحظة لابد وأن تترضى عنها أجيالك.
أيها الشعب السعيد بنبيه الكريم ودينه المجيد، تلك دعوة لابد أن تلتزمها لأمك، إنها زوج محمد - صلى الله عليه وسلم - فلقبها وجميع من سيحظين بشرف الزواج من نبيك - عليه السلام - أم المؤمنين – ذلك شرف الدهر لهن ولك أيها الشعب السعيد أرأيت أكرم منك أمًا؟ شرف تحظى به من غير نسب!
أسرة صالحة، أب نبي، وأم خيرة، وزوج نبي، وكم من زوج نبي أنكرت على زوجها دعوته وما امرأة نوح وامرأة لوط عنك ببعيد! وبنات هن الرياحين ذكاء صيت، وشرف والدين، ونبوة مختارة، وابن عم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يدعى عليًا أبوه أبو طالب كافل نبيك الكريم، إن الجميل والعرفان يطوق أحدنا فيظل العمر للمنعم عليه شاكرًا، وليد المعروف ممتنًا، وهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - يربيه عمه حتى إذا كبر وكون أسرة أخذ ابنًا لعمه يربيه، لم يمت أبو طالب ولكن حاجة محمد - صلى الله عليه وسلم - لبيت عمه ماتت فقرر أن يبسط يد العون لعم كثير العيال، قليل المال، يساعده في تربية أبنائه كما رباه وكفله صغيرًا، ومولى يدعى زيد بن حارثة تنباه محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ حين فضل المولى سيده الكريم على العودة إلى والديه وحريته، لسان حال المولى: أن تعيش في ظل حر تلك هي الحرية العظمى!(1/27)
وصديق حميم، أبو بكر يضاف إلى الأسرة فرب أخ لك لم تلده أمك، كل هؤلاء أسلموا من أول يوم في الدعوة، ولسوف يصطفوا في مطلع واحد ليكن لكل منهم في الدعوة إلى الله والذب عنها والتأسيس لها دور.
لأبي بكر - رضي الله عنه - ولابد من إتباع اسمه ومن ماثلة في صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدعاء، له مقام في قومه يألفه الناس لطيب معشر، وعلم وتجارة وحسن مجالسة، وعقل حاد به في الجاهلية عن ناب الوثنية ومخلبها، فاستغل موقعه هذا ودعا صفوة من يأتونه إلى الإسلام، عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، هؤلاء هم الصفوة الرائدة لرعيل الدعوة الأول، تعددت قبائلهم فهل خطط لذلك أبو بكر؟ وما غايته التي أراد؟ ما قريش إلا قبائل مجتمعة، والرجل يسلم فيدخل الإسلام أسرته ومن ثم قبيلته ويتحقق للدعوة الانتشار!
فإن سألت أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، عن الفاروق عمر بن الخطاب فاعلم أنه في الصف يعده المولى تعالى إعدادًا خاصًا للقادم، وإن قلت: أكثرت علينا في ترديد كلمة القادم قلت:
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أن أمور الناس صغرت وكبرت رهينة بماضيها وحاضرها تفك قيودهما وتطلقهما بقادمها، فالقادم غيب يشغله القدر للأمم والشعوب في أن تكون أو لا تكون، والقدر له أسباب، والبشر أسبابه يصنعون بعون الله أحداثه وتلك حكمة القادم!
ويتبع الصفوة صفوة وضعفاء، وما أحوج الضعفاء للأنبياء ينصر كل منهما الآخر، فالضعيف يحتاج إلى أن يكون إنسانًا يتساوى بالقوى الشريف، والدعوة تحتاج إلى قلب الضعيف المكلوم يصر على النجاة والعافية، ودعوة الضعيف الصادقة تنصرون بها.(1/28)
وفي إطار من الخفية والتخفي كانت الدعوة تتسرب بين الصفوة والضعفاء يجتمع بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - سرًا يرشدهم في جو هامس تستره الجدران حتى يُمكن للدعوة، ولعل الريح حملت بعضًا من الخبر إلى القوم فتجاهلوه معتقدين أنها شطحة فكر متأله كما صنع قبل ذلك بعض المتكلمين في الألوهية أمثال قس بن ساعدة وعمرو بن نفيل، ولكن توجسًا من الذيوع والامتداد أقلقهم فبدأ القوم في الترقب!
ثلاث سنين كافية لتتكون جماعة الإيمان الأولى، أخوة في الإيمان وتعاهد على التبليغ.
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد أن همس { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ } قد استحال فيه القيام الرقيق إلى نهوض واثب فنزل { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214].
في هذه السورة قص على النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام قصة نبي الله موسى - عليه السلام - منذ بدء نبوته وما حصل له مع فرعون وقومه إلى أن أغرق الله الطاغية، وذلك مثل يضربه الله لنبيه يقص عليه القصص؛ ليستعد هو للقادم من التكذيب والاضطهاد طالما أن الوقت حان للجهر والإعلان.
واجتمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببني أبيه وما أعظم كلماته التي بدأ بها «الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، ثم قال: «إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا».
سمع الأعمام هذه الكلمات المدوية، إنها حقيقة الرسالة، توحيد، وموت وبعث وحساب ثم خلود يُبنى على ذلك الإفراد.(1/29)
لقد عاد أبو طالب بخياله إلى قول الراهب بحيرا: هذا سيد العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، وإلى معرفته بابن أخيه الذي رباه وما عهد عليه الكذب والادعاء، فكان رده: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب!
وأما أبو لهب عاتق جاريته «ثويبة» التي بشرته بمولد ابن أخيه قال: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، لقد عد ذلك سوأة تجعل بطون قريش والعرب من ورائهم يثبون على محمد الذي جلب الشر على بني أبيه! وأعاد القول أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا!
ويوسع الرسول - صلى الله عليه وسلم - دائرة الدعوة ليصعد جبل الصفا ينادي بطون قريش فلما اجتمعوا بدأ حديثه بسؤالهم: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، ولقد عمَّ وخص - عليه السلام - فلا منقذ من النار إلا الإيمان حتى وإن كان أقرب المقربين له، عمًا أو عمة أو ابنة حبيبة هي الزهراء رضي الله عنها فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [المسد].(1/30)
ماذا كان يحمل أبو لهب وزوجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللدعوة؟ إن في نجاح دعوة الرجل وبلوغه الغياة مكانة عظمة له ولقومه، وفي فشله ما يعود عليه بالضرر وحده قتلاً أو إيذاءً أو تهجيرًا، فرح بمولد ابن أخيه، وكان وزوجه حريصين على تزويج ولديهما من ابنتيه - عليه السلام - فما الذي قلب الرحم والإصهار إلى عداء مرير تزعمه وزوجه قبل أن يتزعمه الأباعد؟
إنه ستار الكفر يغشى العقول والبصائر قبل الأبصار، ونزعة الشيطان تنأى بالرحم والقربى تلقي بهما تحت وطأة العداوة لتلقي بصاحبها عياذًا بالله إلى النار.
لقد أنذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم إنذار فوافقت حرارة الإنذار شدة حرارة النار التي لا إنقاذ منها إلا بالانقياد للحق فلا قربى ولا عصبية ولا عظيم محبة وإنما خيار يختاره الإنسان لنفسه يرشده فيه عقله فإما النار أبدًا أو الجنة أبدًا.
ويستحيل النهوض الواثب { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } إلى صرخة مدوية تضرب جبال مكة فتهتز لها جنبات الوادي، وترتج معها الأصنام، ويطير شعور غول الوثنية ليصرخ هو أيضًا صرخته ليرعب محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ولكن صرخته عادت إلى جوفه لا يسمعها إلى هو وأتباعه.(1/31)
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الحجر: 94] أحلام تسفه، وأصنام تعاب وتسب، وخرافا تفند، وآباء في ضلالتها تُخطأ، وتشعر قريش بعظم المصاب وترسل وفدًا إلى أبي طالب تخيره بين أن يكف ابن أخيه عنهم أو يخلي بينهم وبينه. ويردهم الرجل ردًا جميلاً، ومع إقبال موسم الحج يشتد الأمر على قريش فمحمد - صلى الله عليه وسلم - ماض في طريقه، ووفود العرب قادمة، ولن يتركهم دون دعوة، فماذا يقولون لهم؟ بماذا يتهمون صاحبهم حتى يصرفوا الناس عنه؟ كاهن، شاعر، ساحر، مجنون؟ إنه التحقير والسخرية، والتشويه وإثارة الشبهات بل وأكثر منها معارضة القرآن بأساطير الأولين يقص النضر بن الحارث على الناس أحاديث ملوك الفرس يصرفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، قريش تقلب الأمر على أكثر من وجه تهم وأباطيل وهو صاحبهم الذي ما ضل وما غوى سنين شبابه فكيف وقد ضرب الشيب صدغيه { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [النجم: 2].
تساوم وتداهن نعبد ربك عامًا وتعبد آلهتنا عامًا؟ «محاولات للقاء بين الجاهلية والإسلام فلا يدعون دينهم ويترك النبي بعض ما هو عليه من تصميم» { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم: 9] ولكن الصفقة تنبئ بخسران عاجل { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [الكافرون: 1-3].
وقرار اتخذته قريش تجاه محمد ومن آمن به الاضطهاد والتعذيب، يؤذى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطلاق ابنتيه من ولدي أبي لهب لإدخال الحزن عليه، وإساءة جواره بإلقاء الأذى عند بابه وعليه - عليه السلام - وهو بين يدي ربه ساجدًا، وبهمزه وغمزه إذا مر بالقوم، وبتعييره فهو الأبتر، منقطع الذكر بموت الذكور من أبنائه ثم بموته، فمن سينسب له عندئذ، ومن سيذكره؟ { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } [الكوثر: 3].(1/32)
وأما أتباعه فإن كان الرجل شريفًا أنبه أبو جهل وأخزاه وأوعده بالخسارة في المال والتجارة، وأما أهل الرجل فأقدر على أذيته، عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته، وأم مصعب بن عمير تجيعه وتخرجه من بيته بعد أنعم عيش كان فيه.
وأما الضعفاء والموالي فجلد وضرب، وحبال في الأعناق بها يجرون، وعطش يلهب أجوافهم، وجوع يمزق أمعاءهم، وكم شهدت بطحاء مكة آلامهم وتلقت رمالها جلودهم تحرقها سياط المعذبين وحرارتها، وهذا بلال بن رباح وعمار بن ياسر وأسرته وخباب بن الأرت وغيرهم يمر عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيزودهم بالصبر ويعدهم الجنة، وأبو بكر يفتك رقابهم { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } [الليل: 17- 18].
إنهم المعذبون في الله يزداد يقينهم فتنطلق أوراحهم بالتوحيد محلقة، يؤلمهم العذاب ولكنه في جنب الله يهون ولئن سيطر المشركون على أجسادهم فلن يملكوا السيطرة على قلوبهم وعقولهم، إن العقيدة لا تحتاج إلى أكثر من قلب تنعقد وتنيخ بركابها فيه وعقل يستجمعها ويسير بالجسد في رحابها!!
ويزداد حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحماية أتباعه فيمنع من أسلم منهم من الإعلان، ويجتمع بهم سرًا يبتعد بذلك قدر استطاعته عن المصادمة مع المشركين لتتحقق أهداف الدعوة، ويتجاوز - عليه السلام - خطأ الاجتماع بالأتباع في الشعاب حيث كانوا يصلون فرآهم نفر من قريش فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً فسال دمه، فكان أول دم أهريق في الإسلام.
إن تتابع المصادمات يُفضي إلى كارثة محققة بالمسلمين والدعوة لذا فالحكمة تقضي الاختفاء في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الصفا حيث العزلة عن أعين المتربصين.(1/33)
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أن في الأوطان راحة واستقرارًا يجدها أهلها حين يطيب لهم فيها المقام، وغربة ووحشة حين تنكرهم وتُلقي بهم خارج حدود الأنس بالتراب والأهل والأصحاب، ولما استحال العيش مع صلف المشركين من قريش، وكان في القرآن الكريم ما يشير تصريحًا وتلميحًا إلى قيمة اعتزال القوم ممن عز عليهم ترك أهلهم وذويهم في حال لهم اختاروه، ودين اعتنقوه، فأصحاب الكهف تركوا مركز الكفر والعدوان حين خافوا الفتنة في دينهم فَأَوَوا إلى الكهف، وصلاح الأحوال يحتاج إلى حصر البطش وأهله وراء سد وستار كما فعل ذو القرنين بيأجوج ومأجوج، وما كفرة قريش إلا يأجوج ومأجوج ذلك الزمان يحتاجون إلى من يسد عليهم وإن لم يستطع ليترك لهم المكان ويفر هو بدينه ولن يكون بعيد إرث الأرض لأنها لله يورثها عباده المتقين، والأرض واسعة والضرب فيها مأمور به { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].
وهذا قرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد دخلت السنة الخامسة للبعثة والبلاء في ازدياد وشدة، والعرب عرفت أرض الحبشة تتاجر فيها، وعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ملكها أصحمة عادل لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم، فكانت هجرة الفوج الأول إليها ثم الفوج الثاني، واغتاظت قريش لحسن جوار النجاشي «ملك الحبشة» للمسلمين فدبروا مكيدة إعادتهم ولكن الله أحبطها فعادوا بمكائدهم واضطهادهم على من كان تحت سلطانهم.(1/34)
وخرج طغاة قريش يهددون أبا طالب في أن يكف ابن أخيه عن آلهتهم أو لتكن المنازلة بين الفريقين، فعظم الأمر على أبي طالب وخاطب ابن أخيه: يا أبن أخي ابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: «والله يا عم! لو وضعوا الشمسي في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر – حتى يظهره الله أو أهلك فيه – ما تركته، ثم استعبر وبكى»، وقام، فلما ولى، ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا، وأنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر وقر بذاك منك عيونا
عابد الواحد الأحد، ما الشمس والقمر، والمال والجاه عنده بغاية، لا سيادة أفلاك وفضاء، ولا سيادة تراب ومال وسؤدد أرضي، ولا تهديد ووعيد، وإيذاء وتنغيص عيش، يصرفه عن دعوته، هكذا أعلنها محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل مساومات القوم له ومبادراتهم.
لقد أحسن عبد المطلب حين اختار العم أبا طالب كافلاً لابن أخيه لكأنما كان ينظر إلى الغيب وما يحمله لحفيده من مهمة تتبعها مشقة وعدوان، إنها رحى الأحداث تطحن الرجال وعندها يحتاجون إلى وقفة الرجال، وكان أبو طالب رجلاً كامل الرجولة، يعلم حق ابن أخيه في سيادة فكره فينصره رغم الوعيد وإن لم يتبعه.
لقد عادت إليه قريش برأي سديد!! يعطوه أنهد فتى في قريش وأجمله «عمارة بن الوليد» له عقله ونصره يتخذه ولدًا ويسلم إليهم محمد يقتلونه؟!!
الكفر ستار وغطاء يعمي عن رؤية الحق ويورث غباوة، أكان أبو طالب ينقصه الأولاد؟ أو عمارة هذا يزيد على محمد جمالاً وفتوة ليستبدله به؟(1/35)
ويتجدد رفض الرجل فتلك صفقة خاسرة أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلوه؟؟!! فازدادت ضراوتهم ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبدءوا لقتله، وفي استفزاز وحشي دنيء بين شق الثوب ومحاولة البصق على وجه الشريف ووطء الرقبة أثناء السجود، ومحاولة فضخ رأسه بحجر، والخنق بثوبه خنقًا شديدًا، كل ذلك والله يحميه، وجبريل - عليه السلام - يدرأ عنه، وأبو بكر يسارع في كل مرة إلى نبيه وصفيه يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
ومع اشتداد ظلمة الطغيان وبأس الظلم، وتفاقم العدوان والقهر، يلوح في سماء الدعوة برق ورعد يضيء الظلمة ويشد أزر المقهورين، إسلام حمزة بن عبد المطلب عم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، والآن جاء دوره لينصر نبيه، طاش عقله نصرة لابن أخيه الذي شج رأسه أبو جهل وأغلظ له في القول فأسلم أنفة وحمية ثم شرح الله صدره للحق المبين، فكان الأسد الموعود لله ولرسوله.
وإسلام عمر بن الخطاب، ليده صولة سوط البرق يلوح بالنور، وصوت الرعد يبشر بمقدم الغيث، وسنين خير وسعة تتبع سنينًا شدادًا يفصلهما عام يغاث فيه الناس وفيه يعصرون، حين أسلم - رضي الله عنه - أخبر كبار الطغاة، يدق على الرجل منهم بابه ليقول له: إنه على دين محمد فلا يملك الأخر إلا أن يغلق الباب في وجهه، وقاتلهم وقاتلوه، ويسأل عمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: «بلى! والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم»، قال عمر: ففيم الاختفاء؟ فوالذي بعثك بالحق لنخرجن، فخرجوا في صفين، حمزة في أحدهما، وعمر في الآخر، حتى دخلوا المسجد، فنظرت قريش إلى حمزة وعمر فأصابتها كآبة لم يصبهم مثلها، فسماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفاروق!! وبدأ المسلمون منذ إسلامه يظهرون دينهم، ويصلون عند الكعبة!!(1/36)
لهذا قدر العزيز سبحانه وتعالى قشرة هي كفر عمر وإساءته للمسلمين لابد وأن يأتي يوم لتنكسر وتظهر معدنه الأصيل في وقت يحتاج فيه الإسلام أكثر من غيره إلى قوة رجل كالفاروق، وتلك دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب»، لكلا الرجلين بأس وقدرة، ورأي وحكمة، فأصابت الدعوة ابن الخطاب ليكون فاروق الحق والباطل سنين عمره القادم يضاف إليه عمر أمة الإسلام لينزع له ما شاء أن ينزع حتى يستحيل الناس بعطن، وأخطأت الآخر وهو خاله ليكون فرعون هذه الأمة يهلك فيمن هلك على الكفر ويصدق فيه { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33].
ثم اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد أن فشل قريش في مساوماتها المتتالية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي مثلهم فيها أخيرًا الوليد بن المغيرة، وإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما ثم تواثق بني هاشم مسلمهم وكافرهم على منع ابن أخيهم محمد ونصرته عدا أبي لهب بعد أن تأكد لأبي طالب أن القوم لن يتركوا ابن أخيه ورأى في أعينهم عزمهم على قتله فاستوثق من البيت الهاشمي لمواجهة ما يفعله القوم، من هنا غيرت قريش مخططاتها فتحالفوا على ميثاق الظلم والعدوان وكتبوه، وعلقت صحيفته في جوف الكعبة: لا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، وعلى هذا فلن يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، حتى يتخلوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويسلموه للقتل.
انحاز أبو لهب إلى قريش ولم يكن ضمن اتفاق هاشم.(1/37)
ثلاثة أعوام وبنو هاشم على هذا الحال حتى أجهدهم الحصار جوعًا وإعياء، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، ولا يخرجون لشراء الحوائج إلا في الشهر الحرم، يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، هذا إذا لم يزايدوا عليهم أهل مكة في قيمة السلعة فلا يستطيعون الشراء.
ولقد ناوب أبو طالب بين بنيه وإخوانه وبني عمه يضجعون في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - مخافة اغتياله - عليه السلام - .
في الغيب ينسج أمران، والغيب حكمة الله وأقداره، والغيب غاية ابن آدم شق حجبه والاطلاع عليه، والغيب أمر الله تعالى جده اختص به وعرفه بعض عباده في الغيب أمر لمخلوق حقير صغير تزدريه العين ولكنه يعرف ربه ويصطف منفذًا أمره «الأرضة» لانكاد نراها وربها يحيطها تسمعه ويسمع دبيبها، وقريش بطغيانها غافلة والأرضة لصحيفتها آكلة، تأكل الجور والقطيعة وتبقي على اسم ربها ابتدأت به الصحيفة «باسمك اللهم».
أخبر رسولنا الكريم عمه أبا طالب عن ربه المتجلي على كل شيء، فخرج أبو طالب إلى قريش يخبرها واشترط عليهم؟ إن كان ابن أخيه كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، فقال القوم: أنصفت، الرجل يعرف ابن أخيه { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم: 3، 4]، فجلس في ناحية المسجد ينتظر.(1/38)
وأمر الغيب الآخر، الرحم تتقلب في حنايا بعض القوم، في قلب وفكر ووجدان خمسة منهم سينطقون، وغيرهم كثير ممن يعتمل الأمر في صدورهم وإن كانوا لا ينطقون كما تقلبت الأرضة على كلمات الصحيفة وأسطرها تقلبت الرحم، فأي طعام يرضونه لأنفسهم وشراب وأخوالهم وبنو عمهم في هلكة ما بعدها هلكة فتشاوروا، ودبروا أمرهم بليل، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية المخزومي أحدهم وأمه عاتكة بنت عبد المطلب فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل: كذبت والله لا تشق، فتكلم المتفقون كل منهم يؤكد أنه ما رضي عن كتابة الصحيفة حين كتبت، ولا يقر بها. فلما قام المطعم بن عدي ليشقها فوجد الأرضة سبقته وأكلتها إلا اسم الله، وتم نقض الصحيفة، وخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبنو هاشم من الشعب.
خرج أبو طالب من الشعب وقد تجاوز الثمانين فأوهن لحصار قوته، وكسر صلبه، فلاحقه المرض وألح به، وأدركت قريش لا محالة أن الموت يطلبه، فذهبوا إليه ليفاوضوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه، ليأخذ لهم منه ويأخذ منهم له، يكف عنهم ويكفوا عنه، ويدعهم ودينهم ويدعونه ودينه، وهم في ذلك يحسبون كلمة تقولها العرب إن مات الشيخ فتعيرهم بها الدهر: «تركوه، حتى إذا مات عمه تناولوه».
وعرض الأمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليهم كلمة يتكلمون بها تملكهم العرب وتدين لهم بها العجم، فتوقفوا وتحيروا في كلمة واحدة تعود عليهم بهذا النفع العظيم، فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: «تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه»، فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب!(1/39)
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } [ص: 1-5].
وشاقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمه يجذبه لكلمة لا إله إلا الله، ويجذبونه إلى ملة عبد المطلب فلم يفلح الشيخ ومات على ملة الأشياخ من أجداده.
وتراكمت الأحزان بموت الزوجة الطاهرة المؤازرة بمالها ومكانتها وكلمتها وموقفها، خديجة أقرأها جبريل - عليه السلام - ، السلام من ربها، وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلطالما هيأت له - عليه السلام - الهدوء في بيته ليطلق فكره تأملاً، وليستقبل وحي ربه نبيًا ورسولاً، والجزاء من جنس العمل، لقد أعياها الحصار كما أعيا العم فاهتز قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزنا وألمًا فكان عام حزن اشتد فيه فراق الأحبة المعاونين، واشتد نكال وإيذاء المناوئين.(1/40)
في ظلال سحابة الحزن والإيذاء رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يترك مكة يبحث عن أرض وتراب وأناس آخرين ربما يجد أفئدة تصغي وتربة تصلح لغرس بذور الإيمان، فانطلق مع مولاه زيد بن حارثة صوب الطائف يعرض على القبائل في طريقه إليها الإسلام، فلم تجبه واحدة منهم، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء القوم يعرض عليهم الدعوة ونصرة الإسلام فما وجد منهم إلا صلفًا واستهزاء، وأقام في الطائف عشرة أيام لا يدع أحد إلا دعاه من أشرافهم فردوا عليه: اخرج من بلادنا، بل وأغروا به سفاءهم فتبعوه يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه حتى أدموا عراقيبه، وشجوا رأس مولاه الذي كان يقيه بنفسه حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حبلة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار، فلما اطمأن رفع بصره إلى السماء ودعا: «اللهم إني أشكوا ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».(1/41)
سمع الدعاء ابنا ربيعة فتحركت له رحمهما، يا لهذه الرحم كم تتحرك بالعطف والمودة تضخهما دماء حياة بين البشر ولكن الشيطان يفترس قلوبًا تتحرك بالرحم فيقتلها كفرًا وطغيانًا، بعثا له مع غلام نصراني لهما بقطف من عنب فسمى الله قبل أن يأكل، فسأله الغلام عن كلامه الغريب في هذه البلاد، وتعارف تابع لنبي يعرف يونس بن متى بآخر نبي يعرفه أخوانه من الأنبياء، فأكب الغلام على رأس الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويديه ورجليه يقبلها وعاد لسيديه يقول: ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل!!
عمل الغلام بداية المواساة لقلبه الجريح، وخيار لجبريل وملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين «جبل أبي قبيس والذي يقابله قعيقعان» وتتدفق رحمته فما بعث إلا رحمة للعالمين قال: «بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئًا» فيواسيه العزيز الجليل بأمر من الغيب جديد لا يعلمه إلا هو فيصرف إليه نفرًا من الجن يستمعون القرآن ويسلموا بين يديه - عليه السلام - ، فنشط - عليه السلام - وجد وتحمس فمن هدى له الجن قادر على هداية الإنس، وتابع سيره نحو مكة ليدخلها في جوار المطعم بن عدي، ولسوف يحفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمطعم بن عدي هذا الصنيع؟
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أن رسولك الكريم - صلى الله عليه وسلم - لما عاد إلى مكة تابع دعوته يقوده في ذلك ثقته بربه تعالى الذي لا بد ناصره، واستغل موسم الحج حيث تقدم قبائل العرب ملبية حاجة على ملة أبيه إبراهيم تنحرف عن سنته - عليه السلام - في القليل والكثير ولكن صوته حين أذن فيهم وفي الناس أجمعين بعد أن أتم البناء كان لا يزال يتردد بين جنبات جزيرتهم فهم على دعوته - عليه السلام - مستمرون، لم تستجب قبائل العرب لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن استجاب بعض الأفراد.(1/42)
أبو ذر الغفاري علم في إسلامه وصحبته، يأتي مكة فردًا بعد أن سمع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيستمع للرجل، ويخالط الإسلام قلبه ويسلم وحده، ثم يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده؟؟!!
أتذكر أيها الشعب السعيد تراب يثرب الذي حوى جسد والد نبيك - صلى الله عليه وسلم - ، أتذكر القبيلتين اللتين سكنتا أرضها «الأوس والخزرج» إن صراعًا مريرًا يدور بينهما، عصبية نتنة تقتل الأمن وتسفح الهدوء كما سفحت دماء الرجال، نسمات طيبة، عليلة تحمل ستة أحلام واعية ملت الدم والقتال من الخزرج قدمت حاجة لبيت الله العظيم، فارة من أوضاع ما ارتضتها أحلامها، التقى بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعقبة منى فعرض عليهم الإسلام بكلماته التي ما خالطت سمع عاقل إلا استقرت في وجدانه، فشهدوا أن الرجل وما يدعو إليه حق، العقل أرشدهم إلى خطأ القتال بين القبيلتين، والعقل أرشدهم أن الرجل حق وصدق، والعقل ذكرهم قول يهود يثرب «عن نبي من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان، سيخرج فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم» وبأحلامهم وزنوا ما قيل لهم وما سمعوه، فسبقوا يهود يثرب، وأجابوا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - عسى الله أن يكتبهم في السابقين ويجمع بهذا الدين قومهم على زعامة لهذا النبي الكريم، وعادوا إلى بلدهم بغير ما خرجوا عليه، عادوا بذورًا صالحة نقية لغرس سيستحيل جنات، فلم تبق دار من دور يثرب إلا وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتردد بين جنباتها.(1/43)
وبينما كانت دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشق طريقها بنجاح خارج جبال مكة وواديها انطلق به جبريل - عليه السلام - يشق الأفاق في رحلة الإسراء والمعراج ليصل بيت المقدس أرض مباركة، وقبلة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، وإمام يصلي بأئمة، محمد يتقدم الأنبياء، وقيادة الأمة الإنسانية لأمة محمد، في هذه الرحلة سيعزل بني إسرائيل عن منصب قيادة الإنسانية لجرائمهم المتتالية في حق أنبيائهم وقبل ذلك في حق ربهم، ولتتقدم أمة الوسط ليكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليهم شهيدًا، وعروج إلى السموات السبع، وصلاة تفرض، وأحوال العصاة تعرض عليه؛ لأن دورًا جديدًا ومرحلة قادمة يدبر لها الحكيم ستنتقل لها الدعوة، وبدل من أن ترتج مكة تكبيرًا وتوحيدًا وإذعانًا لهذا الحدث تضج تكذيبًا وتعنتًا، وضراوة في الإيذاء مع تقديم الأدلة على صدقه، لجبال مكة ألين من صخور أفئدتهم!! ويحمل أبو بكر مع هذا الحدث لقبه الذي لازمه حياته ومماته إلى أن تقوم الساعة «الصديق» صاحبه جاء بالصدق وصدق هو به.
والآن أنصت أيها الشعب السعيد بدينه المجيد على امتداد الكون البعيد البعيد فالأمر حاسم، والقادم خطير، والسبيل إليه بات قريبًا.
في موسم الحج التالي من السنة الثانية عشرة من البعثة الشريفة تضاعف عدد ما حملت النسمات العليلة من يثرب المباركة ليصل إلى اثنى عشر رجلاً.
اثنا عشر رجلاً والعام اثنا عشر من البعثة فكيف اجتمع الرقمان بصيغة واحدة وبشرى واحدة؟(1/44)
اتصلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة بمنى؛ ليبايعوه على التوحيد وعلى مبادئ الإسلام، فتمت البيعة «العقبة الأولى» وانتهى موسم الحج، وعاد المبايعون بسفير للإسلام إلى يثرب يعلم أهلها شرائعه ويفقههم فيه «مصعب بن عمير» ولقد حقق نجاحًا منقطع النظير في أداء مهمته فدخل الإسلام قبائل يثرب الخيرة متوجًا بإسلام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وقبل حلول موسم حج السنة الثالثة عشرة عاد ليخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن في القوم خيرًا وصلاحًا، وقوة منعة، وفي تراب أرضهم خصبًا فاغرس بكفك بذورًا لأشجار باسقة وسنابل ميالة وحقول على مد البصر والتاريخ.
وأهل موسم الحج وأقبل لأداء المناسك حجاج يثرب يكتم مسلمهم عن كافرهم إسلامه، وقد وصل عددهم إلى بضع وسبعين، واتصلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتواعدوا بالعقبة من أوسط أيام التشريق، واجتمعوا في الشعب، وقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، فكان أول متكلم يستوثق لابن أخيه فالقادم بدا معروفًا، فإن كنتم على منعه إن لحق بكم قادرون؟ وإلا فدعوه في عز ومنعة في بلده!
لقد تجاوز - عليه السلام - الخمسين، وله من هيبة وجلال النبوة، ومن نصر وتأييد الله تعالى، ومع ذلك فإن أعمامه يحيطون به، ويستوثقون له، يموت كبيرهم فيأخذ من يأتي بعده نفس الدور!!(1/45)
وللقوم المبايعين نفس طماحة، وعزائم عظيمة، وتصميم راسخ، قبلوا كلام العباس، وعاهدوا نبيهم على السمع والطاعة، والنفقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام لله والنصرة والمنعة، «قم فأنذر» والقيام يتبعه قائمون، والقائمون لله ولعهد نبيهم محافظون، للقوم عواطف جياشة تقودهم في حب نبيهم واتباعه والسمع والطاعة له، ومن ثم تنقاد أموالهم فيسفحونها إنفاقًا في العسر واليسر، ويسفحون دماءهم إذا قامت لهم العرب، ويتعاهدون فيما بينهم على ذلك، ويلح عليهم سؤال: فإن أظهر الله نبيه أيدعهم ويرجع إلى قومه؟ يطعون ما بينهم وبين العرب وحلفائهم من يهود يثرب ويخشون قطع حبال ود المهاجر إن عاد إلى بلده!!
وتعلو بسمة شفافة وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»!!
تمت بيعة العقبة الثانية، واختاروا النقباء يكفلون تنفيذ بنود البيعة ككفالة حواري عيسى - عليه السلام - ، وكان - عليه السلام - كفيل المسلمين من قومه.
وأبى شيطان العقبة إلا أن يكشف سر البيعة لقريش وما كان منذ عهد ابن آدم به إلا مستكبرًا عن الحق أبيًا، وقدم أحد القوم خيار القتال فليس لأحد عليهم يد في إيمانهم، فرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «لم نؤمر بالقتال بعد، عودوا إلى رحالكم»، واحتجت قريش على حجاج يثرب، وأقسم مشركوهم بكذب الخبر، وصمت المؤمنون.
تضيق الأوطان بأهلها ويتغربون بها، وتتسع أوطان لغير أهلها فيأنسون بها، وسبحان من دبر وقدر، وانطلقت طلائع الهجرة إلى يثرب، وشط المشركون في التنكيل بذويهم وبمن يريد الهجرة، ولكن النفس المؤمنة عافت الحياة بأرض صلبة يصعب الغرس فيها، فكانت النجاة بالدين مطلبًا والتضيحة بالأموال قربانًا، والأمل في مستقبل أفضل برقًا يلوح في الأفق تتبعه العين لتنعم بأسباب الحياة.(1/46)
ففر من استطاع منهم الفرار، وحبس كل مكره، وقالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين – حرتان -» وانتظر أبو بكر ليؤذن للصاحب، وتعلقت عين التاريخ تنتظر؟! { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } ؟ قريش تميز حنقًا وقلقًا، يخرج الأمر من بين يديها وإلى يثرب حيث تمر قوافلها إلى الشام بثرواتها، ومحمد الخبير المجرب، والقائد الفذ، أنهكها وهي قادرة عليه تلحق به الأذى وبأتباعه صباح مساء ثلاثة عشر عامًا، فكيف به إذا استوطن يثرب وجمع قلوبًا والهة متألهة، وسيوفًا كم تعطشت لثأرها منهم؟ تلك كارثة الدهر! فاجتمعوا وأبرموا وقرروا قتل محمد بسيوف متعددة تضربه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، وتعجز بنو عبد مناف عن حربهم جميعًا، وتقبل الدية.
وقفوا على بابه ينتظرون خروجه في الصباح، فسبقتهم عين الله ترعاه، فقام السد بينه وبينهم، وأخذ الله أبصارهم فعميت لتوافق عمى بصائرهم، وذر على رؤوسهم التراب، وترك علي في فراشه يرد عليهم أماناتهم، يعادونه ويدبرون لقتله ويأتمنوه على خاصة أموالهم؟ ويردها المؤتمن.
فلما أفاقوا من غشيتهم تأكد لهم أنه أفلت منهم فبدأوا يتخبطون في البحث عنه.(1/47)
مضى بصاحبه مهاجرًا متهجًا صوب اليمن ليضللهم، واختبأ في غار ثور في قمة جبل ثلاث ليال، وتجندت أسرة الصاحب لنجاح الرحلة، الصاحب يدخل الغار قبله ليواجه أي خطر قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وابنه عبد الله يبيت عندهما ويدلج مكة بسحر فيصبح فيها يعي أخبار المشركين، والراعي يزودهما باللبن ويعفي بغنمه آثار ابن أبي بكر، أما أسماء فلا يستطيع أبو جهل استجوابها فيلطمها حتى إذا قررا الخروج من الغار شقت نطاقها تعلق به سفرة المهاجرين فحملت من يومها لقب – ذات النطاقين – وقريش ترصد العيون والمكافأة، ويجد فرسانها وقصاص الأثر في الطلب فينتشروا في الأودية والجبال، ويصلون إلى الغار، والطلب بعين الله وفي معيته، والله غالب على أمره { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } [التوبة: 40].
ويرتحل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من الغار، ويمهد له أبو بكر الطريق، يسير عن يمينه تارة وعن يساره أخرى، ومرة من أمامه وخلفه أخرى، فإن يهلك فإنما هو رجل، وإن يصب رسول الله تهلك الإنسانية.
وتبدأ ذرات التراب تفاخر غيرها شرف المسير عليها، تجذبه أكثر فأكثر، وتودعه ذرات تراب مكة منتحبة صارخة آلمها الفراق، وبين تهلل وأنات التراب قاربت الحكاية على النهاية.
أتنام أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، وبنبيه المناضل، ليلتك هذه؟ لقد أدرك شهر زاد التعب فأرادت النوم لتكمل في الليلة القادمة خبر المهاجرين؟
رفض الشعب السعيد بدينه المجيد النوم فأنى له به؟ إن آوى إلى الفراش تقلب فيه تقلب الصاحبين بين وهاد الطريق وأوديته فأصر على أن تكمل له الحكاية فانصاعت لرغبة الشعب السعيد.(1/48)
اعلم أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، أرشدك الله طريق الحق ودلك الصراط المستقيم أن مكافأة قريش أطارت بصواب المغامرين فانطلقوا عن الصاحبين باحثين، سراقة بن مالك يتبعه ويدركه، عندها ساخت قوائم فرسه في الأرض، فطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، على أن لا يعود، فدعا له الرسول، ولكنه عاد فساخت قوائم فرسه مرة أخرى، فأمن رسول الله إن نجا، فوعده الرسول - صلى الله عليه وسلم - تاج كسرى وسواريه ؟!
لابد أن الأرض في هذه المرة ماجت بسراقة، أيعده طريد قومه بتاج كسرى وسواريه؟ والعرب لا تطمع في النظر إلى كسرى العظيم! تلك ثقة الواثق بربه، أما أبو بريدة فخرج في طلب النبي ليفوز بمكافأة قريش فلما واجهه أسلم مكانه مع سبعين من قومه، ثم نزع عمامته وعقدها برمحه واتخذها راية إذعانه للحق لا تحزن إن الله معنا!
يحمل الطريق محمد ورفيقه مهللاً ومكبرًا، ويمر بخيمة أم معبد الخزاعية، والسنة شهباء والعنز لا تدر بقطرة لبن، وبركة محمد التي حلت بعنز حليمة حين أخذته رضيعًا حلت بعنز أم معبد فحلب وشرب الجميع، وعرفته أنه صاحب قريش، رجل مبارك مر بها، فأصبح بمكة صوت يروي ما حصل مع أم معبد والمار بها شعرًا، يسمعونه ولا يرونه!!
يقطع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الطريق إلى يثرب مخلفًا مكة وراءه بجهد ثلاثة عشر عامًا، وتنتظر يثرب ترابها وأهلها مقدمه الغالي إلى أن نزل قباء فقدموا عليه، وتلقوه يحيوه بتحية النبوة اعترافًا وتبجيلاً، فغشيته السكينة والوحي { فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4].
وبعد أربعة أيام نزل - عليه السلام - يثرب، كان يومًأ أغر في تاريخها ترتج طرقاتها تحميدًا وتقديسًا، ويبارك ترابها بخطواته - عليه السلام - وأنشودة الدهر:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا(1/49)
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا يا خير داع (1)
لم يعد اسمها يثرب، بل مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باركها مقدمه واستنارت بنوره - عليه السلام - ، وأهلها يحملون شرف الدهر إنهما الأنصار، الذين تبوءوا الدار والإيمان، وينزل على أخواله من بني النجار أهل سلمى جدته التي تزوجها هاشم في رحلته إلى الشام وأنجبت منه شيبة «عبد المطلب».
ويكسو المدينة ثوب القداسة، أول مسجد أسس على التقوى مسجد قباء، ثم مسجده الشريف، وينعطف التاريخ تائهًا، وتتبختر أيامه نشوى بدولة الإسلام، ويدعو لها بالبركة في مدها وصاعها كما دعا جده إبراهيم لمكة، وأن يحببها الله لهم كحبهم مكة أو أشد حبًا، ويصححها من الحمى والوباء، وفي مجتمعها تعلو أخوة الإيمان على أخوة النسب، تنتهي حروب الأوس والخزرج «الأنصار» ويؤاخي المهاجر الأنصاري، ويقف الأسود إلى جانب الأبيض، والقوي بجانب الضعيف، والعبد مولى للسيد، وتذوب فوارق العرق والجاه واللسان.
وفي مسجدها يجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتف حوله الجميع، تكسوه مهابة النبوة وجلال يفوق جلال الملوك، ويغمر الجميع بتواضعه - عليه السلام - ويردد «إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة»، في مسجدها يؤسس للدولة حكمًا وشريعة، وبين أزقتها وطرقاتها يتنقل - عليه السلام - بين أصحابه البررة بائعًا ومشتريًا، وممازحا ومؤدبًا، وزائرًا وهاديًا، أحسن إلى يهودها ومنافقيها، وأهلها وابن السبيل فيها، والتاريخ يحمل أوراقه ويتبعه يسجل الصغيرة قبل الكبيرة ويصفها صفحات نور وسجل هداية لكل أجيالك.
__________
(1) الصحيح أن هذا الشعر لم يقل في استقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الهجرة، وإنما قيل في قفوله من إحدى الغزوات مارًا بثنية الوداع، وثنية الوداع لم تكن في طريق الهجرة باتفاق رواة السيرة، الناشر.(1/50)
أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، وخلق نبيه العظيم ويأتي دور رفع الرايات خفاقة تُعلي كلمة التوحيد فكان يوم الفرقان يوم انتصف فيه الإسلام من أفعوان الشرك، يوم بدر، بدر اكتمل بنصر الله لرسوله ومصرع زعماء المشركين الذين أثقلوا كاهله الشريف وكاهل الدعوة جحودًا وإيذاءً، وتتابع الغزوات والسرايا وينتشر الدين بين العرب على امتداد جزيرتهم الغراء، وتقدم وفودهم عليه في مسجده تعلن إسلامها وولاءها، ويموت غول الوثنية كمدًا، ويظل غول القحط الذي ينهك العرب فينهكونه «صلاة استسقاء»!
ويأتي يوم الفتح، فتح مكة التي عادت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاد إليها منتصرًا يجلله التواضع ويكسوه العفو ابنها البار الذي أطلقها: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، لا حقد ولا ضغينة ولا ثأر ولا انتقام وإنما بر الرحمة المهداة للعالمين، ويسأل الأنصار: أيعود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله وبلده؟
لا... بل تؤكد لهم التجارب بوفائه لهم كما وفوا فلو سلكوا فجًا وسلك الناس فجًا لسلك - عليه السلام - فج الأنصار! ويعود - صلى الله عليه وسلم - إلى طابة هكذا كان يحلو له الإشارة إليها كلما عاد من سفر وبدت معالمها له «هذه طابة» ويلقي بعبء الرسالة، حملها أمانة سنين طويلة، وأداها بإخلاص منقطع النظير، وليقف بعد... قم فأنذر لسنوات، لقد جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وعليه التسبيح بحمد ربه واستغفاره والاستعداد للرحيل.
لقد قابل المسجد النبوي الشريف المسجد الحرام تُشد إليهما الرحال وتهفو إليهما النفوس.
وارتفعت مئذنة تقابل مئذنة وهوت جباه ساجدة في كلا المسجدين تنشد شرف الزمان والمكان ونداء يتردد على مدار الليل والنهار فمن الأبتر منقطع الذكر محمد أم جاحدة؟(1/51)
أيها الشعب السعيد بدينه المجيد، ورأيه الرشيد اعلم أن نهاية الحكاية بدأت بين هجرة ومطاردة، وعزة ومنعة، جهاد ونصر إلى فتح مبين ثم عودا إلى «المدينة» ليحتضن ترابها أعظم جسد وأطهره فيرتكز فيها غرة في جبين الدهر تزهو به المدينة إلى يوم الدين، لقد صارع تراب المدينة باستماتة ليضم الأب والابن وانتصر عليه الطريق فتلقف الأم قبل عودتها إلى مكة، لقد وقف نبيك الرحيم بقبر أمه يبكي يومًا فارقها فيه في هذا المكان، واستأذن في الاستغفار لها ولم يؤذن له، ذلك صراع وهدنة واتفاق بين مدينتين مقدستين على مدى الدهر كله وطريق بينهما ليس بطويل.
وصمتت شهرزاد.
* * * *(1/52)